جاد الكريم الجباعي
ليس الإنسان في حاجة إلى علم ولا إلى فلسفة، لكي يعرف ما ينبغي عليه أن يفعل ليكون أمينًا وخيّرًا، لا بل ليكون حكيمًا وفاضلًا.. فملَكة الحكم العملي تتقدم، في الفهم الإنساني، على ملكة الحكم النظري. ’’ إيمانويل كنت ‘‘
نُعرِّف العدالة، بالسلب، بأنها ضد الجور والظلم، ضد الحيف والغبن، ضد المفاضلة التمييزية (العنصرية) بين الناس، على أساس جنسي أو إثني أو قومي أو ديني أو مذهبي أو لغوي أو ثقافي، وضد الاحتكار والاستبداد والتسلط والتعسف، وضد الإجبار والإكراه، وضد الاستغلال، وضد التعصب في الأحكام والآراء والمواقف، وضد الغش والتدليس، وضد الانحراف والفساد والامتيازات، وضد الجهل والهوى.
التعريف بالسلب، على هذا النحو يعيّن لمفهوم العدالة، وغيره من المفاهيم، حقولًا دلالية وتداولية وآفاقًا معرفية ومجالات اشتغال رحبة، لا يوفرها التعريف بالإيجاب. تعريف العدالة بالسلب يعيِّن نسبية العدالة وتاريخيتها، ويدرجها في الممارسة (البراكسيس)، بما هي سيرورة نفي مستمرة لجميع أشكال اللاعدالة في الفكر والسلوك والنظم الاجتماعية والسياسية، وجميع اليقينيات والأحكام القطعية؛ فاليقينيات والأحكام القطعية، من علامات الاستبداد. العدالة والاستبداد ضدان لا يجتمعان معًا، سواء كان الاستبداد سياسيًا أم دينيًا؛ والحديث عن مستبد عادل، هو مجرد لغو.
تفترض هذه المقاربة أن العدالة تتأسس على اللاعدالة المؤثلة في العالم المعيش، على نحو ما يتأسس العقل على اللاعقل، أي على نحو ما يتأسس الوضعي على الطبيعي، مرة تلو مرة؛ وتفترض أن التعارض بين اللاعدالة والعدالة هو تعارض مقيم، أو دائم، لا يمكن حذفه، وهو تعارض جدلي، يحيل على قابلية العدالة للنمو والانبساط، في مختلف مجالات الحياة الاجتماعية، والاغتناء بالتجارب الإنسانية، كلما تقدمت عملية تذويت العالم وأنسنة الذات.
هذه الصيغة تحيل على اللاعدالة المُدرَكة والمُتوافَق على تعيينها ووصفها، والتي يمكن رفعها، فتكون العدالة وسطًا بين حدين، هما العدمية والمثالية، وبين حالين، هما الإفراط والتفريط. ما يعني أننا، إذا أخذنا مختلف الأحكام والآراء والمصالح والغايات وزوايا النظر في الحسبان، قد نصل إلى إدراك إمكانية العدالة ونسبيتها وتاريخيتها، فيغدو النقاش والعمل المشترك في سبيلها ممكنين. وبقول موجز: العدالة هي رفع ما يمكن رفعه، كل مرة، من أشكال اللاعدالة المشار إليها فوق.
كلمة العدالة، في اللغة العربية، ثرية بالدلالات (راجع لسان العرب أو غيره من القواميس)؛ هذا الثراء يعبر عن مدى الافتقار إليها، وعن مدى الحاجة إليها، في العالم المعيش؛ فهي تدل على المساواة والتكافؤ والاعتدال والإنصاف مما لم يعشه العرب قط في تاريخهم، ولم يعشه غيرهم من رعايا الممالك والإمبراطوريات القديمة والوسيطة، وإن لم يخل الأمر من سجايا فردية. فلعل أول تحقق نسبي لمعنى من معاني العدالة حصل في ظل الدولة الدستورية الحديثة، حين أقرت حق الاقتراع العام، ومبدأ المساواة بين مواطنيها أمام القانون[1]، ومبدأ فصل السلطات واستقلال القضاء. وقد رأى كارل ماركس في حق الاقتراع العام إلغاءً سياسيًا للملكية الخاصة، التي لم تعد تنتج منها أي نتيجة سياسية مباشرة، وإلغاءً سياسيًا للدين، لكي تنمو الملكية الخاصة والدين ويزدهرا معًا في المجتمع المدني؛ فثمة علاقة لا تخفى بين الدين والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، من جهة، وبينه وبين التقسيم الجنسي للعمل من الجهة المقابلة. لذلك نعتقد أن العدالة هي الأفق الذي تتجه إليه الديمقراطية، والذي يسميه بعضنا “الديمقراطية الاجتماعية”.
للعدالة الممكنة، في العالم المعيش، وجهان متلازمان تلازمَ القاعدةِ الموضوعية والمبدأ الأخلاقي، يدخلان في تعريف العدالة، وفقًا لزاوية النطر إليها: مرة بأنها قاعدة موضوعية، ومرة بأنها مبدأ أخلاقي؛ الوجه الأول من هذين الوجهين هو “عدالة التوزيع” أي توزيع الثروة والسلطة وعوامل الإنتاج الاجتماعي والموارد الثقافية، وفقًا لمبادئ العدالة التي يفترض أن يبنى العقد الاجتماعي عليها، وتحظى بقبول عام صريح أو ضمني. والوجه الثاني هو “عدالة المعاوضة” أو عدالة التبادل، التي تشمل المبادلات والمعاملات والعقود كافة، كعقود البيع والشراء والرهن والإيجار والاستثمار وعقود العمل وغيرها.
وللتبادل مزية نوعية، لا تحظى بها أركان عملية الإنتاج الاجتماعي الأخرى، أعني الإنتاج والاستهلاك والتداول؛ هذه المزية هي إظهار قيمة كل ما يجري تبادله بين الأفراد والجماعات والشعوب والدول. فالمبادلات المادية واللامادية، التي تحقق منافع مادية ومعنوية للأفراد والجماعات هي التي تجعل من المنفعة (العامة) قاعدة راسخة تنهض عليها الأخلاق المدنية التي تتناسب مع مستوى العدالة/ اللاعدالة في هذه المبادلات. التبادل هو الكيمياء التي تجعل القيمة تنبق من المادة (مادة التبادل)، على نحو أشبه ما يكون بالسحر. ولكن السحر يرتفع حين نعلم أن القيمة كانت في أساس العمل، الذي أنتج مادة التبادل. وهذا، في رأينا، يتجاوز فكرة العمل المتبلور، عند ماركس، العمل الذي قد يكون ميكانيكيًا، كما هي الحال في المصانع الحديثة، إلى العمل بصفته معرفة – قيمة متحققة بالفعل.
وإلى ذلك تنطوي العدالة، في توزيع الموارد المادية والمعنوية، على معنى الإنصاف، أو ما يُعبَّر عنه بـ “المساواة مع الفرق”، إما تعويضًا عن حرمان وتهميش مزمنين، كحرمان النساء وتهميشهن، وحرمان الفقراء وتهميشهم، أو حرمان الأقليات من الحقوق الثقافية والسياسية وتهميشها، وإما لحفز النمو في مناطق أو قطاعات قليلة الموارد، وأقل نموًا من غيرها. فالإنصاف هو أَن تعطي الآخر من نفسك النَّصَفةَ، أَي أن تُعْطيه من الحق كالذي تستحق لنفسك، وأن تعامل الناس كما تحب أن يعاملوك. ولذلك تُعد العدالة الانتقالية انتصافًا لضحايا العنف والحروب والكوارث الطبيعية، وانتصافًا للمجتمع المعني كله.
يبدو لنا مما تقدم أن الأسس المعرفية – الأخلاقية والعملية للعدالة هي أربعة: 1 – المساواة النسبية، بين المواطنات والمواطنين، لا المساواة المطلقة؛ المساواة النسبية هي مساواة أمام القانون ومساواة في الحريات الأساسية والحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومساواة في الالتزامات القانونية. 2 – الحرية النسبية، لا المطلقة، لأن الحرية المطلقة هي عدم حرية مطلق. صفة النسبية للمساواة والحرية هي التي تقضي بأن العدالة نسبية وتدريجية، وتراكمية، هي رفع ما يمكن رفعه من مظالم، وتقليص ما يمكن تقليصه من تفاوتات وحرمانات مادية ومعنوية، وهذه عملية مستمرة، بحكم استمرار الحياة وتغير الشروط واختلاف الظروف. 3 – تكافؤ الفرص بين أفراد المجتمع كافة، بلا استثناء ولا تمييز. هذا التكافؤ في الفرص قائم في الأساس على تكافؤ الأفراد إناثًا وذكورًا، في الكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق. 4 – تساوي الشروط، ولا سيما في الانتخابات والمباريات أو المسابقات.
على هذه المبادئ، يفترض أن ينعقد العقد الاجتماعي، وأن يكتب الدستور؛ وعليها تنهض العدالة في توزيع الثروة والسلطة وعوامل الإنتاج والموارد الثقافية، وعليها ينتصف المجتمع من نفسه للفئات الفقيرة والمهمشة والمحرومة، وعليها تتأسس المشاركة الحرة والمتساوية في الحياة العامة وفي حياة الدولة. وهذه المشاركة مشروطة بتمكن المواطنات والمواطنين كافة من التمتع بالحريات والحقوق والحياة الكريمة. نعتقد أن هذه الأسس متكاملةٌ ومتضامنةٌ، وهي ذاتُها شروطُ إمكان العدالة الاجتماعية. العدالة ليست السعادة، بل هي طريق إلى السعادة.
للمساواة والحرية، من بين مبادئ العدالة، طابع وجودي (أنطولوجي)، وأصل طبيعي على ما أزعم؛ المساواة النابعة من الاشتراك في النوع أو الجنس البشري، والحرية النابعة من الفوضى أو العشوائية، في فضاء الإمكان والاحتمال. المساواة والحرية، في إهابهما الاجتماعي، المدني، عنصران متعارضان؛ والعدالة تركيب فريد من هذين العنصرين المتعارضين، يشبه تركيب الماء من الأوكسجين والهيدروجين، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر وبقاء الماء ماء؛ وإذا ما فصل أحدهما عن الآخر يصير الأوكسجين حارقًا والهيدروجين سامًا، تصير المساواة قطيعية والحرية فوضى. تلكم هي العدالة قبل أي شيء آخر. نقول ذلك لمعارضة المساواة المطلقة بين الأفراد، ولا سيّما بين الذكور والإناث وبين النساء والرجال، المساواة المطلقة نزع لإنسانية الفرد، التي قوامها الحرية. نحن أحرار لأننا مختلفات ومختلفون.
في نقاش ممتع عقليًا لمبادئ العدالة عند جون رولز، ساق أمارتيا سن قصة “الفلوت والأطفال الثلاثة” [2]، لرد مسألة “الشاهد المحايد” أو توافق “الوضع الأصلي”[3]، بصفته صيغة تأسيسية للعقد الاجتماعي، عند رولز، وهي قصة أراد سن أن يقول من خلالها إن ثمة أسبابًا كثيرة متنافسة للعدالة، غير المبادئ التي اقترحها رولز (الحرية والمساواة والإنصاف)، منها الحاجة والكفاءة وحق الإنسان في ثمار عمله. تقوم القصة على أن ثلاثة أطفال يتنازعون آلة “فلوت”، ويقدم كل منهم حجة مقنعة لحقه في امتلاكها، يعترف الثلاثة بصحتها: الأول لأنه فقير وليس لديه ألعاب يلهو بها؛ والثاني لأنه الوحيد الذي يجيد العزف على الآلة؛ والفتاة التي صنعت الفلوت وتدافع عن حقها في ثمرة عملها. هذا التنازع يحصر خيارات الأطفال في حصول كل منهم على الفلوت دون الآخريْن، فإذا كانت حجج الأطفال الثلاثة تقدم أسبابًا للعدالة؛ فإن النتيجة، أي استئثار أحدهم بالفلوت، تناقض هذه الأسباب، ولا تفضي إلى عدالة، بل إلى استئثار واحتكار. إذًا، لدينا تنازع، وخيارات محدودة، وحق طبيعي متنازع عليه. لو ناقش سن المسألة من زاوية الحق؛ لاختلف الأمر كليًا، وكنا في حاجة إلى أسباب أخرى للعدالة. ولو ناقشها من زاوية الخيارات المفتوحة على الممكن، لاختلف الأمر أيضًا. مسألة الحقوق أكثر واقعية في العالم المعيش من قصة سن. فلا يجوز أن يكون الفقر سببًا لنزع حق مكتسب ومشروع، ولا يجوز أن تكون المهارة والكفاءة متطفلتين. هذا لا يعني أبدًا أن الفقر قدر لا فكاك منه، وأن المهارة يجب أن تُحرم من شروط تحققها عمليًا.
من جانب آخر، يوحي اقتناع الثلاثة بالحجج المسوقة بإمكان “الشاهد المحايد”، العادل، الذي أخذه رولز عن آدم سميث، أكثر مما يدحضه، إذ يقر كل من الأطفال بأن الفقير يجب أن يكون لديه ما يسد حاجته، وأن المهارة تستحق المكافأة، وأن للصانع حقًا في ما صنعه. وهو إقرار ينم على ملكة عقلية وأخلاقية مشتركة فيما بينهم. فكل منهم شخص ذو مصلحة بامتلاك الفلوت، ويرغب في ذلك، ويفضله. وهو شاهد محايد، في الوقت نفسه. فقد حكم كل منهم في الأمر حُكمين: الأول من خلال مصلحته الشخصية ورغبته، والثاني متجرد من المصلحة الشخصية والرغبة، أمام الحجة العقلية والموقف الأخلاقي، إذ اقتنع بحجة كلٍّ من منافسيْه. والسؤال الآن: هل تخلى أحدهم عن مصلحته على هذا النحو، أم إنه آنس من منافسيْه اعترافًا صريحًا بحقه؟ هذا ما لم يلتفت إليه سن. في جميع الأحوال، يفترض أن أي عقد اجتماعي عليه أن يراعي حق الفقير في سد حاجاته، وحق الخبرة والمهارة في المكافأة، وحق المنتج في ناتج عمله.
وللبحث صلة…
[1] – تأخرت المساواة بين النساء والرجال في الحريات والحقوق حتى الربع الأول من القرن العشرين وما بعده.
[2] – راجع أمارتيا سن، فكرة العدالة، ترجمة مازن جندلي، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2010. وأمارتيا سن، التنمية حرية، ترجمة شوقي جلال، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، العدد 303، أيار / مايو 2004، ص 49 – 50.
[3] – جون رولز، العدالة كإنصاف، إعادة صياغة، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، المنظمة العربية للترجمة، توزيع مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2009، ص 106.
المصدر: مركز حرمونِ
جاد الكريم الجباعي
مفكر سوري، مجاز في علوم اللغة العربية وآدابها من جامعة دمشق، مهتم بالفلسفة المدنية وقضايا الديمقراطية والمجتمع المدني والدولة الوطنية وحقوق الإنسان والمواطن، له عشرات المقالات والأبحاث والدراسات والكتب.
التعليقات مغلقة.