الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

النكبة بين ثلاثة أجيال فلسطينية سورية: درس في قراءة الذاكرة

محمد تركي الربيعو *

يحسب لقسم كبير من الباحثين الفلسطينيين في السنوات والعقود الأخيرة، الاهتمام بدراسة الذاكرة والتاريخ الاجتماعي تواريخ المدن والجنود والطعام في فلسطين، قبل عام 1948. وربما ما يحسب أيضا لهذا الاهتمام أنه لم يقف على صعيد تدوين ذكريات الأهل، كمدخل لمقاومة سياسات التطهير، التي تقوم بها إسرائيل تجاه المكان والبشر، بل حظي بنقاش معرفي واسع على صعيد التعامل مع خطاب الذاكرة، وعلاقته بتدوين التاريخ والنظر للماضي، وهذا ما أدى إلى أن تغدو كتب قسم كبير من هؤلاء الباحثين جزءا من نقاش أكاديمي غربي وعالمي واسع، حول كيفية النظر لماضي الشعوب المستعمرة، أو تلك التي تتعرض لحروب وموجات لجوء، وكيف تؤسس هذه الجماعات لحكايا وذاكرة أخرى.

وفي هذا السياق، لا بد من الإشارة للجهود التي بذلتها مؤسسات الدراسات الفلسطينية منذ تأسيسها، على صعيد التعريف بقراءات وكتب تتعلق بالذاكرة واليوميات والتاريخ الشفوي، ما كان له دور في تعريف القارئ الفلسطيني والعربي عموماً بقراءات جديدة على صعيد التعامل مع المرويات الشفوية والذاكرة، وهو اهتمام ربما سيزداد بعيد الربيع العربي، وما عرفه لاحقاً من موجات لجوء ونزوح واسعة، وانهيار عدد من المدن، ما خلق حالة شبيهة إلى حد ما بحالة اللاجئين الفلسطينيين، على صعيد وجود ملايين الأفراد ممن أجبروا على مغادرة منازلهم، ولم يعد يتاح لقسم كبير منهم فرصة العودة، ما يعني انفجار ذكريات عن هذه التجربة، لتتلوها لاحقا موجة أخرى من الذكريات والشعور بالفقدان والحنين، حيال المدن والقرى والأجواء الاجتماعية التي عاشوا فيها، وربما هذا ما يفسر اهتمام قسم لا بأس به من الباحثين السوريين في الآونة الاخيرة بدراسات وكتب الباحثين الفلسطينيين، على صعيد تدوين المرويات والذاكرة، وكيفية الاشتباك معها معرفيا. وكمثال عن الكتب الأخيرة التي أصدرتها المؤسسة، وتشكل في رأينا مدخلاً معرفيا مهماً، لا يتعلق فحسب بذكريات الفلسطينيين، بل أيضا على صعيد دراسات الذاكرة، هو كتاب “أناهيد حردان” أستاذة علم الاجتماع في الجامعة الأمريكية في بيروت، بعنوان «الفلسطينيون في سورية.. ذكريات نكبة مجتمعات ممزقة» ترجمة محمد الأسعد.

الذاكرة والمجتمع:

الفكرة الأساسية للباحثة في هذا الكتاب، أنها ستتعامل مع الذاكرة، لا بوصفها تعكس حقائق من عدمها، وإنما ستركز على السيرورات الاجتماعية المتأصلة في التذكر، وعلى الطرق التي تجري فيها هذه السيرورات، وما الذي تقوله روايات الأجيال الجديدة عن حكايا الأجداد، وما هي التفاعلات التي تجري بين الفردي والعائلي والعام في صوغ الذكريات. ولذلك فهي تنبه منذ البداية إلى أن تعاملها مع الذاكرة هو تعامل سوسيولوجي، فالتذكر ليس فعلا يتعلق بالماضي، بل هو كما يرى “موريس آلبفاكس” في كتابه «الأطر الاجتماعية للذاكرة» مرتبط بالسياق الاجتماعي.

ما تلاحظه المؤلفة على صعيد النكبة، أنه في فترة الخمسينيات غالباً ما جرى التعامل مع هذا الحدث بوصفه جزءاً من حدث أكبر تعرضت له الأمة العربية، كما نلاحظ ذلك في كتابات “قسطنطين زريق“، لكن مع قدوم أحداث عام 67، سيختفي الانشغال بنكبة 1948 اختفاء ملحوظاً، ومع قدوم الثمانينيات سيعود الاهتمام بالنكبة. وهذا ما ترده المؤلفة لولادة مشاريع عديدة، تعنى بإحياء ذكريات المجتمع الفلسطيني ووسائل الحياة التي دمرتها النكبة، كما أن موجة الاهتمام بالذاكرة ترافقت في سياق عام من الاهتمام الشعبي والدراسي بالذاكرة، الذي بدأ في هذه الفترة وانتشر بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.

بعد هذه التقديم النظري، تصحبنا المؤلفة إلى داخل المخيمات الفلسطينية في سوريا، الرسمية منها (خان الشيح مثلاً) أو غير الرسمية (مخيم اليرموك) للتعرف على روايات ثلاثة أجيال فلسطينية عن النكبة، أو بالأحرى لمعرفة كيف يتعامل كل جيل مع ذكرياته حول فلسطين، وهي ذكريات عرفها بعضهم، بينما سمع قسم آخر عنها من روايات الأهل. وهنا لا بد من الإشارة إلى أنّ معظم هذه المقابلات جرت في سوريا حيث اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، وما تبعها لاحقاً من أحداث أدت إلى دمار قسم كبير من مخيمات الفلسطينيين. وما يحسب للمؤلفة هنا، أنّ رحلة خوضها في ذاكرة الفلسطينيين السوريين، لن تتيح لنا التعرف على قصص هؤلاء وحسب، بل أيضا على معرفة كيف أنّ الحكاية نفسها تتغير مع مرور الزمن، وكيف أنّ الأجيال الجديدة، وهي تتذكر، لا تعيد سرد الأحداث ذاتها التي رواها الأجداد بالضرورة، وإنما تعيد تشكيلها أحيانا لتتلاءم مع ظروفها وحاضرها.

حراس الذاكرة:

تخصص المؤلفة أول تجاربها في الاستماع لروايات النكبة، للجيل الذي عاش تلك اللحظة، وهو جيل ستطلق عليه لقب «حراس الذاكرة» وفي سياق تحليلها لرواياته، تلاحظ في الغالب، أنّ هذه الذكريات تقوم أساساً على فكرة مقاومة الاستعمار البريطاني والمجموعات الصهيونية، كما يرى هذا الجيل وهو يروي هذه الذكريات أنّ دوره كناقل لها يتمحور حول فكرة غرس الروح الوطنية في أبنائه، ومما تلاحظه أيضاً أن روايات هذا الجيل اكتسبت قوامها الاجتماعي في البيت، حيث يصغي الأبناء والأحفاد إلى ذكريات وتواريخ أفرادها ذات الصلة بالجماعات الأوسع أيضا، ولذلك تبدو العائلة كموقع مهم، إن لم يكن أساسيا، لرواية الذكريات، وكون هذه الذاكرة قد سردت في البيت، فإن الرجال في الغالب هم من كانوا يروونها، بينما كانت النساء يصغين لهذه الروايات، دون أن يشاركن تجاربهن، وبالنسبة لبعض ممن استجوبتهم المؤلفة، تبين لنا أنّ حجرة الجلوس العامة كانت الميدان الذي يروي فيه الوالد أو الجد حكاياته، بينما كانت الأمهات يشعرن بارتياح أكثر وهن يروين قصصهن في فضاء المطبخ. لكن هذا الدور سيتغير مع الجيل الثالث (جيل الأحفاد) إذ ستتقدم صورة الجدة، مرارا وتكرار، كراوية متميزة للذكريات، وهذا التغير لن يؤسس لتاريخ مضاد بالضرورة، بل سيلقي ضوءاً على الطرق التي يشكل بها جنس الراوي «تقانات الذاكرة، وأطر التفسير، وأفعال النقل التي تمنحنا الفاعلية» ولذلك سنلاحظ أنّ قصص الجدات لن تتمحور حول مواجهات 48 التي خاضها الرجال بل ستروي قصص تتعلق بذكريات مجتمع ما قبل النكبة، وأساطيره وحكاياته الشعبية، وأغاني العتابا.

ومما يلاحظ أيضا في ذكريات جيل النكبة أنها غالباً ما تدور حول الفقدان، كما أن بعضها يدور حول العجائب والبطولات التي دارت في تلك الفترة، كما نعثر في هذه الذكريات على فاعل مرئي وغير مرئي في وقت واحد، وهذا الفاعل في ذكريات أم عبد العزيز هو الأونوروا التي أخرجتهم من الوادي، وهو في ذكريات أبو كمال الدول التي جمعت اللاجئين وأخذتهم إلى خان الشيخ، وفي ذكريات أبو صبحي هو الصليب الأحمر.

ذكريات فلسطين التابعة:

أما على صعيد أولاد جيل النكبة وأحفادهم، فما تلاحظه المؤلفة في هذا السياق بعد استماعها لقصصهم، أننا أمام «ذكريات تابعة» ولا يهدف هذا التمييز بين الذكريات والذكريات التابعة، كما تقول المؤلفة، إلى التمييز بين ذكريات مباشرة وأخرى غير مباشرة، بل للتشديد على سيرورتين مختلفتين: السيرورة الاجتماعية التي يعبر فيها أولئك الذين يمتلكون مرجعية يمكن الرجوع إليها، والسيرورة الاجتماعية التي يتصور فيها الأمكنة في فلسطين، أولئك الذين لم يعيشوا في صفد ومدن وعوالم فلسطين التاريخية قط. ومن هنا، نجد أنّ ذكريات الجيلين الثاني والثالث التابعة، تقوم على أساس تصوّر ما كانت تملكه العائلة وما فقدته، كما نلاحظ هنا دور الكتب المدرسية (بالأخص الجيل الثالث) في تشكيل هذه المعرفة بالنكبة، كما نرى مع رواية فاطمة، أنّ النكبة ارتبطت في ذاكرتها بالشقاء والفقر الذي عاناه الأهل بسبب اللجوء، لكن لحظة الشقاء هذه لن تتوقف عند الأهل، بل امتدت إلى حياتهم أيضا، بينما لم تتمدد إلى أفراد الجيل الثالث، الذين عاشوا في عائلات كانت قد رسخت وجودها في سوريا.

ومما تلاحظه ’حردان‘ أيضا في حفرياتها لذكريات الجيل الثاني، أنّ هذا الجيل بقي يردد ذكريات الأهل، دون أن يثير نقاشات واسعة حولها، أما الجيل الثالث فيبدو من خلال روايته لذكريات الأهل أكثر إشكالية، فهو في رواياته عن النكبة يلوم الجيل الأول، ويفسر ذلك لوجود مسافة زمنية فاصلة بين روايات هذا الجيل وذكريات جيل النكبة. كما تلاحظ أنّ هذا الجيل بدا غير متذكر لذكريات جيل النكبة بوضوح، أو بالطريقة نفسها التي تذكرها الجيل الثاني، كما يبدو ناقما على جيل النكبة لأنه غادر الأرض، وهنا تبطل قصص البطولات التي رواها الجيل الأول، لتحل محلها سردية أخرى ترى أنّ الأجداد لم يكونوا رجالا حقيقيين، وإلا لما غادروا بلادهم، وبقوا كما فعل قسم كبير من الفلسطينيين، ممن يعيشون اليوم في الداخل. وتلاحظ المؤلفة في روايات هذا الجيل أنّ البعض نظر للأجداد وقراراتهم في اللجوء بوصفها ناجمة عن افتقار إلى الوعي، ونتيجة الجهل وحتى «الغباء» فهم «فلاحون جهلة لم يفهموا الصورة الأكبر أو الخطة الصهيونية» وفق تعبير أحد أبناء الجيل الثالث، وتبدو هذه الرواية قائمة على أساس يتعلق بفهم تراكمي للأحداث، وهذا رأي تراه المؤلفة بحاجة إلى مراجعة اليوم، خاصة أنّ من اتهم الأجداد بالجبن، كان قد اضطر في ضوء الأحداث الأخيرة في سوريا إلى مغادرة المخيمات، أو البلاد من جديد باتجاه قصة شقاء ولجوء جديدة.

* كاتب سوري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.