إيمان بلعسري *
دأب على نشر المقالات النقدية ومراجعات الكتب في الصحف والمنابر العربية، وتتصدّر الروايةُ جدول اشتغاله الكتابي. وذلك لا يعني انصرافه عن الاهتمام بالمجالات والحقول الأدبية الأخرى.
كان لنا حوار مع الكاتب والناقد العراقي كه يلان محمد، المتخرّج من كلية اللغات قسم اللغة العربية بجامعة السليماني، وذلك عن تجربته في القراءات النقدية.
– منذ قرابة الخمس سنوات وأنت تنشر مقالاتك النقدية عن الرواية في شقّيها العربي والمترجم، هل يمكن الكاتب أن يستمرَ بنفس البدايات؟
= القراءةُ هي الرحلة في عوالم مختلفة، وارتيادُ فضاءات جديدة، والبحث عن شكل مختلف من التفكير ومساءلة الرؤية. طبعاً ما يمدُّك بالزخمِ للاستمرار، هو أنّ السؤال عن النهايات والمآلات ليس جزءاً من برنامج الرحلة. لكن من الضروري أن تعيدَ النظر في لائحة اختياراتك، وتضيف مزيداً من الأدوات إلى علبتك المعرفية، تفادياً للانسياق وراء التكرار والركون إلى المُستهلَك من المفاهيم والآليات السائدة في مقاربة النصّ الروائي. فالرواية هي “الاحتشاد الثقافي” بحسب صياغة رضوى عاشور. بمعنى أنَّ تواصلك مع عالم الرواية بوصفك قارئاً أو ناقداً، يتطلبُ منك الانفتاح على الروافد المعرفية والفنية للتوغّل إلى ما يتعذر إدراكه وتذوّقه. إذا اكتفيت بالنظر إلى قشرة النص وتناولت الرواية دون فهم مرونتها وتعارضها مع مفهوم اليقين والاكتمال، إذاً فإنَّ العمل في هذا المضمار يكونُ منيعاً لداء الملل والفتور. ذلك أنّ التجديد المُصاحَب بالاكتشاف من العناصر الأساسية لمناخ مجاهل الرواية، ودروبها المتشابكة مع العلم والفن والتاريخ والفلسفة واللعبة. وهذه العملية لا تخلو من المتعة، لأنَّ في فكّ شيفرة الكتابة وتأويلها تحدث المعجزةُ على حدّ قول الباحثة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني، إذ يتمُ تحويل شيء غريب وميت إلى شيء معاصر ومألوف كلياً. وما يمكنُ قوله في الأخير بأنَّ الشغف بالمعرفة هو تماماً مثل الحب، لن يكونَ إلّا في البدايات. فالحديث عن النتيجة أو السيناريو الأخير مقتل للحب والمعرفة.
– يبدو من خلال مقالاتك النقدية أنك انتقلت من التعامل مع الرواية العربية إلى صديقتها الغربية لكن دون انقطاع عن المرويّات العربية. في نظرك ما الذي يجعل القارئ العربي يهتمّ بالتجربة الغربية؟ وما هي سمة الشخوص التي تقدمها؟ هل السبب الوحيد وراء ذلك الركض هو فقط التوق للحرية؟
= الرواية فنّ نشأ في الغرب، وواكب التطور الحضاري والتحولات الكبيرة على الصعد السياسية والاجتماعية والعلمية. فبرأي كولن ولسون أنَّ الرواية هي أعظم ما قدّمه الغرب، وأنَّ ظهورها كان إرهاصاً بالانطلاقة الحضارية والانعتاق من الانسدادات المتراكمة. فبنظر كولن ولسون، سبقت ثورة الخيال المتمثلة في فن الرواية قيام الثورات على أرض الواقع. عندما نتحدث عن الرواية الغربية لا بدَّ أن نأخذ هذه الحقيقة بالاعتبار، لأنَّ هذا الجنس الأدبي لم يعد أحادي المدخل عندهم، بل يشتغلُ المبدع الغربي على مداخل متعددة، وبذلك يؤسس لما يمكن تسميته ديموقراطية المعرفة. فحتى لو استعاد حدثاً تاريخياً لا يغيبُ في مسعاه الإبداعي الاهتمام بالبعد المعرفي، والتفاعل مع المعطيات الفنية والعلمية، ومناقشة الأسئلة الوجودية المضمرة في الصياغة الروائية. إضافة إلى أنَّ تحرر الكاتب الغربي من الرقابة الذاتية يطلقُ يده أكثر للتصرّف مع الظواهر المجتمعية، وإثارة الأسئلة بشأن المسلّمات والرموز، والاستبطان في اللاوعي الجمعي. والهدف من كل ذلك هو الانفكاك من الوعي الضيّق ونقض اليقين، كأنَّ الكتابة تبدأ بإيحاء مغزى العبارة التراثية (أعظم الناس يقيناً أكثرهم جهلاً). أكثر مما سبق، فإنَّ الرواية الغربية لا تستمدُ عناصر تشويقها من القصّة أو الصياغة فحسب، بل بما تتيحه من مجال للمناورة مع المتلقّي الذي سيصبح شريكاً في ردم الثغرات وإنتاج المعنى. لا يعني ذلك أنَّ كلّ ما يكتبه الغرب يستحقُ المتابعة والقراءة، كما أنَّ الرواية العربية حققت تقدماً ملحوظاً وما عادت مقيدة بأشكال نمطية. صحيح أنَّ التفاعل مع الفنون الأخرى لا يزال شحيحاً وغير ناضج، كما أنَّ صوت المؤلف بخلفيته الأيديولوجية وآرائه المسبقة أكثر علوّاً في الرواية العربية، بيد أنَّ هذا الخلل لا يحجب قيمة المنجز الروائي العربي. فالقارئ ازداد وعياً بعاهات واقعه بفضل متابعة الأعمال الروائية.
– تعاطيت مع الأدب الروسي بشكل خاصّ، ولا سيما الكلاسيكي الذي بدوت فيه مألوفاً، وهو ما نلمسه عند أكثر من كاتب. فهل الانفتاح على الكلاسيكيات الغربية والروسية ضرورة أدبية؟ أم أنّ المواطن العربي يجد إجابات يحتاج إليها بين صفحات الروس؟
= قد يكون التأرجح بين الحداثة الغربية والأصالة هو المشترك بين الثقافتين العربية والروسية، وهذا الأمر له تمظهرات في النصوص الروائية. ولعلّ رواية “قنديل أم هاشم” للأديب المصري يحيى حقي تقدمُ صورة واضحة عن التنازع بين الحضارة الحديثة والثقافة التراثية لدى الإنسان العربي. كذلك توجد في أعطاف رواية “بطل من هذا الزمان” للكاتب الروسي ميخائيل ليرمنتوف، تلميحات إلى ما مرّت به روسيا من الصراع بين التقاليد الأوروبية الوافدة والقيم المحلّية. وبدوره تناولَ تورغينف الموضوع نفسه في روايته “الآباء والبنون“. فبازاروف يمثلُ التيار العلمي الجارف، وهو مؤمن بالمادّية ورافض الانجرار وراء العاطفة، ما يعني إعلان الثورة على المسلّمات. تعرّفت إلى صاحب “الحب الأول” من خلال إدوارد سعيد، فهو يفردُ صفحات من كتابه “المثقف والسلطة” للحديث عن رواية تورغينف. أكثر من ذلك، فإنّ الروائيين الروس يهمّهم الاشتغال على إبراز الحسّ الشعبي في مؤلفاتهم. وربما ابنة الضابط لـ بوشكين خير مثال على هذا الملمح في الأدب الروسي. يشار إلى أنَّ ترجمات حياة شرارة ومحمد يونس وسامي الدروبي، كان لها دور كبير في معرفة القرّاء العرب بالأدب الروسي.
– قراءاتك الأخيرة أبدت اهتماماً خاصّاً بمفكرين عرب في الخارج أبرزهم هاشم صالح، ما يجعلنا نطرح السؤال: هل التفكير الأزماتي نفسه يسيطر على كاهل المثقف العربي داخل وطنه وخارجه؟ هل تحتم الضرورة على مفكّري المهجر التنظير لحلول علمانية؟ أم أنّ الأمر يتم دون النجاة من الحنين الثيولوجي التقليدي؟
= ثمة أسماء فكرية أواظب على متابعة اجتهاداتها المعرفية. طبعاً الباحث السوري هاشم صالح من بين هؤلاء، فهو صاحب مشروع يواظبُ على إنجازه من خلال ترجماته ومؤلفاته الشخصية. ومع أنه مقيم في باريس، لكنه يراقبُ ما يمور به العالم العربي من أحداث. في آخر ما قرأت له “لماذا يشتعل العالم العربي؟”، لاحظت من خلال ما يقدمه انكبابه على المشهد العربي. ما يعني أنَّ المثقف لا ينقطعُ عن جذوره ويحملُ همومه أينما حلَّ. أما خيار تنظير العلمانية أو غير العلمانية بوصفها حلاً، فأعتقد أنّ التفكير على هذا المنوال لا يغيرُ من الواقع شيئاً. فكلّ ما مرَّ به العالم من الانهيارات وتراكم الكوارث ليس إلّا نتيجة الانقياد إلى وهم الحلول الأخيرة. فالحياة بيتٌ يتسعّ لكل شيء؛ الفوضى والأمل، الانهيار والنهوض، الحب والكراهية. أما الموت فلا يتسع إلّا للموت كما يقول أدونيس.
– يقول عابد الجابري: “الإبداع تجاوز للقلق”. كيف تتجاوز الرواية العربية قلق مجتمعات ما بعد الربيع العربي؟ وما هي الطفرة التي سيطرت على الشخوص بعد أزمات النزوح واللجوء؟
= الإبداع محاولة لاستعادة التوازن وإضفاء المعنى لما تراه عبثاً. أكيداً شهدت كتابة الرواية طفرة كبيرة في السنوات الأخيرة. فمعظم ما صدر يدورُ حول وقائع ما بعد الربيع العربي؛ النزوح والاقتتال الطائفي والتطهير المذهبي، والإشكاليات الهوياتية. وكان الغرض من العودة إلى التاريخ في سياق روائي هو الإسقاط على الحاضر. كذلك معاناة الاغتراب المركّب والبحث عن الاستعاضة للهوية المفقودة، سمتان أساسيتان في الروايات المستمدّة موادّها من التطورات ما بعد الربيع العربي.
– إضافة إلى كتابة المقالات والمراجعات النقدية، تنجز حوارات متنوّعة مع الروائيين والشعراء والباحثين. ماذا يضيف لك الاشتغال في هذا المجال؟
= إجراء الحوار مع الآخر يكشفُ لك جانباً جديداً من اهتماماته المعرفية، وهو اندساس إلى هواجسه. كما أنَّ بعض الكتب التي تثير أفكاراً إشكالية تشدّك إلى مغامرة استجواب مؤلّفيها. وغالباً ما يكونُ الكتابُ الذي يفتحُ لك باب الافتراضات هو ما يجعلك تفكر في محاورة صاحبه في محتوى مؤلفه. كما أنَّ الحوار يعطي الفرصة للإنصات إلى ما يضمّهُ الأثر الأدبي بصوت المبدع. أهمّ ما يشغلني في الحوارات هو الافتراضات وصياغة الأسئلة، بناءً على الأفكار المعارضة. أذكر أنَّ ما قرأته للباحثة السورية ميادة كيالي بعنوان “هندسة الهيمنة على النساء“، يفتحُ أفقاً آخر بشأن حيثيات تطور الحضارة البشرية ومفهوم المقدس، وافتراض ما إذا كان شكل الحياة سيسلك منحىً مختلفاً لو ظل المجتمع أمومياً؟ وهل سيكون العنفُ أقل حدة؟
* كاتبة من المغرب
المصدر: النهار
التعليقات مغلقة.