الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الهاجس الصيني في رهانات بايدن

عبد الله السناوي *

بحقائق القوة ومتغيرات العصور لم يعد ممكنا إعادة إنتاج النظام العالمي المتهالك.

لا الولايات المتحدة القوة العظمى المهيمنة ولا روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي القوة العظمى الثانية على ما كانت عليه الأحوال بعد الحرب العالمية الثانية.

هذا عالم انقضى بمقوماته وركائزه وتوازناته منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي عند نهاية الحرب الباردة ولا سبيل إلى استعادته، كما لا سبيل إلى استعادة انفراد الولايات المتحدة بالقوة والنفوذ، الذى أعقب تفكك الاتحاد السوفييتي وسقوط المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية وتحلل حلف «وارسو»، الذى كان يوازن في تلك الحقبة حلف «الناتو».

استعادة مصطلحات النظام العالمي المتهالك خروج عن الموضوع وتمسك في غير محله بأهداب الماضي.

بدا مستلفتا إسباغ الرئيس الأمريكي «جو بايدن» صفة «حوار القوتين العظميين» على القمة التي جمعته في جينيف مع نظيره الروسي «فلاديمير بوتين».

في خلفية مشاهد القمة المثيرة بتوقيتها وأجوائها، كما في لقاءات «بايدن» الأخرى مع الحلفاء الأوروبيين حسابات وتفاعلات توشك أن تعلن نظاما عالميا جديدا من تحت أنقاض جائحة «كورونا».

كانت الصين الغائب الحاضر في صلب جولة «بايدن» الأوروبية، لا متواجدة في المكان ولا مستبعدة من الحوارات باختلاف طبيعتها – الاقتصادية في قمة «السبعة الكبار»، والعسكرية في مداولات «الناتو»، والاستراتيجية في لقاءاته مع الحلفاء الأوروبيين.

بدت الصين هاجسا مخيما على كل تلك الاجتماعات والقمم، بما فيها القمة الأمريكية الروسية.

حاولت جولة «بايدن» أن تستكشف فرص بلاده لاستعادة مكانتها الدولية، التي تضررت بقسوة في سنوات سلفه «دونالد ترامب».

وحاولت بذات القدر قطع الطريق على الصين من أن تتقدم لمنصة القوة الاقتصادية العظمى الأولى في غضون سنوات قليلة.

كان ذلك هاجسا معلنا على لسان أمين عام حلف «الناتو».

هكذا كانت الصين جوهر القمة الأمريكية الروسية دون تطرق إلى اسمها.

لم تكن القمة «تاريخية»، ولا ترتبت عليها تحولات «استراتيجية» يعتد بها في المعادلات الدولية، لكنها لم تكن «اعتيادية».

جرت أحاديث عامة عن دور البلدين فيما أسمياه «الاستقرار الاستراتيجي» وإعادة الالتزام بالحد من التسلح النووي وفق اتفاقية «ستارت»، كما جرت مناكفات حول الملفين الأوكراني والسوري دون أدنى اختراق.

بما هو ملموس وعملي تلخصت نتائج القمة في إعادة فتح قنوات الاتصال الدبلوماسية الرسمية بين البلدين بعودة السفيرين، وإزاحة الجليد بين الرجلين بعدما وصف «بايدن» «بوتين» بأنه «قاتل» فرد عليه متمنياً له الصحة كأنه يريد أن يقول: «هذا رجل مخرف»!

بتلخيص «بايدن» لأهم ما جرى في القمة أن «بوتين لا يريد حربا باردة جديدة».

كان ذلك تعسفا مع الحقائق الماثلة في تفاعلات النظام العالمي الذى يكاد أن يولد، فالحرب الباردة بنت عصرها وتوازناتها وانقسام العالم إلى معسكرين كبيرين يقفان على نقيض سياسيا وأيديولوجيا واقتصاديا وعسكريا.

لا «بوتين» بوسعه أن يريد ولا «بايدن» بمقدوره أن يمنع، فهناك حقائق قوة تفرض كلمتها الأخيرة.

كان ذلك ما تبدى على سطح القمة، فيما كان المسكوت عنه أكثر أهمية وخطورة، إنه «الهاجس الصيني».

في مقاربته الروسية مضى «بايدن» على خطين متوازيين بإبداء نوع من التشدد دون تصعيد فى لغة الخطاب المتفلت، هو نفسه لا يريد حربا باردة جديدة، إذا كانت للخيارات الشخصية دور في تقرير مثل هذه الأمور!

بعض أسباب التشدد تعود إلى المساجلات الداخلية الأمريكية، التي تتهم «بوتين» بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، التي صعدت بـ«ترامب» إلى البيت الأبيض عام (2016) بالحروب السيبرانية وغيرها.

وبعض أسباب انضباط الخطاب تعود إلى محاولة «فرملة» أي تقدم محتمل في مستوى التحالف الصيني- الروسي، إذ إن مثل هذا التحالف بين القوة الاقتصادية الصينية والقوة الاستراتيجية الروسية وخبرتها في إدارة السياسات الدولية كدولة عظمى سابقة يقلب الموازين الدولية تماما ويزيح الولايات المتحدة عن مكانتها المعهودة.

البحث عن استعادة المكانة الأمريكية جوهر جولة «بايدن».

نقطة البدء: ترميم التحالف الغربي، الذى تعرض لشروخ عميقة في حقبة «ترامب» وإعادة رد اعتبار «حلف الناتو» الجناح العسكري لهذا التحالف.

بصياغة أخرى: تجييش الغرب الأوروبي وراء القيادة الأمريكية على النحو الذى كان جارياً في سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية وتحييد القطب الروسي بقدر ما هو ممكن ومتاح عن التنازع المقبل على زعامة النظام العالمي الذى يوشك أن يولد.

ما هو تكتيكي من تحركات واتصالات وتصريحات يكتسب تفسيره الحقيقي مما هو استراتيجي في الخيارات والأولويات.

هناك نوع من التقبل الأوروبي لعودة القيادة الأمريكية، غير أن الأسئلة الكبرى تطرح نفسها عن طبيعة العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية في ظل الحقائق الجديدة وعن مفهوم الأمن الجماعي في عصور متغيرة، وإذا كان من الأجدى البحث عن منظومة أمنية أوروبية بعيدا عن الولايات المتحدة.

الأوروبيون ليسوا على استعداد لتبنى الأجندة الأمريكية بكامل تفاصيلها، يدركون خطر التمدد الصيني على اقتصاداتهم، لكنهم يلمسون فوائد العلاقات معها.

بحسابات المصالح يصعب تصور أن يلتف الغرب الأوروبي حول الولايات المتحدة في أية معركة مفتوحة مع التنين الصيني.

هناك مصالح متعارضة يصعب تجاهلها وتباينات لا يمكن القفز فوقها.

ثم إن المخطط العام، الذى طرحه «بايدن» على الحلفاء الأوروبيين لحصار النفوذ الصيني، يحتاج إلى تمويل اقتصادي ومالي يكاد يستحيل الوفاء به.

يقترح «بايدن» خطة تمويل كبيرة للبنى التحتية في دول العالم الثالث الأكثر فقرا لوقف التمدد الصيني فيما يعرف بمشروع «الحزام والطريق»، الذى يوصف بأكبر مشروع للبنى التحتية في تاريخ البشرية.

تلك مشكلة عويصة تعترض اقتصادات منهكة تحت ضربات الجائحة فيما الصينيون لا تعوزهم الوفرة المالية، يعملون على هذا المشروع بدأب شديد، يوقعون اتفاقيات مع دول العالم الثالث، خاصة أفريقيا والشرق الأوسط، يتبادلون المنافع، ويوفرون سلعاً رخيصة تحت سقف استراتيجي يعرف ما يطلبه ووسائله إليه.

لا يعنى ذلك كله أن الطرق سالكة أمام الصين لتصدر النظام العالمي الجديد في أي مدى منظور.

هناك اعتبارات أخرى، بالإضافة إلى القوتين الاقتصادية والعسكرية، أهمها القوة المعنوية التي تعوز الصين بقسوة في إعلامها ومستويات الحريات العامة فيها.

إذا ما تمكنت الصين من ترميم الفجوة بين قوتيها المادية والمعنوية فإنها باليقين القوة العظمى الأولى بالقرن الحادي والعشرين.

* كاتب صحفي مصري

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.