الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (3/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (3/4)

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه
من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية

(3/4)

وبعد أن استعرض عبدالناصر العوامل والظروف التي استعجلت حركة التغيير العسكري في 23 تموز (يوليو) قال: ” نجحت الثورة لكننا لم نكن راغبين في الحكم مطلقاً… كنا مصممين على محو كل أثر للسيطرة الأجنبية وعلى إجراء اصلاح زراعي حاسم لإنهاء النظام الاقطاعي الذي اختفى من قبل في أوروبا منذ ثلاثمائة عام. وكنت أريد أن يضطلع بالمسؤولية حزب يمكن أن يؤتمن زعماؤه على العمل في الحدود التي تلهمها روح الثورة. وفي بداية الأمر صفقت كل الأحزاب وهللت، وتصور كل من الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيين أن الثورة لهم . فقد كانوا يحسبون من اليسير عليهم تشكيل جماعة من الجيش المتحمسين بما يتفق مع منهجهم. ولكنهم عجزوا عن إدراك ما يكمن وراء الثورة من قوة في الهدف… وهكذا حملنا المسؤولية على عاتقنا والأسف يملأ قلوبنا، ولقد كان عملي يسيطر على حياتي فقلما وجدت الوقت لشيء آخر غير العمل… وسرعان ما اكتشفت أن حكم بلد من البلاد يختلف اختلافاً عظيما عن قيادة كتيبة من الجنود، ومع ذلك فقد كانت هناك وجوه مشتركة بينهما، فقد عرفت في مرحلة باكرة جداً ضرورة التخطيط، فالإصلاحات التي أردنا إدخالها كان لا بد من تنفيذها على أساس المخطط الطويل الأجل. ولقد شغل التخطيط بالي في هذه المرحلة، ورحت أتحدث عنه إلى كل من تتيح لي الظروف فرصة أن ألتقي به، وتكون لديه فكرة عنه أو تجربة. وإني لأذكر أن موضوع التخطيط كان أول حديث طويل بين البانديت نهرو وبيني… ولم أكن أستطيع أن أعتبر نفسي خبيراً، كما أنه لم يكن تحت تصرفنا إلا عدد قليل من الخبراء ولا سيما في المجال الاقتصادي- وهو مجال ذو أهمية حيوية- فالخبراء رغم كل شيء قد يكونون في بعض الأحيان عبئاً، أكثر منهم عاملاً مساعداً، فلقد يكونون متحجرين فيما ألفوه من أساليب ولهذا فإني أفضل المفكرين على الخبراء. إن التفكير يجب أن يرسم الإطار العام للحركة أولاً ثم يجيء دور الخبرة في خدمة الإطار العام… ” .

وعلى سؤال وجهه مورغان عما إذا كانت الأفكار التي ظهرت في كتاب ” فلسفة الثورة ” ما زالت تعبر عن آراء عبدالناصر وسياسته، أجاب: ” ربما كان مرور عشر سنوات على قيام الثورة مرحلة مناسبة لننظر إلى الوراء فنرى الطريق الذي قطعناه، وننظر إلى المستقبل لنبصر طريقنا إلى الأمام… وفي هذا أقول: إن الأهداف والمعتقدات الأساسية التي بينتها في كتابي ” فلسفة الثورة ” لا تزال ثابتة… ففي كتابي الصغير هذا تحدثت عن الدوائر الثلاث التي تتداخل في حياتنا ألا وهي: الوحدة العربية- التعاون الاسلامي- والتضامن الافريقي. وليس بين هذه الدوائر تعارض من أي نوع كان. فنحن أولاً وقبل كل شيء أمة عربية، ولذا فان الوحدة العربية في مقدمة ما نفكر فيه… ومن الواضح أن الوحدة السياسية التامة لا يمكن فرضها وإنما هي الفكرة وأول ما يمهد لهذا الإجماع هو وحدة في الفكر، ولهذا فإن أول ما نحاول إيجاده هو وحدة في التفكير بين الشعوب العربية حتى يمكن تحقيق الوحدة فيما بعد بالإرادة التلقائية عند أبناء هذه الشعوب. ولا بد أن تترك المجال أمام كل بلد من هذه البلاد، وهى تتفاوت في كيانها من المجتمع الاقطاعي إلى الدولة الاشتراكية الحديثة، لكى تخطو نحو التطور بحسب قدرتها. ولكن الاضطرابات والتقلبات الشديدة التي تجري في منطقة الشرق الأوسط إنما مردها إلى أن تطور هذه البلاد لا يمكن أن يتحقق ببطء فيستغرق القرون الطوال التي استغرقها في دول أوروبا الغربية فقوى الضغط الأيديولوجي اليوم أعنف ما يكون… “.

وعلى سؤال مورغان حول ما إذا كان عبد الناصر. يعتقد أن ” نظام الدولة الشمولية لازم في مرحلة التكوين التي تمر بها البلاد النامية ” قال: ” … الإجابة على هذا السؤال تتوقف على المقصود بالدولة الشمولية. والذي لا شك فيه أن النظرية الغربية المألوفة في الديمقراطية ليست النظرة الوحيدة ولا المحتومة للديمقراطية ولقد قلت إن من المهم أن تربط تذكرة الانتخابات برغيف العيش، فإن حرية التصويت يمكن التلاعب فيها مع رجل جائع. هذه كانت حقيقة الأحوال سنة 1952، فلو أنّا أقمنا بعد الانقلاب مباشرة في تموز (يوليو) نظاماً على الطراز الغربي، لأفضى ذلك إلى انتخاب نوع من الحكومة الفاسدة لا تختلف في شيء عن الحكومة التي أزلناها… فالسلطة كانت مرتكزة في يد طبقة واحدة تتمتع بالامتيازات.

كانت أول جوهريات الثورة اذن هي إزالة الحواجز بين الطبقات وإعادة توزيع ثروة البلاد بطريقة أقرب إلى العدالة ورد الحريات الأساسية للمصري العادي كحرية العمل والقوت، وحرية تملك الأراضي التي يفلحها وكذلك حق حماية نفسه وأسرته وحق المشاركة في الثروة القومية والإشراف عليها وهي جميعاً حقوقاً وحريات ساعدت على استرداد عزته وكرامته الشخصية، وهما حق طبيعي لكل إنسان. والأحزاب السياسية محظورة في مصر في الوقت الحاضر لأن بلادنا تجتاز ثورة شاملة تحتاج فيها إلى وحدة قواها العاملة… لا أعرف متى تجد الأحزاب السياسية لنفسها مكاناً في حياة أمتنا من جديد، ونحن في سبيلنا إلى وضع دستور جديد سوف يؤدي إلى انشاء برلمان منتخب انتخاباً كاملاً… أما بالنسبة للمستقبل فإن شعبنا لا يرضى بأي دكتاتورية من أي نوع كانت، فقد حطمنا الدكتاتورية السابقة التي كانت تفرضها الطبقات العليا في المجتمع. إن الشعب لمصمم بنفس القوة على أن لا تقع البلاد فريسة لأية دكتاتورية بديلة لها ” .

ونقف عند هذا الحد من الحديث، ولا نخوض في التعقيب عند هذه الوقفة على موضوع الديمقراطية، وكيف انكسرت الثورة بعد عبدالناصر وانكسر تصميم الجماهير، بحيث لم يتحقق الوعد الديمقراطي بل عادت لتتحكم الحكومات الفاسدة ودكتاتورية الفرد ودكتاتورية الطبقة، فسيكون لذلك مجاله، فالذي أردناه من هذا الاسترسال مع أفكار عبدالناصر في هذا الحديث، هو إعطاء صورة عن مجمل العوامل والظروف التي أعطت آثارها في توجيه فكر عبدالناصر وتوجيه مساره .

لقد أثرت في التشكل الفكري والسياسي لعبد الناصر ثلاثة عوامل:

1- منبته الطبقي، فهو ابن أسرة برجوازية صغيرة متواضعة، والبيئة الثقافية الأولى التي ترعرع فيها كانت بيئة محافظة ومتدينة، كما كانت في الوقت ذاته بيئة وطنية تحمل في ذاكرتها الشعبية تراث النضال الوطني في سبيل التحرر والاستقلال. ثم كانت تربيته المدرسية في مرحلة بدأت فيها تحركات الطلبة تشكل ركيزة أساسية من ركائز النضال الوطني وتتعامل مع المناخ السياسي الوطني العام .

ولقد كان عبدالناصر مصرياً وعربياً أصيلاً ومن بني مر، وإذا لم يكن لنا أن نقف عند ذكر هذه الأصالة فعبدالناصر لم يحمل في نهجه وفي تفكيره أي يوم شعوراً بالتمييز أو بالتمايز العنصري أو الطائفي أو الإقليمي بل على العكس فأصالته الثورية بالأساس هي أصالة الفكر والهدف والالتزام بقضايا الجماهير الكادحة والعريضة المتطلعة إلى الاندماج الوطني وإلى التحرر الكلي، ولكن تلك الأصالة الوطنية والقومية جعلته أيضاً منعتقاً بالطبيعة من أية عقد أو تعقيدات تحول دون اندفاعه للوحدة الوطنية والاندماج القومي بكليته…

2- تربيته وثقافته العسكرية، فهو ولو أنه انتسب للكلية الحربية في ظرف معين وبحافز وطني شدّه ورفاقه إلى الجيش في سبيل استخدامه ثورياً للتغيير الوطني وللتحرر والتحرير، فلقد كان لتلك التربية والثقافة دورهما في تغذية ملكة التنظيم والتخطيط عنده، انتقالاً من الانضباط العسكري إلى الانضباط الثوري بعد ذلك، وإلى الفكر الاستراتيجي وتكتيكاته، وإلى تحمل المسؤولية والاندفاع للفعل والتنفيذ .

3- ثم حكمت فكر عبدالناصر مسؤوليته في الحكم كرأس نظام ورئيس دولة، فتلك المسؤولية الأولى إذا ما وضعت بين يديه إمكانيات كبرى استخدمها بروح ثورية في الدفع بحركة التجديد والتقدم والتغيير، فلقد كانت في الوقت ذاته (وإذ بدأ الثورة من هذا الموقع ومن غير تكامل أيديولوجي ووضوح نظري مسبق) قيداً على فكره، وخاصة أن المثقفين من حوله لم يعملوا شيئاً كثيراً في هذا المجال، بل كانوا يتكلون عليه في الفكر والتنظير أيضاً وينتظرون ما يقدمه، وفي أكثر الأحوال كانوا متخلفين عنه وعما يقدمه وما كانوا يدفعون الى الأمام .

___________________

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (4/4)

التعليقات مغلقة.