عالية منصور *
الدكتور برهان غليون أول رئيس للمجلس الوطني السوري المعارض، وأستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة السوربون في باريس، من مؤلفاته: “بيان من أجل الديمقراطية” و”عطب الذات”، في حديث شامل لـ”لبنان الكبير” تناول فيه أحوال سوريا والثورة، والمعارضة وكيف نظر إلى الانتخابات الرئاسية الأخيرة وكيف قرأ خطاب الأسد الأخير، وردود الأفعال التي أثارها كتابه “عطب الذات”، وتناول فيه أيضاً رؤيته للوضع الإقليمي وأثر الاتفاق النووي الإيراني على أوضاع المنطقة والقضية السورية، وماذا يقول عن العلاقة مع لبنان وقضية اللاجئين.
- منذ رئاستك للمجلس الوطني إلى اليوم، مضت عشرة أعوام. ما الذي تغير؟
– تغير كل شيء تقريباً، الثورة وسوريا والإقليم والعالم. انتقلنا من الثورة إلى الثورة المضادة التي فرضت قانونها اليوم تقريباً في كل أقطار الربيع العربي. وسوريا التي كنا نحلم بإنقاذها من الحرق على أيدي شبيحة الأسد كما كان شعارهم، أحرقت تماماً، ليس على مستوى العمران والبنية التحتية والاقتصاد والحضارة، ولكن أكثر من ذلك بكثير على مستوى المجتمع والإنسان. فقد السوريون الملايين من أبنائهم بين قتلى وجرحى ومعطوبين ومشردين ولاجئين، مع أجيال من الأطفال الذين حرموا من أي تأهيل علمي أو اجتماعي. وتدهورت شروط حياتهم إلى الحضيض. وأصبح المستقبل مظلماً في أعينهم.
وعلى المستوى السياسي أصبحوا يشكون في أنهم ينتمون إلى شعب واحد أو أن من الممكن لهم أن يشكلوا أمة كباقي الشعوب والأقطار. وحل محل الدولة التي كنا نحلم بتثويرها لتكون دولة مواطنيها وحاضنة لنظام الحقوق والواجبات المتساوية والحريات المتعددة والتنوع والاختلاف المثري والمعترف به سلطات ميليشوية يتحكم بها أمراء حرب في مقدمهم سلطة الأسد التي لا تختلف عن سلطة الأمر الواقع في المناطق الأخرى في تبعيتها للدول الأجنبية واعتمادها عليها في بقائها وقرارها.
وتغير الإقليم فأزيح القطب العربي من الساحة تماماً أو كاد، ولم يبق إلا الدول اللاحمة في شمال سورية وجنوبها وشرقها وغربها. وتغير العالم فأصبحت كارثة كوفيد 19 الصحية وعواقبها الاقتصادية ومخرجاتها الاستراتيجية المحتملة أيضاً تشغل اليوم حكوماته في جميع الأقطار. وانكشفت كما لم يحصل من قبل أزمة المنظومة العالمية وهشاشة ما يسمى بالشرعية والقوانين والمواثيق الدولية. وعادت القوة والقدرة على استخدامها إلى المركز الأول في تحديد مصائر الشعوب. وهو الوضع الذي يهدد أيضاً بتراجع معايير الحريات العامة والديمقراطية في الدول العريقة لصالح بروز تيارات اليمين العنصري والشعبوي. أكاد أقول إن كل شيء تغير تقريباً من دون استثناء ودخلنا، أو هكذا يشعر البشر اليوم، في منطقة زلازل واضطرابات وسيولة تمنع من الارتياح إلى أي معارف وحسابات جاهزة وثابتة وتحرم الناس من أي يقين.
- كيف تقرأ حدث الانتخابات الأخيرة في سوريا، وماذا عن الكلمة التي ألقاها الأسد ؟
– ما يسمى بالانتخابات الرئاسية الأخيرة كان مسرحية الهدف من إخراجها وعرضها على المسرح المشرقي توجيه رسالة للعالم والعرب والشعب السوري معاً بأن الأسد، الذي طالب الجميع بخروجه أو تنحيه أو سقوطه لتجنيب سورية الكارثة أو لفتح الطريق أمام تغيير يضمن السلام ووحدة سورية واستقرارها، هو الذي انتصر نهاية المطاف، وعلى الجميع أن يعترف بانتصاره ويقر بجدارته وحقه المضمون في جز الرؤوس من معارضيه ومعاملتهم معاملة أسرى الحرب وسلب أملاكهم وسبي نسائهم وأطفالهم وفي تحصيل الجزية من داعميهم وحلفائهم المهزومين. وهذه هي المهمة التي أوكلت إلى الأجهزة الأمنية والميليشيات العامة والخاصة من الشبيحة والمعاهدين.
أما خطابه الأخير فهو يذكرني، لكن بشكل أقل إثارة، بخطاب طرزان الذي كان يقف ويضرب على صدره بكلتا يديه ويصرخ بأعلى صوته صيحات بدائية ليظهر للحيوانات الأليفة التي يتزعم قطعانها عن انتصاره المدوّي بعد مواجهة مع خصم من البشر أو الوحوش الضارية المهاجمة أو التي أرادت أن تمتحن قوته وتتحداه. وهي رسالة معبرة عن تفكير صاحبها الذي يعتقد بالفعل أن للمنتصر الحق على المهزوم بالحياة والموت، وأن كل ما يملكه الأخير أصبح ملكاً له كما أصبح المهزوم مديناً له بالحياة وبالتالي بالعبودية والطاعة والشكر وطلب الغفران. فلا يوجد هنا، في قانون الغاب، معنى لحق ولا لقانون ولا لعدالة ولا لمسؤولية ولا لضحية ولا لجلاد. المنتصر هو إله والمهزوم هو عبده الذليل. وهذا هو الوضع الذي يجد فيه السوريون انفسهم اليوم والذي يتوجب عليهم معالجته أو التعايش معه.
- كيف تنظر إلى عمل اللجنة الدستورية؟ وهل تتوقع أن ينتج أي حل سياسي عن مسار أستانا وسوتشي؟
– من بداية إطلاقها قلت إن هدفها إخراج المفاوضات عن سكتها الأممية المضبوطة بقرارات مجلس الأمن وإيجاد مسار جانبي يضمن للروس والإيرانيين الالتفاف على هذه القرارات وكسب الوقت بانتظار أن يمل المجتمع الدولي من المسألة ويترك لهم حل القضية السورية كما يحلو لهم وبقدر ما يستطيعون ويريدون. وقد شبهتها في تعليقي الأول على تشكيلها بأنها تشبه اتفاقات أوسلو التي اخرجت بواسطتها المفاوضات الفلسطينية عن مسارها الأممي في مدريد عام 1991، فخسر الفلسطينيون مدريد وأوسلو. ولكنهم حصلوا على الأقل على شبه حق مؤقت في حكم ذاتي أو شبه ذاتي في الضفة الغربية وغزة، الوقت الذي يحتاجه ملؤهما بالمستعمرات. وهكذا استمرت عملية استعمار الأرض وبناء المستعمرات وتجريد الفلسطينيين من حقوقهم الفردية وليس الوطنية فحسب. وهذا ما تمثله اتفاقات تخفيض التوتر التي نجمت عن أستانا والتي تقوم كل من طهران وموسكو في ظلها بتعزيز قواعد انتشارهما العسكري والاقتصادي والثقافي والعلمي، وبالنسبة لطهران الديمغرافي. وباختصار، لا يمكن لمسار أطلق لتقويض المفاوضات الحقيقية والهرب من الالتزامات الدولية أن يقود إلى حل آخر سوى ما يفرضه أصحاب القوة، بعد أن نجحت الخدعة في تجريد الطرف الآخر من أسلحته وفي تشتيت قواه وزرع البلبلة والانقسام داخل صفوفه.
والحال ليس للقرارات الدولية هدف آخر وقيمة أخرى سوى تعويض منطق القوة بمنطق الحق والقانون، أو على الأقل عدم السماح للقوة وإرادة القتل أن تفرض قانونها وذلك من خلال وضع المجتمع الدولي قوته السياسية والقانونية والأخلاقية إلى جانب الطرف الضعيف الذي قبل التخلي عن سلاحه حتى يتحقق شكل من توازن القوى يسمح بحل على مبدأ “لا يموت الديب ولا تفنى الغنم”، ومن ثم التوصل إلى معادلة تنهي الحرب وتحقق التهدئة أو ربما السلام. والحال أن نقل المفاوضات إلى منصة أستانا أضعف إلى حد كبير وزن المجتمع الدولي ودوره، وهو ما مكن الروس وحلفاءهم من المماطلة وكسب الوقت وتغيير موازين القوى بشكل أكبر على الأرض في انتظار فرض تسوية لصالحهم، وربما تجنب أي حاجة للتسوية. وهكذا وصلنا بعد أربع سنوات من مفاوضات أستانا إلى إعادة تأهيل الأسد سياسياً من قبل حلفائه وإهدائه ولاية رئاسية لسبع سنوات قادمة. وهي طريقة أيضاً للضغط على السوريين والتشفي منهم واخضاعهم وتلقينهم من جديد درس القوة والغلبة بعد ثورة الحرية، وفي العمق معاقبتهم على هذه الثورة ذاتها والدوس بالمناسبة على أدبيات الشرعية والمواثيق الدولية جميعاً.
- لماذا قبلت المعارضة التخلي عن مسار جنيف لصالح مسار سوتشي وأستانا؟
– لا أعتقد أن من العدل الحديث عن قبول المعارضة أو رفضها. أولاً لأن القسم الأكبر من المعارضين لم يقبلوا هذا الانحراف عن المسار الدولي ولم يوفروا انتقادهم لمن سار في طريقه. وثانياً لأنه لا توجد هناك منظمة موحدة يمكن أن نعتبرها ناطقة باسم المعارضين جميعاً وممثلة لهم بصورة شرعية. وثالثاً لأن المعارضة أصبحت ضعيفة واستضعفت بعد حرب طويلة تواطأ عليها خلالها حلفاء النظام وحركات الإرهاب والتطرف الدولية ولم يعد لديها خيارات كثيرة غير المراهنة على قوة القانون الدولي بعد أن خسرت قانون القوة. ورابعاً، وهذا هو الأهم، لأن حلفاءها العرب والأجانب تخلوا عنها ولم يقدموا لها الدعم المطلوب لتصليب عودها، لا الدعم العسكري عندما كانت المواجهة المسلحة قائمة، ولا الدعم السياسي والدبلوماسي الفعال منذ بدء المفاوضات. بل ربما أصبحوا من الضاغطين عليها للقبول بتسوية متواضعة لا تزال منظومة الاحتلال والاستبداد المتضامنة ترفض أبسط أشكالها.
هذا لا يبرر ابدا للقائمين على مؤسسات المعارضة الضعيفة القبول بشروط تفاوض مستحيلة. وقد عبرت أكثر من مرة عن أملي بأن ينسحب من يعتقدون أنهم يمثلون المعارضة من هذه المسرحية الهزلية التي لا معنى لها ويقدموا استقالتهم من اللجنة الدستورية ويضعوا المجتمع الدولي المتخاذل أمام مسؤولياته ويوقفوا هذه المزحة الثقيلة التي لا تسلي أحداً وإنما تقدم المزيد من الوقت كي يرسخ المحتلون والمستبدون أقدامهم من جديد ويعززوا مكاسبهم على حساب الشعب السوري الضحية.
- هل ترى أن المناطق الشمالية مع كل الانتهاكات التي تحصل يومياً، لا يزال بإمكاننا اعتبارها مناطق محررة أو تابعة للثورة؟
– لا توجد هناك مناطق في نظري يمكن اعتبارها تابعة للثورة أو ممثلة لها. هناك جيوب “ثورية” أي لا تزال متمسكة بأهداف الثورة وقيمها عبر الأراضي السورية المختلفة داخل منطقة النظام ومنطقة إدلب وحواشيها ومنطقة الإدارة الذاتية ومنطقة الجنوب الذي أصبح خاضعاً لنظام مختلف أيضا تحت الوصاية الروسية المباشرة. هناك سلطات أمر واقع، وأنا أسميها إمارات حرب لأنها ليست دولة ولا سلطة ذات سيادة، ولا يحكمها القانون، ولا تملك وسائل التحول إلى دولة أو إدارة سياسية حقيقية. إن مبرر وجودها هو وجود الميليشيات والقوى العسكرية الخاصة فقط، وبالتأكيد الدعم الذي تتلقاه هذه الميليشيات من الدول الوصية أو الراعية. لكن هذه الجيوب الثورية والشعبية هي التي تهمنا وهي التي ينبغي المحافظة عليها ودعمها حتى تتحول من بقع ومواقع متفرقة ومناخات سائدة هنا وهناك إلى ديناميكية دافعة وقوة توحيد وتجميع عناصر المقاومة الوطنية ضد الاحتلال والطغيان معاً. وهنا يكمن دور المعارضين الأحرار المستقلين والمدافعين عن حرية الناس وحق الشعب في تقرير مصيره بنفسه. وتعزيز هذه المقاومة هو المهم الآن حتى يمكن أن نعيد بناء قوى الثورة والمعارضة التي تساعد السوريين على تجاوز منطق هذه الإمارات نحو إعادة بناء سورية الوطن الجامع والواحد.
- أثار كتابك عطب الذات الكثير من ردود الأفعال، بين مرحب بالتجربة وبين من اعتبر أنك تتهرب من المسوولية وترميها على الآخرين، كيف تقيم هذه التجربة تحديداً؟
– أنا سعيد بأن عطب الذات أثار الكثير من ردود الأفعال والردود المتناقضة. هذا يعني أنه أصاب هدفه وحرك المياه الساكنة وربما نجح في وضع الإصبع على الوجع. وهذا هو سبب تكاثر وتباين ردود الأفعال السلبية والإيجابية. فهناك من سره الكشف عن الأخطاء لتصحيحها وهناك من أساءه وأغضبه ذلك. وهنا يكمن سبب الحديث عن المسؤولية والتهرب من المسؤولية. ببساطة ليس هناك أسهل من أن نعكس الأمر ونقول إن من رفض تحليلات الكتاب أو ظن أنها تحمله مسؤولية خاصة، سواء بسبب تقاعسه أو مشاركته في صنع الأخطاء، هو الذي نظر إلى الموضوع من زاوية التهرب من المسؤولية أو تحملها، أي من زاوية شخصية وأخلاقوية، بدل أن يناقش القيمة العلمية والسياسية للكتاب وموضوعية منهجه وصحة ما ورد من وقائع وما ورد من تحليلات. ولا شك أن مثل هذا الموقف يوفر على صاحبه تقديم رواية بديلة أو تفسير آخر مقنع يعيد بناء معنى الأحداث التي شكلت التجربة برمتها. وهذا الهرب من مواجهة الواقع كما هو يكاد يكون رداً طبيعياً عند البعض وأنا أتفهمه تماماً.
بالنسبة لي المهم أنني كتبت ما اعتقدته حقاً وما يرضي ضميري، وأنا سعيد جداً بأنني عبرت عن قناعاتي. لا يعني هذا أن لدي الحقيقة المطلقة وأنني لم أرتكب أخطاء في تحليلي هنا وهناك. فلا توجد عصمة لأحد لا بين الباحثين ولا بين السياسيين ولا بين العلماء. وموقفي الفكري والسياسي في ما يتعلق بمشاركتي في أحداث الثورة وقيادتها ليس سراً على أحد، ويستطيع من يشاء أن يأخذ قلمه ويصحح الأخطاء أو أن يقدم رؤية مختلفة للأحداث، والقارئ هو الحكم الأخير في الأمر. المهم عندي أنني كتبت ما أملاه علي الواجب، وحاولت أن أفي بديني تجاه السوريين بتقديم تحليلي للوضع، بعد تقديم استقالتي من رئاسة المجلس الوطني، لأشرح المنعطفات التي مرت بها الثورة والعوامل التي كمنت وراءها والمطبات التي وقعنا فيها والأخطاء التي لا نزال نكررها إلى اليوم للأسف. تماماً كما تحملت مسؤوليتي تجاه النشطاء عندما دعوني علناً وفي لقاءات متعددة لجمع المعارضة وترؤس أول مجالسها من دون أي اعتراض أو منافسة من أحد على حد علمي. أنا راض تماماً عما فعلت، وليس لدي ما أخفيه، ولست من الذين يخشون الخطأ أو الحديث عنه، وأؤمن بأنه: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها. وقد حاولت ما استطعت. هذا كل ما استطيع أن أقول.
أما بالنسبة لتقييمي التجربة التي خضتها والتي تتلخص في النهاية في محاولتي، مع آخرين طبعاً، جمع قوى الثورة أي التنسيقيات وأحزاب المعارضة في جبهة وطنية عريضة تضم جميع القوى الديمقراطية وتوحد صوت الشعب الثائر وتحاور باسمه القوى الدولية وترفع رايته وتلتزم بقيمه وشعاراته، أي تشكل نواة قيادة سياسية، فأنا لا زلت أعتقد أنها كانت التجربة الوحيدة الناجحة والتي لم تحتج ولادتها إلى أي رعاية أجنبية عربية أم دولية، وكانت جبهة مستقلة وصاحبة قرار مستقل تماماً. وما حصل فيما بعد، أي منذ أكثر من عشر سنوات برهن على أن التحدي الذي حاولنا الرد عليه من خلال هذا المجلس لا يزال إلى اليوم قائماً، ولم يجد أي استجابة جدية بعد، أعني به إيجاد قيادة سياسية للثورة والمعارضة. فنحن لا نزال في فراغ القيادة منذ إفشال تجرية المجلس من قبل أطراف متعددة، أطراف سورية كانت تأمل ربما في تعويضه بقيادة افضل أو بأن تكون لها مشاركة أقوى فيها، أو كانت تخشى أن يكون المجلس تحت سيطرة إسلامية أو أداة لتبرير تدخل غربي كما حصل في ليبيا، وكذلك من قبل أطراف أجنبية أرادت أن تقوض أول تجربة سياسية مشتركة حتى يستمر التمزق والتشتت داخل صفوف المعارضة وتتمكن من بناء أدوات نفوذها الخاصة والمستقلة.
أهمية هذه التجربة التي وصلنا فيها إلى اتفاق نال بعد تأسيسه ثقة جزء كبير من تنظيمات الثورة والمعارضة، وأيضا ثقة الشعب الثائر وثقة الدبلوماسية الدولية والرأي العام العالمي، تنبع بالضبط مما كشفه لنا إسقاطها من نقاط الضعف التي كنا نعاني منها والتي لا تزال تمنعنا إلى اليوم، أي بعد عشر سنوات، من إنتاج قيادة بديلة لقوى الثورة والمعارضة تحظى بالحد الأدنى من الثقة الشعبية والدولية. وسوف نستمر في هذا الضياع طالما لم نقبل بشروط المراجعة الموضوعية والمؤلمة وبقينا ميالين إلى التهرب من المسؤولية ورميها على آخر.
- هل من حراك جديد على مستوى الشخصيات الوطنية المعارضة؟
– لحسن الحظ أن هناك من لم تحبطهم التجربة، ومن لا يرون في التطور السلبي للأحداث مجالاً لليأس والانسحاب والتسليم بالأمر الواقع، ولكن حافزاً للعمل بجدية أكثر، وسعياً للتغلب على الصعوبات والعقبات التي تحول دون تحقيق أهداف الشعب السوري. وهناك كثير من الشباب الذين يتواصلون للبحث عن مخرج من هذا الموات السياسي وللتعاون في تشكيل إطار توجيهي يتابع مسيرة السوريين ويصارح الشعب ويواكب مسيرته ونضالاته ويخاطب المجتمع الدولي ويذكره بالتزاماته السياسية والقانونية والأخلاقية. وهؤلاء هم اليوم حصان الرهان، وجميع شخصيات جيل المخضرمين يقفون وراءهم.
- مع الحديث عن العودة إلى الاتفاق النووي، ألا تتخوف من أن تدفع القضية السورية ثمن العودة إلى هذا الاتفاق مجدداً؟
– إذا أردت الصراحة أنا أتخوف من العودة إلى الاتفاق النووي مع طهران مثلما أتخوف من عدم العودة إليه. مشكلتي ليست هنا. ما دمنا غائبين عن قضيتنا ولا لسان ولا صوت ولا دور ولا موقع لنا فنحن خاسرون في جميع الأحوال، والفرق هو في إعادة توزيع المكاسب للدول التي تتحكم بمصيرنا اليوم وتريد قتلنا وافتراسنا. وهذا ما ينبغي أن نركز عليه. ليست واشنطن هي التي ستحررنا من طهران واحتلالاتها. وإنما استعادتنا وعينا وقرارنا وقوتنا. من دون أن يعني ذلك عدم الاستمرار في الضغط على واشنطن وغيرها لدفعها إلى احترام مصالحنا. لكن حتى نضغط ونطالب باحترام مصالحنا الوطنية ينبغي أن نظهر أننا قوة وأننا أصحاب مصالح وأننا نضع القضية الوطنية قبل أي شيء آخر.
- يجري الحديث اليوم عن احتمال عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، ماذا وصلكم من معطيات عن التواصل الذي يجري بين الدول العربية والنظام؟
– هناك بالفعل شكوك في أن بعض الدول تريد استعادة سوريا إلى الجامعة العربية. وهذا ليس بالأمر الجديد. فالجزائر ودولة عمان والإمارات ومصر لم تخف في السابق رغبتها في ذلك. ولا أستبعد أن تبدأ تحركات في اتجاه تواصل لدول أكثر وبدرجة أقوى مع النظام من دون أن تصل إلى مستوى الاعتراف أو التعاون نظراً للموقف الأميركي والأوروبي والعالمي عموماً، خاصة إذا استمر الكشف عن الجرائم الوحشية وجرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبها النظام. لكن في جميع الأحوال أن عودة سوريا الأسد للجامعة العربية بدل أن يعزز مكانة هذه المنظمة المشلولة أصلاً بسبب تنكرها لواجباتها الجماعية وعدم احترامها للحقوق الإنسانية الأساسية لشعوب أعضائها، سوف يفاقم من أزمتها ويزيد من تجريدها من الصدقية العربية والدولية ولن يخرج الأسد ونظامه وحلفاؤه من الهوة السحيقة التي سقطوا فيها.
- كيف ترى سبل حل إشكالية الدولة في سورية بين مثالية الشعارات أو الوطن الموهوم، وعدم المطابقة العيانية للكيان السوري الذي تشكل بعد الحرب العالمية الأولى في سياق محدد لم يكن للسوريين فيه الدور الأكبر.
– إشكالية الدولة السورية تكمن في ابتلاع سلطة الإمارة الأسدية للدولة وما يعنيه ذلك من تفريغ الدولة من السيادة والقانون والقيم السياسية والوظائف الاجتماعية وتحويلها إلى درع وبندقية تحمي السلطة الفردية والعائلية وتستخدم ضد الشعب الذي يفترض أنها قامت لخدمته. القضاء على الإمارة الشخصية والعائلية الإقطاعية والعبودية هو وحده الذي يعيد تظهير الدولة وفتح أبوابها على المجتمع وإعادة تكوين الشعب كوعي وكرابطة سياسية وكمصالح اجتماعية خاصة وعامة. ما عدا ذلك من اعتبارات لا أهمية كبيرة له ويأتي تحصيلاً حاصلاً. فالشعب سوف يستعيد روحه ويتعرف على تنوعه وتعدديته ويستوعبها كما كان يستوعبها خلال كل القرون السابقة، قبل الدولة الحديثة وفيها وبعدها. الناس هي التي تصنع حياتها لا السلطة السياسية. وظيفة السلطة أن تساعدها على تنسيق علاقات الأفراد والجماعات في ما بينهم وبث الانسجام والتناغم فيها. وهذا هو دور القانون المحمي بسلطة الدولة والذي يشكل جوهر عملها أيضاً. الدولة في علاقتها بالمجتمع هي القانون. والدولة في علاقتها بالخارج هي السيادة والقوة. وكل الدول مصطنعة وكل الأوطان تبنى في الخيال قبل أن تصبح واقعاً. ويكفي وضع العربة خلف الحصان وليس أمامه حتى يمكن تحريكها.
- تزعم كل الاتجاهات السياسية والفكرية في سوريا بأن هدفها النهائي هو بناء الدولة المدنية الديمقراطية، لكن تبرز لدينا إشكالية جديدة وهي الاستخدام الوظيفي لهذا المصطلح من دون تحديد مضمونه السياسي والفكري والحقوقي، هل ترى أن مجرد طرح فكرة الدولة الديمقراطية قادر على إعادة تشكيل الاجتماع السياسي السوري، في ظل كل هذا الخراب الذي تعيشه سوريا؟
– لا الدولة ولا الاجتماع السياسي يصنعان على الورق. إنهما سيرورة حية ومتراكمة تحتمل التناقضات والتفاهمات والتضامنات والصراعات والتوافقات العديدة في الوقت نفسه. كم من “عقود اجتماعية” صيغت ودساتير ديمقراطية مفصلة حررت وصوت عليها بالإجماع ولم ينتج عنها لا دولة ولا أمة ولا حقوق ولا قوانين، وتم خرقها باستمرار من قبل سلطات غاشمة. وهذا هو وضع سوريا ذاتها. دستور المملكة السورية الفيصيلية الأولى في عشرينيات القرن الماضي كان أكثر تقدماً من كل ما شهدته سوريا من دساتير بعده. لكننا وصلنا بعد أقل من نصف قرن إلى أقسى الأنظمة توحشاً واحتكاراً للسلطة واستخداماً للعنف المادي المنظم ضد السوريين الأفراد.
لذلك لا أعتقد أن هناك أهمية كبيرة للتفاصيل. المهم الإرادة في بناء وطن. والمهم الإطار الدستوري الذي يضبط سلوك السلطة وينظم حكم القانون. والمهم احترام الحاكمين المنتخبين للدستور وللحقوق الأساسية للمواطنين. ما نريده وما يحتاج إليه أي مجتمع في مرحلة الانتقال أو للانتقال السياسي هو حكم ديمقراطي بمعنى الكلمة أي إطار من الحقوق والواجبات وتوزيع السلطات وتوازن المؤسسات كما هو معروف ومتفق عليه اليوم في العالم، إطار تتفاعل داخله القوى وتتنافس وتتنازع وتتوصل إلى تسويات ثابتة ومستندة إلى وقائع حية وتبدلات ثقافية وقيم مكتسبة وعواطف أيضاً نابعة من تجربة الحياة الديمقراطية وممارستها ذاتها. وهذا الإطار الدستوري الديمقراطي لسنا نحن من يخترعه الآن ولكنه أصبح ثقافة سياسية سائدة وواقعاً قائماً في أكثر الدول. فهو بناء تاريخي يتكون عبر الزمن والتفاعل بين القوى والأفراد وليس قيوداً موضوعة سلفاً أو تسويات جاهزة. وضع مثل هذه القيود والتشبث بالتفاصيل والكلمات والعبارات والتنازع عليها يعني في نظري وضع العربة أمام الحصان والمراوحة في المكان دون حركة. المهم وضع قواعد اللعب القانونية والسياسية والمجتمع يعيد إنتاج نفسه ديمقراطياً عبرها ويكتسب صفات وقيم الديمقراطية والتعايش والتنوع وإدارة الاختلاف واحترام التنوع إلخ. الديمقراطية ممارسة وليست نظرية. ولا دور للنظرية إلا في تثبيت قواعد العمل والتفاعل، والحياة الحقيقية هي التي تصوغ المضمون الخاص للديمقراطية وتوازناتها ومشاكلها وحلولها. والمجتمع كفيل بأن يجد المعادلات التي تسمح له ببناء هوية الجماعة الوطنية الواحدة أو وضع القيم والمعايير والمصالح المشتركة وتلك الخاصة بكل فرد أو جماعة أهلية.
- ماهي وسائل العبور إلى الدولة بعد كل هذا الحطام. من هي الفواعل الأساسية؟ وعلى أي أساس يمكن القول أننا ما زلنا شعباً واحداً وأن لديه القدرة على بناء دولته؟
– نحن شعب واحد بمعنى أننا ورثة ثقافة وأرض ودولة هم ملكنا، وهم إرثنا المشترك كسوريين وما يوحد مصيرنا. اغتصاب هذا الإرث من قبل عائلة أو أوليغارشية أو طبقة أو نخبة منفصلة عن المجتمع وهمومه، واستخدامه لصالحها أبقانا من دون إرث مشترك، ودفعنا إلى النبش، كل في إرثه الماضي أو الديني أو العشائري أو الإثني، عن رصيد يمكن من خلاله أن يعطي لنفسه هوية وقيمة ومعنى ما دامت الدولة والشراكة في الأرض والثقافة الواحدة تحولت إلى رصيد سلبي، أي دين علينا وأدوات لسلبنا حقوقنا. وحدها استعادتنا لهذا الإرث المشترك يعيد لنا مباشرة هويتنا المشتركة، أي يحولنا أيضاً من أتباع وشبيحة وهتيفة وعَبدةْ عجل إلى مواطنين لهم قيم إنسانية مدنية جامعة وأرض مشتركة ملكهم، يقفون عليها، ودولة تسمع لهم وتعبر عن مصالحهم وتديرها لتحسين شروط حياتهم المادية والمعنوية. السوريون فاقدو الثقة بهويتهم الوطنية لأنهم فقدوا شروط وجودها والروح المحركة لها والرصيد المشترك الذي يقرب بين أعضائها. فهم أيتام الوطنية، لا أب ولا أم ترعى مصالحهم ولكن زوج امرأة يسوطهم العذاب ويتفنن في سقيهم كؤوس الإذلال والاستعباد. وكلهم يريدون أن يهربوا من بيت العبودية، ويبحثون لاهثين عن عائلة تتبناهم أو أم مستعارة بأي ثمن ومن أي طبقة أو نسب كان.
- كيف ترى ما حصل يوم الانتخابات في السفارة السورية في بيروت؟
– بيروت لم تعد مستقلة عن دمشق والعكس، أعني أنها ساحة من ساحات الصراع المفتوح بين الشعب (السوري واللبناني والعراقي والإيراني) ونظام القهر والاغتصاب والتطويع والتركيع الذي يشكل الأسد كما يمثل “حزب الله” والحرس الثوري الإيراني أحد أذرعه الأخطبوطية. والملفت أن هذا النظام بالرغم من كل الجهود التي بذلها لتطويع اللاجئين السوريين لم يحصل إلا على نسبة لا تستحق الذكر من المصوتين للأسد.
- هل ترى حلاً قريباً لأزمة اللجوء؟ هل سيعود السوري من لبنان وغيره قريباً إلى سوريا؟
– أخشى أننا أصبحنا جميعاً أو سنصبح لاجئين في سوريا ولبنان والعراق، أي في بلادنا وخارج بلادنا، إذا استمر نظام ولاية الفقيه في طهران هو المحرك الرئيسي للأحداث. وسوف يتحول الهلال الخصيب أو الكئيب بأكمله إلى مواطن لجوء بدل أن يكون وطن مواطنين متساوين وأحرار. فلا حقوق ولا حريات ولا وظائف ولا عمل ولا رعاية ولا حياة ولا مستقبل.
عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم لن تتحقق إلا عندما يتحول بلدهم من جديد إلى وطن يؤسس الحقوق ويحفظ الكرامة ويؤمن فرص العمل والاحترام ويكف عن أن يكون معسكر سخرة واعتقال ومسلخاً بشرياً.
- خلال فترة ترؤسك المجلس الوطني أصدر المجلس رسالة إلى الشعب اللبناني اعتبرت الوثيقة الأولى التي تتحدث عن كيف يرى السوريون العلاقة مع لبنان بعد رحيل نظام الأسد، هل لازالت برأيك سارية بعد كل ما حصل من تدخل “حزب الله” إلى المواقف ضد الثورة السورية، والانتهاكات ضد اللاجئين؟
– ليس هناك أي سبب كي لا تكون العلاقات بين الشعوب، حتى من غير المنتمين لثقافة وتاريخ مشتركين، علاقات احترام متبادل وتعاون وتضامن. من يخلق التناحر بين الشعوب هي الحكومات التي تستخدم التوتر والتنازع والشحن الشوفيني ضد الآخر من أجل التغطية على فشلها وإخفاقها في القيام بواجباتها ومسؤولياتها تجاه المواطن، وتسعى لتفريغ شحنة غضبه عليها ضد شريك أو جار أو عدو مصطنع. وليس لدي أي شك في أنه متى ما زالت سحابة هذا التسلط والهيمنة السوداء سوف تعود علاقات الأخوة إلى سابق عهدها. لأن هذه هي سنّة التاريخ وسنّة الجيرة وسنّة المصلحة وسنّة التقدم والازدهار.
* كاتبة سياسية سورية
المصدر: لبنان الكبير
التعليقات مغلقة.