الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

من الاستراتيجية العسكرية الى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي (2/2)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

ثالثاً- من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي

(2/2)

إننا ونحن نطل هذه الإطلالة العامة على تجربة عبد الناصر الثورية وفكره التاريخي لا بد لنا هنا من هذه الوقفة عند شخصية عبدالناصر العسكرية وثقافته العسكرية. وما كان لهما من دور في تلك النقلة الاستراتيجية باتجاه التعامل مع الفكر التاريخي وحركة التاريخ. فعدا أن الجيش كان هو المجال الأول الذي أثبت فيه عبدالناصر كفاءته التنظيمية وجدارته القيادية، ليجعل من تنظيمه العسكري تنظيماً سياسياً قادراً على التعامل مع القوى السياسية الوطنية الموجودة في الساحة وعلى اسقاط النظام الملكي، فإن عبدالناصر في الحكم، ومنذ البداية، قد أخذ بمنهجية استراتيجية في السياسة من خلال ذلك التكوين العسكري والثقافة العسكرية. ولقد كان عبد الناصر أستاذاً في علم ” الاستراتيجية والتكتيك العسكري “، في كلية الأركان، كما كان عدد من زملائه العسكريين الذين تعاونوا معه في بناء تنظيم ” الضباط الأحرار ” وفي المراحل الأولى لبناء ” نظام الثورة “، ثم خلفهم وراءه بحركة تقدم ممارسته الثورية وفكره التاريخي. فمن الانضباط العسكري انتقل عبد الناصر بقيادته وحاول أن ينقل من حوله إلى ” الانضباط الثوري ” في السياسة، ومن التخطيط الاستراتيجي العسكري، انتقل عبد الناصر إلى التخطيط السياسي والاقتصادي البعيد المدى، ومن التكتيك والخطط التفصيلية في ميدان القتال، التي تطالب بسرعة المبادرة وسرعة التنفيذ، انتقل أيضاً إلى رسم خططه التنفيذية، في ميدان السياسة وإلى سرعة المبادرة فيها. ولقد عاش عبد الناصر حياته السياسية كلها معارك متواصلة وعاشها نضالاً وقتالاً .

وفي الجيوش هناك اليوم- كما هو معروف- العقيدة العسكرية التي ينظم على أساسها الجيش وأسلحته وانضباطه وعلاقاته، وتعين المنطلقات العامة التي تقوم عليها استراتيجيته. وهناك الاستراتيجية أي الخطة العامة أو ” الخطة الهدف ” وهناك التكتيك، أي الخطط التنفيذية والمرحلية التي تترجم لها الاستراتيجية، ولكن الجيش يبقى جيش الدولة والنظام، ويبقى محكوماً بسياسة ذلك النظام وأيديولوجية الطبقة السائدة أو المهيمنة. كما أن العقيدة العسكرية لها حيزها المحدد، ومن الممكن أن تستعار كما يمكن ملاءمتها في غير عناء كبير مع الواقع وحاجاته، كما يمكن أن تحد منها إمكانات هذا الواقع. ولكن ما أن تنقل الاستراتيجية والتخطيط العام من الميدان العسكري إلى ميدان السياسة، إلا ويواجه آفاقاً أبعد وأشمل، تضع القيادة بالضرورة أمام المجتمع بكل حركته وصراع المصالح والطبقات والأفكار فيه وكل تعقيداته، وليضعها بالتالي في ميدان التاريخ وما يصنع حركة التاريخ .

وعبد الناصر انتقل بذهنيته الاستراتيجية في التخطيط والتنفيذ من الميدان العسكري إلى ميدان السياسة ولو أن ” ميدانه العسكري ” كان محكوماً ومنذ البداية لا بالعقيدة العسكرية المستعارة، وإنما بحسه الوطني وحافز التغير الثوري. وهذه الذهنية نلمس ملامحها منذ بدايات عبدالناصر في ” فلسفة الثورة “. فهو عندما أراد أن يعطى منظوراً لحركته السياسية، جاء ليدلل في مقدمة الكتاب على ذلك التأثر بالتخطيط العسكري في نهجه السياسي، من خلال ما قاله في تقديم ذلك الكتاب أو ذلك المنظور السياسي في أنه: ” أشبه ما يكون بدورية استكشاف… محاولة لاستكشاف نفوسنا لكي نعرف ما نحن وما دورنا في تاريخ مصر المتصل الحلقات… ومحاولة لاستكشاف الظروف المحيطة بنا في الماضي والحاضر، لكى نعرف في أي طريق نسير.. ومحاولة لاستكشاف أهدافنا والطاقة التي يجب أن نحشدها لتحقيق هذه الأهداف… ” .

و ” دورية الاستكشاف ” تلك التي تقدمت لتستطلع الطريق وتختبر طبيعة ” المكان ” الذي تمارس فيه استراتيجيتها وتستكشف واقع المنطقة ودوائرها العربية والإسلامية والأفريقية، ولتضعها في حركة الزمان، إنما هي الدليل الأول على المنهجية التي اتبعها عبد الناصر في إنضاج وعيه الثوري من خلال استيعاب تاريخي أولي، لتداخل العوامل والاحداث التي فجرت ثورة يوليو، أو جعلت من ذلك الانقلاب العسكري، حركة ثورة، ولتضع أمام تلك الثورة مهماتها الوطنية والقومية، ومهماتها السياسية والاجتماعية…

والأدّلُ على ذلك النهج الاستراتيجي، وبأكثر من دلالة مقدمة ” فلسفة الثورة ” هو ما قاله عبد الناصر في حديث للصحافي البريطاني مورغان، حيث يقول: ” سرعان ما اكتشفتُ أن حكم بلد من البلاد يختلف اختلافاً عظيماً عن قيادة كتيبة من الجنود. ومع ذلك فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما. فلقد عرفت في مرحلة باكرة جداً ضرورة التخطيط… الخ ” وفي سبيله إلى هذا التخطيط لبناء الدولة وبناء قاعدتها المادية في الإنتاج والتنمية، راح عبد الناصر يطلب الخبرة من ” ذوي الخبرة ” ويطلب الفكر الموجّه من ذوي الثقافة والفكر… ولكن لا الخبراء كانوا على المستوى المطلوب، ولا المفكرون قدموا له كثيراً ” لرسم الإطار العام للحركة … “. وأخذ بالمعطيات المتوفرة واعتمد سبيل التعلم والممارسة. إن خطة عبد الناصر من البداية أخذت طابعها الاستراتيجي كخطة هادفة لا كمجرد خطط تكتيكية في مواجهة المشاكل والأزمات المطروحة أمامه، أي أنه وجد نفسه مطالباً بمغالبة مشكلة التأخر بكل أبعادها، بالتخطيط السياسي البعيد المدى، والهادف إلى بناء دولة عصرية متحررة ومتقدمة .

والخطة السياسية الاستراتيجية تعني بالضرورة الخطة الاقتصادية، ولكنها خطة يوجهها الهدف الوطني في التحرر الكامل، والحاجة إلى بناء القاعدة المادية التي يقوم عليها بناء دولة عصرية، ويقوم عليها تقدم المجتمع. والهدف الوطني في التحرر، لا بد أن يتوجه بالضرورة هنا، ويوجه الخطة إلى تحرير الاقتصاد من التبعية للمصالح الاستعمارية والسوق الرأسمالية العالمية، ومن أن يكون مرهوناً بمصالح القوى الطبقية- السياسية التي تشد إلى الوراء وتشد إلى التبعية، من خلال مصالحها الاستغلالية، وأن يوجهها الى مواجهة القوى المضادة للثورة (تحالف الاقطاع ورأس المال التابع للمصالح الأجنبية)، ويوجهها إلى التنمية ومغالبة التأخر المقيم… ومن هنا يصبح الاقتصاد المتغير قاعدة توجه سياسة النظام وتحبك عرى علاقاته الوطنية والخارجية وتدفع للتجديد في الفكر والثقافة .

ثم أن عبد الناصر- وقد أخذ بهذا التوجه- كان لا بد له أن يلمس بالضرورة أن التخطيط الهادف والبعيد المدى ، وأن وضع الخطة الاستراتيجية العامة في مجالاتها التطبيقية، أي وضعها في خطط تفصيلية وتنفيذية، لا بد أن يواجه الواقع وما يعتلج فيه من امكانيات ومعطيات وما يقابلها من معوقات وعقبات. والخطة الاقتصادية ذاتها- وهي هادفة الى التحرر الوطني والتنمية وتعزيز امكانات الدولة وارضاء الحاجات المعاشية للجماهير، وبناء القاعدة الشعبية للنظام، وتحقيق هدف من أهداف ثورته الوطنية في جيش قوي وتسليحه- كان لا بد أن تواجه القاعدة القائمة من قبل للإنتاج وقوى الانتاج وعلاقات الانتاج، أي أن تواجه الصراع الطبقي والمصالح المتعارضة… وهكذا فإن الخطة العامة لكي تشق أمامها طريقاً، ولكي تترّجَم على أرض الواقع والفعل صيغ تنفيذية ومرحلية، كان لا بد لها أن تجد نفسها مطالبة بأن لا تقف عند حدود التقدم بخطوات اصلاحية تتناول الزراعة والاصلاح الزراعي، والتصنيع والتطوير الصناعي، وبناء نوع من التراكم الرأسمالي في يد الدولة لتوظيفه في خطط التنمية، بل وكان لا بد لها- ومنذ البداية- أن تتدخل لتحدث تغييرات في علاقات الانتاج وفي السلم الاجتماعي الذي يقوم عليها، ليتوجه ” النظام ” إلى اعتماد القوى الشعبية المنتجة من عمال وفلاحين، والذين تلتقي مصالحهم وأهدافهم مع خط التقدم هذا ومع الهدف الوطني العريض، قاعدة له ولسياسته وتوجهاته…

ثم إن المقاومة التي واجهتها تلك الخطة مباشرة من القوى المضادة للثورة داخلياً وخارجياً، دفاعاً عن مصالحها الطبقية وعن تسلطها واستغلالها، أعطت لتلك الثورة الوطنية لا بعدها الوطني السياسي فحسب، بل وبعدها الاجتماعي أيضاً. ثم إن قيادة الثورة ومن خلال ذلك المنظور الاستراتيجي في التخطيط، فضلاً عما تحمله من قبل من حوافز للتغيير الثوري والتقدم، أخذت تتمثل، شيئاً فشيئاً، أبعادها التاريخية الأوسع والأشمل، ومن هنا وجدت نفسها تربط استراتيجياً بين الوطنية والمنظور القومي والنضال الوحدوي. وهكذا وصلت أيضاً إلى الموقف القاطع ضد الإمبريالية لتضع نفسها خارج النهج الرأسمالي وعلى طريق النهج الاشتراكي…

أي أن نهج عبدالناصر في التخطيط الهادف والاستراتيجي، كان عاملاً أساسياً من العوامل التي وضعته على طريق التأثر بالفكر التاريخي، وصولاً إلى الأخذ بالمنهج الاشتراكي، وهذا التعامل مع الفكر والتخطيط دفع به وأعطاه- كما أعطته ودفعت به أكثر- حركة الجماهير…

ولكن إذا كان النهج الاستراتيجي في التخطيط هو الذي أنضج الفكر التاريخي لعبدالناصر باتجاه الأخذ بمبادئ المنهج العام لذلك الفكر، انتقالاً بمنظوره الوطني الثوري، إلى منظور ثوري سياسي واجتماعي، قومي واشتراكي علمي، فالذي أنضج ذلك المنظور أكثر مما فعلت الخطة والاستراتيجية والتخطيط، كان هو حركة الجماهير، وما أعطته حركة الجماهير بيقظتها الثورية الجديدة من دعم لعبد الناصر، ومن دفع لثوريته بأن تتقدم، بل وأن تتجاوز مقدماتها كلها…

والفكر التاريخي أو الفكر التاريخاني بكل ايديولوجياته ومعطياته، إذا ساعد على التنظير الاستراتيجي البعيد وعلى وعي الواقع ووعي التأخر، وعلى الدفع للتغيير، فإنه لا يصنع الثورة ولا يصنع حركة التاريخ، وانما الذي يصنع الثورة هو الذي يقاتل من أجل أهدافها .

إن الذي صنع الثورة، والذي حوّل الفكرة إلى حركة، والوعي إلى التزام، والهدف إلى عمل ونضال لتحقيق الهدف… والذي حول بالتالي ” الكم إلى كيف “، كان أن عبد الناصر جاء وجاء به ليهز حياة الأمة وتاريخها وليحوّل أحلام الأمة الى ممارسة، بنزوعه الثوري وتحمله لمسؤوليته التاريخية وإقدامه، ورفدته جماهير الأمة، وجاءت إليه من كل حدب وصوب، وبذلك أصبحت الخطة خطة ثورية، فتعاملها مع الجماهير وتعامل الجماهير معها هو الذي أعطاها حيويتها وروحها الدافعة .

فعند تأميم قناة السويس أحكم عبد الناصر الخطة، ووضعها في إطار استراتيجيته العامة للتحرر الوطني وللتحرر الاقتصادي بل وخطة التنمية، وأحكم ترتيب تلك الخطة التكتيكية والتنفيذية والادارية، كما أدار بإحكام مناوراتها السياسية والدولية، وبوقفة وطنية واعية وشجاعة ومسؤولة. ومع ذلك فقد كان من الممكن لتلك الخطة أن تُهزم، بل إن تلك الخطة نفسها لم تكن صائبة في تقديراتها كلها، وخاصة فيما يتعلق بزمان العدوان، وبحجم العدوان، وباحتمالات قيام ذلك التحالف الثلاثي (الاسرائيلي- الفرنسي- البريطاني) في حملة العدوان .

فلو بقيت الأمور عند الخطة والتدبير وعند القوى الإدارية والعسكرية التي أعدها عبد الناصر، بل وحتى عند القوى الصديقة والمناصرة لوقفة عبد الناصر، لظل من الممكن أن تفشل الخطة، بل وأن يسقط النظام، لولا ذلك المناخ الثوري الذي تفجر مباشرة في الساحة الوطنية لمصر، وفي الساحة القومية معها، لولا عاملين تلاقيا معاً واتحدا هما: عزيمة عبد الناصر الثورية وتصميمه ( أي اراديته الثورية )، يضاف إليها بل ويتقدمها ويزيد عليها: حركة جماهير الأمة التي تلاحمت حول قيادتها في تصميم قاطع على النضال. وقصة حرب السويس معروفة ولن نقف عندها، ولكنها كانت في تاريخ مصر وفي تاريخ الأمة، النصر الأول لأهدافها، ومنها بدأ تاريخ الأمة يتحرك…

قبل السويس وفي بدايات ثورة يوليو، لم تكن هناك في واقع الأمر وفي حياة جماهير الأمة يقظة تاريخ وحركة ثورة. إن عبد الناصر نفسه يعبر في ” فلسفة الثورة ” عن خيبة ظنه بعد الحركة العسكرية في 23 يوليو وبعد اسقاط الملك واستلام الحكم، إذ لم يرَ ” الزحف المقدس ” للصفوف المتراصة تتقدم إلى ” الهدف الكبير ” للثورة. ولكن عبد الناصر واصل دأبه الثوري، واستكشف بالممارسة والمعاناة طريق الجماهير، واستكشف طريق تحريك تاريخ الأمة .

والجماهير عندما يأتيها من يحرك تاريخها ويعمل بوعي وتصميم لتحقيق أهدافها، ملتزماً بقضيتها ومصالحها… عندما تكون القيادة منها، تعاني معها، وتقاتل في صفوفها، كما فعل عبد الناصر أيام معركة السويس، فإن الجماهير تتحرك وتعطي، بل وتعطي أكثر مما يكون في التقدير من قبل وفي التصور .

وذلك هو الفارق بين حرب السويس وحرب تشرين ( اكتوبر )، فحرب السويس، جاءت تفجر إحساس الأمة بوجودها التاريخي، إحساسها بنضالها، بإرادتها، وأن إرادتها تتحقق، وأن مصلحتها وأهدافها هي العليا… ومن هنا جاء النهوض والتقدم، ثم جاءت الوحدة وأصبح التاريخ في حركة جماهير الأمة وأمامها .

وفي حرب تشرين (أكتوبر) عام 1973، تحركت جماهير الأمة وأعطت وقدمت ولكنها ما لبثت أن انكفأت، ووجدت القيادات الممسكة بالسلطة وراءها لا أمامها، ولتجد في النهاية وبعد تقلب الأحداث، تاريخها نفسه وراءها لا أمامها. ولتجد نفسها لا على طريق النهوض بل على طريق النكوص والردة. فالخطة التي وضعها عبدالناصر لدحر العدوان، وإزالة آثاره، قُطِعت أوصالها، وقُلِبت رأساً على عقب، وفُصِلت فصلاً تاماً عن نهجها التاريخي وفكرها وجماهيرها، بل ارتدت ضده خروجاً بمصر عن الدور الذي أراده لها عبد الناصر، بل أراده تاريخ مصر العربية ونضال شعبها عبر مراحل التاريخ، وعبر مراحل ثورة عبد الناصر، لتصبح مصر وتصبح الأمة كلها بالنتيجة، في هذا الوضع اللامعقول والتائه عن حركة التاريخ .

___________________

يتبع..

رابعاً- الناصرية ومستقبليتها : الاقتناع والتجديد (1/4)

التعليقات مغلقة.