الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

قبل عدوان 1967 بشهر.. قراءة في خطاب كاشف لـ«ناصر»

ماهر الشيال *

في الأول من أيار/ مايو عام1967، ألقى الرئيس جمال عبد الناصر خطاباً مطولاً في منطقة “شبرا الخيمة” بمناسبة عيد العمال.. تناول الرئيس في هذا الخطاب العديد من القضايا الهامة بمنتهى الصراحة والوضوح كاشفاً عن حجم التآمر الدولي والإقليمي ضد مصر بسبب مواقفها الداعمة لحركات التحرر في العالم ورغبتها في إنتاج واقع جديد تستقل فيه بقرارها بعيداً عن دوائر التبعية والأحلاف.

بدأ الرئيس حديثه عن منطقة “شبرا الخيمة” وكيف نشأت وكيف عاش العمال فيها ظروفاً بالغة الصعوبة تحت نير الاستغلال وسطوته.. فبينما كان المستغلون من الأجانب والمُتمصّرين وبعض المصريين يجنون أرباحاً بالملايين؛ كان المئات من العمال يسقطون صرعى الأمراض والتكدس في الغرف الرطبة والعمل لساعات طويلة يومياً نظير قروش زهيدة يدفعها لهم كبار المستغلين الذين وصلت أرباح أحدهم لمبلغ ستة ملايين جنيه في عدة سنوات برغم أنه كان قد بدأ مشروعه بقرض بنكي قدره 10 آلاف جنيه.. وفق ما جاء في أوراق لجنة التأميم.

الجزء الأول من الخطاب الكاشف:

https://www.youtube.com/watch?v=3d-WZ1RvgRc

تناول الرئيس بعد ذلك خطة التطوير التي اعتمدتها الدولة للمنطقة لتصبح من أكبر المناطق الصناعية بقوة 140ألف عامل و120 ألف منهم تحت مظلة التأمينات؛ كما زادت أجور العمال بالمنطقة من مليون جنيه عام 52 إلى 23 مليون جنيه عام 1966.. موضحاً أن التطوير بدأ بعد معركة 1956 التي بلورت الأهداف العظيمة للنضال السياسي وربطت بينه وبين النضال الاجتماعي.

وبالنظر إلى حجم الإنجاز الذي تم في هذه المنطقة على مدى عقد ونصف يمكن لنا أن نتبين حجم المعوقات التي تم التغلب عليها في ظل تربص قوى الرجعية في الداخل (جماعة الإخوان المسلمين) والنظم الرجعية في المنطقة التي ارتضى حكامها لعب أدوار العملاء في محاولات دؤوبة لكسر الثورة المصرية بطرق شتى وبإنفاق باذخ للدرجة التي وصلت بهم لتوزيع كتيبات على الحجيج تصم النظام المصري ورئيسه بأبشع التهم.. وليس هذا فحسب بل كان الهجوم يحدث من فوق المنابـر.. ما جعل الكثيرين من الحجاج المصريين يدخلون في مشادات مع هؤلاء الخطباء؛ وقد تطور الأمر أكثر من مرة وتم القبض على بعض الحجاج المصريين.

كان هؤلاء العملاء كما بيَّن عبد الناصر يتحركون كأدوات في أيدي قوى الطغيان الدولية التي حاولت على مدى عقد ونصف إثناء مصر عن المضي في طريق الاستقلال الحقيقي بشتى الطرق حتى تقبل بوضع يسمح بوجود النفوذ الاجنبي ويرتضي قيود الخارج والسيطرة الاقتصادية الخارجية أو الانضواء تحت راية أحلاف استعمارية كحلف بغداد.. أو أن تقبل بوجود قواعد عسكرية على أراضيها.. لكن ما حدث كان خلاف ذلك تماماً لدرجة أن وزير الخارجية الأمريكي اشتكى من الدور الذي تلعبه مصر في مناصرة حركات التحرر في أمريكا اللاتينية التي تعتبرها الولايات المتحدة الحديقة الخلفية لها.. ولم ينفِ عبد الناصر هذا الدور صراحة لكنه صرّح رداً على ذلك بأن أمريكا ترغب في أن يعمل عملاؤها على تنفيذ مخططاتها دون إزعاج.. ونحن نمثل مصدر هذا الإزعاج.. والمطلوب منا أن نتوقف، فهل نستجيب؟!.

كان هذ الدور الرخيص الذي أريد لمصر أن تلعبه بعد ثورتها المجيدة أحط بكثير من بقائها تحت الاستعمار المباشر كما أوضح الرئيس في خطابه. فكان العبث في الداخل من خلال العملاء الذي سعوا لعودة الإقطاع- هنا يشير الرئيس إلى استشهاد “صلاح حسين” في كمشيش على يد قوى الإقطاع- بالإضافة إلى المحاولات المستمرة لإجهاض التجربة الاقتصادية التي أيقن عبد الناصر مبكراً أنها القوة الحقيقية التي ستدعم الدور الطليعي للثورة المصرية وستسهم في تطور الأمة العربية كلها.. وقد مارست أمريكا ضغوطاً اقتصادية عديدة ولوحت بقطع المعونة التي أوضح الرئيس أنها تنفق بطريقة لا تعود على مصر بأي نفع بل إن أمريكا هي المستفيد من المعونة التي تتضمن ثمن ما تحصل عليه مصر من قمح أمريكي.. وأضاف أن مصر على استعداد تام للتخلي عن هذه المعونة أو الامتناع عن سداد أقساط القروض إذا لزم الامر.

حول المعونة الأمريكية:

https://www.youtube.com/watch?v=GhK5cEyzPj8

استفاض الرئيس عبد الناصر بعد ذلك في شرح ما تقوم به الثورة المضادة في الداخل والخارج.. للدرجة التي وصلت حد التبجح وجعلت بعض الأنظمة الرجعية تعلن صراحة عن عدم رغبتها في رحيل الاحتلال البريطاني عن الجنوب العربي في تطابق واضح للمواقف بين الملك “فيصل” والملك “حسين” و”أشكول” رئيس الوزراء الصهيوني دون مواربة حسب تعبير الرئيس.. في حال أنهم كانوا يطلبون من مصر التوقف عن دعم النظام الجمهوري في شمال اليمن.. ويتساءل عبد الناصر كيف لهؤلاء أن يطالبونا بالتوقف عن دعم الثورة اليمنية في حال أنهم لا يتوقفون عن دعم الثورة المضادة في مصر متمثلة في أكبر حزب رجعي في مصر وهو جماعة الإخوان المسلمين.. ويضيف أن الثورة لم تتهاون في التصدي لتلك المحاولات المستميتة للثورة المضادة منذ أعلن بعض السياسيين أثناء العدوان الثلاثي عن رغبتهم في عودة الاحتلال الإنجليزي من خلال بيان يدعو للاستسلام أرادوا تسليمه لمجلس رئاسة الوزراء وكانت أوامر عبد الناصر المباشرة إطلاق الرصاص عليهم فور ظهورهم في مجلس الوزراء.. لكن أحداً منهم لم يجرؤ على المجيء.. ثم عادوا للظهور مجدداً بعد الانفصال عن سورية محاولين استثمار حالة الإحباط التي صاحبت الانفصال لكن أوهامهم ذهبت أدراج الرياح.. وبقيت عناصرهم كامنة في العديد من القطاعات تطل برؤوسها كلما سنحت الفرصة.

يفّضحُ عبد الناصر بعد ذلك الاستعمار وعملاءه في المنطقة عندما أرادوا استخدام الدين كوسيلة لإسقاط الثورة المصرية مروجين لفكرة الحلف الإسلامي مع إنفاق هائل من خزينة المملكة العربية.. واستخدام الفكرة كغطاء جيد للرجعيين في الداخل لتسهيل وصول الدعم المادي.. وهنا يتساءل الرئيس عن مدى إمكانية نجاح المدفوعين خارجيا بالمال النفطي في الترويج للأفكار المشبوهة؟.

وقد تزامن هذا الإنفاق السعودي مع دعاية سوداء لتشويه الدور المصري في دعم القضية الفلسطينية والانتقاص من هذا الدور في حين أن عداءهم للكيان الصهيوني هو عداء مجاني وشعاراتي دون إنفاق ريال واحد. نفس الخط كان الملك “حسين” يعتمده في الأردن.. مزايدة على الدور المصري في دعم سورية في مواجهاتها المباشرة مع الكيان الصهيوني بينما الأردن لم تفعل شيئاً دعماً لسورية وبينهما حدود مشتركة. وعندما أسقط الصهاينة ثلاث طائرات سورية على الأراضي الأردنية بادرت إذاعاتهم بإعلان الخبر قبل الإذاعة السورية؛ متسائلة في خبث عن أسباب عدم تفعيل اتفاقية الدفاع المشترك بين مصر وسوريا مع كثير من الغمز واللمز عن عدم تدخل الطائرات المصرية في المعركة الجوية التي حدثت برغم علمهم أن الطائرات المصرية لا تستطيع الطيران هذه المسافة.. والحقيقة أن الجانب المصري قدم كل الدعم وفقاً للإمكانات المتاحة.. استثمار هذه المعركة من جانب الملك “حسين” كان صورة من أبشع صور العمالة حسب رؤية الرئيس عبد الناصر.

يضع الرئيس جمال عبد الناصر حداً فاصلاً بين ما يجب أن تتخذه مصر من مواقف داعمة للقوى الثورية في العالم العربي، مع ضرورة التصدي لعملاء الاستعمار من حكام الممالك الرجعية.. موضحاً أن من يطالبون بالتهدئة مع عملاء الاستعمار لا يدركون أن الجمع بين كلا الموقفين مستحيل عملياً؛ لأن التهدئة مع العملاء تضرب التضامن العربي في الصميم.. هذا الرفض للمواقف المتميعة يرتكز على عدة مفاهيم تأسيسية تؤكد أن السياسة التي تمارس بمعزل عن الأخلاق هي شكل من أشكال الانحطاط؛ لأن الجماهير من حقها أن تعي وتعرف من هم أعداؤها الحقيقيون.. أما السياسة التي تعتمد محاباة العملاء والانكفاء أمام الأعداء فهي سياسة معادية لمصالح الأمة مهما كانت المبررات.

ويؤكد عبد الناصر على الدور التخريبي لقوى الرجعية حتى فيما يصدر عن الجامعة العربية من قرارات ضارباً المثل بما حدث قبل عامين عام 1965 عندما اعترفت ألمانيا الغربية بالدولة اللقيطة، وكان الرد المناسب على هذا الأمر هو اعتراف الدول العربية بألمانيا الشرقية.. وعند عرض الأمر على الجامعة العربية تعذرت السعودية بأنها لا تقيم علاقات دبلوماسية مع دول شيوعية، لتُجهض هذا التوجه ويكون القرار قطع العلاقات مع ألمانيا الغربية مع الترويج لدعاية سوداء تستهدف النَيّل من مصر بالزعم أن الضغط المصري على ألمانيا كان بهدف الحصول على قروض.

الجزء الثاني من الخطاب الكاشف:

https://www.youtube.com/watch?v=pL1M9DvV7Qs

كل هذه الحقائق التي كشف عنها الرئيس عبد الناصر في هذا الخطاب لم تَحُل دون وقوع الهزيمة بعد نحو شهر برغم أن الرئيس كان قد التقى بالمشير “عامر” وكبار القادة وأبلغهم تفصيلياً بما ينوي الصهاينة القيام به في اجتماع مسجل يوم 2 حزيران/ يونيو، لكن القيادة العسكرية لم تأخذ الأمر مأخذ الجد.

وتبقى النقاط الأساسية التي أثارها الرئيس عبد الناصر في هذا الخطاب صالحة لأن تكون بمثابة استراتيجية ثابتة لا نجاة لمصر دونها.. فلا بديل عن النهضة الاقتصادية القائمة على التصنيع والزراعة، ولا بديل عن استقلال القرار الوطني، ولا بديل عن قيام مصر بدورها الداعم للقضايا العادلة إقليمياً ودولياً وعلى رأسها القضية الفلسطينية، ولا بديل عن الحذر في التعامل مع الرجعية العربية التي كانت ومازالت أداة طيعة في يد أعداء الأمة، ولا بديل عن توعية الجماهير بكل ما يحدث داخلياً وخارجياً لأن المواجهة مع قوى البغي تعتمد على قوة وعي الجماهير في المقام الأول.. ذلك الوعي الذي تنكسر على صخرته كل دعاوى التخاذل والانهزامية.

ولعلنا بهذه القراءة نحيي الدعوة إلى التناول الموضوعي للتجربة الناصرية في الثورة والحكم بعيدا عن السُباب والترويج للأكاذيب التي تطفح بها صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في هذه المناسبة ومناسبات أخرى. فلسنا ضد النقد البنّاء الذي يقيّم التجارب الكبيرة على أسس علمية وموضوعية ارتكازاً إلى حقائق التاريخ  من أجل الاستفادة منها بعيداً عن تلك الحملات الموتورة التي تحركها الكراهية العمياء والحقد الأسود والرغبة في التشويه ولو بتزييف الحقائق؛ انتصاراً لأوهام ما زالت تُسّكر رؤوس البعض رغم مرور نصف قرن ويزيد على انقضاء التجربة.

* كاتب مصري

المصدر: أصوات أونلاين

التعليقات مغلقة.