الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«نظام التفاهة» للكندي آلان دونو: كلمات ملونة كالسكاكر

فدوى العبود *

لم يكن «نظام التفاهة» للكاتب الكندي آلان دونو، مجرد كتاب فكري. لقد وضع الكتاب- الذي بذل فيه الكاتب جهداً تحليلياً ذكياً- البديهيات في سياقها الصحيح، وكان أشبَه بلافتة تحذيرية، تكشف أساليب عمل النظام العالمي؛ بتحديد سمات التافهين وأنصاف الموهوبين (المديوكر) وطرق عملهم، في شل كل موهبة وتسميم كل قيمة؛ وتمييع الحدود الفاصلة بين الحقيقي والزائف لصالح الأخير.

يتسللون إلى مفاصل الحياة، فيصيبونها بالعطب والهشاشة والابتذال والتهريج، هم أشبَه بالضباع يشمون رائحة بعضهم ويدعمون بعضهم بعضاً. إضافة لكونه صاغ أفكار قرائه بأفضل طريقة، فقد منحهم القدرة على فهم الفوضى الدائرة من حولهم، والمشاركة في النص بكتابة جديدة، تتمثل في التأويل والاقتطاع. (اقتطاع العبارة التي نُحب من هذه الكعكة الفلسفية) (إنه أمر رائع، فهذا ما يجدر بالكتب الجيدة أن تفعله. أليس كذلك؟).

بدا الأمر، وكأن الجميع عانى تجربة مريرة مع التفاهة والتافهين- الجميع دون استثناء- حتى أصبح هؤلاء كقوة سحرية، يرتدون طاقية الإخفاء ويسيرون بيننا؛ إلى أن أتى الكتاب في وقته المناسب. فقد تفاقمت المرارة، واستشرت فنون الكيتش (ونُسخُ النُسخِ من الكيتش) التي غزت وسائل الإعلام العربية، وساد الابتذال في الفن. حتى الأدب لم ينجُ من مجزرة التفاهة. راحت البلاهة تنحي الجمال وتفسد الذوق، وتبلبل الفهم وتعمي عين الحدس.

هؤلاء هم إذن. (البلهاء) فالتفاهة منظمة، والتافهون الذين يتحدث عنهم آلان دونو، مُحدداً خِصالَهم كما يسمي أحدنا خصال القرود (لهم أجساد مُشعرة، وأنوف ضخمة، ويمدون أذرعهم الأخطبوطية في وقت متزامن إلى السياسة والفن والأدب والاجتماع وكل مكان) وعوضاً عن محاربتهم يتحولون إلى رموز.. رموز! كيف؟ لقد عرفناهم، وما علينا سوى أن نضع علامة على جِباههم ونُريح أنفسنا أليس كذلك؟ لكن ’دونو‘- وفي الصفحات الأخيرة- يعطينا وسائل للمقاومة وأفضل صياغة لنصيحته نعثر عليها في حوار له مع فيكتوريا جابرين. وتتلخص: «بالعودة إلى المفاهيم القوية للتفكير في الأمور» ولأن النوايا الحسنة لا تبرر الخداع الذاتي، تتولد أسئلة مشروعة في هذا المجال؛ هل يكفي أن نعرف التافهين لنحبط مساعيهم. وإذا كانوا رموزاً فما دورنا نحن؟ لقد تحسست مترجمة الكتاب مشاعل الهاجري حالة القلق هذه، فكتبت في موضعين مختلفين «لكن اعتبارات التفاهة لا تتعلق بنوعية الصحافة فقط، بل بنوعية القراء أيضاً». إن تعليم الناس كما أوردت مشاعل الهاجري عن مقال لبيدرو سالينانس «كيف يقرأون ليس كافياً في أغلب الأحيان لينتزعهم من فقرهم الروحي الأساسي». الإشارة إلى عدسة الفلسفة هنا أمر جيد، لكن هذه فقدت بعد سقراط مهارة طرح الأسئلة، وتحولت إلى قناعات وأنظمة مغلقة، وتصفية حسابات مع الوجود.

السؤال الذي يتولد تلقائياً، من أين يستمد هؤلاء منابع تغذيتهم ووجودهم؟

إذا لم تكن التفاهة ميلاً أصيلاً فينا فكيف يقدرون على السيطرة؟ (يمكنكم مراجعة فيسبوك والأكثر طلبا على غوغل، والأرباح التي تحققها البرامج السخيفة قياساً ببرامج الفكر والوعي). هل نلتمس الإجابة في الفن الذي يدعي، أن همه إضاءة الجوانب الداخلية عند الإنسان؟ تعالوا لنتأمل معا العروض اللفظية والأخلاقية لدراديلو- أحد شخصيات رواية «حفلة التفاهة» لميلان كونديرا- مقابل كاكوليك الذي يبدي ملاحظات تهريجية ومنفرة لا قيمة لها، لكنها ممتعة على ما يبدو، ولا تتطلب أي استجابة ذكية، كل ذلك للفوز بانتباه الحسناء ذات المؤخرة الجميلة، التي ستخرج بعد قليل لتبادل القبل تحت الأشجار مع واحدٍ منهما.

خمنوا من؟

يمكن معرفة الجواب من العبارات التي ينتهي لها كونديرا؛ والتي تصلح هاشتاغات وتغريدات في موقع تويتر: من المؤذي أن يكون المرء حقيقياً.

البلاهة مريحة.. التفاهة تُحرِر، تُجرد من الحذر، ولا تتطلب أي حضور

النباهة سلعة نادرة. كم شخصاً منا، تعرض للموقف الذي تعرض له دارديلو؟ لم تكن التفاهة طارئة على الوجود البشري، ولطالما كانت الغوغائية ميلاً أصيلاً والغريزة أسبق على العقل، والضبابية والتناقض مكونان جوهريان للمنطق الإنساني المتستر بالموضوعية والنزاهة، وإلا ما أُعدم سقراط بتصويت العامة. لكن لماذا تسود التفاهة، ولماذا يشجع الجميع عليها؟

لندع كونديرا يجيب: تميل التفاهة عادةً، إلى الخفة في كل شيء. في التفاهة ما يغري الناس بالتحرر. يمكن مقاربة التفاهة بما يسميه هيدغر سقوط الدازاين، لنتأمل في المقطع التالي: «وتصادف أن كانت عند الباب امرأتان، من اللواتي يطلق عليهن اسم «بنات الهوى» ولما كان صاحبنا، يظن أن كل ما يقع له إنما يقع على غرار ما قرأ؛ فإنه لم يكد يبصر الفندق حتى خاله قصراً، وحين اقترب من الباب فتبدتا له سيدتين كريمتين، فخاطبهما بصاحبتي العصمة والجلال، فحملقتا فيه بمجامع عيونهما، فرفع الخوذة الكرتونية عن وجهه الجاف الأغبر، ولم تتمالكا نفسيهما من الضحك.. أما صاحب الفندق السمين فقد تفاجأ من دون كيخوت الذي يدعوه (يا صاحب القصر). وخلال مراسم تجريده من الدرع والسيف ليرتاح، كان دون كيخوت يعتقد الفندق قصرا والعاهرتين سيدتين نبيلتين».

قبل قراءتي لـ دون كيخوت عشت مواقف كثيرة، تنتصر فيها التفاهة ببساطة ودون جهد. سألت نفسي لماذا؟ فأتاني الجواب بعد زمن: «لأننا نحبها ونريدها ونخجل من التصريح بذلك» لا بد أن مواجهتها ليست أمراً هيناً، إنها بالفعل عملية فدائية كما قال آلان دونو، لكن معرفتها تحررنا من المثالية والأوهام، والطيبة الساذجة.

في سنتي الجامعية الأولى تعرضت شريكتي في السكن (طالبة الأدب العربي) للحكاية التالية: كانت قد بذلت جهداً سيزيفياً في حلقة بحث، في موعد النقاش، دخلت وزميلتها المتوترة- لأنها لم تنجز بحثها لضرورات سفرها- مكتب دكتور المادة. أمضت الوقت تشرح للحائط، بينما كان الأخير يحدق في سرة زميلتها المكشوفة (والتي حملت في يدها- كتمويه طبعاً- ملخصاً هزيلاً استعارته من طالب قديم) هل تريدون أن تعرفوا من منهما نالت الدرجة الأعلى؟ خمنوا من جديد. لن أستغرب أن تضع (زميلة شريكتي) اقتباساً على جدارها من آلان دونو! لكن ألا يمكن للجدية أن تنقلب إلى تفاهة!

كنت صغيرة حين خرج أستاذ اللغة العربية البسيط من بيته، وأخذ يتحدث بلغة فصحى، لم نعرف سبب تغيره، لكن مظهره المضحك ولغته الصعبة لا تدع مجالاً للشك أن كتاباً ما سمم عقله، كان يسأل البائع: كم درهماً تريد؟

ويصف العجائز اللواتي يضحكن من غرابته: العجائز الشمطاوات (وهذه الأخيرة تثير ضحكهن من جديد) لم يطُل الأمر فقد أغلق الرجل الباب على نفسه واختفى. لا فضيلة للتفاهة، لكن لا يمكن إنكار جاذبيتها والميل نحوها، إن الحديث عنها يتطلب شجاعة النظر في أعماقنا، قبل أن ننظر في عينيها.

في قصة بعنوان «سقراط الجريح» لـ برتولد بريخت، يستدعى سقراط الذي يعتبر أذكى لإغريق للجندية، في المعركة تدخل شوكة في باطن قدمه، فيعجز عن الركض كرفاقه، (وقع أرضا وراح يصرخ بقوة أخافت الفرس) كانت الشوكة قد أظهرت سقراط بمظهر البطل، الذي حمل على الأكتاف لاحقاً. تعجب البعض كيف أن حادثة كهذه جعلته مشهوراً، وهو الذي قضى حياته يدعو لإعمال العقل، دون أن يلتفت إليه أحد».

تعيش التفاهة معنا، وتتغذى على حياتنا وهي في طبيعتنا. كلنا نشجع عليها لكن أحداً لا يريد الاعتراف. كتب كالفينو مرةً: «إن وظيفة الأدب هي الاتصال بين أشياء مختلفة، ليس لثلم حدة الاختلاف بينها، بل لزيادة الحدة». لعل أجمل المفارقات، أن من يذمون التفاهة، يشجعون عليها دون وعي، يسبحون في مياهها وينهلون من ينابيعها! (غزو البلهاء، تفاهة اعتناق الرأي ترميز التافهين) يا لها من عبارات جذابة تغري حتى التافهين.

لكن مهلاً: هل قرأتم جيداً تصنيفات آلان دونو لأنواع التافهين؟ يبدو أنه لا يمكن لأحد أن يُفلت من حكمها!

في فيلم «البيضة والحجر» لأحمد زكي، يجيب الأخير رداً على سؤال وُجه له عن تحوله من مدرس للفلسفة إلى مشعوذ: «الناس لا يحبون سماع الحقيقية بل يفضلون الخداع». حددت سوزان سونتاغ وظيفة الفن الحقيقي بأنه الذي يتوجه (للوعي الذكي)؛ وهذا المقال يستلهم خطاها، ويحاور العقل الشكاك، المتسائل. لا بد أنه وفي مجال الأدب يمكن تقبل كل شيء بنسبةِ أبوته للتخييل، حيث يمكن الغفران؛ لكن في مجال النقد هناك شأن آخر،

إذا كانت التفاهة حكماً فمن بإمكانه أن يتحرر من سطوته؟ يجيب كالفينو «حيوية وتوقد الذكاء هما وحدهما ما يفلت من هذا الحكم».

ذكر برغسون مرة أن العقل بليد، لا يمكنه أن يعطي إجابة مَرنَة، وهو بمعزل عن الحدس، عاجز عن رؤية المسارات الثرية والمتنوعة للوجود؛ هذا ما يعني ضمناً العودة إلى المفاهيم القوية للتفكير في الأمور، ولعل أحدها مفهوم «مراقبة الذات» التي تشجُب التفاهة علانية وتنخرط فيها سراً. لا يمكن تبرئة السياسات الخفية في العالم. لكن لا يمكن تبرئة أنفسنا أيضاً، هناك حكمة تقول: إن الثعلب قريب طالما أثر أسنانه فوق الأخشاب المجاورة.

* كاتبة سورية

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.