يونس الوكيلي *
يونس الوكيلي: في فضاء هذه الجامعة العريقة، جامعة محمد الخامس، وأمام أولى القاعات العلمية الحديثة بالمغرب، يطيب لنا في مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث أن نستضيف علماً بارزاً من أعلام الفكر الفلسفي المغربي والعربي والإسلامي المعاصر الدكتور سعيد بنسعيد العلوي لمناقشة عدد من القضايا التي تهم الشأن العربي اليوم وهمومه.
ولد الدكتور سعيد بنسعيد العلوي في مكناس سنة 1946، وحصل على دبلوم الدراسات العليا بكلية الآداب بجامعة محمد الخامس بالرباط سنة 1978، ثم على دكتوراه الدولة في الفلسفة بجامعة الرباط أيضاً سنة 1987، وهو أستاذ بنفس هذه بالكلية نفسها منذ 1978، شغل أيضا قيدوم وعميد ورئيس جامعة محمد الخامس لفترات معينة، كما شغل منصب الأمين العام المساعد لمركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات وطوال الثلاثين سنة الماضية، نشر الدكتور سعيد بنسعيد العلوي مجموعة من الدراسات والكتب من بينها مثلاً: قول في الحوار والتجديد، المسلمون والمستقبل، خطاب الشرعية السياسية في الإسلام السني، أدلجة الإسلام بين أهله وخصومه، الفكر الإصلاحي في المغرب المعاصر محمد بن حسن الحجوي نموذجاً، 16 ماي: الواقعة والدرس، عوائق التحول الديمقراطي في الوطن العربي، شروط المصالحة مع السياسة في المغرب، الاجتهاد والتحديث دراسة في أصول الفكر السلفي في المغرب، الوطنية والتحديثية في المغرب، أوروبا في مرآة الرحلة، صورة الآخر في آداب الرحلة المغربية المعاصرة. الخطاب الأشعري دراسة في العقل العربي. الأيديولوجيا والحداثة قراءات في الفكر العربي المعاصر، التفكير السياسي عند الماوردي ثم عبر عن مجموعة من همومه بشكل جمالي، وأصدر روايتين هما: “مسك الليل” و”الخديعة”. أيضاً له مقالات في عدة جرائد وطنية ودولية، وبين يديّ كتاب أصدرته جامعة محمد الخامس، وهو مجموعة من الأعمال المهداة له من قبل أصدقائه وتلامذته من داخل وخارج المغرب بعنوان “في الدفاع عن والتجديد في الفكر العربي الإسلامي المعاصر”، الدكتور سعيد بنسعيد العلوي مرحباً بك.
أود أن أبدأ أسئلتي معكم بسؤال مهم، مبدئياً سيكون هو المفتتح إلى ما سيلي، ما تشخيصك الآن للوضع العربي الراهن عقب هذه التحولات المتتالية التي يشهدها وبكثافة في هذه السنوات الأخيرة؟
د. بنسعيد العلوي: خلاصة القول إن هنالك حديثاً عن الربيع العربي، شخصيا أفضل استعمال مصطلح الانتفاض العربي لا مماحكة في الألفاظ، وإنما القصد بالربيع العربي استيحاء مفهوم الربيع الذي ظهر أول ما ظهر في حركات الانفصال عن الاتحاد السوفياتي القديم وحركات الانتفاض التي عرفتها في أوروبا الشرقية للبلدان التي كانت خاضعة لحكم عسكري كما هو الشأن في اليونان في البرتغال في الكثير من بلدان أمريكا اللاتينية، بعض المثقفين الإسبان يتحدثون عن ربيع بعد ذهاب فرنكو، شخصيا أقول إن الأولى بنا أن نتحدث عن الانتفاض، لأن لا شيء كبير يربط بين تلك الحركات وبين الحركات التي عرفها الوطن العربي بكيفيات مختلفة في البلاد التي ظهرت فيها وهي، تونس، ومصر، وليبيا، واليمن، وبكيفية من الكيفيات الموفقة في نتائجها في المغرب، والمحاولات لا تزال تغلي، هناك الوضع المؤلم بسوريا ثم هناك نار تحت رماد بكل تأكيد، ولابد أن تظهر الأشياء وينكشف الأمر في مناطق من الوطن العربي.
خلاصة القول في هذا الذي يحدث أننا بين رأيين اثنين؛ رأي يرجع إلى النظرية الأثيرة لمجموعة من الفاعلين السياسيين العرب ولدى كثير من الملاحظين والدارسين، وهي نظرية المؤامرة، هناك يد أجنبية، هناك مؤامرة في نهاية الأمر، فتعتبر أن القوة الخارجية هي التي تحرك. والحق أن في هذا الموقف استصغار للقوة الدافعة الفاعلة، وهي الشباب وذهول عن المقاصد وهذه هي العبارة الخلدونية في الفهم، وسوء فهم وسوء تقدير، لن نفهم شيئاً ما دمنا متشبثين بنظرية المؤامرة، في الوقت ذاته ما أتى، أتى كنتيجة غريبة سريعة فيها النقلة كما يقع التحول من الكم إلى الكيف، في الشكل الذي ظهرت به في الوطن العربي في هذه البلدان التي ذكرت، حيث وقع هناك التقاء بين التكنولوجيا المتحدثة في زمن العولمة والمواقع الاجتماعية والتواصل الاجتماعي، ومن العالم الافتراضي في نهاية الأمر إلى العالم الواقعي، حركة على العموم سوسيولوجيا يمكن أن نصفها بأنها احتجاج بأنها بالفعل انتفاض، ولكن نصفها أيضا بالعفوية لأن ليست لها قيادة واضحة ومحددة، ليس لها خط نظري يقودها، بل أكثر من ذلك أذهب إلى أن أحد المشاكل الكبرى التي تعاني منها وما ينبغي أن يؤخذ بالاعتبار في تشخيصها هو افتقادها إلى العماد الثقافي، هذا كله عندي أولا هناك ثانيا، حتى يكون حديثنا بشكل مباشر، أذكر في لقاء جمعني بمجموعة من الطلبة الأمريكيين أغلبهم درسوا العلوم السياسية، طلبوا مني أن أحدثهم عن الإسلام السياسي وتياراته واتجاهاته، وطرح علي أحد الطلبة سؤالاً ذكيا، وهو سؤال وتشخيصي، الملاحظ أنه في كل البلاد التي وقع فيها الانتفاض العربي، الجماعة التي وصلت إلى السلطة التنفيذية تنتمي بكيفية أو أخرى إلى الإسلام السياسي أو تدور في فلكه: هل هذا هو قدر المجتمعات العربية الإسلامية، هل من الضروري أن تكون النقلة بواسطة “الإسلام السياسي”، هذه مادة للتفكير؛ بالفعل هنالك معطيات موضوعية تجعل جملة مفاهيم تطرح علينا على الطاولة دفعة واحدة، بناء الدولة الحديثة، الدولة المدنية، الإسلام فاعلاً ثقافياً، العلاقة بين الدين والسياسة، العلاقة بين الإسلام وبين السياسة، العلاقة بين التحول أو التغير الاجتماعي وبين التجديد الديني أو إعادة قراءات النص الديني أو إعادة الفهم، يعني جملة قضايا سياسية وثقافية ودينية بمعنى تجديد الدين والإصلاح تطرح علينا دفعة واحدة.
يونس الوكيلي: في إطار ما تسمونه بالانتفاض بديلاً عن مصطلح الربيع العربي، وكما وصلتم في نقطة من كلامكم عن أنهم تسلموا السلطة في نهاية المطاف، وهذا قدر المجتمعات العربية، وأن بعد الربيع أو بعد الانتفاض تسلمت الحركات الإسلامية بالخصوص أو الإسلام السياسي السلطة. أنا أريد أن أقرأ من مقالكم في جريدة الشرق الأوسط، حيث كتبتم عن الإسلام السياسي والدولة المدنية، أقرأ مقتطف وأسأل بعده سؤالاً، تقولون: إن الدولة المدنية هي النقيض المطلق للدولة الدينية أو للدولة التي يصح أن توصف بأنها كذلك والدولة الدينية على الحقيقة هي تلك التي عرفتها المجتمعات الغربية في العصور الوسطى المسيحية، وهي التي تعبر عنها نظرية التيوقراطية في عبارة ونظرية الحق الإلهي أو الحق المقدس للملوك، وبالتالي النظرية السياسية التي تقوم بوجود السلطة السياسية المطلقة، فعلا شيء يحد من إطلاقها؛ فهي كذلك لأن مصدرها يعلو على البشر ثم إن مفكري الإسلام لم يعرف منهم اقتراب لمعاني هذه الدولة، والسبب بسيط وواضح هو أن الدولة التيوقراطية تتنافى مع الإسلام من جهة العقيدة والشريعة.
سؤالي هو: كأني بك في هذه العبارة تحاول أن تبرئ الإسلام السياسي من الدعوة إلى الدولة الدينية في حين أن في أدبياته المتعددة تجده بمسميات مختلفة، يسعى إلى نموذج الدولة الدينية ويسمونها دولة الخلافة، وأنتم لكم أن تثبتوا في هذا الموضوع، يعني هل فعلاً يمكن أن نقول بأنكم تبرئون الإسلام السياسي من التوجه نحو الدولة الدينية.
د. بنسعيد العلوي: هنالك عدد من المعطيات لا نملك إلا أن نقولها دفعة يعني بطريقة مشتتة ثم نحاول أن نجمع بينها، من الناحية الأكاديمية المحض الإسلام السياسي نعت أو وصف لحركة سياسية دينية أو لحركة سياسية تتوسل بالدين، هذا النعت يطلقه على المنتسبين إلى هذه التنظيمات خصومها يعني الذين ينتسبون إلى الإسلام السياسي بين مزدوجتين ليس من الضرورة أن يكونوا متفقين على هذا النعت هذا من ناحية تحديد المصطلح بدقة، النقطة الثانية بالفعل كما تفضلت في هذا المقطع من المقال الدولة الدينية هي الدولة التيوقراطية كما ذكرت لا أكرر ما قلت إذا رجعنا إلى الفكر السياسي في الإسلام، نجده يقول بنقيض هذه الأشياء السلطة ليست مقدسة، الذي هو مقدس هو التعاقد الذي يتم كما هو في كل تعاقد اجتماعي، الدولة في الإسلام عند المنظرين السنيين خاصة عند الماوردي وعند الغزالي ثم كما سيقر الأمر بعد ذلك ابن خلدون والحكاية طويلة، هي ثمرة تعاقد والكلمة المفتاح الكلمة الأم في الكلام عن الدولة الإسلامية هي كلمة العقد والتعاقد حتى أن مفكري هذا الإسلام الذين ذكرت كلهم عندما نظروا في كتاب الله تعالى، وعندما نظروا في الحديث الصحيح النبوي، وجدوا ما معناه في لغتنا المعاصرة ليس هنالك في الدين الإسلامي ما يدل على صفة الدولة السياسية وعلى النحو الذي ينبغي ألا تكون عليه، هنالك توجيهات، هنالك مبادئ عامة، “وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل”، “إن الله يأمر بالعدل والإحسان”، “الظلم ظلمات يوم القيامة” وغير ذلك، لكن في نهاية الأمر يرجع إلى ما يتصل بالحديث النبوي “أنتم أدرى بشؤون دنياكم” ترتبط بالحديث المعروف كنت قد نهيتكم عن تأبير النخل الآن تقولون كذا إذا أنتم أدرى بأمور دنياكم، المشرعون المنظرون عندما أتوا للتشريع كان لهم كأصوليين، بالنسبة لأصول الفقه يشرعون شيئا لابد لهم من مقيس ومقيس عليه هم سينسجون النظرية السياسية يقيسون على غرار ماذا على أي شيء يقيسون وجدوا المقيس عليه هو عقد الزواج، هو عقد النكاح؛ فمماثلة تامة ما بين هذا العقد وذلك، هذا جانب (عقد النكاح) ثم رجعوا إلى تاريخ الإسلام وما الذي تم فيه بالفعل هل هي مقبولة، نعم بدليل أنه وقع كذا وكذا في تاريخ الإسلام، هل يجوز ترتيبها في أكثر من شخص؟، نعم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يجهز جيش مؤتة قال القائد هو فلان فإذا قتل ففلان، وإذا قتل ففلان، رتبها في ثلاثة أشخاص، يبقى في هذا كل الأساس هو عقد، والعقد يقتضي أهل العهد وأهل الاختيار. الدولة في الإسلام تقوم على الانتخاب وتقوم على الاختيار ككل عقد فيه اتفاق وتراضي مع شرط عدم الإخلال بالموجِهات الدينية الكبرى؛ فما هو مقدس هو التعاقد ثم ليس هنالك عقد كله لصالح المتعاقد معه والآخرون الذين هم الناس لن أسميهم لا مواطنين قبل الوقت ولا رعايا أبدا، ليس هنالك عقد يلزم طرفا واحدا العقد بطبيعته يلزم الطرفين المتعاقدين، ليس هنالك عقد لا يمكن التحلل منه، هذا خطأ كبير، أنا سمعت من أحد شيوخ الإسلام على ما يحدث قبل قليل في القاهرة (نشير أن الحوار أجري في يوليو 2013) يصف الذين نادوا بحمل توقيعات وقالوا بوجوب التشكيك أو الدعوة إلى إلغاء حكم الدكتور محمد مرسي أن هذا ليس في الإسلام من شيء، أبدا على الإطلاق مع احترامي لهذا الشيخ الجليل، وهو يعرف هذه الأشياء، أن التعاقد فعل مدني، فعل سياسي، وهو أول ما يعرفه كفقيه جليل وعالم كبير، وليس في الأمر ما يضر بالعكس، سؤالي الذي أطرح بالنسبة لذاك المقال هو: إذا ليست الدولة الدينية موجودة في الإسلام، هل في الإسلام دولة مدنية، جوابي أشقه على النحو التالي: الدولة المدنية نشأت في الغرب الأوربي في الظروف التي نعلم، ولتحولات اجتماعية وثقافية واقتصادية وسياسية وتاريخية، الأمر غير ذلك في بلاد الإسلام، ولكن الإسلام لا يتعارض مع الدولة المدنية، عبث أن نقول أن الإسلام ليس فيه مدنية، الرأي عندي أن الإسلام لا يتعارض مع الدولة المدنية، هذا هو خلاصة الأمر.
يونس الوكيلي: وكأني بك تحاول أن توفق بين التراث السياسي الإسلامي المكتوب، وربما هناك من يحسب على أنه ينظر لدولة سلطانية، ونحن اليوم فيما بعد الاستعمار في مجتمعنا العربي نعيش دولة حديثة، ربما هل تتصف بجميع معايير الدولة الحديثة كما هي في أوروبا معاصرا أم لا، ولكن هذا التوفيق لا يخلق لنا مجموعة من الإشكالات على مستوى التطبيق في مجتمع غارق في تقليديته، وهناك مؤسسة بمفاهيم نشأت في الغرب وفي فضاء أوربي وفي سياقات تاريخية معينة ونشأت بمعنى، هل هذا التوفيق ممكن؟
د. بنسعيد العلوي: أولا، لكي أجيب عن سؤالك أدعو إلى احتياط، لابد منه، استعملت كلمة الدولة السلطانية في مقابل الدولة الحديثة أوفي مقابل الدولة المدنية، وظاهر سؤالك يفيد أن منظري الإسلام أتوا لتبرير الدولة السلطانية، إن الفكر السياسي حتى لا نكون كاذبين في كل زمان وفي كل مكان هو فكر إيديولوجي، والوظيفة الأولى للإيديولوجية هي التبرير بطبيعة الحال لكن، لا يتعلق الأمر دائما ولم يكن الأمر متعلقا في الأحوال كلها بتبرير نهائي ومطلق للدولة السلطانية أترك أكبر منظر في الإسلام، الإسلام السني على الأقل ونرجع له دائما، وهو أبو الحسن الماوردي، حاول فعلا أن يضفي الشرعية على ما هو قائم وفيه تنازع بين السلطنة البويهية وبين الدولة العباسية التي هي دولة شرعية لكن حاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه بالفعل لكن دون أن يضفي كل شرعية على الدولة السلطانية، لا بالعكس تحايل لكن بقي مرتبط بالناحية القوية النظرية في الإسلام، من بعد هذا الاحتياط، ما أريد أن أقول هما أمران اثنان لا يتناقضان، أو علينا أن نعمل حيث لا يتناقضان، وهذا التحديد الذي سأقوله لك ذكرته قبل أكثر من عشرين سنة، وأجد أننا نرجع إليه، أنا شخصيا وأرى أن الوقت يستدعي الرجوع إليه والحفر فيه أكثر من غيره وهما، التجديد والتحديث، التجديد وهذا في كتابي الاجتهاد والتحديث أو غيره أقول إن التجديد مفهوم يرتبط بالدين، حيث ليس فيه استئناف جديد، قطع مع الماضي، إذن التجديد مفهوم ديني، “إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة عام من يجدد لها أمر دينها”، هذا التجديد في الدين ليس فيه استئناف لكن ليس فيه قطع هذا التجديد، التحديث هو مسار سياسي، ثقافي، تاريخي، اجتماعي؛ فالتحديث مسار والتجديد مسار، هل يمكن الجمع بينهما جمعا موفقا؟ نعم، شريطة أن نقوم بقراءة للدين ونظر في الدين بدعوة إلى التجديد في الدين نبرز فيه العقلانية والإيمان بالعقل والإيمان بالحرية والإيمان بالإنسان التي هي القيم الحقيقية للإسلام، لكن التحديث بالمعنى الذي وقع فيه في بلاد الله الواسعة، في بلاد الغرب الأوروبي وغير الغرب الأوربي، بمعنى أن التحديث له شروط وله معطيات، لذلك ما الذي ينتج عن هذا بالنسبة إلي؟ ينتج عن هذا بالنسبة إلي لا تناقض بالنسبة إلينا كمسلمين اليوم، نعيش عدم تناقض بين التجديد وبين التحديث، الدولة اليوم في زمننا هذا لا يمكن أن تكون إلا دوله حديثة بالمعاني التي يحددها علم الاجتماع السياسي بالمعنى الذي يحددها به شخص واحد على الأقل وهو مرجع كبير، وهو ماكس فيبر بالشروط التي يعطي بها الحداثة والولوج للحداثة، الجيش كمؤسسة قارة كما تعلم البيروقراطية العقلنة وغير ذلك، هذه مكتسبات للإنسانية جمعاء، وهي شروط للحداثة، التجديد في المجال الديني له شروطه الدولة الآن، سواء كان الأمر في إيران أو في بريطانيا العظمى أو في أية دولة أفريقية، الدولة كدولة كمجموعة من الأجهزة، وكمجموعة من الآليات وكمجموعة من المؤسسات، إما أن تكون دولة حديثة أولا تكون، لا أحد يجادل حتى إيران لا أحد يمكن له أن يجادل التعريف السياسي للدولة أن تتكون من ثلاثة عناصر، رقة ترابية، حدود وساكنة، وسيادة تنتسب لتلك الدولة أين ما تكلم أي رجل أو مفكر أو أي زعيم سياسي، يرجع إلى هذه النقط ولا يحدث فيها تنازل، الحدود، السياسة والمواطنة، هذه أمور هي محتوى الدولة، هل الدولة في إيران، هل هي دولة مدنية أم دولة دينية أو ذلك دعنا من الخطاب، في مستوى البنيات كلها فيها بيروقراطية، فيها تنظيم فيها جيش فيها ديوانه فيها حدود، فيها غير ذلك، إذا تركنا الشقشقات الإيديولوجية فالدولة الحديثة في عمقها الدولة في جوهرها اليوم هي دولة حديثة، إما أن تكون دولة حديثة أولا تكون، طيب السؤال الذي يجب علينا طرحة هو، هل الإسلام يتناقض مع الدولة المدنية؟ هل من الممكن أن نقيم دولة مدنية على الحقيقة وتكون لها مرجعية إسلامية؟، أنا شخصياً من الذين يقولون في الإمكان ‘نعم’ وحوادث هذا الربيع العربي أو هذا الانتفاض العربي قدمت لنا مبادرات أو في جوفها مبادرات بدت مقبولة بدت معقولة، لست أدري ما إذا كنت قد اطلعت أم لم تطلع على البيانات الثلاثة التي أصدرها الأزهر، وساهم في توقيعها مجموعة من علماء الدين والمثقفين والفنانين ورجال السياسة وغير ذلك، بيان الحريات العامة، بيان الدولة المدنية مع الاحتفاظ لكل بلد بخصوصيته المميزة، بمعطياته التي تحددها ظروفه تحددها بنيته كلها، ليس بالضروري أن يكون النموذج واحداً لكن عمق المحور نعم، الدولة المدنية ومرجعية إسلامية دون أن يكون هنالك تناقض، أعتبر شخصياً إذا سمحت لي، أومن إيماناً عميقا بأن هذه صورة الدولة في المغرب دولة مدنية لكن مرجعيتها مرجعية إسلامية، بالدلالة الرمزية لوجود إمارة المؤمنين بالدلالات الرمزية، بدلالة ما في الدستور بأن الدولة دولة إسلامية، اتركنا نتكلم عن المغرب الآن، ما دام في ذلك التصدير أن الهوية هوية مفتوحة ومركبة تدخل فيها مجموعة من المكونات، الإسلام هو المحرك هو أهمها لكن ليس هو فقط، ثم احترام حقوق الإنسان المعترف بها دولياً، الدعوة إلى المناصفة بين الرجل والمرأة، الحكامة الجيدة، عدد من الشروط التقنية والأخلاقية تجعل العلاقة ليس فيها، لا أقول إن الأمور حسمت في المغرب، وأننا نعيش نعيما في هذه النقطة نحن بصدد بناء، كلنا مسؤولون عنه والمؤسسات الكبرى كلها مسؤولة عن بناء هذه الدولة الحديثة، هذا المجتمع الحداثي المسلم ليس هناك تناقض هذا فقط مثال نموذج.
يونس الوكيلي: أعتذر منك، لكن تحدثتم عن عناصر الدولة الحديثة، ولكن غايات الدولة الحديثة المتمثلة أساسا حسب العديد من المفكرين في الديمقراطية والتنمية، الكل الآن يلاحظ بأن هاتين الغايتين لم تتحقق في معظم الدول العربية حتى وصلنا إلى الربيع العربي نتحدث الآن عن خمسين أو ستين سنة من حصول معظم الدول الإسلامية على الاستقلال ولكن بالرغم من ذلك، مازال المواطن البسيط العادي يشعر بأنه لم يحقق لا ديمقراطية على المجال السياسي وغير ذلك ولا تنمية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي.
د. بنسعيد العلوي: ملاحظتك صحيحة، ولكن أدعوك أن لا تنسى شيئاً مهما هو أنه لا ديمقراطية بدون ديمقراطيين هذا مبدأ واضح وبسيط ولكنه عملي، ولكن المشكل هو غياب الديمقراطية، الذين يؤمنون بالديمقراطية حقيقة ويتشربون بها، الديمقراطية أهم صفاتها هي التداول على السلطة، ولكن من العسير أن نجعل كل الديمقراطية هي التداول على السلطة، إذ لها مجموعة من المكونات الأخرى، المواطنة، المشاركة، الحريات العامة، المعرفة، العلم، وغير ذلك، فإذن قضية الديمقراطية لم تتحقق والديمقراطية لا تحسم في يوم أو في ليلة، أو في قرار أو قرارين، أو في تغيير النظام أو غير ذلك، هي مسيرة طويلة تستلزم شروطا وتستلزم بناء متصلا، ملاحظتك صحيحة، قضية التنمية الديمقراطية نفسها لا معنى لها وتبقى كلمة جوفاء إذا انتفى فيها شرطان اثنان؛ لا يمكن الحديث عن الديمقراطية في وجود اجتماعي سياسي، في دولة في أي تنظيم، في أي اجتماع يقل دخل الفرد فيه عن دولارين في اليوم الواحد، لا ديمقراطية ولا حديث عن الديمقراطية الممكنة مع وجود فقر مدقع تلك الحافة ما يسمونه عتبة الفقر، ثم شرط آخر ملازم، لا حديث عن الديموقراطية دون انتفاء شرط آخر لها على الأقل، وهو الأمية، عندما تكون نسبة الأمية هائلة مرتفعة، كل الكلام عن الديمقراطية يكون عبثا، وعوائق التحول الديمقراطي التي تقوم في وجه الديمقراطية تكون بهذه الأشياء، والأمية ينبغي أن نتوسع فيها، لعلّي أرى من الضروري لنا في البلاد العربية الإسلامية ألاّ نهمل الكثير مما تعودنا على إهماله ولا نقيم له اعتبارا، وهو الجانب الثقافي، وهو المضمون الثقافي، وهو ما أسميه بالعماد الثقافي هذا إذا غاب تغيب كثير من الأشياء معه، والثقافة نأخذها بالمعنى الأنكلوسكسوني الواسع الذي يعتبر الدين من ضمنها بالضرورة، وعندما نقول الدين، نحن نتحدث عن الإسلام، فالإسلام من مستلزمات كل خطاب ديمقراطي، وهذا الانتفاض يشمل في عمقه الإصلاح الديني، لنسمي الأشياء بمسمياتها وتنقية الدين من الشوائب، والشوائب عندي أرجعها باختصار إلى ما يلي: كل من يحاول أن يستغل الدين للوصول إلى غرض من الأغراض التي هي بعيدة عن الدين، الغريب في أمر الكثير من الحركات الجهادية بين مزدوجتين، والتي تنتسب للإسلام السياسي أنها تخلط بين الدين والسياسة، وهذا أكبر إساءة للدولة الحديثة وهذا أكبر إساءة طبعا للدولة المدنية ويلغيها، وأكبر إساءة للتحديث والتجديد. ينبغي الفصل بينهما، الصراع على الميدان يكون صراعاً بين نظريات وليس حتى بين نظريات في مجال السياسة، الصراع بين برامج سياسية. أما الدين ينبغي أن يكون بعيدا عن هذا، ومنفصلا عن هذا، الدين الذي بحاجة إلى هذا الإصلاح هو الذي تبرز فيه الدعوة إلى الإيمان بالعقل، بالعلم، بكرامة الإنسان، “ولقد كرّمنا بني آدم” ليس المسلمون أو المؤمنون، فبالأحرى فريق من المسلمين، من و”كرمنا بني آدم” يعني أن ترتفع إلى مستوى عالي جدا، فهذا جانب التجديد في تسخير الدين، ثم أيضا الذين يدعون إلى شل العقل وإماتة العقل بدعوى وجود شيخ يكون اتباعه بطريقة عمياء أو كما يقال ضلالي في اتباع شيخ أفضل من هدايتي في اتباعي لعقلي وحده، هذا الائتمار والمؤتمر به والعلاقة الأفقية وخلق وسائط بين الله تعالى وبين العباد، هذا لا يقل سوءا بل هو المعادل الموضوعي للحركات العنيفة التي تسمي نفسها جهادية أو غير ذلك، ينبغي تحرير الدين من الخرافة، وما دمت ذكرت الثقافة حتى أكمل وجهة نظري إذا سمحت لي، أرى أننا في حاجة إلى البناء الثقافي، وفي هذا البناء يعني البحث عن هذا التوفيق بين الدولة المدنية وبين الإسلام وبين التجديد وبين الحداثة، نحن في حاجة إلى استعادة نموذجين ثقافيين اثنين أو مرحلتين اثنتين من ثقافتنا ومن موروثنا الثقافي العربي الإسلامي الأول والأكثر قربا منا هو عصر النهضة، بكل عطاءاتها وبكل تياراتها فيه ثورة على الخرافة، على الشعوذة على كل الأشياء التي جعلت استعمار البلاد العربية والإسلامية ممكنا، محاربة العقل، وكل مفكري النهضة ليس فقط الإسلام، في نهاية الأمر تجد برنامج الإسلامي منهم وغير الإسلامي يلتقيان، يلتقيان في رفض الأمية، رفض الجهل، رفض القيد، رفض التحجير على العقول، التحجير على المرأة وغير ذلك، إذن، نحن في حاجة إلى إعادة قراءة تراث النهضة وإحيائه والتدبر فيه.
يونس الوكيلي: لذلك تحدثتم عن نهضة عربية ثانية، هذا هو المقصود بعينه؟
د. بنسعيد العلوي: نعم، نهضة عربية ثانية، هذا هو المقصود بها، ولكن لنرى النموذج الثاني، النموذج الثاني عندي بالمعنى الفيبيري هو نموذج ذهني يركب من عناصر مختلفة، هو ما أسميه بنموذج العصر الكلاسيكي في الإسلام، وهذا الذي أقصد أنا بالعصر الكلاسيكي لا أٌقصد به القرن الرابع للهجرة كما يقول البعض أو عصر التدوين كما يقول البعض الآخر ولا أقصد به مرحلة معينة، وإنما أقصد به مراحل التفوق والازدهار التي نركبها من القرن الرابع ومن الأندلس ومن قرطبة من فاس من القاهرة من كل المراحل التي تتلخص في النقط الآتية، قبول الآخر، الاعتراف به، الإنصات له الأخذ من مما عنده، إدماجه في التراث العربي الإسلامي تبيئته، هكذا تطوره الفلسفة الإسلامية وهكذا نشأ تطور علم أصول الفقه وهكذا تطور الفكر الإسلامي كله بهذا الانفتاح، وبهذه التبيئة والنماذج كثيرة وكثيرة جدا، ترجع بنا إلى الحرية وإلى الانفتاح وإلى الآخر قبوله والإنصات إليه والأخذ مما عنده فيما ليس في تناقض مما هو عندي.
يونس الوكيلي: قبل قليل تحدثنا عن الديمقراطية والتنمية، وكأني بك إذا فهمت جيدا أنك تقول لا ديمقراطية بدون تنمية، وهذا النموذج كان في تونس نموذج الحرص على تحقيق التمنية بدون حريات بمعنى بدون خوض المسار الديمقراطية في نهاية المطاف، نجد أن الوضع فشل، هذا النموذج تبث بأنه فاشل.
د. بنسعيد العلوي: نعم، ولكن هذا الشق جميل إذا كان يرفع هذا الشعار، وتونس فيها طبقة وسطى عريضة وفيها مدونة حقوق المرأة للتنمية التي وضعها بورقيبة في ثمانية وخمسين، الأحوال الشخصية وغير ذلك لكن ليس الأساسي الذي كان في تونس الحزب الوحيد من بعد أحزاب أخرى، نظام بوليسي نظام سلطوي، يعني مع الحرية ومع منع حرية التعبير، العيب الكبير في التحجير على الآخر وفي منعه طيب، خذ الحركات الإسلامية اليوم، هي واقع راهن في مصر مثلا تمثل نسبة من السكان، ربما في تقديري، صعب أن أقدر، لكن فيما يبدو في قرائن الأحوال أنها تمثل على الأقل عشرين بالمائة من المجتمع، لكن العيب الكبير الذي وقعت فيه والخطأ الكبير الذي وقعت فيه، والذي هو السبب في هذا الحراك القائم في الشارع في هذه الأيام في القاهرة وغيرها هو عملية التهريب التي وقعت هو اعتقاد هذه القوى الإسلامية بين مزدوجتين أنها وحدها الموجودة في الميدان أنها وصلت مع الآخرين، لكنها تريد أن تقصي كل الآخرين، المرحلة في الوطن العربي على امتداد هذه المدة كلها ينبغي الاعتراف بالقوى المختلفة كلها، وهو الاعتراف بالتعدد، قبول التعدد، قبول التعدد يحل لك مشاكل كبيرة هناك البلاد المطروحة فيها بشدة وهناك غير المطروحة فيها، أول مشكل يحل هو مشكل المواطنة، مشكل المواطنة يطرح بحدة، حيث يكون هناك المسلمون وغير المسلمين، كما هو الشأن في مصر ولبنان وسوريا والعراق، هذا صحيح، لكن مشكل المواطنة يحل أيضا حتى حين يكون تعددا، بين مزدوجتين، طائفيا، لأن المواطنة هي التي تلغي الطائفية، حين يكون الشيعة والسنة، الانتماء ليس لحزب، ليس لجهة ليس لطائفة، الانتماء للوطن، لأن العمل الطائفي عيبه الكبير، إنه يلغي الوطنية ويلغي الدولة.
يونس الوكيلي: ولكن التأصيل لفكرة الوطن أو الوطنية ضعيف نأخذ على سبيل المثال، المثال اللبناني الذي تتعايش فيه 18 طائفة، والآن نجد هناك احتقان كبير، وربما على مشارف حرب أهلية مجددا في لبنان، لماذا لم يترسخ فكر الوطنية والوطن. ما هي الأسس الثقافية التي تجعل المواطن العربي يفضل الانتماء إلى الطائفة على أن ينتمي إلى الدولة؟
د. بنسعيد العلوي: لأنه وقعت أخطاء وأخطاء قاتلة، أذكت نيران الطائفية من الاستعمار فصاعدا وخلقت هذه الحدة بين المسيحي وداخل المسيحي ماروني، وكاتوليك والطوائف كثيرة وغيره، والمسلم السني ثم الشيعي كيف السبيل لرفع هذا، نظريا أن نتشبث به، ليس معنى هذا أنه غير قابل للتطبيق، في نظري يمكن أن يطبق، لا يمكن العيش في بلد تكون فيه ميلشيات، نحن نرجع لماكس فيبر أين هو احتكار العنف أين هو العنف الشرعي، حزب الله يمتلك من الأسلحة ما لا يمتلك الجيش اللبناني ويدمر الدولة في بنائها ويجعل ولاءه لغير لبنان، الوطن الذي يعيش فيه، هذا هو الأخطر، أعطيتك مثالا، ولكن ليس المثال الوحيد فالمواطنة الحق إلغاء للطائفية، ولكن ينبغي حل الأزمة والبحث عن الأسباب العميقة وتحقيق مصالحة وطنية، ينبغي خلق الدولة كدولة قوية تحتكر العنف ولها شرعية العنف وشرعية استعماله وفيها عقلنة، فيها كل هذا، الدولة اللبنانية مثلا إذا ذهبت تقوم بأية زيارة للبنان معقلنة فيها شروط الدولة الحديثة قائمة ليس فقط على اتفاق طائفي حتى من قبله على أساس هذه الولاءات، هذا سني، وهذا ماروني، وهذا كاثوليكي، وهذا درزي وهذا … لا يحل المشكل إلا المواطنة الحق، قل نفس الشيء عن العراق، قل نفس الشيء على مصر، أيضا في بلاد أخرى، حيث ما تكون الثنائيات كلها، ثنائيات إثنية.
يونس الوكيلي: السودان مثلا؟
د. بنسعيد العلوي: مثلا بهذه الكيفية هذه.
يونس الوكيلي: في هذه النقطة بالضبط ربما اقتربنا من محور آخر، ويشكل جانبا كبيرا من اهتمامكم، وهو دراسة الآخر من خلال أوروبا في مرآة الرحلة يعني الفكر العربي دراسة الآخر، دراستكم ودراسة الكثير من المفكرين، ولكن مازال يظهر هذا الآخر في صورة العدو مازالت العلاقة بينه وخاصة الأوروبي الغربي وكأنها علاقة متوترة وملتبسة إلى حدود كبيرة، وكأن هذا الاهتمام بدراسة الآخر لن يغير الذهنيات والعقليات حالياً، فمازلنا نشاهد صورة العدو في الآخر.
د. بنسعيد العلوي: الآخر كلمة حديثة في الثقافة العربية الإسلامية كلمة جميلة وأقرب إلى العربية في عمق العربية هي كلمة الغير، هنالك الذات وهنالك الغير، متكلمو الإسلام يقولون، هذا الغير يعني هذا غير وهذا غير وهذا غير، والله غير كل الأغيار كلها. فما هو الغير، أو ما هو الآخر، باختصار شديد، كتحديد كوصف وكما تعلم أنه ليس بدقيق ما تعتقد الذات أنه مخالف لها أنه نقيض لها، مخالف لها في اللسان، في اللون في الثقافة في غير ذلك، ما دمت تفضلت بذكر هذه الدراسة واهتمامي بالرحلة وبعالمها سواء برحلة ابن بطوطة أو بالرحلة العربية المعاصرة إلى بلاد أوربا هذا شيء يعلمنا إياه علم النفس، وتعلمنا إياه المنهجية المعاصرة، قد يعتقد الكثير من الناس، أقول (قد) ليس تحقيقا، بأن الرحالة حين يسافر إلى بلد ويصور ما فيه ويتحدث عما فيه، فإنه يخبرنا عن ذاك البلد، قومه وأحواله ويزيد الأمر إلحاحا عندما يقول لك الرحالة سأخبرك عن العجيب والغريب لأن هذا ما كان مسكون به، وأنت أعطني وأنا أخبرك عن العجيب والغريب، فيريد أن يكون تعاقد بينه وبين القارئ وأنا أخبرك عن العجيب والغريب، لكن الواقع وهذا من مكر البنية النفسية للإنسان، والتي تعلمنا إياها المنهجية المعاصرة وعلم النفس بالأخص، أن الرحالة عندما يدون يخبرنا عن نفسه أكثر مما يخبرنا عن الآخر، بأي معنى هو أن الإنسان حين ينتقل إلى أي بلد يحمل معه موروثه الثقافي، يحمل معه ثقافته ودينه ولغته، فهو مثل المصفوفة، أو مثل النظارات التي يرى العالم من خلالها فيظل يحمل معه ذاك العالم، يتحدث عن الأشياء التي تصدم وعيه ولو ذهب بعيدا مادام وعيه لم يصدم، ليس هناك غريب وعجيب، أكبر مثال على ذلك، والذي أدعو إلى تأمله هو مثال ابن بطوطة، خرج من طنجة وبعد كم من سنة وصل إلى جزر المالديف، لقي هنالك إسلام، ولقي مسلمين يتعبدون؛ فلا شيء يصدمه الاختلاف واللغة والبعد الجغرافي، بينما في الشطر الثاني من رحلته، عندما ذهب إلى مناطق قريبة في إفريقيا أشياء كثيرة صدمته، الرحالة المغاربة مثلا، أردت أن أقول الرحالين المغاربة ليس تعصبا مني، ولكن لأن رحلة الطهطاوي أو رحلة الشدياق معروفة كثيرا، الرحالون المغاربة بعد القرن الثامن عشر إلى أوروبا، عندما يتحدثون عن أوروبا، والجامع في الحقيقة والكل يتحدث عن هذه الرحلة، الطهطاوي يتحدث عن طريقة تعامل الرجل مع المرأة عن الأشياء التي تصدم وعيه يسجلها، فيكون الآخر هو المغاير ’ لكن هنا ما الفرق بين نظر ونظر، العلماء المفكرون أو المسلمون في العصر الكلاسيكي كان لديهم آخر، هو الثقافة الهندية، والفارسية وخصوصا اليونانية، أخذوا من ذلك المغاير، المنطق، أخذوا منه الحكمة، أخذوا النظر السياسي، ترجموه إلى لغتهم فأخذوا هذه فارسية هذه رومانية هذه يونانية، الطهطاوي أو الشدياق، أو العمراوي، أو في مرحلة متأخرة الجعيدي أو بعده هذا الذي حدثنا عنه الفقيه الحجوي، بالنسبة إليه هنالك أشياء جميلة نأخذها من أوروبا، أعجبوا بها كل شيء يتعلم، حتى الأشياء التافهة البسيطة يدرسونها، يجعلون منها علم، المرأة متعلمة، الجيش منظم، المالية منظمة، الإدارة منظمة، فهنا إرادة الانفتاح على الغير أو الانغلاق، الذي يهمني أنا هو ذاك الانفتاح أو الانغلاق عامل سيكولوجي اجتماعي من شأن فهم ضيق للإسلام أن يعمقه، ومن شأن فهم حقيقي للإسلام يستلهم العصر الكلاسيكي ويستلهم روح الإسلام الحقيقية، عصر النهضة يجعله ينظر كالكأس النصف ممتلئ ونصف فارغ، سلامة موسى عنده كتاب عنوانه جميل، “لماذا هم أقوياء؟” أو شكيب أرسلان “لماذا تقدم الأوروبيون وتأخر غيرهم” هذا التقابل بين، ما يسمونه سؤال نهضوي، هو في الحقيقة سؤال نهضوي، نعم سؤال نهضوي لما لا، من شكيب أرسلان المسلم إلى سلامة موسى القبطي أو المرتبط بالثقافة الغربية، يقولون الشيء نفسه، تقدم المسلمون لأنه كان كذا كذا، وتأخروا لأنه كان كذا، يا سيدي تقدم المسلمون في عصور التقدم، لأنهم كانوا منفتحين على الآخر ومقبلين عليه ويأخذون ما عنده، ولا يخافون ليس لديهم عُقد، الإسلام قوي ولا يساء إليه ويفتح الأبواب والمنافذ تزداد قوة وصلابة، وتستنشق الهواء القادم، إقفال النوافذ والمنافذ يسبب الأمراض ويسبب الأوبئة والانطواء على الذات، إذن، هنا حين تصبح الكلمة التي أشرت إليها في قضية التحول في الوطن العربي وفي التغيير وفي هذا الانتفاض ينبغي أن نضع اليد ونعمق العمل الثقافي، وننظر إلى الأمن الثقافي، وما هي عوائقه وننظر إلى الانفتاح والدور الذي يمكن أن تلعبه ولا ننسى أكرر نفسي مرة أخرى، إذا اقتضى الأمر من شروط ذلك ومن مقتضياته في الوطن العربي الذي هو العالم العربي الإسلامي هو الدين والدين الإسلامي كوسيط في هذا كله، ومن شأنه أن يكون عاملا إيجابيا، وهنا نربط بين الدولة المدنية ذات المرجعية الإسلامية الممكنة.
يونس الوكيلي: سؤال أخير في هذا الصدد، ما هي الآن أدوار النخب المثقفة، أو ما هي الأدوار التي يجب أن تلعبها خاصة أننا أصبحنا نلاحظ، نوعا ما، وجود المثقف المنحاز للدولة والسلطة، لم يعد المثقف منحازا إلى المجتمع وإلى قضاياه. بمعنى الآن كيف نفهم أو ما هي خارطة الطريق التي يمكن أن يضعها لنا المثقف نحو هذه الغايات السامية التي نرغب فيها داخل مجتمعاتنا العربية؟
د.بنسعيد العلوي: هنا يمكن أن أتكلم في المستوى النظري على بروفايل، المثقف المرغوب فيه لم يعد هنالك معنى، لأنه الكثير من الأوهام في إطار ربيع الفكر العربي المعاصر والمثقفون العرب يساريون وغير يساريين، ليس فقط اليساريون هو الموقف المبدئي البسيط لمعاداة الدولة، باعتبار يجب إعادة نظر شاملة فيه لا ينبغي أن تكون هناك معاداة الدولة، لأن الدولة يبقى عندها معنى الهيكيلية هي العقل هي لعقلنة كما يقول ماكس فيبر. إذن، على الكل أن يعمل ويساعد على بناء الدولة الحديثة بمعنى دولة المؤسسات، دولة المواطنة دولة العقل والعلم والحرية والحوار والفصل بين الدين والدولة في المستوى السياسي والقول بأن عمق المجتمع العربي الإسلامي وراء انتمائه للدين الإسلامي بالمعنى الذي لا يقع فيه تناقض مع هذه الأشياء كلها بمعنى أن هذا درس، والقضية الثانية على المثقف ألا يستصغر قضية الدين الإسلامي في المجتمع ويُعمل الفكر فيها ويُعمل النظر فيها، ألحُ على إعادة القراءة والرجوع للتعرف على الإسلام في نظرياته السياسية، مراحل القوة، مراحل العظمة. أخيرا كنت اقرأ في أبي الحسن العامري أو أقرأ للماوردي أو البيروني أو أقرأ لعدد كبير من النماذج، أجد بالفعل أن مرحلة القوة ومرحلة الازدهار هي مرحلة ثقافة منفتحة ومعرفة بالآخر، وإقبال عليه، هنا لا خوف بل ضرورة مهاجمة الدعوات إلى إماتة العقل بدعوى الإسلام والدعوات إلى تسخير الإسلاميين أجل عمل انقلابي فاشل ومغامر السياسيين التهجيميين وما خلفهم. لا، الإسلام حاجة أساسية في حياة الإنسان العربي في حياة المواطن ليس لهوا، وليس ترفا. تطرح في هذه القضية إذن، بناء المجتمع الحديث، بناء الدولة الحديثة، إصلاح ديني، تجديد الدين، لكن لا أقبل أن يأتي سيد لا معرفة له بالدين إطلاقا، ويقول أنه سيجتهد في الدين، الاجتهاد له شروطه، هناك ثوابت، هنالك أمور قابلة للتغيير وهي الكثيرة، وهنالك ككل الأشياء إذا لمست نقطة أو اثنين فيها تتهاوى كلها. هناك بعض الناس الذين يحبون التكلم عن المساواة بين الرجل والمرأة في الإسلام ولا يرون غير قضية هامشية ولم تعد مشكلة، وهي المساواة في الإرث هذه باختفاء أسبابها لم تعد في الواقع، فالرجل والمرأة يشتغلان في نفس الوقت، إن البيت يمتلكانه معا، أولا يمتلكانه مثلا في حين هناك جوانب أخرى كثيرة فيها المساواة مثلا.
يونس الوكيلي: يلاحظ أن هناك صراعا بين المثقف والفقيه والسياسي والاقتصادي التقنوقراط؛ بمعنى حتى عندما نقول هذه النخبة إذا اعتبرناها كلها نخب من درجات مختلفة لأن هناك صراعا فيما بينهم حول…
د. بنسعيد العلوي: قضية الفقيه، لكي لا نظلمه، الكثير من الناس يريدون كلمة الفقيه يقصدون به كما نقول في الدارجة “هاداك لي تيقرا على المقابر القرآن”، هذا ليس فقيها، هذا من القراء من الحفظة إذا خرجت له من استظهار الآيات القرآنية يلحن في اللغة العربية، الفقيه “الغزالي فقيه”، “ابن خلدون” فقيه يعني المفكرين والعلماء الكبار هم الفقهاء، فالفقيه هو الذي يرتقي عندي لمرتبة الاجتهاد هنا جيد، سنضع أيدينا على نقطة مهمة الآن الاجتهاد الفردي لا بأس به، اختلاف الأئمة رحمة لكن عمليا زمنه انتهى، لا يمكن الآن أن يكون الاجتهاد في الدين بغيةً … لأنه هناك الاجتهاد، وهناك رتبة أعلى من الاجتهاد، وهي التجديد وليس لنا الوقت للتدقيق التقني في هذه الأشياء، الاجتهاد في زمننا هذا لا يمكن إلا أن يكون اجتهادا جماعيا، بمعنى في القضية الواحدة يجلس الفقيه العالم المتمكن من الشريعة، والطبيب والمهندس وعالم الاجتماع وعالم الاقتصاد وعالم النفس، ورجل الاستراتيجية السياسية والفيلسوف في مائدة واحدة، بدون شوفينية بدون تعصب، أنا أقول هناك في وطننا العربي مثال جيد لهذا الاجتهاد الجماعي، “مدونة الأسرة” في المغرب صراحة هذا عندي يستحق التأمل، كمثال نموذج جيد نقرأ نصوصها ونتساءل على تاريخها ومن شارك فيها، هذا نموذج وهناك غيره في الوطن العربي بيانات الأزهر اجتهاد جماعي، والأمثلة كثيرة لا أقف عند المثال المغربي.
يونس الوكيلي: شكراً جزيلاً دكتور سعيد بنسعيد العلوي على هذا الحوار الشيق والممتع معكم.
* كاتب وباحث سوسيولوجي أكاديمي مغربي
المصدر: مؤمنون بلا حدود
التعليقات مغلقة.