الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (1/4)

الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (1/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها

الاقتناع والتجديد

(1/4)

هذه إطلالة عامة على التجربة الثورية لعبدالناصر في مسارها الاستراتيجي والتاريخي انطلقنا معها من بداياتها، ودخلنا في جدلية حركتها وتطورها، وصولاً بها إلى حيث توقف وغاب عبدالناصر، ومقصدنا لا مجرد إنصافها فيما أعطت في مرحلتها بل أن نستخلص منها ما يساعدنا، وما يعطينا ركائز نتوجه منها نحو المستقبل. ذلك أن قناعتنا، والتزامنا بقضية تحرر أمتنا وتقدمها ووحدتها التي هي بالأساس قضية عبدالناصر وأهداف ثورته… هذه القناعة كانت- وهي اليوم تتأكد أكثر- وهي أن مرحلة عبدالناصر كانت مرحلة نهوض ثوري بالأمة ومع وعي جماهير الأمة، بل تكاد تكون المحور الرئيسي- إن لم يكن الوحيد- لحركة نهوض هذه الأمة في تاريخها الحديث. فهي تجربة استطاعت أن تفجر ثورية الأمة، وأن تصوغ طريقاً للوصول بها إلى أهدافها، وأن تضعها في مسار تاريخي جديد… ومن بعدها وبالارتداد ضدها وبالخروج عن طريقها، كان التقهقر وكان هذا التشتت والضياع الذي تعيشه الأمة في مرحلتها الآنية الراهنة .

والسؤال الآن: هل استطعنا بهذا كله استجلاء معالم تلك التجربة ومعطياتها لما يفي بالغرض الذي قصدناه، وهل وصلنا إلى استخلاص كل ما نريد استخلاصه من هذه التجربة الغنية والرائدة؟

هذا ما لسنا ندعيه في شيء، بل وكأننا في الطريقة التي اتبعناها، لم نصل إلا الى استكشاف عدد من القواعد والمنطلقات العامة، التي وجهت استراتيجية عبد الناصر، وإلى الإشارة إلى جملة العوامل التي فعلت في إنضاج حركة فكره وتعامله مع الفكر التاريخي والإنساني العام، أي لكأننا بقينا عند محاولة استيعاب القوانين أو المعادلات العامة التي طبقها عبد الناصر في معالجة المسائل وفي مواجهة المشاكل التي طرحها الواقع، وطرحتها حياة الأمة وتاريخها الراهن أمامه. وهي المسائل التي ما زالت مطروحة أمامنا، وأمام جميع القيادات السياسية والثقافية العربية التي تتصدى للفعل في الواقع الراهن وتغييره. وما زالت تطالب الجميع بإجابات عليها وحلول لها .

بل إن تلك المسائل الأساسية التي تصدت لها الطلائع السياسية والثقافية لأمتنا، وتصدت لها قيادة عبد الناصر، والتي حسبنا في تلك المرحلة أننا حللناها جزئياً على الأقل أو وضعتنا اليقظة التاريخية الجديدة لأمتنا على طريق حلها… كمسألة التخلف الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والحضاري، ومسألة التجزئة ومشاكل التبعثر العربي من إقليمية وطائفية وغيرها، بل ومسألة التحرر الوطني وتحرير الأرض العربية والخروج من مواقع النفوذ الاستعماري ومن التبعية للقوى والمصالح الامبريالية، واختيار طريقنا في التقدم الاجتماعي والاقتصادي، وفي بناء الاندماج الوطني والوحدة القومية العربية، وفي بناء الدولة العصرية وصياغة حياة ديمقراطية … هذه وغيرها من المسائل التي تحمل مهمات إنجازها ثورة وطنية ديمقراطية عربية وحدوية تتوجه وجهة اشتراكية وتحمل طموح تقديم تجربة حضارية، والإسهام في حركة التقدم الإنساني والتحرر العالمي.. هذه المسائل كلها تعود لتطرح علينا من جديد وبشكل أكثر حدة مما مضى .

ولقد جاء عبد الناصر، وبنهجه وعلى طريقته، وفي إطار ظرفه ومرحلته، ليجيب على تلك المسائل وليسلك طريقا أو طرقاً إلى حلها، والتغلب على المعوّقات التي تعترض سبيل الوصول بالأمة إلى أهدافها .

وإن تجربة كتجربة عبد الناصر الثورية، كان عنوانها الممارسة أولاً، والتعلم من مواجهة نتائج تلك الممارسة فيما جاء صواباً ومجدياً أو فيما كان خطأ وتعثراً، فيما كان تقدماً ونهوضاً وانتصاراً، أو فيما جاء بالنتيجة فشلاً وخيبة أو انكساراً… ستطالبنا هذه التجربة- لاستكمال ابعادها- أن نسير معها في صيغها التفصيلية، وأن نتابع الاساليب التي اتبعتها قيادة عبد الناصر في تلك المجالات كلها، وأن نطبق عليها المبدأ ذاته التي اختطته لنفسها، أي مبدأ مناقشتها أخطاءها واجاباتها الصحيحة. أي سيكون مطلوبا من كل من يريد استكمال أبعاد تلك التجربة، والتعلم منها، واستخلاص نهج مستقبلي بالاستناد الى معطياتها الايجابية، أن يأخذ بكل خيط من خيوطها، وبكل مهمة من المهمات التي مشت لإنجازها، وبكل هدف من الاهداف التي تطلعت لتحقيقها وتوجهت نحوها ليرى كيف كان التصور والتفكير، وكيف كانت الصياغة والتخطيط، وكيف كان المسار الى التحقيق وإلى أين وصل الانجاز، وأين كان التبعثر، وما الذي عاقها وكان من قصوراتها أو كان خارجاً عن طاقتها وإمكاناتها…

أي سيكون مطلوباً لذلك متابعة الثورة في مسارها الوطني في مختلف مراحله، والصيغ النضالية والسياسية التي سارت فيها لإنجاز مهمات التحرر والاستقلال، ومهمات الاندماج الوطني وبناء الوحدة الوطنية لشعبها، ومهمات تحرير اقتصادها ومجتمعها وفكرها، وبناء قوتها وجيشها، والصيغ المتعددة التي تقدمت بها في كل خطوة من خطوات ذلك التحرر، لمفهوم ” الشعب ” وقواه الاجتماعية، ومفاهيم الحرية والديمقراطية، والأشكال التنظيمية التي اعتمدتها… ثم كيف مضت تلك التجربة الى صياغة الدولة العصرية ومقوماتها، وماذا حملت من بقايا الماضي وماذا جددت وأدخلت، وماهي الأفكار التي قامت عليها، والقوى والمصالح الطبقية التي مثلتها، في كل مرحلة من مراحل تلك الثورة. واذا كان عبدالناصر قد أرادها دولة تجسد ” ديمقراطية كل الشعب “، ولا تجسد دكتاتورية فرد أو طبقة أو فئة، وأرادها منعتقة من المذهبية والطائفية ومن العصبيات الاقليمية والطائفية، كما أراد أن يقيها من التسلط البيروقراطي وأن يبقيها منفتحة للرقابة الشعبية وفعلها في تجديدها وحمايتها من الانحراف والفساد، وأراد أن يتقدم بصياغة هذه الدولة وصياغة نظامها السياسي الاجتماعي وتنظيماتها، وأن يقدم في النهاية نموذجاً لأقطار الأمة يدفع تطورها ويشدها إلى الوحدة… فإلى أي حد حالفه التوفيق فيما أراد وهدف وإلى أين وصل؟

ثم كيف أثر الانفتاح بمصر على انتمائها القومي وتطلعها الوحدوي والاندماج بنضال الأمة العربية وحمل مسؤولياته مصيراً وهدفاً، واستراتيجية حركة وعمل؟ وماذا أعطت تجربة عبدالناصر- في مراحلها المتعددة- لقضية تحرر الأمة العربية، ولقضية وحدتها، من دعم ومرتكز ورصيد، ومن انجاز وتحقيق؟ ومن أين كان التقدم نحو الوحدة ومن أين جاء الانفصال؟ وما الذي وقف بعد ذلك في وجه الامتداد الوحدوي؟ وما الذي أدخلت تجربة عبدالناصر من تقدم وتجديد على الفكر القومي العربي وعلى التوجه الوحدوي في هذا المنحى من استراتيجية عمله ونضاله؟

كما سيكون مطلوباً متابعة عبدالناصر في تخطيطه ونهجه الاقتصادي والاجتماعي بدءاً من تركيزه على الاصلاح الزراعي في بداية الثورة والتخطيط والتصنيع، فالتمصير والتأميم، وصولاً إلى طريق التحويل الاشتراكي للإنتاج وعلاقات الانتاج، والتطلع الى نهج خاص في تطبيق الاشتراكية العلمية في مصر وبهدف تقديمها هنا أيضاً كنموذج يدفع ببقية الأقطار العربية على هذا الطريق، حفزاً لثورة الأمة وتعميقاً لها، وليجعل من هذا النهج الاشتراكي أساساً لا بد منه لاستكمال التحرر ومقومات ممارسة الديمقراطية، بل وكمرتكز لإزالة التناقضات والمصالح التي تعترض سبيل الوحدة، ولتصبح الوحدة وحدة في التحرر والتقدم وتحقيقاً لمصالح الجماهير العريضة للأمة . فماذا كان الانجاز أيضاً في هذا النهج الاشتراكي؟ وإلى أي الأبعاد مضى؟ وماذا أحدث من تغيير في البنيان الاقتصادي والطبقي للدولة والمجتمع؟ وماذا كان له من انعكاسات ؟

__________________________

يتبع..

رابعاً – الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد (2/4)

التعليقات مغلقة.