مالك داغستاني *
- يحدث أحياناً أن تكون رسائل القوة والغطرسة هي الرسائل الأخيرة للديكتاتور.. نذكر جميعنا سؤال القذافي الاستنكاري “من أنتم؟” الذي كرّره بمواجهة من ثاروا للخلاص منه، ومن جنون العظمة الذي أصابه خلال سنوات حكمه.. بعد طرحه سؤاله الاستعلائي بأيام سيذهب الرجل إلى مصيره.. المرجح أنه حتى لحظة موته كان مازال يردد السؤال ذاته الذي سيتحول مثالاً للتندّر.. قبلهُ كان العديد من قادة المنطقة يرددون “نحن لسنا تونس” في إشارة تشي بالغطرسة، إلى أنه لن يحدث في بلدانهم التي يحكمونها ما جرى في تونس، حيث سقط الرئيس “بن علي”.. لم يُعرف من قبل في أي مكان من العالم، أن نظاماً مهما كانت طبيعته، جاء بما يخالف رصانة التاريخ وبقي إلى الأبد، فالتاريخ عجوز وقور لا يعترف بالأبد.
في الأيام الأخيرة من عام 1989، علّق “نيقولاي تشاوشيسكو”، ديكتاتور رومانيا الملقّب بالملك الأحمر على سؤال صحفي عن التغييرات التي تجتاح دول أوروبا الشرقية بعد “البيروسترويكا” بجملة سيحفظها له التاريخ: “عندما تتدلى ثمار الكمثرى على أشجار الحور، يمكن أن يحدث التغيير في رومانيا”.. أدلى الرجل بتلك الرسالة المليئة بالثقة، خلال زيارة قام بها إلى إيران في 18 من كانون الأول/ ديسمبر قبل مقتله بأسبوع واحد.. يومها، وكالة أنباء الجمهورية “الإسلامية” الإيرانية، ستشيد بالشعب الروماني باعتبار رومانيا “الدولة الوحيدة في أوروبا الشرقية التي تلتزم بحكومتها”.
قبل الزيارة بيوم واحد، كانت هناك أخبار تتسرب عبر محطات إذاعية غربية عن مجزرة حدثت في “تيميشوارا”، المدينة الرومانيّة الواقعة غربيّ البلاد قريباً من الحدود الهنغارية، حيث سيتصدر اسمها وسائل الإعلام في تلك الفترة.. بدأت احتجاجات “تيميشوارا” عندما تحول تحرك جماهيري محدود إلى مظاهرات عارمة.. كانت الحكومة قد رعت قراراً يرمي إلى نفي القس البروتستانتي المنشق “لازلو توكيس” بتهمة التحريض على الكراهية العرقية.. يوم 17 من كانون الأول/ ديسمبر أحاط مواطنون من أصول هنغارية ببيت القس دعماً له، لينضم بعدها الطلاب إلى المظاهرة التي سرعان ما فقدت كل الصلة بقضيتها الأولية، وتحوّلت لتكون مناهضة للديكتاتور.. تدخلت الشرطة وقوات الجيش وفتحت النار على المتظاهرين، مما أسفر عن مقتل وإصابة الكثير من الرجال والنساء والأطفال.
كانت زيارة تشاوشيسكو إلى إيران في اليوم التالي لحدث بهذا الحجم، واحدة من رسائل الغطرسة وفرط الثقة بالنفس وبالعائلة التي تسيطر على المناصب الحساسة في أجهزة الدولة، حيث ترك الديكتاتور مهمة سحق تمرد “تيميشوارا Timișoara” لمرؤوسيه وزوجته.. عندما عاد تشاوشيسكو إلى رومانيا يوم 20 من كانون الأول/ ديسمبر، وجد أن طلاباً من كلية المسرح والسينما في جامعة بوخارست قد جمعوا ما استطاعوا من ثمار الكمثرى (الإجاص)، وعلّقوها على الأشجار التي تصطف على جانبي واحد من أهم شوارع العاصمة.. تلك كانت رسالة الردّ.. رسالة ذات دلالة غير مسبوقة خلال حكمه الذي استمر 24 عاماً جحيميّاً. أثار هذا الرد التهكّمي الرئيس، وبأوامر منه، ويُقال من زوجته “إيلينا”، قامت الشرطة السرية بالتعرف على “الطلاب الجناة”، وهاجمتهم واعتدت عليهم في مهاجعهم، ووقع عدد من الطلاب القتلى.
تؤكد جميع المصادر بأن “إيلينا تشاوشيسكو” زوجة الديكتاتور لم تكمل دراستها الابتدائية، وأنها التحقت بسوق العمل في سن مبكّرة.. ومع ذلك كانت وسائل الإعلام الرومانيّة تطلق عليها لقب “سيّدة العلوم”، حيث لا ياسمين في بوخارست لتكون سيّدته.. وفقًا لتقرير بثّته إذاعة أوروبا الحرة عام 1984، فإن رغبتها بالحصول على الدكتوراه من كلية الكيمياء في بوخارست، جوبهت بمعارضة ورفض شديد من الكيميائي الروماني المعروف “كوستين دي” الذي طُلب منه الإشراف على أطروحتها، ما دعاها إلى التحول إلى مشرف آخر في جامعة “ياش”.. المشرف الجديد المتفهم سوف يمنحها العلامة التامة.. كانت المفارقة أن “إيلينا تشاوشيسكو” لم تكن حاصلة على البكالوريوس، لكن قوة زوجها ضمنت لها درجة الدكتوراه في الكيمياء.. صاغ لها مختصون كامل محتويات أوراقها العلمية.. ومنذ تلك اللحظة سيُمنع على كل وسائل الإعلام الرومانية ذكر اسم “إيلينا” دون أن تسبقه عبارة “عالمة الكيمياء الشهيرة دولياً”، ومعلوم لنا هوس أفراد عائلات الطغاة المَرَضي بنيل شهادات الدكتوراه المزيّفة.. “إيلينا” ستصبح الشخص الثاني من حيث التأثير في البلاد (كثيرون يعتبرونها الأول).
كما يجري في معظم البلدان التي تحكمها الديكتاتوريات، قامت الأجهزة الحزبية يوم 21 من كانون الأول/ ديسمبر، بحشد الطلاب والموظفين بالترهيب، للتجمع أمام مبنى اللجنة المركزية للحزب.. إضافةً للحديث عن إنجازات “الثورة الاشتراكية”، استمع الجمهور في خطاب تشاوشيسكو أمام المحتشدين عن “المؤامرة والاعتداء الخارجي على سيادة الدولة”، طبعاً مع إلقاء اللوم عن “أعمال الشغب” في تيميشوارا على “المحرّضين الفاشيين” الذين يريدون تدمير الاشتراكية.. قدمت وسائل الإعلام الرسمية ذلك التجمع على أنه حركة “عفوية” من الشعب الروماني لدعم وتأييد السيد الرئيس.. كانت الكلمة منقولة مباشرة على التلفزيون والراديو الوطني.. بعد قرابة ثماني دقائق من خطابه، بدأ الجمهور الذي عرف ما يجري في أنحاء البلاد من “الإذاعات الأجنبية”، بصيحات الاستهجان، وترددت هتافات “تيميشوارا”.. للطرافة، وهذا ليس مؤكداً، يقال إن رجلاً مخموراً هو من بدأ بالهتاف ضد الديكتاتور.. حاول تشاوشيسكو إسكاتهم برفع يده اليمنى ودعوتهم لمتابعة سماعه. سوف يسمع أحد مصوري التلفزيون إيلينا الواقفة قرب زوجها، تطلب منه وتحثّه أن يعدهم بزيادة الراتب، وبتوفير الحاجات الضرورية، واستجاب لها فعلاً، فأعلن عن رفع الحد الأدنى للأجور بمقدار 200 ليو، لكن الأوان كان قد فات.. عادت الهتافات أقوى، وارتجّت الكاميرات في أيدي المصورين، غابت صورة الرئيس والحضور، وراحت الكاميرات تصوّر المباني المحيطة، بينما كان يُسمَع هدير الجمهور، وصوت الديكتاتور وهو يطلب من “الرفاق” الهدوء.. تم قطع البث التلفزيوني، وغادر تشاوشيسكو الشرفة هارباً من الحشود.. ليشهد بقية اليوم ثورة مفتوحة لسكان بوخارست، وغيرها من المدن الرومانية.. مفاجأة تشاوشيسكو وتعابير الذهول على وجهه عندما بدأ الجمهور بالهتاف ضدّه خلال خطابه، ستغدو من بين أكثر الصور التي تم بثها في التقارير التي تتناول التحوّلات في أوروبا الشرقية.
في 22 من كانون الأول/ ديسمبر، اليوم التالي لخطابه الأخير، فرّ الديكتاتور مع زوجته “عالمة الكيمياء المشهورة دوليّاً” بمروحيته الخاصة، في طريقه إلى مصير “تراجيدي” ما زالت صوره عالقة في الذاكرة الرومانية حتى اليوم.
- غادر تشاوشيسكو العاصمة هارباً، بعد أن تأكّد أنه فقد ولاء الجيش والقوى الأمنية، حين رفض الجنود طاعة أوامر قادتهم في قمع التحرك.. والأهم أنه وصل إلى يقين بأن المواطنين الرومانيين المحرومين من الكهرباء والماء والوقود، والذين يقضون جلَّ أوقاتهم في الطوابير لساعات من أجل الحصول على الخبز والجبن والزيت، وكل أنواع الاحتياجات الأساسية، كانوا قد سلكوا طريق اللا عودة.
بالإضافة إلى كونه “ديكتاتوراً لا يرحم ومستعداً لاستخدام أي قوة يراها ضرورية” حسب وصف أحد الديبلوماسيين الغربيين، فقد اختلف تشاوشيسكو عن القادة الشيوعيين الآخرين في المنطقة من خلال بناء قاعدة قوة مستقلة عن الاتحاد السوفييتي.. فبينما احتفظ زعماء الدول الشرقية بالسلطة لسنوات، لأن موسكو كانت على استعداد لدعمهم بالقوة، وسقطوا فوراً عندما لم يعد بإمكانهم استدعاء القوّة السوفييتية.. فإن تشاوشيسكو على النقيض من ذلك، أكّد في العديد من المواقف استقلاليته، خصوصاً موقفه الشهير بإدانة الاجتياح السوفييتي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، إضافة لاتخاذه مسارات سياسة خارجية مختلفة عن السوفييت، وبناء علاقات جيدة مع الغرب.. رغم ذلك يبقى أن اللحظة التاريخية المفصلية، خلال تفكك الاتحاد السوفييتي، وانهيار سلطات دول المحيط التابعة له، وعموم الظرف الدولي آزر الرومان في ملحمتهم لإنهاء واحد من أبشع أشكال الحكم في شرق أوروبا.
إحدى اللافتات التي رفعت يوم 22 كانون الأول/ ديسمبر كُتب عليها “تشاوشيسكو خنزير مُعَد للتصدير” في إشارة إلى سياسة التصدير الزراعية الصارمة التي اتبعتها الدولة لسداد الديون، مما جعل حياة الرومانيين غير قابلة للاحتمال.. خلال فترة حكمه ترتّب على رومانيا ديون خارجيّة تقدّر بأحد عشر مليار دولار، ولتسديد تلك الديون قرر تشاوشيسكو تصدير كل ما تنتجه البلاد، ولم يترك لشعبه إلا النزر اليسير مما يسد الرمق.. كان على المواطنين قضاء الشتاء في شقق غير مدفأة بينما تنعم الطبقة الحاكمة، وخصوصاً عائلة “الملك الشيوعي” بحياة يسودها البذخ في قصور ستتحول لمتاحف فيما بعد.. طبعاً كل هذه الصعوبات تضاف إلى حالة الخوف من التنصت ومراقبة الشرطة السرية.. تلك الانتهاكات التي بدا أنها غدت من مألوفات الحياة العادية في رومانيا هي ما أوصل الشعب إلى الانفجار العظيم.
بحلول صباح يوم 22 كانون الأول/ ديسمبر انتشرت الاحتجاجات في جميع المدن الرئيسية الرومانية.. وتحوّل الجنود العادّيون بشكل جماعي إلى جانب الثورة.. في حين تخلّى القادة عن تشاوشيسكو باعتباره قضية خاسرة ولم يبذلوا أي جهد للحفاظ على ولاء جنودهم للحكومة.. قبل ثوانٍ من وصول المحتجين إليه تمكن “الرئيس الخائف وإيلينا” من الصعود إلى سطح مبنى القصر والهروب بطائرة مروحيّة.. تاركين خلفهما أمة باقتصاد متهالك ومن دون أية خبرات في التغيير السياسي.. وشعب كان قد اعتاد على الهمس لفترة طويلة واحتاج فجأة للحوار العلنيّ، والأهم لإنشاء هياكل سياسية جديدة.
يوم 24 كانون الأول/ ديسمبر تم القبض على الزوجين قرب منطقة “تراغوفيست”.. بعد أن أمضيا اليومين السابقين في مقر إقامة مؤقت.. بدأت محاكمتهما وانتهت في يوم عيد الميلاد 25 كانون الأول/ ديسمبر في ثكنة عسكرية (الثكنة تحولت عام 2013 لتغدو “متحف إعدام تشاوشيسكو”).. انعقدت المحكمة في غرفة صغيرة بأوامر من جبهة الإنقاذ الوطني، الحكومة المؤقتة التي التأمت على عجل من كتّاب وفنانين وضباط وقادة طلاب ومسؤولين سابقين، لتسيير أمور البلاد.. واجه الزوجان تهماً من بينها جمع الثروات بطريقة غير قانونية، وارتكاب الإبادة الجماعية.. كان طريفاً أن “دان فواينا” المدّعي العام في المحكمة سيخاطب إيلينا بالسيدة “كودوي”، وهو لقبها الذي كان الرومان يتداولونه سرّاً.. في محادثة لها مع بعض المختصين، أخطأت “عالمة الكيمياء” الحاصلة على كثير من الجوائز لإنجازاتها العلمية، أخطأت بلفظ وتهجئة اسم مركّب “ثاني أكسيد الكربون” المعروف لأي تلميذ، ولفظته “كودوي” الكلمة التي تعني باللغة الرومانية “الذيل الكبير”.. لمرة واحدة وأخيرة ستسمع “إيلينا” لقبها هذا في المحكمة.
في نهاية المحاكمة التي استمرّت أقل من ساعتين، حُكم على الزوجين بالإعدام وتلقى الجنود الأوامر للتنفيذ الفوري.. عندما وصل المحكومان إلى جدار الإعدام، بدأ الجنود وقبل أن يتلقوا أمر التنفيذ بإطلاق النار.. في وقت لاحق من ذلك اليوم، تم عرض مقتطفات من المحاكمة، وعملية الإعدام على التلفزيون الروماني.. بعد سنوات طويلة سيصف “إيون إليسكو” الرئيس المؤقت لرومانيا، المحاكمة بأنها “صورية ومخزية للغاية، لكنها كانت ضرورية” من أجل إنهاء حالة الفوضى التي سادت البلاد في الأيام الثلاثة التالية لفرار تشاوشيسكو من بوخارست، وكان بديل المحكمة المتسرّعة، أن يمزق المتظاهرون الغاضبون جسد الديكتاتور في شوارع بوخارست.. ستقول امرأة خمسينية وهي تشاهد النساء والرجال يحتفلون بإعدام الديكتاتور “بكيت اليوم من أجل شبابي الحزين والبائس، كانت لدينا حياة رهيبة بدون طعام وبدون حرية ولا ثقافة.. حسناً الآن ستعيش ابنتي بطريقة أفضل”.
ستقدّر تقارير المشافي في عموم رومانيا عدد ضحايا أسبوع الثورة بما لا يزيد عن ألف قتيل، رغم أن بعض التقارير الإخبارية كانت قد بالغت جداً بالأرقام.. من بين أولئك الألف، كان “تشاوشيسكو وزوجته القوية إيلينا”، غادرا هذا العالم بطريقة غير مألوفة في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية.. فلم يحدث في رومانيا الحديثة أن أعدمت أية امرأة قبل “إيلينا”، ولن يعدم بعدهما أي روماني لأن عقوبة الإعدام ستلغى.
عَودٌ على بدء… قبل أسبوع من موته، اعتقد تشاوشيسكو أنه يقبض على مقاليد السلطة، متجاهلاً كل الإشارات التي تقدّمها الحقائق على الأرض.. بل وفقد القدرة على قراءة حتى الرسائل المباشرة التي تأتي من الشارع، وأقواها رسالة الكمثرى.. صحيح أنه لم يصف معارضيه لا بالجراثيم ولا بالثيران، لكنه مثل أي ديكتاتور كان من الغفلة، بأنه تحدى وقائع الأرض بصلافة، ولم يفهم حتى بعد أن أينع الأجاص على شجر الحور.. خلال 24 عاماً أجبر تشاوشيسكو 22 مليون رومانياً أن تكون فاعليتهم السياسية الوحيدة هي التصفيق.. خلال ربع قرن، ستصل لتشاوشيسكو آلاف الرسائل المشفرة من أولئك المصفقين.. رسائل على هيئة “نكات”، لكنه لم يكن حصيفاً ليقوم بأية مراجعة لسياسات القمع والتجويع.. بعد موته ستنتشر في الصحف النكات التي كان يتم تداولها بين الرومانيين عنه.
أصدرت الحكومة طابعاً بريدياً عليه صورة “الرئيس المُلهَم”.. ذهب تشاوشيسكو متخفياً إلى مكتب البريد ليعاين بنفسه كيف يُباع طابعه.. سيخبره الموظف أن الطابع ليس للبيع بسبب أنّه لا يلتصق.. مستغرباً، يطلب تشاوشيسكو واحداً منها، ويبصق على جهة المادة اللاصقة، ويضعه على مظروف، ويتوجه للموظف قائلاً: “لماذا تقول إنه لا يلتصق؟ انظر، لقد التصق”.. سيجيبه الموظف: “نعم، لكن جميع الناس يبصقون على الجانب الآخـر”.
* كاتب وصحفي سوري
المصدر: تلفزيون سوريا
التعليقات مغلقة.