الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الدستور الإيراني في خدمة السلطة المطلقة

حسن فحص *

  1. أُصيبت تجربة المشروطة عام 1906 بانتكاسة على يد الشاه محمد رضا بهلوي:

يذهب الدارسون للتاريخ السياسي الإيراني إلى أن إيران تعتبر من بين الدول العشر في العالم التي تملك دستوراً بالمعنى والمفهوم الحديث له منذ مطلع القرن العشرين. ولعل تجربة الثورة المشروطة التي حصلت أواخر عهد السلطنة القاجارية، أولى المحاولات الإيرانية لتحويل السلطنة أو الملكية والشاهنشاهية إلى ملكية دستورية.

وعلى الرغم من الانتكاسة السريعة التي أُصيبت بها تجربة المشروطة عام 1906 على يد الشاه محمد رضا بهلوي، الذي انقلب وأنهى السلطنة القاجارية 1925 لمصلحة بناء ملكية بهلوية، إلا أن الملك الجديد لم يستطِع الخروج من الشكل الدستوري الذي ترسخ في المجتمع والحياة السياسية الإيرانيين، بالتالي عمد إلى تعديل هذا الدستور بحيث يسمح له بالحصول على صلاحيات شبه مطلقة تمكّنه من إحكام قبضته على البلاد، خصوصاً أنه جاء بعد حرب عالمية أولى أُعيد في نهايتها رسم حدود الدول في المنطقة بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية والسلطنة القاجارية، وأسس لما يُسمى “الدولة القومية” بناء على تقسيمات اتفاقية “سايكس- بيكو”، إضافة إلى أنه واجه تداعيات العلاقة بين دول المحور ودول التحالف في الحرب العالمية الثانية، وانتهت إلى محاسبته نتيجة ميوله إلى الجانب الألماني، وأُبعد عن السلطة، ونُفي عام 1941 إلى الهند ومنها إلى موريشيوس وبعدها إلى جنوب أفريقيا حيث توفي هناك لكنه دفن في المسجد الرفاعي في القاهرة، ثم نُقل رفاته إلى إيران عام 1950 بعد استقرار الوضع لمصلحة ابنه في السلطة وانتهاء الاضطرابات الداخلية.

استطاعت الشاهنشاهية البهلوية الحفاظ على الدستور الذي يعطيها صلاحيات واسعة ولا يُخضعها للمساءلة أو المحاسبة، إلى الفترة التي جاءت بمحمد مصدق الذي فرضته صناديق الاقتراع والحراك السياسي عام 1951 رئيساً للوزراء، الذي بدأ بعد يومين من حصوله على ثقة البرلمان بإعلان تأميم النفط، في 1 مايو (أيار)، وفتح جبهة لانتزاع صلاحيات دستورية من الشاه وإعادتها إلى سلطة رئيس الوزراء. إلا أن الأمور تطورت وصولاً إلى خروج الشاه محمد رضا بهلوي من إيران إلى إيطاليا عبر العراق، وبدء التحضيرات الأميركية والبريطانية للانقلاب عليه في الشارع، وصولاً إلى عزله في 19 أغسطس (آب) 1953 وفرض الإقامة الجبرية عليه. الأمر الذي أعاد الشاه إلى إيران، وهذه المرة بصلاحيات مطلقة من دون أي صوت معارض، لتبدأ معه مرحلة التحكم الملكي بالدستور.

الصلاحيات المطلقة للشاه محمد رضا ما بعد 1953 والقضاء على حركة مصدق، وتسليم الأمور إلى جهاز الاستخبارات الإيرانية، السافاك، بالتعاون مع جهاز الاستخبارات الأميركية، “سي آي أي”، إضافة إلى استمرار السياسات الاقتصادية والإنمائية غير المدروسة والفاشلة في كثير من الأحيان، انتهت إلى تحريك المؤسسات الدينية والمدنية والسياسية الوطنية ضده، خصوصاً في مسألتين أساسيتين، الأولى منح المستشارين الأميركيين الحصانة القضائية على الأراضي الإيرانية، والثانية الثورة البيضاء والإصلاحات الأرضية أو الزراعية التي أقرّها والتي استثارت واستنفرت هذه المرة الإقطاعيين الذين تحالفوا مع المؤسسة الدينية التي رأت في هذه الإصلاحات تهديداً لمصالحها، ما مهّد الطريق إلى تحرك شعبي تقوده هذه المرة المؤسسة الدينية، وتبلور في أحداث حزيران 1963 وانتهى إلى اعتقال رجل الدين المعارض السيد روح الله الخميني والحديث عن إمكانية إعدامه، ما دفع كبار فقهاء ومراجع الحوزة الدينية في مدينة قم إلى إصدار بيان اعتبروا فيه الخميني من الشخصيات العلمية الحائزة درجة المرجعية، فقُطع الطريق على إعدامه وأُجبر الشاه وأجهزته على إبعاده إلى تركيا التي انتقل منها إلى الحوزة الدينية في مدينة النجف العراقية.

وسبق أن شكلت قرارات مشابهة لمصدق محركاً ضده بعد أن حاول إعادة توزيع الأراضي الزراعية ومصادرة أملاك كبار الإقطاعيين والعائلة الملكية التي كانت تملك في منطقة شمال إيران وحدها نحو 7000 قرية بكاملها. وأدت إلى تحالف بين طبقة الملاكين والإقطاعيين والمؤسسة الدينية ضده وانتهت إلى مساعدة أجهزة الشاه وإنجاح خطة الاستخبارات المركزية الأميركية المعروفة باسم عملية “أجاكس” بالانقلاب عليه وإزاحته.

بعد انقلاب عام 1953 على مصدق وعودة الشاه إلى إيران، انتقلت سلطات الشاه إلى مرحلة السلطة المطلقة التي لا تراعي الدستور، وأصبح الجهة التي تتحكم بتعيين رئيس الوزراء مباشرة، مع الاحتفاظ على الشكل البرلماني لاختياره ومنحه الثقة. وتراكمت الانتقادات والاحتقانات الشعبية، إضافة إلى استمرار الدور الذي بدأه الخميني، وهذه المرة من النجف العراقية، إلى جانب قوى سياسية أخرى وطنية ويسارية وقومية في تصعيد المعارضة السياسية والشعبية ضد النظام الملكي. وقد انفجرت بشكل واسع بداية عام 1978 واستمرت على شكل تظاهرات شعبية ومواجهات مع قوات الأمن والجيش في مختلف مدن إيران، وصولاً إلى مطلع شباط 1979، عندما قرر الشاه مغادرة البلاد بعد تسليم رئاسة الحكومة بصلاحيات موسعة إلى شاهبور بختيار، عضو الجبهة الوطنية التي سبق أن أسسها مصدق في إطار مساعٍ لتهدئة الأوضاع والتمهيد للعودة لاحقاً. إلا أن التطور الدراماتيكي الذي حصل، عندما قرر الخميني مغادرة منفاه الفرنسي في ضاحية نوفل لوشاتو الباريسية، والعودة إلى طهران. الأمر الذي أنهى آمال الشاه بالعودة، وأسس لبدء مرحلة جديدة من تاريخ إيران، عُرف بـ”الثورة الإسلامية” والنظام الجديد المنبثق منها.

  1. قبل وفاة الخميني برزت الحاجة إلى إعادة النظر في تركيبة النظام بعد صراعات:

بعد أقل من شهرين على إعلان انتصار الثورة الإيرانية، وفي أجواء ما زالت تسيطر عليها الحماسة الثورية والشخصية الطاغية والكاريزماتية لقائدها العائد من المنفى، تمت الدعوة للتصويت على طبيعة النظام الذي من المفترض أن يقوم على أنقاض النظام الملكي.

حدد موعد الاستفتاء على طبيعة النظام تحت اسم “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” بعد حسم الجدل بين الأصوات التي دعت إلى “الجمهورية الإيرانية” وتلك التي دعت إلى “جمهورية ديمقراطية”. وقد أجري الاستفتاء على مدى يومين في 30 و31 مارس (آذار) 1979، وأعلنت النتائج في اليوم التالي الأول من أبريل (نيسان)، وجاءت بتأييد إقامة “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” بنسبة 98.2 في المئة.

الاستفتاء على طبيعة النظام جاء قبل إقرار الدستور الإيراني الجديد، الذي كتب بناء على نتيجة الاستفتاء وإسلامية النظام الجديد، بالتالي كان منسجماً مع الإرادة التي رسمتها القيادات التي اجتمعت لتدوينه، حيث سيطر علماء الدين على لجنة الصياغة أو ما عرف بمجلس خبراء الدستور حينها.

وفي حديث خاص مع عضو مجلس قيادة الثورة، عضو الجبهة الوطنية عزت الله سحابي، كشف أن المسودة الأولى التي قدمت لزعيم الثورة حينها، لم تكن تتضمن أي إشارة إلى ولاية الفقيه في الهرمية الدستورية للنظام الجديد، إلا أن دخول كل من مظفر بقائي زعيم حزب الكادحين “زحمتكشان” والمفكر الإسلامي المتشدد حسن آيت على خط صياغة الدستور، ومع الجهود التي بذلاها في المطالبة بإدخال مبدأ ولاية الفقيه، استطاعا إقناع قائد الثورة بذلك، الذي طالب بدوره بتعديل النصوص بتضمين هذا المبدأ من دون أن يكون لسلطة الولي الفقيه صلاحيات مطلقة.

في 2 و3 ديسمبر (كانون الأول) 1979، وبعد نحو ثمانية أشهر من الاستفتاء على طبيعة النظام، جرت الدعوة للاستفتاء على الدستور الجديد للجمهورية الإسلامية الذي دونه مجلس خبراء الدستور أو القانون الأساسي برئاسة آية الله حسين علي منتظري، والذي جاء حسب مقدمته منسجماً مع “توطيد أركان الحكومة الإسلامية”. وحصل الدستور الجديد على نسبة 99.5 في المئة من أصوات المشاركين، الذين بلغت نسبتهم 71.6 في المئة من مجموع الإيرانيين.

شكل الدستور الجديد القاعدة التي قامت عليها السلطة في نظام الجمهورية الإسلامية، واستمرت خلال حياة المؤسس من دون تعديل، على الرغم من العيوب التي برزت وظهرت في مرحلة التطبيق، خصوصاً ما يتعلق بموقع ودور رئيس الجمهورية في هرمية القرار داخل السلطة، إضافة إلى أن قائد الثورة أو ولي الفقيه ذا الصلاحيات غير المطلقة، مارس دوراً مؤثراً ومفصلياً يقارب الإطلاق في توجيه الدولة والنظام والمؤسسات، مستفيداً من موقعه المؤسس والكاريزمي، من دون أن يكون بحاجة إلى صلاحيات مطلقة وواسعة.

وقد برز هذا الدور بشكل واضح في تدخله الذي حسم الجدل في التعامل مع موضوع إقالة الرئيس الأول للجمهورية أبو الحسن بني صدر، إضافة إلى لجم طموحات كثير من المسؤولين بالتفرد والهيمنة على قرارات الدولة وتوجهات النظام. وتصدى لكل الانتقادات التي مارسها بعض أبناء الثورة والنظام والمؤسسة الدينية، وكان حاسماً وحازماً في استبعادهم من المراكز التي كانوا يشغلونها، من دون التوقف عند تاريخهم النضالي والمؤسس في النظام، كما حصل مع خليفته آية الله حسين علي منتظري الذي عزله في الوقت الذي حاول فيه الأخير تصويب عمل المؤسسات، انطلاقاً من موقعه ودخوله في صراع مع رئيسي الجمهورية والبرلمان حينها السيد علي خامنئي والشيخ هاشمي رفسنجاني، ما اعتبر انتصاراً من الخميني لمنطلق الدولة وضروراتها والمصلحة الإيرانية العليا التي فرضت عليه عزل، والحجر على خليفته في موقع ولاية الفقيه وأحد أبرز تلامذته.

وقبل وفاة المؤسس، ونتيجة لتطورات الأوضاع في إيران على مدى عشر سنوات من عمر الثورة والنظام الإسلامي، والتجارب السلبية والإيجابية السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها، برزت الحاجة إلى إعادة النظر في التركيبة السياسية والدستورية للنظام، خصوصاً بعد أن شهدت مواقع السلطة صراعات حول الصلاحيات والأدوار، وما أدت إليه من تداخل وتضارب في المسؤوليات القانونية والإدارية، ما دفع إلى ضرورة طرح موضوع الاستفتاء على تعديل الدستور.

وبما أن الدستور الأول لم يلحظ مسألة تعديل الدستور، لذا فقد جاء الطلب من قبل رئيس الجمهورية (علي خامنئي حينها) إلى القائد الأعلى للنظام الذي دعا إلى تشكيل لجنة لإعادة النظر في الدستور، التي أقرت الاستفتاء على إدخال بعض التعديلات التي شملت حينها تغيير اسم مجلس الشورى الوطني (البرلمان) إلى مجلس الشورى الإسلامي، ورفع عدد أعضاء مجلس خبراء القيادة إلى 86 عضواً، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، ومنح مجلس خبراء القيادة سلطة عقد الاجتماع مرة واحدة على الأقل في السنة. وتحديد ما إذا كان المرشد الأعلى “قادراً عقلياً وجسدياً على القيام بواجباته الشاقة”، إضافة إلى تحويل مجلس تشخيص مصلحة النظام إلى هيئة دائمة، لتسوية الخلاف بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور، على أن يضم أعضاء يعينهم المرشد الأعلى، فضلاً عن ممثلين عن السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية والقوات المسلحة  وأجهزة الاستخبارات، ومجلس صيانة الدستور. وقد تضمنت التعديلات مادة مهمة وأساسية تقول بإنشاء مجلس أعلى للأمن القومي.

  1. منحت المادة 57 صلاحية مطلقة للولي الفقيه:

التعديل الرئيس والأهم على الدستور الذي جاء نتيجة استفتاء 1989 طال مضمون المادة 57 من الدستور، إضافة صفة “المطلق” على صفة “ولي الأمر” التعبير الشرعي لولي الفقيه بما أنه هو ولي أمر المسلمين، وأصبح نص هذه المادة على النحو الآتي “السلطات الحاكمة في جمهورية إيران الإسلامية هي السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية، وهي تمارس صلاحياتها بإشراف ولي الأمر المطلق وإمام الأمة، وفقاً للمواد اللاحقة في هذا الدستور. وتعمل هذه السلطات مستقلة عن بعضها بعضاً”.

الحاجة إلى هذا التغيير والتعديل، بخاصة تلك التي شملت صلاحيات رئيس الجمهورية، وإلغاء منصب رئيس الوزراء، فرضته التعقيدات والتداعيات التي شهدتها إيران صيف عام 1985، وتفجير أزمة سياسية على خلفية التريث الذي لجأ إليه السيد علي خامنئي رئيس الجمهورية المنتخب لدورة ثانية في اختيار رئيس مجلس الوزراء، خصوصاً بعد أن عبر عن رغبته بعدم تكليف السيد مير حسين موسوي للمرة الثانية، وميله لتكليف وزير خارجيته علي أكبر ولايتي، والأجواء التي أشيعت عن معارضة قائد الثورة المؤسس السيد الخميني لهذا التغيير، الذي قابله إصرار من خامنئي الذي اضطر إلى التصريح علناً والطلب من الجميع عدم ممارسة الضغوط عليه في موضوع اختيار رئيس للوزراء. الأمر الذي دفع السيد الخميني إلى التدخل مباشرة على خط الأزمة، وإعلان تأييده لعودة مير حسين موسوي والإبقاء عليه في رئاسة الوزراء، ما اعتبر حينها تصرفاً سلبياً تجاه موقع رئيس الجمهورية الذي اضطر إلى القبول بتنفيذ هذا التوجه، والتعايش مع رئيس للحكومة يختلف معه حول آليات إدارة الوضع الاقتصادي بالدرجة الأولى، خصوصاً اقتصاد الحرب الذي غلب عليه الدور الكبير للدولة على حساب القطاعات الخاصة.

انتقال السيد خامنئي من موقع رئيس الجمهورية إلى موقع المرشد الأعلى وقائد الثورة وولي الفقيه وأمر المسلمين، جاء بالتزامن مع وصول الشيخ علي أكبر هاشمي رفسنجاني إلى موقع رئاسة الجمهورية، لتبدأ معهما مرحلة جديدة من تاريخ إيران والثورة، كان فيها التناغم وتقاسم الأدوار واضحاً، إذ سمح التعديل الدستوري لرئيس الجمهورية بأن يكون صاحب صلاحيات أوسع وأكبر من السابق على حساب موقع رئاسة الحكومة، وأن يكون المسؤول المباشر عن السياسات الاقتصادية وعملية إعادة الإعمار والبناء وترميم ما لحق بإيران من خسائر في القطاعات الاقتصادية، الصناعية والإنمائية، جراء الحرب مع العراق، في حين كانت المسائل السياسية الخارجية والثقافية والإشراف على المؤسسة العسكرية والأمنية والوزارات والمؤسسات المعنية بها في قبضة المرشد مباشرة.

وسمحت التعديلات للمرشد بأن يكون صاحب الصلاحية المطلقة في إدارة المؤسسة العسكرية بكل قطاعاتها، وكان يتولى مسؤولية تعيين قياداتها وأركانها والإشراف عليها كونه القائد الأعلى والعام للقوات المسلحة، فضلاً عن مرجعيته لأعمال وقرارات المجلس الأعلى للأمن القومي ومجلس صيانة الدستور ومجمع تشخيص مصلحة النظام ورئاسة السلطة القضائية.

هذه الثنائية كان من المفترض أن تشكل رافعة للنظام في مرحلة ما بعد المؤسس، إلا أن الافتراق لم يتأخر كثيراً بين المرشد والرئيس، وكان الموقف الذي اتخذه رفسنجاني في انتخابات عام 1997 التي جاءت بالرئيس محمد خاتمي إلى رئاسة الجمهورية والسلطة التنفيذية على حساب مرشح النظام والمرشد رئيس البرلمان الأسبق الشيخ علي أكبر ناطق نوري مؤشراً على أن الخلاف بينهما قد وصل إلى مراحل متقدمة، خصوصاً أن رفسنجاني من خلال تأكيده على إجراء انتخابات بعيدة عن أي شبهة تزوير أو تلاعب أو تضييق، وإصراره على الخروج من رئاسة الجمهورية بأقل خسائر سياسية ممكنة حتى وإن أدى ذلك إلى توتير الأجواء بينه وبين المرشد، قد اتخذ قراره بوضع مسافة بينه وبين مؤسسة المرشد، وأن يلعب دوراً أبوياً يرعى كل التوجهات السياسية والاجتماعية على اختلافها في المجتمع والحياة السياسية والثقافية الإيرانية.

مرحلة ما بعد رفسنجاني شهدت تكريساً لثنائية سياسية وفكرية واجتماعية ودينية، بين تيار محافظ يسعى لفرض القراءة الدينية على المجتمع بكل مستوياته، وبين قراءة منفتحة تسعى لإعادة رسم مساحات التداخل بين السياسي والديني، ولم تتردد في طرح مسألة فصل الدين عن السياسة من دون إعلان العداء للدين أو المؤسسة الدينية، خصوصاً أن أصحاب هذه الرؤية كانوا من القيادات الثورية والإسلامية منذ بداية الثورة، ولم يتركوا موقعهم الديني بما هو التزام شخصي، محاولين تقديم رؤية جديدة يعتقدون أنها تساعد في إنقاذ النظام الإسلامي من الوصول إلى الانسداد السياسي والاجتماعي والثقافي، وتسمح لقوى الثورة والنظام من الاستمرار والحفاظ على قاعدته الشعبية بكل تنوعاتها وأطيافها.

والاختلاف في التوجهات لم يقف عند هذا المستوى، بل وصل إلى ما اعتبره النظام تهديداً يمس سلطته، عندما بدأت تعلو الأصوات المطالبة بإعادة النظر في الصلاحيات الدستورية الممنوحة لرئيس الجمهورية، ما اعتبر محاولة لتقليص صلاحيات المرشد. إلا أن الخطر الأساس الذي شعرت به الدولة العميقة التي بدأت تأخذ في تلك المرحلة شكلها النهائي وتكرس نفوذها ووجودها في تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الكلام الذي صدر حول ضرورة إعادة النظر في موضوع الصلاحيات المطلقة لولي أمر المسلمين، وأن يعاد النظر في التطبيق الحرفي والعملي لآخر ما جاء في المادة 107 التي تتحدث مع مواد أخرى عن صلاحيات ولي الفقيه التي تقول “يتساوى القائد مع كل أفراد الشعب أمام القانون”، بخاصة أن هذه الأصوات كانت ترى أن صلاحيات المرشد “فوق دستورية”. وتحديداً بعد تدخله في تعطيل عمل البرلمان صيف عام 2001، وسحب مشروع قانون جديد للإعلام “بقرار ولائي” ومنع إقراره لجهة أنه يتعارض والتوجهات العامة للنظام والسلطة، ويسمح بحالة من التفلت الإعلامي والمساس بالأخلاق العامة.

هذا الصراع، دفع النظام لاعتبار التيار الإصلاحي النقيض النوعي له، ما دفعه لاستنفار جميع قدراته وطاقاته لإخراجه من اللعبة السياسية، وهي جهود انتهت إلى إخراج الإصلاحيين من السلطة، ومحاصرة دور وتاريخ رفسنجاني، وإيصال محمود أحمدي نجاد إلى رئاسة الجمهورية، ليبدأ في ظل رئاسته التأسيس لمرحلة الإمساك الكامل بمفاصل الدولة والنظام، وتكريس هيمنة الدولة العميقة، وتعاظم دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، حتى على المستويين الإقليمي والدولي.

  1. الانتقال من الجمهورية إلى التمكين:

بعد أكثر من ثلاثة عقود من الانتظار، يبدو أن المرحلة المقبلة من تاريخ الثورة والنظام الإيرانيين تتجه نحو مزيد من المركزية وتجميع السلطات في يد المرشد الأعلى الذي يملك صلاحيات مطلقة دستورية كـ “ولي لأمر المسلمين”.

فبعد التجربة الفاشلة التي خاضها النظام مع رئاسة محمود أحمدي نجاد على رأس السلطة التنفيذية والتي كان يتوقع أن تساعده في تمهيد الطريق لفرض سيطرته وإحكام قبضته على مراكز القرار في مؤسسات الدولة، إلا أن الدولة العميقة التي دعمت وصوله (أحمدي نجاد) إلى هذا الموقع اصطدمت بالطموحات الكبيرة غير المتوقعة لهذا الرجل الذي بات يشكل لها تحدياً من داخل صفوفها، ومحاولته التمرد عليها والخروج عن إرادتها، والعمل على تأسيس توجه جديد أخذ في بعض الأحيان طابعاً قريباً من طابع الفرق الدينية أوالمذهبية، خصوصاً بعد محاولات التنظير التي قام بها مع فريقه المقرب لنظرية “المدرسة الإيرانية في الإسلام” وأن الحكومة التي يرأسها لا تعود في مرجعيتها إلى ولي الفقيه والمرشد الأعلى للنظام، بل تتجاوزه لتتصل بالإمام المهدي، الإمام الثاني عشر للشيعية الإمامية، إلى حد الادعاء بالتواصل المباشر معه ومشاركته في اجتماعات الحكومة والجلوس إلى جانب الرئيس الذي أفرد له مقعداً خاصاً بالقرب منه.

الإرباك الذي أحدثه أحمدي نجاد في مسار الدولة العميقة، فرض عليها نوعاً من التعديل في آليات تحقيق وتطبيق ما تريده وتسعى له، خصوصاً أن الأوضاع الدولية ودخول النظام في مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي على خلفية أزمة الملف النووي فرض عليها اللجوء إلى مرحلة انتقالية ما بين مشروعها والخروج من الأزمة، فكان انتخاب حسن روحاني لرئاسة الجمهورية بمهمة واحدة هي العمل على فتح باب التفاوض مع الإدارة الأميركية وعقد اتفاق معها حول البرنامج النووي، من دون أن يكون له الحق في استثمار هذا الإنجاز لتكريس واقع سياسي يتعارض مع الواقع الذي تسعى له هذه الدولة العميقة. لذلك حاولت بقوة منع عملية التجديد له في رئاسة الجمهورية في انتخابات عام 2017 وعملت لإيصال مرشحها إبراهيم رئيسي في محاولة لاستثمار نتائج الاتفاق النووي وتعزيز قاعدتها الشعبية بحيث تكون قادرة على فرض التوجه السياسي الذي تريده من منطلق أنها صاحبة الإنجاز والأقدر على توظيف نتائجه الإيجابيةـ وإلا فأنها على استعداد لإفراغه من محتواه، ومحاصرة المدافعين عنه، وهذا ما حصل خصوصاً بعد الخطوة التي قام بها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب بالانسحاب من الاتفاق والعودة إلى فرض عقوبات اقتصادية خانقة، إذ حملت روحاني وفريقه الدبلوماسي مسؤولية الاتفاق وما اعتبرته تنازلات استراتيجية عن حقوق إيران النووية.

مع البوادر الإيجابية لإمكانية العودة إلى الاتفاق النووي وبدء حوار مباشر مع الإدارة الأميركية، يبدو أن النظام والدولة العميقة معه حسما أمرهما في فرض سيطرتهما على آخر المواقع خارج دائرة نفوذهما واستعادة السلطة التنفيذية من جهات لا تنسجم بالكامل مع توجهاتهما. لذلك لم تتوقع قيادة النظام عند الإجراء الذي قام به مجلس صيانة الدستور بإقصاء جميع مرشحي رئاسة الجمهورية من الصف المعارض أو الذين قد يشكلون خطراً على مرشحهم إلى رئاسة الجمهورية.

وقد يكون الهدف الأول الذي يسعى له النظام بعد استعادة رئاسة الجمهورية هو إخراج القوى الإصلاحية والمعتدلة من دائرة السلطة والتأثير في القرار أو حتى التفكير بالمشاركة، بالتالي إنهاء حالة الانقسام السياسي أو الثنائية التي بدأت تتكرس في الحياة السياسية بين إصلاحيين ومحافظين، والتي لن تشكل تهديداً حقيقياً حتى الآن لعدم تبلور ونضوج التجربة الحزبية في المجتمع الإيراني بالمفهوم الذي يسمح بهذه الثنائية السياسية غير العدائية أو الإلغائية، خصوصاً أن وجودها – الثنائية – يأتي على خلاف الرغبة التي يريدها المرشد الذي وإن كان ملتزماً بالمظهر الديمقراطي وآلياته للدولة، إلا أنه لا يعارض تركيز القرار والمرجعية في جهة واحدة.

وفي حال سارت الأمور على النحو الذي تخطط له قيادة النظام، فمن المتوقع أن تشهد المرحلة المقبلة في إيران دعوة إلى تعديل الدستور بتوجيه من المرشد نفسه الذي يملك صلاحية إجرائه من عدمها، ومن المحتمل ونتيجة لطبيعية الصراع الذي سيطر على مدى ثلاثة عقود بين موقعي المرشد والرئيس أن يكون التوجه بإلغاء عملية الاقتراع المباشر لرئيس الجمهورية من الشعب، وأن يتولى مجلس النواب هذه المهمة يكون فيها المرشد صاحب الصلاحية في اختيار الشخصية التي ستتولى منصب رئاسة الجمهورية.

هذا التعديل المتوقع، يفترض أن يترافق مع تعديل آخر، يعيد إنشاء أو استحداث موقع رئيس للوزراء أو الحكومة مع صلاحيات واسعة يكون ممثلاً للكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان.

هذه الاحتمالات المتوقعة لتعديلات دستورية، سبق أن أشار إلى إمكانية المرشد الأعلى قبل سنوات، ودعا البرلمان لبحث إمكانية إلغاء موقع رئاسة الجمهورية، ما قد يسمح بالخروج من التحدي الذي يواجهه النظام والدولة العميقة مع كل عملية انتخابات رئاسية وما يرافقها من جدل حول صلاحيات هذا الرئيس ودوره في عملية القرار في مقابل صلاحيات المرشد الواسعة وفوق الدستورية.

هذه الآلية في حال تم اللجوء إليها، ستحدث تغييراً في طبيعة الدولة التي نشأت بعد انتصار الثورة والتي حرص المؤسس الخميني على تلازم بعديها الجمهوري والإسلامي والتوازن بينهما بحيث لا يطغى بعد على الآخر، وتنقلها من جمهورية ناتجة من آليات ديمقراطية بالحدود والسقوف التي رسمها الدستور ومحدداته، إلى حكومة “تمكين” تلتزم هذه الآليات الديمقراطية، ألا أنها تعمل في إطار وتحت سقف توجهات وإرادة القيادة العليا المتمثلة بـ”ولي أمر المسلمين” صاحب الصلاحيات المطلقة دستورياً وتنفذ إرادة الدولة العميقة والمؤسسات التي تقف خلفها، بحيث تكون هذه الجهات قادرة على التحكم بكل التفاصبل وتكون السلطة التنفيذية إن كان ما يتعلق بصلاحيات رئيس الجهورية أو تلك التي تقع في دائرة اختصاص رئيس الوزراء خاضعة لما تمليه هذه الجهات.

هذه التعديلات ستسمح للمرشد أو لخليفته باختيار كلا الرئيسين الجمهورية والوزراء، الأول عبر اختياره من قبل مجلس النواب الذين يكون اختيارهم أيضاً منسجماً مع توجهات النظام كما هي الحال مع المجلس الحالي باستخدام مجلس صيانة الدستور ولجنة دراسة أهلية كل مرشح، والثاني عبر اختياره مباشرة من قبل المرشد لأن الرئيس حينها لن يكون قادراً أو لا يملك القدرة على المعارضة لأن إمكانية الاستغناء عنه وإقصاءه ستكون سهلة لأن شرعيته ستكون مستمدة من تصويت البرلمان وموافقة المرشد.

* كاتب وصحفي لبناني

المصدر: اندبندنت عربية

التعليقات مغلقة.