استمرت مقابلة السفير المصري في أمريكا، الدكتور ’’أحمد حسين‘‘، مع وزير الخارجية الأمريكية «دالاس» عشرين دقيقة فقط، يوم 19 تموز/ يوليو 1956، استمع فيها إلى سحب واشنطن تمويلها مشروعَ السد العالي، فكانت اللحظة التاريخية التي وجدها عبدالناصر لتأميم قناة السويس، وهو القرار الذى كان يُعد له منذ فترة طويلة.
يذكر محمد حسنين هيكل في كتابه «ملفات السويس»: «خرج السفير المصري، الذى كانت الدهشة لا تزال مستولية عليه، ليجد أن إدارة الصحافة في وزارة الخارجية وزعت على المندوبين الصحفيين المعتمدين لديها، الذين كانوا في انتظاره، بياناً صحفياً عن القرار الذى أبلغه به «دالاس».
يؤكد هيكل «كان البيان أشد قسوة مما سمعه بنفسه من وزير الخارجية فقد جاء فيه: إن الولايات المتحدة أصبحت مقتنعة بأن الحكومة المصرية ليس في استطاعتها أن تقدم النقد المحلى اللازم لتمويل السد، لأن تنفيذ هذا المشروع العملاق سوف يفرض على الشعب المصري تقشفا لمدة تتراوح ما بين 12 و 15 سنة، وإن الشعب المصري لا يستطيع أن يتحمل ذلك، ثم إن الحكومة الأمريكية لا ترغب في أن تتحمل مثل هذه المسؤولية، ثم أشار البيان إشارة خبيثة إلى أن مصر رهنت محصولها من القطن في مقابل السلاح السوفيتي الذى تحصل عليه، ولم يكن ذلك صحيحا وكانت الخارجية الأمريكية أول من يعلم عدم صحته، لأن أقساط السلاح السوفيتي لم تكن تتجاوز ثمانية ملايين جنيه مصري سنويا».
تتابعت هذه التطورات، وكان عبدالناصر في يوغوسلافيا منذ يوم 12 يوليو 1956 لحضور القمة الثلاثية بينه وبين الرئيس اليوغوسلافي «تيتو»، ورئيس وزراء الهند «نهرو»، وحسب هيكل، فإنه في ظهر 20 يوليو، مثل هذا اليوم، 1956 انعقدت الجلسة الختامية للزعماء الثلاثة، واستعد عبدالناصر للعودة إلى القاهرة بالطائرة، ويؤكد هيكل: «حتى هذه اللحظة لم يكن يعلم باللهجة المهينة التي صيغ بها الاعتذار الأمريكي.. وصعد إلى الطائرة ومعه نهرو الذى كان مقررا أن يقضى في مصر يومين قبل أن يتوجه لزيارة بيروت، ومنها إلى دلهي».
يصف هيكل الأجواء التي كانت سائدة داخل الطائرة من يوغوسلافيا إلى مصر قائلا: «كان الصف الأول في الطائرة يحتوى على أربعة مقاعد، جلس جمال عبدالناصر و«نهرو» على اثنين منها في الجانب الأيمن، وجلس عبداللطيف البغدادي، وزير التخطيط، و«أنديرا غاندي»، ابنة «نهرو» ومساعدته ومرافقته، على الجانب الأيسر، وأما الصف الثاني فجلس إلى ناحية فيه الدكتور ’’محمود فوزى‘‘، وزير الخارجية، و’’علي صبري‘‘».
يضيف هيكل: «كنت والسفير (ن. ر. بيلاي)، مساعد وزير خارجية الهند على الناحية الأخرى، ولاحظت أن جمال عبدالناصر بعد بضع دقائق من الحديث مع ’’نهرو‘‘ تلقى رسالة من قيادة الطائرة راح يقرأها باهتمام، ولم تمض دقائق حتى تلقى رسالة ثانية وثالثة، وتبين أن لاسلكي الطائرة كان يتلقى رسائل عن المؤتمر الصحفي للمتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية، الذى أذاع فيه نصوص البيان الأمريكي بسحب عرض المشاركة في تمويل السد العالي».
يتذكر هيكل: «رأيت جمال عبدالناصر يتداول مع نهرو فيما يتلقاه من رسائل ويطلعه عليها، ولمحت ’’نهرو‘‘ يهز رأسه ويمط شفتيه على طريقته حين لا يعجبه شيء، وبعد قليل ترك عبدالناصر مكانه بجوار ’’نهرو‘‘، ودعانا إلى مؤخرة الطائرة، وهناك أطلعنا على ما تلقاه من رسائل، وكان تعليقه عليها هو: (إنهم لم يكتفوا بالرفض، وإنما أضافوا إليه الإهانة، وهذا حساب مقصود)».
يضيف هيكل: «كان الوقت يقترب من منتصف الليل، وأطفأت الطائرة أنوارها الداخلية، لتعطى ركابها فرصة يغمضون فيها عيونهم، واستغرق ’’نهرو‘‘ في سبات عميق، لكن جمال عبدالناصر بدا وكأن كل خلجة فيه يقظة ومتحفزة، وبعد قليل قام من مكانه وعدنا مرة أخرى إلى مؤخرة الطائرة، وكان السؤال الذى يشغل باله هو: (ما الذى يهدفون إليه بالضبط، إن الرفض مفهوم ولكن ما صحب الرفض من إهانة سياسية، لا بد وأن يكون لها معناها ولها ما وراءها)».
وصلت الطائرة إلى مطار القاهرة في الساعة الثانية بعد منتصف الليل «صباح يوم 21 يوليو»، وكانت قيادات الدولة كلها في انتظار جمال عبدالناصر، وكذلك السفراء، وكان بينهم السفير الأمريكي، فماذا حدث؟
حين هبطت الطائرة القادمة من يوغسلافيا في مطار القاهرة بالرئيس عبد الناصر، ورئيس الوزراء الهندي ’’نهرو‘‘ في الساعة الثانية صباح 21 تموز/ يوليو، مثل هذا اليوم 1956، كان العالم ما زال على ترقبه لرد الفعل العملي لمصر نحو إعلان أمريكا والبنك الدولي سحب تمويل مشروع السد العالي .
كان الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل ضمن الوفد الذى رافق عبدالناصر في زيارته إلى يوغسلافيا التي شهدت مؤتمرا ثلاثياً بين ’’نهرو‘‘ و ’’تيتو‘‘ وعبد الناصر في جزيرة بريوني، وفي ختام الزيارة أعلنت أمريكا قرارها، وفى طريق عودة عبد الناصر ومعه ’’نهرو‘‘ الذى كان سيقضى عدة أيام في زيارة لمصر، كان عبد الناصر يتلقى أولاً بأول البرقيات الخاصة بالموضوع من واشنطن، ويروى هيكل و سامى شرف مدير مكتب عبد الناصر، شهادتهما عن تلك اللحظات التي قادت إلى قرار «تأميم قناة السويس».
يذكر هيكل في كتابه «ملفات السويس» أن قيادات الدولة كلها كانت في انتظار عبد الناصر لحظة وصوله إلى المطار، وكذلك السفراء وبينهم السفير الأمريكي «هنري بايرود» الذى كان يقضى آخر أيامه في مصر بعد قرار نقله إلى جنوب أفريقيا، وراح عبد الناصر و’’نهرو‘‘ يصافحان المستقبلين، وحين وصل عبد الناصر إلى « بايرود» لم يكن لدى «بايرود» تعليق سوى قوله: «سيدى الرئيس إنني حزين جداً»، ولم يعلق عبد الناصر.
يؤكد «هيكل»: «فى استراحة المطار أطلع عبد الناصر لأول مرة على النص الكامل لبيان وزارة الخارجية الأمريكية، وكان في مجمله أسوأ بكثير مما نقلته إليه الرسائل التي تلقاها في الطائرة».. يتذكر سامى شرف في الكتاب الأول من مذكراته «سنوات وأيام مع جمال عبد الناصر»، أنه بعد الوصول إلى القاهرة التفت إليه عبد الناصر وقال له: «بكرى تصحى بدرى وتجيب المجموعة اللي جهزت دراسات قناة السويس، كل منهم على حدة ولا تستخدم التليفونات أو وسائل الاتصال العادية وتستنى مني تعليمات».
يضيف ’’شرف‘‘: «كانت هذه المجموعة تضم “مصطفى الحفناوي” و”أمين أنور الشريف” و”محمد على الغيتيت” و”حلمى بهجت بدوى”، وفي الصباح طلب الرئيس تجميع الدراسات التي سبق إعدادها على أن نجتمع مع ’’علي صبري‘‘ لوضع التوصيات التي يمكن بحثها إذا ما أجبرنا على اتخاذ إجراءات تتعلق بإدارة قناة السويس، ولم يُطرح كلمة «تأميم». يذكر هيكل: «دخل عبد الناصر بيته قرب الفجر ولم ينم، وفى الصباح كان عليه أن يعقد اجتماعا مع «نهرو»، وأن يتغدى معه في السفارة الهندية، واتصل «نهرو» في الصباح يرجوه ألا يشغل باله به فهو أول من يعرف ويقدر خطورة الظرف المستجد وما يستدعيه الأمر بعد ذلك من تفكير، وسوف يسعده أن يعتبر الرئيس عبدالناصر أن صديقه «نهرو» موجود في القاهرة لإجازة شخصية يتفرج فيها على معالمها السياحية دون مقابلات رسمية أو محادثات خصوصا أنهما تحدثا بما فيه الكفاية في «بريوني»، وأصر عبد الناصر على أن يسير برنامج «نهرو» كما كان مرسوماً له من لقاءات بينهما يوم «الجمعة» وقال لـ “نهرو”، يوم الجمعة إجازة رسمية، ويسعدني أن أقضيه معك، وفى يوم السبت سأتركك تتصرف كما تشاء».
يؤكد هيكل: «على الغداء في السفارة الهندية كان الحديث مركزاً على نقطة واحدة وهى مقاصد اللهجة المهينة التي صيغ بها التراجع الأمريكي عن المساهمة في تمويل السد، وكان اتفاق الرجلين على أن هذه اللهجة هي بداية سياسة وليست نهاية سياسة، وأثناء خروجه من السفارة الهندية التفت إلى الرئيس جمال عبد الناصر وقال: سوف يكون على كل واحد منكم أن يفكر في الخطوة التالية».
يزيد ’شرف‘ في كلام “نهرو”.. يذكر أن عبد الناصر أشار له إلى نوع من فرض السيطرة المصرية على مرفق قناة السويس، فرد “نهرو”: «الدول الصغيرة يجب أن تعطي المثل للدول الكبيرة حتى تمنعها من التمادي في شؤونها وتبرز قدرتها على الرد.. ولكن هذا القرار يعنى الحرب.. فهل أنتم مستعدون؟ على العموم نحن تحت أمركم، واعتبرونا معكم في أي معركة ستواجهها مصر، وأنه يتوقع أن مصر مقّدمة على ظروف صعبة وقاسية سوف تشغل القيادة، ويفضل العودة إلى بلاده حتى يترك الوقت للقيادة المصرية لترتيب أمورها واتخاذ القرار الذى يكفل حقها وكرامتها مع تأكيده على استعداده لتقديم أي عون تطلبه مصر».
يؤكد ’سامي شرف‘، أن ’’نهرو‘‘ سافر فعلاً في ذلك اليوم، واستمرت الأحداث.
المصدر: اليوم السابع
التعليقات مغلقة.