الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكراه.. «نجيب الريحاني».. الناقد الاجتماعي

عمرو عبد المطلب *

حين كنت لا أزال في طور الطفولة كنت أتساءل في حيرة كلما طالعتني صورة «نجيب الريحاني» في أحد أعماله على شاشة التلفاز: لماذا يثير هذا الممثل ضحكات كل من حولي رغم أنه هو نفسه لا يبتسم على الاطلاق، بل على العكس تماماً تبدو عليه كافة ملامح البؤس والشقاء وهو دائم الشكوى من الدنيا ومن حظه فيها ويردد بمرارة شديده “انا كدة… حظي كدة”.

حين وصلت إلى سن الرشد، أدركت إجابة السؤال الذي حيرني في طفولتي، لقد كان  الجمهور يضحك مع الريحاني لأنه ببساطة يسخر من واقعه، من واقع المرحلة التي كان يعيشها مع الأغلبية العظمى من المصريين.

أكثر مشهد كوميدي لمدرس في التاريخ، تمتع بإبداع نجيب الريحاني:

الهدف النبيل:

إن من يتفحص أعمال الريحاني السينمائية- على قله عددها- إذ لا تزيد عن سبعة أفلام أنجزها ما بين عامي ١٩٣٤ و١٩٤٩ يدرك أن ’الريحاني‘ لم يكن يهدف فقط إلى إضحاك الجمهور أو امتاعه لبضع ساعات وإنما كان ذلك الفنان في أعماله أشبه بناقد اجتماعي، يشير إلى عيوب المجتمع ونواقصه ويوجه إلى كيفية اصلاحهـا.

كان هذا الهدف النبيل  فيما يبدو بمثابة اتفاق بين ’الريحاني‘ ورفيق دربه الشاعر والكاتب ’بديع خيري‘، فاشتركا معاً في كتابة مسرحيات اجتماعية  كشفت عن  أخطاء  تلك المرحلة التي عاشا خلالها وساهمت في تعرية كثير من مثالبها، وسرعان ما نقلا تجربتهما المسرحية إلى السينما.

ففي فيلم “سلامة في خير” (١٩٣٧) يدين المبدعان ’الريحاني‘ و’خيري‘ بشكل لا يخلو من فكاهة تلك الفجوة الهائلة بين فئات المجتمع، بين الموظف البسيط المؤتمن على مبلغ من المال يفوق راتبه في عدة سنوات وبين الأمير الذي ينفق ذات المبلغ في بضع أيام لا أكثر.

الباشكاتب أرمانيوس في “سلامة في خير” مع نجيب الريحاني:

أما فيلم “سي عمر” عام ١٩٤١ فهو إدانة صارخة للمجتمع برمته حيث يبرز ’الريحاني‘ هذا المجتمع كغابة يأكل فيها الكبير الصغير والكل ينهب الكل بداية من اللصوص الكبار الذين ينهبون “العزبة” التي يملكها الوجيه “عمر الألفي” ويعمل فيها شبيهه الموظف البسيط “جابر”، الذي يواجه الفاسدين وبطبيعة الحال يُفصل من عمله بسبب كشفه لفسادهم.

ولا يخفى على المشاهد أن ’الريحاني‘ يدين المنظومة برمتها حيث أن العم (شرفنطح) الذي ينهب عزبة ابن أخيه هو مسؤول أمني سابق.. والأمية التي كان يعاني منها في ذلك الوقت نحو ثمانين في المائة من شعب مصر هي سبيل هؤلاء الفاسدين لسرقة عرق الفلاحين الأجراء حيث تتم اضافة أختام مزورة إلى أختامهم لزيادة عددهم وسرقة مخصصاتهم.

يخرج “جابر” من العزبة ليجد أن المجتمع برمته هو نسخة كبيرة من القرية الصغيرة التي خلفها وراءه، فالنهب صار  قاعدة وعرفاً لا استثناءً ويجد أن سبيله الوحيد لينجو بنفسه هو أن يكون واحداً من الناهبين بل وأن يتفوق عليهم.

نجيب الريحاني من فيلم “سي عمر”:

الهوة الاجتماعية .. والتغريب:

وفي فيلم “غزل البنات” الذي أنتج عام ١٩٤٩والذي كان آخر عمل سينمائي لـ ’الريحاني‘، تبرز فكرة الهوة الاجتماعية بين الفئات المختلفة وهو ما عبر عنه ’الريحاني‘ في مشهد بديع يدين بذخ الأثرياء من خلال حوار بين حمام المدرس المطحون الذي فُصل لتوه من عمله في إحدى المدارس وبين مربي الكلب في قصر الباشا الذي استقدم حمام  لتعليم ابنته، ومن الملاحظ هنا أيضاً أن الفيلم يبرز ظاهرة التغريب عند الأغنياء، فـ”ليلى” (ليلى مراد) ابنة الباشا ترسب بشكل مستمر في مادة اللغة العربية التي لا تتقن قواعدها، الأمر الذي يستدعي الاستعانة بالأستاذ “حمَام” مدرس اللغة العربية لإنقاذ الموقف أو قل ماء الوجه.

يدخل “حمَام” في حوار كوميدي مع مربي الكلب، الذي يبدو شديد الوجاهة والأناقة، ويُصدم الأستاذ “حمَام” حين يدرك أن مربي الكلب يتقاضى راتباً يفوق مرتبه أضعافاً مضاعفة وهو مربي الأجيـال.

بعد أن يخرج مربي الكلب، يُحدِّث “حمَام” نفسه في مرارة ويتساءل كم كان ليكسب لو أنه بدلاً من تعليم النشء وتربية الأجيال أنفق عمره في العمل معلماً للكلاب هو الآخـر.

نجيب الريحاني في فيلم “غزل البنات”:

يتناسى “حمَام” مرارته الشخصية لبعض الوقت، خاصة حين يقع في غرام تلميذته الشابة الجميلة، إلا أنه لاحقاً يدرك أنه وقع ضحية وهم، ويكتفي بمباركة حب “ليلى” الجديد لشاب يماثلها في السن (أنور وجدي).

مع نهاية الفيلم، ترتسم على وجه ’الريحاني‘ ابتسامة، لكنها ليست ابتسامة سعادة بل هي أقرب إلى الرضا، رضا إنسان يشعر أنه قد أدى رسالته، ويشاء القدر أن يرحل ’الريحاني‘  ناقد المجتمع في مثل هذه الأيام وبالتحديد في الثامن من حزيران/ يونيو عام 1949 بعد أن انتهى من دوره في  ذلك الفيلم الاستثنائي “غزل البنات” الذي يُعد واحداً من كلاسيكيات السينما المصرية.

ومن الطريف حقاً أن «نجيب الريحاني» كتب بقلمه نعياً لنفسه أكد فيه على دوره كشخص ناقد للبلاد وأحوال العباد حيث قال:

 “مات نجيب.. مات الرجل الذي اشتكى منه طوب الأرض وطوب السماء، إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب.. مات الرجل الذي لا يعرف إلا الصراحة في زمن النفاق ولم يعرف إلا البحبوحة في زمن البخل والشح.. مات الريحاني في 60 ألف سلامة”.

* كاتب مصري

المصدر: أصوات أونلاين

التعليقات مغلقة.