الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

ثالثاً- من الاستراتيجية العسكرية الى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي (1/2)


الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

ثالثاً- من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي (1/2)

ونعود لنقول إن الإيجابية الكبرى في تجربة عبدالناصر، هي أنها وضعت الثورة العربية في مسار تاريخي، وملكت حساً تاريخياً، وإن عبد الناصر صاغ فكره وممارسته في نهج استراتيجي، وهذا ما وضعه في تماس مباشر مع صراعات المجتمع ومع حركة التاريخ ومراحلها، ووصل به إلى الإمساك بمنهجية الفكر التاريخي، في تحديد ملامح الثورة وأهدافها .

ونترك الكلام هنا لعبدالناصر، في هذه الفقرات المتقطعة من كتاباته وأفكاره، والتي تقدم لنا عدداً من الانطباعات عن المنحى التاريخي لفكر عبدالناصر:

في ” فلسفة الثورة ” قال: “… ولقد قلت مرة إني لا أريد أن أدعى لنفسي مقعد أستاذ للتاريخ فذلك آخر ما يجري إليه خيالي، وقلت إني سأحاول محاولات تلميذ مبتدئ في التاريخ . فلقد شاء لنا القدر أن نكون على مفترق من الطرق من الدنيا، وكثيراً ما كنا معّبراً للغزاة، ومطمعاً للمغامرين. ومرت بنا ظروف كثيرة يستحيل علينا أن نعلل العوامل الكامنة في نفوس شعبنا إلا إذا وضعناها موضع الاعتبار. وفي رأيي أنه لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا، ثم غزو الرومان والفتح الإسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته. وفي رأيي أيضاً أنه يجب التوقف طويلاً عند الظروف التي مرت علينا في العصور الوسطى، فإن تلك الظروف هي التي وصلت بنا إلى ما نحن عليه الآن. وإذا كانت الحروب الصليبية بداية فجر النهضة في أوروبا، فقد كانت بداية عهود الظلام على وطننا… “. وبعد أن يتابع أطوار الغزو والقهر وهيمنة الإقطاع والغرباء وعهود التخلف والتبعية يقول: ” وبعد هذا الانقطاع التاريخي بدأ اتصالنا بأوروبا والعالم كله من جديد وبدأت اليقظة الجديدة، ولكنها بدأت بأزمة حادة… كنا قد انقطعنا عن العالم وانطلقت علينا تيارات من الأفكار والآراء لم تكن المرحلة التي وصلنا إليها في تطورنا تؤهلنا لقبولها، وكانت أرواحنا ما زالت تعيش في آثار القرن الثالث عشر، وإن سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين. وكانت عقولنا تحاول أن تلحق بقافلة البشرية المتقدمة التي تخلفنا عنها خمسة قرون أو يزيد، وكان الشوط ماضياً والسباق مروعاً مخيفاً …” .

وبعد هذه الفقرة التي يتحدث فيها عن وعى حالة تأخر الأمة في سياقها التاريخي ننتقل مع عبدالناصر إلى طريقة تدارك هذا التأخر حين يقول في ” الميثاق “: ” لقد أثبتت التجربة وهى ما زالت تؤكد كل يوم أن الثورة هي الطريق الوحيد الذي يستطيع النضال العربي أن يعبر عليه من الماضي إلى المستقبل… والثورة هي الوسيلة الوحيدة لمغالبة التخلف الذي أُرغِمت عليه الأمة العربية كنتيجة طبيعية للقهر والاستغلال… والثورة بعد ذلك هي الوسيلة الوحيدة لمقابلة التحدي الكبير الذي ينتظر الأمة العربية وغيرها من الأمم التي لم تستكمل نموها… ” .

وبعد هذا الإدراك وبعد الكلام عن الجذور التاريخية لنضال الأمة يضعنا عبدالناصر أمام عدد من الأفكار الأساسية للمفهوم التاريخي للاشتراكية العلمية التي أخذ بها فيقول: ” إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر وصولاً ثورياً إلى التقدم لم يكن افتراضاً قائماً على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير كما فرضتها الطبيعة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين… ” ويقول: ” إن من الحقائق البديهية التي لا تقبل الجدل أن النظام السياسي في بلد من البلدان ليس إلا انعكاساً مباشراً للأوضاع الاقتصادية السائدة فيه وتعبيراً دقيقاً للمصالح المتحكمة في هذه الأوضاع الاقتصادية… إن الاشتراكية العلمية هي الصيغة الملائمة لإيجاد المنهج الصحيح للتقدم… إن التسليم بوجود قوانين طبيعية للعمل الاجتماعي ليس معناه القبول بالنظريات الجاهزة والاستغناء بها عن التجربة الوطنية… إن الرجعية الحاكمة كان لا بد لها أن تطمئن إلى سيطرة المفاهيم المعبرة عن مصالحها، ومن ثم انعكست آثار ذلك على نظم التعليم ومناهجه وأصبحت لا تسمح إلا بشعار الاستسلام والخنوع … إن الشعب… كان مصراً على أن يستخلص للمجتمع الجديد الذي يتطلع إليه علاقات اجتماعية جديدة تقوم عليها قيم أخلاقية جديدة وتعبر عنها ثقافة وطنية جديدة ” .

هذه الكلمات أو هذه المبادئ والمقولات العامة التي وردت في ” الميثاق ” إلى جانب ما ذخرت به كلمات عبد الناصر وخطبه وتصريحاته من تأكيدات بهذا الشأن، وخاصة تلك التي جاءت منذ بداية عام 62، هي ذات دلالة ولا شك على أخذ عبد الناصر بالمنهج التاريخي للاشتراكية العلمية وتأثره به، مع ما أشرنا إليه من تمييز للخصوصية في الحذف منه والإضافات إليه. ولكن هذا الأخذ لم يأت عفواً، ولا استعارة لتغطية حاجة سياسية بل جاء وكأنه نتيجة طبيعية لمسار تجربة عبد الناصر ومسار ممارسته.

                    ***                  ***                       ***

قال العروي في هامش من هوامش كتابه ” العرب والفكر التاريخي “: ” من الملاحظ تاريخياً أن نقل التمييز بين التكتيك والاستراتيجية من ميدان القتال إلى ميدان السياسة لا يأتي إلا في إطار فكر تاريخاني. فالأحزاب- البورجوازية عموماً- تمتاز في التكتيك، بل يعود لديها التكتيك مرادفاً للسياسة. وإذا ظهر في أحضانها من يعتمد التمييز المذكور كتشرشل وديغول، فإن فكره يكون متأثراً بالفكر التاريخي. والملاحظة تصدق أيضاً على سياسة عبد الناصر ” .

ولن أخوض هنا تفصيلاً في مناقشة الأحكام التي أصدرها الأستاذ العروي في كتابه هذا على التجربة الناصرية من حيث منظوماتها الأيديولوجية، فتلك الأحكام جاءت بالانطلاق من موقف ثقافي وحضاري عام يواجه مسألة التأخر العربي، من غير أن يخوض في غمار تلك التجربة الناصرية وأن يعيش مسارها ومعاناتها، ولكن لنمضِ قليلاً مع تلك الأحكام لما لها من أهمية، ولو أن دور عبد الناصر يتجاوزها بمقدار لا بأس به ويشكل استثناءً عنها. فلقد نقل العروي صورة شكَلها من خلال معايشته لصديقه المناضل المغربي والقومي التقدمي الشهيد ” المهدي بن بركة “، وطريقة تكوين أيديولوجيته السياسية، ليُسقطها العروي على عبد الناصر. ولقد كان المهدي بن بركة صديقاً حميماً لعبد الناصر أيضاً ومنسجماً معه في جوانب كثيرة من فكره السياسي ومن نضاله، ولكن الفارق أن عبد الناصر استمر وأنجز مهمات للثورة العربية ودفع بمسارها نحو المستقبل، وحمل مسؤولية بناء نظام جديد ودولة….

يقول العروي بصدد البحث عن دور الوعي الثوري والتكوين الأيديولوجي في رفع مستوى القيادة الثورية، وما تعيشه القيادات السياسية العربية من قصورات من هذه الناحية: ” اتضح لدي شكل النقص الأيديولوجي بصفة أخرى عندما استخرجت العبرة من النظام الناصري وهو في آخر سنة من تجربة الوحدة. كانت ( أزمة المثقفين ) آنذاك على أشدها وكان الميدان الثقافي مرتعاً للسلفيين (القوميين) المجندين وكان زعماء اليسار يجهلون حتى الخطوط العريضة للفكر الماركسي بل حتى مقومات الفكر الغربي المعاصر، ويعتمدون في تشخيصهم لمشكلات مصر والعالم العربي على معلومات هزيلة جداً عن تاريخ الاقتصاد، عن نظريات الاجتماع، عن الحركات الاجتماعية، بل حتى عن الجوانب الأساسية من التاريخ الإسلامي ” .

وإلى هنا يظل التحليل واقعياً ولكن العروي يقفز من هذا إلى الحكم بقوله: ” ولا أدل على ذلك الضعف وضيق الأفق من ” الميثاق ” الذي كان زبدة تفكير النخبة المثقفة المتعاونة مع النظام الناصري … ” .

إن هذا الحكم يظل عند إدراك العروي لمأساة التأخر العربي في بعده الثقافي، ولكنه وبكل منهجية الفكر” التاريخاني ” الذي يمسك به العروي بقوة وجدارة، والذي نحذو حذوه فيه ونستلهم منه الكثير، فهو لا يخوض في ” تاريخانية ” تجربة عبد الناصر، ولا يضع الميثاق في مكانه كبرنامج عام لتحالف سياسي- اجتماعي لمرحلة من مراحل الانتقال التاريخية، ولا يضعه في سياقه من تقدم التجربة الناصرية التي كانت الممارسة عنوانها، والتخطيط الاستراتيجي مرتكزها، والإنضاج بالتجربة والمعاناة والاستيعاب التاريخي أيضأ طريقها، هذا فضلاً عن أن ذلك ” الميثاق ” الذي وضعه عبد الناصر كدليل للعمل في مرحلة، وكدليل سياسي، لم يأت إلى الآن مع الأسف من يتقدم عليه في مواثيق القوى والتحالفات السياسية التي تقول بالثورية والثورة في الوطن العربي .

فالنقص لم يكن عند قيادة عبد الناصر، من حيث أن الميثاق لم يعطِ تعبيراً عن الفكر التاريخي إلا في حدود العموميات، فكذلك تأتي ” المواثيق ” السياسية، ولكن الشيء الذي يضع العروي يده عليه حقاً هو فقدان ذلك التفتح الثقافي المستوعب والمجدد والإبداعي، في المناخ العربي العام. ويظل عبد الناصر مع ذلك، متقدماً على ” ميثاقه ” من حيث تطلعه للمستقبل، وليس وراءه. أما ” النخبة ” المحيطة بعبد الناصر فلقد كانت في غالبيتها اتباعية لا إبداعية وكانت تأخذ منه أكثر مما تعطيه، وتتكل عليه ولا تأخذ مبادرتها .

العروي يجيب على نفسه بعد ذلك فيقول: ” كانت الظاهرة الأساسية هي العجز الأيديولوجي، أو بكيفية أدق هي تخلف الذهنيات عن الأوضاع الاقتصادية الاجتماعية العامة، وهذا تخلف نسبي في إطار تخلف عام… وكل سياسة (علمية) لا تستقر في الأمد الطويل إلا على أساس التوضيح المتواصل، ثم يقول: ” لكن عدم التسلح بالأيديولوجية الملائمة كان أيضأ من الأسباب التي أضعفت التجربة من جذورها… ” .

ولكن من أين تأتي الأيديولوجية الملائمة…؟ إن العروي يرى أن الطريق إلى وعي التأخر بالنسبة لمثقفي الشعوب ” النامية ” ولتدارك هذا التأخر، هو الأخذ بالمنهج التاريخي، كما أخذت به الماركسية في مرحلتها الأولى، أي في مرحلة نقدها واستيعابها في آن واحد للمعطيات الحضارية للثورة الليبرالية الأوروبية… ثم تجاوزها من خلال هذا الاستيعاب والتقدم بها وعليها .

وعبد الناصر لم يبدأ من منطلق كهذا، وما كان من الممكن له في ظرفه الخاص والعام أن يبدأ. ولا نريد أن نعطي لعبدالناصر من تقديراتنا ما لم يعبر هو عنه، ونقول إنه انتهى إلى مثل ذلك المنهج أو قال بالأخذ به كاملاً، أمام ما كان متراكماً من سلبيات ” التأخر “، التي تعترض سبيل الأخذ بمنهج صحيح للتقدم .

إن عبد الناصر بدأ من القول كما جاء في ” الميثاق ” من أن الثورة أو ” إرادة التغيير الاجتماعي، في بداية ممارستها لمسؤولياتها، تجتاز فترة أشبه بالمراهقة الفكرية تحتاج خلالها إلى كل زاد فكري. ولكنها في حاجة إلى أن تهضم كل زاد تحصل عليه وتمزجه بالعصارات الناتجة من خلاياها الحية. إنها تحتاج إلى معرفة ما يجري حولها. ولكن حاجتها الكبرى هي إلى ممارسة الحياة على أرضها “. ولقد تقدم عبدالناصر بالممارسة السياسية وممارسة الحياة ليأخذ بنهج تاريخي على طريقته وحسب معطيات ظرفه وإمكاناته.

ولا نمسك بفكر عبد الناصر التاريخي- وفكره كان حركة تعلم وحركة نقد وتمثل ذاتي ونضج- إلا من خلال حركة سياسته ومعطياتها الاستراتيجية والتكتيكية .

ونعود إلى كلمات العروي عن ” نقل التمييز بين التكتيك والاستراتيجية من ميدان القتال إلى ميدان السياسة ” تأثراً بالفكر التاريخي… وهنا إذا لم يكن وجه المقارنة صحيحاً بين عبد الناصر من جهة وبين تشرشل وديغول من جهة ثانية، إلا من حيث الأخذ بنهج استراتيجي، فإن ملاحظة العروي العامة تبقى صحيحة. إن تشرشل وديغول كرجلين تاريخيين قاما بهذه النقلة الاستراتيجية، ولكن في مجتمع متقدم ومتبلور، وقاما بهما من خلال المواقع الأيديولوجية لطبقتهما ونظاميهما لا ضدها، أي أنهما لم يضعاها في خدمة التغيير الثوري بل في خدمة المحافظة، وعلى النقيض من ذلك جاء عبدالناصر: إنه جاء حركة تغيير بل وتدمير للمواقع الطبقية والأيديولوجية للنظام السياسي والاجتماعي والثقافي الذي كان سائداً حتى 23 تموز (يوليو) عام 1952. وإذا حصرنا تلك النقلة الاستراتيجية في إطار التخطيط الاقتصادي أولاً والسياسي بالتالي، مسلوخة عن لحمتها الطبقية والنضالية، فهي ولو أنها مستمدة من المكتسبات التي حملها التطبيق الماركسي في نهجه ” الاشتراكي العلمي ” وسياسة الخطة الاستراتيجية، نجد أن الغرب الرأسمالي، بما في ذلك الإمبريالي والأميركي، قد تمثل على طريقته تلك المكتسبات، هذا مع الاحتفاظ بالمواقع الأيديولوجية والنظام الطبقي المعادي للأيديولوجية الاشتراكية .

وإذا كان هناك من مجال للمقارنة بهذا الصدد، فالأجدر أن تجري بين عبدالناصر ولينين والنقلة التي انتقلها بنظامه الثوري بعد تصفية مواقع النظام القديم، ووضع خطته الاقتصادية الجديدة ” النيب ” NEP عام 1921 التي اعتبرت الممارسة العملية للبناء الثوري بحيث سميت مرحلة كاملة من الثورة الشيوعية باسمها. وسياسة ” الخطة ” الاستراتيجية كانت سياسة عبد الناصر منذ أن أمسك بقيادة نظام ثورة تموز ( يوليو) مع الفارق في أن لينين كانت لديه أيديولوجية جاهزة صاغها تقدم الغرب كله، وكان قد طورها لحاجات مجتمعه وطابق بينها وبين خصوصية ” المجتمع الروسي ” في مرحلة تمهيدية طويلة من النضال سبقت التغيير الثوري واستلام الحكم. أما عبدالناصر فلم تكن أمامه ” نظرية كاملة ” يبدأ منها، أو أيديولوجية جرت ملاءمتها ليأخذ بها، وكان عليه أن يبدأ من المعطيات الأولية البسيطة التي كانت بين يديه ومن حوله، وأن يشق طريقه بالتعلم من الممارسة ومن معطيات الواقع وهو يتحرك بالتغيير ومع الحرارة التي تدفقت بها حماسة الجماهير وهي تدفع به وتندفع معه على طريق التغيير والثورة. ولينتقل بالثورة مراحل وأطواراً، من خلال هذا التعامل التاريخي الجدلي مع حركه الواقع وهو يتغير وحركة العالم من حوله، وانفتاحه على الفكر التاريخي وتأثره به ولو أنه جاء بالانفتاح المتدرج، فلقد أخذ به في النهاية، على نحوٍ خاص، ليعطي لثورته الوطنية أبعادها القومية ومنحاها الاشتراكي، متطلعاً إلى ثورة ثقافية تعطي لهذه الثورة السياسية أبعادها الأيديولوجية فالحضارية، وليقول بعد ذلك ما جاء في الميثاق ” إن هذه التجربة أثبتت أن الشعوب المغلوبة على أمرها قادرة على الثورة، وأكثر من ذلك أنها قادرة على الثورة الشاملة ” .

___________

يتبع..

ثالثاً- من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي (2/2)

التعليقات مغلقة.