الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

دعاة عصر السادات

إبراهيم عبد المجيد *

هذا كتاب شديد الأهمية لأنه يتناول ظاهرة الدعاة في عصر السادات، وهي الظاهرة التي أنتجت ما بعدها من أجيال جديدة من الدعاة قد تختلف في المظهر، ولا تبتعد عن الجوهر. الكتاب تأليف الصحافي والكاتب وائل لطفي، صادر عن دار العين في مصر هذا العام، وعنوانه الفرعي «كيف تمت صناعة التشدد في مصر».

كيف كانت الظاهرة في إطار حملة كبيرة على التيارات الاشتراكية والناصرية والليبرالية، اشتركت فيها دول عربية مثل السعودية وقتها، ودول خارجية مثل أمريكا، ويقدم الأدلة على ذلك، وفي رعاية الدولة المصرية نفسها.

مقدمة الكتاب شديدة الأهمية يعتمد فيها على كتابات هؤلاء الدعاة أنفسهم، وآراء بعض المستشرقين مثل ’جان نويل فيرييه‘ و’إيريك رولو‘ و’جيل كيبيل‘ و’روبير سوليه‘، التي رغم اختلاف تفسيراتها للظاهرة، أجمعت كلها على أن السادات قرر إخلاء المسرح للاعب وحيد هو الإسلامي. يضيف الكاتب أن السادات كان من داخله شخصا محافظا وأن بداية الظاهرة كانت بعد هزيمة 1967، حين ارتفعت مقولات «البعد عن الله كان وراء الهزيمة»، لكنها لم تأخذ شكلا منظما إلا مع السادات.. لقد أطلق السادات قطار الأسلمة فركبه هؤلاء وغيرهم، بل ركبه رجال في نظام الحكم نفسه يذكر أسماءهم.

الدعاة الذين يتحدث عنهم سبعة يأخذ الشيخ ’الشعراوي‘ المساحة الأكبر.. ولد عام 1911 وتعلم في المعاهد الأزهرية، وكان وفديا وعرف الإخوان المسلمين مبكرا وكان شاعراً رآه ’حسن البنا‘ نفسه أديباً، لكنه تركهم حين بدأ الجناح الخاص يلجأ إلى العنف، وترك مصر مع ثورة يوليو/ تموز التي لم يكن مؤيداً لها، إلى السعودية حتى عام 1963 ثم الجزائر ثم السعودية ثم مصر، ومرحلة النجومية مع السادات. لقد كان محاكاة لظاهرة “بيلي غراهام” أشهر الوعاظ الأمريكيين تأثيراً في العالم، الذي فتح له الإعلام الأمريكي شاشاته لمعاداته للشيوعية، وهو ما كانت تريده أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية. شغل ’الشعراوي‘ مراكز مهمة مثل وزارة الأوقاف. وكان راعيا لتحجيب الفنانات، وشركات توظيف الأموال في عهد مبارك والبنوك الإسلامية ومنها بنك فيصل الإسلامي، الذي كان وراء تدشينه وهو وزير الأوقاف. رأيه في المرأة أن مكانها البيت، والغرب نحن أفضل منه، لأن الله سخره لنا باختراعاته، وحرمة نقل الأعضاء، وموقفه من المسيحيين الذي تحكمه آية «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به أحدا»، فإذا خالف المسيحيون الرأي يكون لهم الكلام.

أهم ما في الكتاب غير الآراء الكثيرة للشيخ ’الشعراوي‘، شيئان هما منهجه الظاهري في التفسير حتى في تصريحاته، فما يقوله لك يجد تفسيراً آخر له في ما بعد، خاصة في السياسة والحكام. والثاني هو أنه لا يريد للمسلمين الوصول إلى الحكم، بل يريد لهم الانتشار في الأرض كلها، وهذا ما فعله الآخرون وساعدتهم عليه الدولة، وكان الإخوان المسلمون في قلب ذلك كله، فعلاقته بهم لم تنقطع وهم حسب قوله (شجرة ما كان أورف ظلالها، رحم الله شهيداً استنبتها وغفر لمن تعجل ثمرتها). الثاني هو الشيخ ’كشك‘.

أهم ما في الكتاب غير الآراء الكثيرة للشيخ ’الشعراوي‘، شيئان هما منهجه الظاهري في التفسير حتى في تصريحاته، فما يقوله لك يجد تفسيرا آخر له في ما بعد، خاصة في السياسة والحكام. والثاني هو أنه لا يريد للمسلمين الوصول إلى الحكم، بل يريد لهم الانتشار في الأرض كلها.

كان التلفزيون وسيلة ’الشعراوي‘ الذي أتاحته له الدولة باتساع، أما الشيخ ’كشك‘ فكانت وسيلته هي شرائط الكاسيت التي بدأت في السبعينيات. لم يكن مثل ’الشعراوي‘ يخفي غضبه في الكلام، ويدور حوله بل كان غضبه جارحاً عنيفاً، خاصة للفنانين من “أم كلثوم” لـ”عبد الحليم حافظ” وغيرهم، ومثلَ ’الشعراوي‘ يرى الستينيات وثورة يوليو/ تموز عملاً شيوعياً لا بد من هدمه، وكانت خُطبه التي يهدد فيها المسيحيين أحد أسباب التحقيق معه، لكنه لم يتوقف عنها وزَرْع الفتنة الطائفية ولم يسلم منه حتى الدكتور ’مصطفى محمود‘، واعتبر أفكاره شيوعية. الثالث هو الشيخ ’عبد الحليم محمود‘ شيخ الأزهر، كانت معاركه كبيرة مع المثقفين يذكر تفاصيلها. رغم خلفيته الصوفية فكر في إنشاء حزب ديني، ولكن لصعوبة ذلك توسع في إنشاء المعاهد الأزهرية، فأنشأ سبعة آلاف منها عبر سنين منصبه. كانت التبرعات من السعودية تصله بوضوح، وطلب منه رئيس الوزراء ’ممدوح سالم‘ أن يحولها إلى خزانة الدولة بالعملة الصعبة، على أن تعيدها الدولة له بالعملة المحلية وقد كان.

زار الولايات المتحدة الأمريكية والكونغرس وقابل الرئيس “جيمي كارتر”، وناقش معه طرق التصدي للشيوعية، ويعلق وائل لطفي هي فكرة لم يكن الأمريكيون في حاجة لسماعها، فهم يعملون بها من قبل.. كان مع تطبيق الحدود وضد قوانين الأحوال الشخصية المنصفة للمرأة، ودخل في معارك مع الدولة، وتم التقليل بقرار من السادات من صلاحياته كشيخ للأزهر، وإسناد بعضها لوزارة الأوقاف عام 1974 فاستقال وهاجت الدنيا من أجله، فأعاده السادات مع وعد بتقنين الشريعة الإسلامية. لخص ابنه الدكتور ’منيع عبد الحليم محمود‘ علاقته بالإخوان المسلمين قائلا «كانت علاقة تآزر وتعاون، وكان الإخوان يعتبرونه واحداً منهم». الرابع هو الشيخ ’محمد الغزالي‘، الذي خرج من الإخوان المسلمين بعد ثورة تموز/ يوليو فهو أيضا ليس من أنصار بلوغ السلطة لكن نشر الدعوة، ومثل غيره سافر إلى السعودية وظهر مع عودة الإخوان مع السادات، لكنه في قضية اغتيال “فرج فودة” كان موقفه في المحكمة مؤيدا لاغتياله، والخطأ فقط أن ذلك حدث بعيدا عن وليّ الأمر، وفي هذه الحالة لا عقاب محدد لمن فعل ذلك.

الخامس الأخطر هو ’إبراهيم عزت‘. اعتقل مع الإخوان عام 1965 لثلاث سنوات وأفرج عنه، ورغم ذلك عمل مذيعاً في إذاعة القرآن الكريم المصرية، وشاعراً عصرياً يؤمن بالشعر الحر، وأحب شعره الشباب. ترك الجماعة لكنه ظل بينها لينخرط في مهمة أخرى هي تأسيس فرع مصري لجماعة «التبيلغ والدعوة» وهي جماعة ظهرت في الأصل في الهند عام 1926، وكانت السعودية أول دولة عربية تدخل فيها هذه الجماعة، ومنها جاءت إلى مصر في عهد السادات وصار ’إبراهيم عزت‘ أول رئيس لها، وانتشرت في مصر انتشاراً كبيراً، فبلغ عدد أعضائها ربع مليون عضو. وكان من اغتال السادات مثل “عبود الزمر” و”خالد الإسلامبولي” من المتأثرين به وبجماعته، وكان بدوره على صلة بـ”محمد عبد السلام فرج” مؤسس التنظيم الجهادي، الذي اغتال السادات. لقد رفض ’إبراهيم عزت‘ أن ينضم إليهم، لكن أعلن لهم إيمانه بأفكارهم وعليهم تجنيد من يريدون من أعضاء جماعته. مُنع من الخطابة بعد موت السادات وبعد عامين مات بشكل غامض على متن طائرة متجهة إلى جدة، حيث كان ينوي العمرة والاعتكاف. السادس هو الشيخ ’سيد سابق‘ الذي كانت بداية شهرته ما اعترف به قاتل النقراشي باشا، من أنهم حصلوا على فتوى تبيح القتل من الشيخ ’سيد سابق‘. ألقي القبض عليه وبرأته المحكمة فحاز الشهرة الكبيرة.

السابع والأخير هو الشيخ ’المحلاوي‘، الذي انقلب على السادات بعد كامب ديفيد وصارت خطبه في جامع القائد إبراهيم في الإسكندرية كلها ضد السادات وعائلته، ما جعل السادات يعتقله في سبتمبر/ أيلول عام 1981 مع ألف وخمسمئة من كل التيارات، وهو ما عرف باعتقالات سبتمبر التي بعدها تم اغتيال السادات في السادس من أكتوبر/ تشرين الأول. خرج ’المحلاوي‘ والجميع بالعفو الذي أصدره حسني مبارك، واختفى تماماً حتى ظهر مرة عام 2013 في مسجد القائد إبراهيم مؤيداً الإعلان الدستوري لـ محمد مرسي، لكن الأمور كانت ضد الإخوان، فاختفى وعاد إلى الظل، ليظل أحد علامات الاستفهام الغامضة في هذا الملف. يظل ما قلته قليلاً جداً من الوقائع في الكتاب.

* روائي مصري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.