خالد البوّاب
هشام الهاشمي شهيداً. دفع ثمن ما كان يحذّر منه بعد اغتيال قائد فيلق القدس قاسم سليماني. كان متيقناً أن ردّ إيران وجماعاتها سيكون على أبناء العراق، وليس على أميركا وإسرائيل. علاقة الهاشمي برئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي القوية، والتي وصلت إلى حدّ تقديم الكاظمي له عرضاً بأن يتولى إدارة مكتبه للشؤون السياسية، لم تحمِه من الاغتيال. عندما تلقّى العرض أجاب بأن لا دولة ولا مؤسسات في العراق لإدارتها، ولا مجال للعمل السياسي في ظلّ الميليشيات وحروبها الطائفية والمذهبية.
ما قبل ثورة تشرين العراقية بأشهر، كان الهاشمي يتوقّع الوصول إلى صراع شيعي في العراق، هو الخبير بخلايا إيران وأعمالها، واعتبر أنّ أيّ مطلب بعدم الارتباط في إيران سيُردّ عليه بمسلسل من العنف، وهذا ما كان.
في آخر زيارة له إلى بيروت، وقبل ثورة 17 تشرين، حتّم حصول انفجار اجتماعي لبناني من ضمن قراءته لما سيجري في العراق ولبنان. خلاصة فكرته أنّ “الدولة المركزية” قد تحلّلت. تصدير الثورة الإيرانية هدم كلّ المؤسسات، لإحلال مؤسسات رديفة مكانها. تلك المؤسسات الرديفة هي التي اغتالته، فكانت القوّة العسكرية والأمنية بيدها تفوق قدرة أجهزة الدولة وجيشها. ما يسري في العراق ينطبق على لبنان. حزب الله العراقي هدّد الهاشمي ووردته رسائل مباشرة: “سنقتلك”. مما ذكْرنا بالتهديد المشابه الذي أطلقه الأمين العام لحزب الله في لبنان، بعنوان “سنقتلك”.
حكاية الهاشمي هي حكاية كلّ مواطن لبناني، لم يعد يجد دولة ولا مؤسسة تحميه أو تأويه. في الأمن والعسكر، هناك سلطة موازية تتمتع بأقصى ما لديها من مقدّرات. وتلك تنسحب على مؤسسات وقطاعات أخرى، ليس آخرها قطاع الكهرباء مثلاً المنقطع، والذي تحلّ مكان الدولة فيه ميليشيات الاشتراك، كما في لبنان كذلك في العراق، أحد أكبر الدول المنتجة للنفط، فيما لا يرى العراقيون نور الكهرباء أبداً. وهذا جزء من مشروع تصدير الثورة الإيرانية، الذي يتطلّب تفكيك الدولة ومؤسساتها، للحلول مكانها. وهو ما يظهر بوضوح أكثر فأكثر من العراق إلى لبنان وسوريا.
في لبنان يستمرّ التدمير الممنهج للمؤسسات. ليس فقط بإحلال مؤسسات خاصة أو ميليشيات رديفة مكانها، ولا بإرساء “نظام التفاهة” السياسي الذي يبقي طرفاً متفوّقاً على الآخر، ويجرف الرأي العام بدعائيات إما كاذبة وإما خبيثة هدفها إضاعة البوصلة، إنّما باعتماد منهج تتفيه كلّ ما تبقى، وتجويف أيّ مؤسسة حيوية تحتاج الناس إليها. الكهرباء إحدى أبسط الأمثلة، وربما هو محقّ التيار الوطني الحرّ عندما يدّعي تحقيق الإنجازات في القطاع. وفي خلفية فكره أنّ هذا القطاع يجب تدميره، وبما أنّ ذلك تحقّق، فهذا جزء من الإنجاز. ولا بدّ من الإجهاز على قطاعات أخرى، من النفط، إلى التعليم، إلى المصارف والقطاعات الاقتصادية المنتجة. الهدف هو تدميرها وتصفيرها لإعادة إنتاج تركيبة جديدة تتلاءم مع ما جرى في العراق وسوريا.
حتّى حزب الله عندما يعلن الانتصار، ولو من فوق الجوع والدمار، فهو ليس كاذباً. وعلى الرغم من أنّ الانتصار هو جزء من حاجة دعائية لاستنهاض الجمهور وإسكاره، إلا أنّه انتصار حقيقي لهذا المشروع، الذي يريد القطع مع أيّ مرحلة لبنانية سابقة، سواء كان فيها سلبيات أم إيجابيات. الحرب والمقاومة ابتدأتا معه وتنتهيان معه. الازدهار الاقتصادي هو جزء من مرحلة قاتمة بالنسبة إليه، لا بدّ من الإجهاز عليها وتحميلها مسؤولية انهيار اليوم، ليرسي ما يريد مجدّداً. على هذه الفكرة الأساسية بني التحالف الاستراتيجي بين حزب الله والتيار الوطني الحرّ، الذي يقطف اللبنانيون ثماره اليوم. هو ليس تحالفاً مصلحياً فقط. حزب الله لديه مشكلة حقيقية مع السنيّة السياسية التي أنتجت وأزهرت وعمّرت ونمّت. والتيار الوطني الحرّ لديه المشكلة ذاتها، فإما أن يعيد ذلك إلى نتاجاته أو لن يتأخر في تدميرها.
لهذا المشروع هدف استراتيجي، لا بدّ من الوقوف على مرماه، ولو كان المرمى على جبل من ركام ودمار، ولو كان يقود إلى انهيار سحيق. طريقة التعاطي مع المصارف، ومع القوى السياسية الأخرى ومع مؤسسات الدولة، أبرز التعابير عن مشروع التدمير والزبائنية الذي ينتج مؤسسات رديفة تطغى على مؤسسات الدولة. ولنا في تعيينات مجلس إدارة الكهرباء خير الدلائل، أو في مشروع “طوائفيات شركات الكهرباء”، كنقاش محطة للمسيحيين وأخرى للسنة وثالثة للشيعة. أو إحلال ميليشيا الاشتراك مكان الدولة. كذلك في القطاع المصرفي الذي لا بدّ من تدميره وإحلال الصرّافين مكانه، للوصول إلى تشكيل قطاع موازٍ على ركام القطاع الأنجح في تاريخ لبنان.
يواجه لبنان إحدى أعمق وأعقد أزماته السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمالية في التاريخ. وهي نتاج لتصدير الثورة التي بدأت في إيران بتكريس الاقتصاد الموازي الذي يسيطر على جزء كبير منه الحرس الثوري، الذي نفسه يتولّى مهمة الجيش والأمن والسياسة الخارجية. هذا النموذج هو الذي يعيشه لبنان والعراق وسوريا اليوم. الصراع طويل ومفتوح، وقد نجح الكيان الموازي في توفير مقوّمات عيشه وصموده. ولو تحلّلت الدولة والمجتمع، فسيبقى محافظاً على كتلة بشرية خلفه قوامها 600 ألف نسمة من الطائفة الشيعية. يدفع لبنان واللبنانيون ثمن الصراع الإيراني الأميركي، ومن يعتبرون حلفاء أميركا ودول الخليج وخصوم إيران يعيشون أسوأ أيامهم بفعل الضغط والعقوبات، محرومين من سند أو مساعد. حزب الله لديه حدود وخطوطه المفتوحة. لديه سوريا وإيران خلفه، ونافذة على العراق. لديه الحدود الجنوبية البرية والبحرية، ولديه مرفأ الأوزاعي. لكن ليس لدى الآخرين أيّ شيء.
يتغيّر وجه لبنان الغربي، التوصيف “الشرقي” للاتجاه الجديد مجافٍ للحقيقة. إنّه الاتجاه نحو إيران، التي ستغزو بضاعتها الأسواق اللبنانية لسدّ فراغ السلع الأجنبية، بضاعة مجرّدة من الضرائب الجمركية سيبتاعها اللبنانيون من كلّ الطوائف بأسعار بخسة وزهيدة. يستعدّ حزب الله لافتتاح تعاونيات ومتاجر لبيع هذه السلع ليس في المناطق الشيعية فقط، بل في مختلف المناطق. سيدّعي إطعام اللبنانيين وتأمين احتياجاتهم، وسيعمل على تحصيل الفيول بأيّ طريقة، فيما الآخرون يتلهّون بنداءات للنأي بالنفس أو تحييد لبنان الذي أصبح في “العبّ” الإيراني. يعقدون اجتماعات ولقاءات، يلتقطون الصور، بلا أيّ فعالية وبافتقاد كلّ مقوّمات الصمود. وأكثر من ذلك، يشمتون بإذلال اللبنانيين، وأكثريتهم من حلفائهم، على مساعدات قدّمت لهم، لكنّهم لم يستثمروها وفق ما تتطلّب مصلحة هؤلاء الحلفاء. علماً أنّ مليارات المليارات لا تساوي دم رجل واحد زهقت روحه على جنبات الطرقات.
استفاقت بكركي على هول الأزمة. رفع البطريرك بشارة الراعي نداءه. لاقاه المطران الياس عودة، بدعوة صريحة ولها أبعادها في إعلان حياد لبنان. تبقى النداءات نداءات، وهي على سرديتها وبساطتها توازي من خرج مستنكراً اغتيال الهاشمي لأنّه تكميم للأفواه وحجب للرأي الآخر.
اغتيال الهاشمي اغتيال للجميع، وليس اغتيال للكلمة أو لحرية التعبير.
آن للمراهقين أن ينصرفوا. وآن لنا أن نقف وأن نقاوم.
المصدر: أساس ميديا
التعليقات مغلقة.