الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فيلسوف وخوذة المُقاتل

كه يلان محمد *

الخوفُ من الموتِ يبدأُ عندما يدركُ الإنسانُ بأنُه لم يعش الحياة بأكملها. هذا هو رأي فريدرك نيتشه للخوف الساكن في الأعماق من النهاية. ويرى بأنَّ وهم الخلود لا يثمرُ منه سوى حياةٍ ناقصة أو مشوهة، لذلك قد أعلنَ حرباً لا هوادة فيها على كل القيم التي تدعو إلى تجاهل الحياة وتحنيط الأحاسيس إلى أنْ يتمَ الانسياق وراء الأمل المؤجل الذي يصفه نيتشه بشر البلية.

ومن الواضح أنَّ مؤلف “غسق الأوثان” قد اختار منهجاً تفكيكياً لمقاربة إرث أسلافه الفلاسفة وبلغ به السخط من الفلاسفة الألمان لحد تعامل معهم كمزورين، وفاقدين الوعي. إلى جانب ما يتصفُ به فكرُ نيتشه من النزوع نحو التقويض وقلب القيم، فهو قد أراد فعلاً أن يدعمَ أركان فلسفته بطريقة عيشه وأبلى بلاءً حسناً على هذا الصعيد إذ لم تلنِ إرادته على الرغم من تراكم المُعاناة والوحدة والخيبات المُتتالية إذ يكتبُ لصديقه كارل فون غيرسدورف قائلاً: لا حق لنا في الوجود إلا كمُقاتلين طليعيين لحقبة قادمة.

إذاً فإنَّ روحية المقاتل لدى نيتشه لا تخبو مع فشله في التجربة العسكرية، حيثُ خلف التعثرُ في ركوب الخيل والخطأُ في تخمين المسافة جروحاً غائرة في صدره. غير أن المضي في حقل الفلسفة مدججاً بالمطرقة هو ما تمسك به نيتشه، وما دونهُ في رسائله المتبادلة مع أصدقائه وأهله يؤكدُ على أنَّه قد انخرط في المعركة على عدة الجبهات. بدءاً من  مقارعة الفلسفة السائدة مروراً بالمواضعات الأخلاقية، وليس انتهاءً بقلب ظهر المجن على مثله الأعلى  فاغنر، شوبنهاور، سالومي.

الصداقة:

بقدر ما يبدو نيتشه قاسياً في مواقفه الفكرية مُتطلعاً لتقويض مفاهيم فلسفية فهو يتصفُ بالمودة في الصداقة وسلوكياته الحياتية، صحيح أن تواصله كان محدوداً مع الآخرين فقد وجد في العزلة فرصة لاكتشاف مصادره الخاصة، كما يشيرُ إلى ذلك في رسالته لمالفيدا فون مايزنبوغ لكن نمط أسلوبه في كتابة الرسائل يظهرُ اهتمامه بقيمة الصداقة ويوقعُ آخر رسائله باسمه مع كلمة “محبك”. كما أنَّه يخاطبُ المرسل إليه في الإفتتاحية بالأعز أو الأغلى. ويعبرُ عن مشاعرهِ الحنونة متحدثاً عن تفاصيل  حياته اليومية إذا كانت الرسالة موجهةً إلى أمهِ فرانسيسكا، ويتضحُ من محتويات الرسائل أنَّ عائلة نيتشه الصغيرة أرادت متابعة الابن ومراسلته في المناسبات وإسعاده بالهدايا، وهو احتفى باللوحة التي وصلته من فرانسيسكا عندما كان مقيماً في بازل.

والأهم في مادة الرسائل هو الترحيب الكبير الذي يبديه بأصدقائه لاسيما بيتر غاست الذي كان موسيقياً إذ يخبره في إحدى رسائله عن بكائه وثرثرته مع نفسه منتشياً بإدراكه بأنه متقدم على الناس. وفي رسالته لـ إروين روده يؤكدُ بأنَّ ما يمده بالثقة هو الأصدقاءُ من طرازه.

ولا تخلو كلمات نيتشه من نبرة أسى إذ يتمنى أن يحققَ مشاريع صديقه بيتر غاست لكن كما يقول فإن الأفكار بعيدة جداً. وفي رسالة أخرى يخاطب نيتشه إروين رود لافتاً إلى حقيقة وهي أنَّ من يشاركهم في وجهات النظر هم قلة من الناس، لذلك يفضل الانسحاب من التيار السائد متخيلاً وجوده مع أصدقائه في جزيرة، وبذلك لا يحتاجون إلى صمَ الأذن بالشمع.

ويلمحُ في ذات السياق إلى تزهده من الاحتياجات مؤكدا على ضرورة تدشين أكاديمية من نوع جديد. ولا تفوت نيتشه الإشارة إلى مشاهدته لوقائع الحرب إذ يخبرُ فاغنر في رسالته بأنَّ ما حرمه من حضور حفل زواجه بكوزيما هو مصاحبته لمصابين “كان لدى شاحنة مواش مزرية تحمل ست حالات حرجة، وقد قدمت لهم الرعاية، فضمدتهم، ومرضتهم طوال الرحلة بمفردي”.

ولا يخفي صاحب “هكذا تكلم زرادشت” سعادته كلما عرف بأنَّ كتابه قد لقي استقبالاً في مناسبة أو في محفل جامعي. في رسالته لكارل فون غيرسدروف يلفت انتباه الأخير إلى ما يحظى به “مولد التراجيديا” من الاهتمام لدى الأستاذ بلوس بمدرسة شولبفورتا واصفاً الموقف بأنهُ أمر لا يصدق. طبعاً هذا يكون بمثابة الحدث بالنسبة لنيتشه لأنَّ كتابه الأول تم تجاهله في الصحافة بحيث علّق نيتشه على الصمت الذي رافق صدوره قائلاً: “ينتابني شعور من ارتكب الجريمة” كما يحُملُ أستاذ في جامعة “بون” على نيتشه حسب ما تذكر  “سوبريدو” محذراً طلابه من مواطنه الألماني ناعتاً إياه بعدو الثقافة، وأن ما نشره “موليد التراجيديا” ليس إلا هراءً، ربما ما أحاط بكتابه الأول من الصمت قد حدا بنيتشه أن يستغرب من عدم تعليق معلمه “فريدريك ريتشل” حيثُ يقول له “لا أظنك ستلومني على دهشتي لأني لم أسمع أي كلمة منك حول كتابي المنشور مؤخرا”.

تقلبات:

مرَّ نيتشه بأطوار مختلفة على الصعيد الفكري واختلفت خياراته من مرحلة إلى أخرى. فكان في البداية معجباً بـ شوبنهاور، إذ اعتقد بأنَّ معرفته بشوبنهاور مؤشر لمرحلة جديدة في حياته لذلك عندما يراسل أمه بدلاً من الحديث عن نظامه الغذائي وصحته يدون مقطعاً من كتاب “العالم إرادة وتمثلاً” في مغلفه.

وفي رسالة أخرى يقول “بالنسبة لي كل ما هو جميل مرتبط باسميّ شوبنهاور وفاغنر”. ويتفاعلُ مع خبر انتشار فيلسوف التشاؤم في فرنسا، ويكتبُ لفاغنر معبراً عن عظيم امتنانه له مقتنعاً بأن أفضل لحظات حياته وأسماها مرتبطة باسمه ولا يدانيه في تلك المرتبة سوى أخيه الروحي شوبنهاور. أكثر من ذلك فإنَّ نيتشه قد أنزل ريتشارد فاغنر بمنزلة معلمه معترفاً بأن أفكاره تدور حول صاحب أوبرا “الفالكيري” لكن الأمر لا ينتظمُ على هذه الوتيرة بين فاغنر ونيتشه كما ينقلبُ الأخير أيضاً على شوبنهاور، وهذا ما تلمسه بالوضوح في رسائل نيتشه فينصرفُ اهتمامه أكثر إلى جورج بيزيه وشوبان “كم أود أن أعثر على كاتب يجاري شوبان ويؤثر فيَّ جدا”. لكن ما انفك الحنين يعاوده إلى تريبشن. فهو يردُ على أخته إليزابيث مستعيداً أياماً حلَّ فيها ضيفاً على ريتشارد فاغنر “لقد كانت تلك يقيناً أفضل أيام حياتي تلك الأيام التي قضيتها معه في تريبشن”.

وفي رسالته لفرانز أوفربيك يصف فاغنر بأنه أكمل إنسان قد عرفه في ذاك الوقت. مفصل آخر من حياة نيتشه يتشكلُ على إيقاع علاقته بـ سالومي، فكان لقاؤه بهذه المرأة الروسية حدثاً لافتاً في حياته ويري آلان دوبوتون بأنَّ سالومي هي حب نيتشه الأكبر والأشد إيلاماً وتستشفُ من الرسائل التي كتبها نيتشه لـ سالومي إعجاباً شديداً وهو لا يترددُ من الاعتراف بأنَّ في وحدته ينطقُ باسمها بصوت عالٍ وهذا ما كان يشعرهُ بالبهجة.

وماذا عن رأي سالومي بشأنِ نيتشه؟ تقولُ بكلمات ناضحة بشعرية “بدت عيناه كحارسين يحميان كنوزه وأسراره الصامتة التي لا يجبُ أن يلمحها غير المرغوب به” أوردَ مترجم رسائل نيتشه مقطعاً مما قالتهُ سالومي عن نيتشه إذ تعبرُ عن اعجابها بيديه الجميلتين ونبيلتين في الهيئة لا مثيل لهما على حد وصفها. لكن ما لبث أنْ اتخذت العلاقة بين الإثنين منحى متوتراً  ويستخف بـ لو وصديقها بول ريه في رسالة إلى مالفيدا بحيث ترى وجها مضاداً لما كانت عليه سالومي في رسائل سابقة طبعاً نسف علاقته مع سالومي كان له وقعُ صادم على نفسية نيتشه بحيث آثر بعد هذه التجربة العودة إلى عزلته.

حكم نيتشوية:

ما يفتخرُ به نيتشه هو لغته في الكتابة، وتوصله إلى نقطة التناغم بين نمط حياته وطريقة تفكيره فاستلهم من تجاربه الذاتية أفكاراً عميقة ومبادئ محددة يعبرُ عنها بعبارات جزلة وشذرات مكثفة “إنَّ الشذرات المُصاغة بشكل صحيح لا يمكن فك شفرتها عند قراءتها ببساطة”. إذاً يجدُ القارئ في طيات رسائل نيتشه حكماً دالة على رؤية صاحبها للحياة ومن المعلومِ أنَّ نيتشه قد تكبد معاناة المرض غير أنهُ رفض الشكوى من آلامه “لا شيء على وجه الأرض أسخف من الشكوى فهي تهيننا”.

وعندما كان يمر بالضائقة المعيشية لجأ إلى البساطة تجاهل الرحلات الطويلة والعيش في الفنادق. ما يردُ في سياق رسالته لـ أوفربيك، يوحي بأنه قد أوصد الباب دون العالم الخارجي “لا شيء يساعد لا بُدَّ أن أساعد نفسي وإلا فأنا منته”. وبرأي نيتشه ضراوة الأعداء أخف من صدمة بالأصدقاء “إنَّ مغفرة لأصدقاء المرء أصعب من المغفرة لأعدائه”. وعلى غرار فولتير لا يرى نيتشه في الأخطاء كارثةً “على المرء أن لا يشعر بالخزي من أخطائه وإلا فلن تكون لحكمته قيمة تُذكر”.

أيا يكن نوع الألم معنوياً أو جسدياً فلن يتنازل نيتشه عن شغفه بالحياة “لم ولن يستطيع أي ألم أن يدفعني للشهادة زوراً على الحياة كما أعرفها”. كان نيتشه يتعامل مع المحنة والألم بعقلية الكيميائي رأي في كل ما مرَّ عليه من المحن والآلام إمكانية لصناعة ذهبه وشق تاريخ البشرية إلى نصفين إذ نذر حياته لهذه المهمة الشاقة. “ما لم أكتشف الحيلة الكيميائية لتحويل هذا الحمأ إلى الذهب فأنا ضائع” عدا ما سبق ذكره عن مضامين رسائل نيتشه وهي تعكسُ نبض حياته ومعاناته ومسراته بالكتابة والاكتشاف تتواردُ في إطار هذه المدونات عناوين الكتب وأسماء المؤلفين والاقتباسات الرومانية واللاتينية “قد تكون الأمور سيئة الآن لكنها لن تكون كذلك ذات يوم”، فضلاً عن تبادل الآراء عن الموسيقى.

صفوة القول فإنَّ ملامح نيتشه الفكرية والشخصية بكل ما لديها من تقلبات وعمق وتطلعات مرتسمةُ على محتويات هذه الرسائل.


كه يلان محمد 

كاتب وناقد كردي عراقي

 

المصدر: ميدل إيست أونلاين

التعليقات مغلقة.