تحدثنا في الجزء السابق عن بدايات الحياة السياسية والحزبية في سورية دون التعرض لمثيلتها في مصر، الذي يُنبأ عن ذاته، لكل مهتم، باعتباره أكثر تطوراً وتجذراً، عن مثيلته السورية، بالحياة العامة والوطنية المصرية وآفاقها القومية، ولأن اعتبارات الوزن الإقليمي والدولي لمصر، تعطيها الأهمية الكبرى في أي قراءة تتناول تلك الحقبة.
يتوجب علينا التأكيد على أننا، لم نقدم، ولن نقدم تصوراً تقييمياً لتلك المرحلة التاريخية، بل سنقدم تصور تاريخي تسجيلي وصفي بحت..
فكيف كانت البداية في مصر؟
كما ذكرنا؛ حين عادت أوروبا الاستعمارية إلى جولة جديدة في صراعها التاريخي الطويل ضد الشرق، وضد الوطن العربي بالذات، ومثلت حملة ’بونابرت‘ الفرنسية (1798-1801) على مصر وبلاد الشام طلائع هذه الجولة الجديدة، كانت أنظمة الحكم (المملوكية – العثمانية) قد بلغت مرحلة الشيخوخة، وأذنت شمس فروسيتها العسكرية – أمام عتاد الثورة الصناعية الأوروبية الحربي – بالغروب، ففقدت مبررات سيطرتها على رعيتها العربية عندما هزمت حملة ’بونابرت‘ فرسان المماليك، وانكشارية العثمانيين.
وحين برزت قدرات العرب المصريين في ثوراتهم ضد جيش ’بونابرت‘، وقدرات العنصر الوطني العربي عند حصار الفرنسيين ’’عكـا‘‘ عام 1799، لاحت في الأفق بشائر عصر جديد، تعود فيه القيادة، حتى في الميدان العسكري، إلى العنصر الوطني العربي، ومن ثم تفقد فيه مؤسسات الحكم غير العربية مبررات وجودها واستبدادها بحكم البلاد، الأمر الذي فتح الطريق لعودة الروح إلى قسمات العرب القومية من جديد، فبدأت مرحلة اليقظة القومية العربية الحديثة، واتخذت من جيش مصر الوطني ودولتها الحديثة، آنذاك، التي قاد بناءها محمد على باشا (1769- 1849) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، اتخذت منها نقطة بدء، تُواصل بعدها، مسيرتها القومية العربية التي توقفت عن السير عدة قرون.. فكانت الضربات التي أصابت العلاقات الإقطاعية في الريف والزراعة عندما ألغي نظام ’’الالتزام‘‘ و’’الأوقاف‘‘، وانتهت سيطرة المؤسسة العسكرية المملوكية التي دامت عدة قرون.. كما وأنهت حملات الجيش المصري الجيش العثماني ببلاد الشام، بخبراته التي أكتسبها بفتوحاته الأوروبية.
واتصلت أسباب العلم والحضارة بين العرب وبين أوروبا، فرأوا ثمار النهضة المؤسسة على العقلانية، والمُعتزة بالخصائص القومية، وأدركوا أثر انفتاح الأوروبيين على حضارتهم وتراثهم القديم في استنهاض وبناء كيانهم الحديث، وهو الأثر الذي تجسد في “الكلاسيكيات” الفكرية الأدبية والفنية التي انتزعت روعتها الإعجاب والاحترام.
ومن ثم كانت الدعوة إلى العروبة والقومية العربية، فنشأت الجمعيات: فكرية، وثقافية، ثم سياسية، وتصاعدت بأهدافها وأساليب نضالها إلى أن أصبحت حركة قومية عربية، امتلكت رؤيتها الواضحة وأهدافها المحددة لبناء دولتها القوية الواحدة.. امتلكت هذا الوضوح وهذا التحديد عبر طرق متعرجة مرت بها، ومن خلال ضباب فكري كثيف وقعت في أسره أحياناً.. فمن حركات إصلاح ديني، ذات طابع عربي إسماً، معادية للعثمانية والتتريك، بدرجات متفاوتة: كـ الوهابية، والسنوسية، والمهدية، مثلاً، إلى تيارات متباينة رفعت شعار ’’الجامعة الإسلامية‘‘ ثم تمايزت مفاهيمها لمضمون هذا الشعار وأهدافه وعلاقة هذا المضمون وتلك الأهداف بالفكر القومي وهدف العرب في بناء وحدتهم القومية؛ مثل تيار جمال الدين الأفغاني (1838-1897) وتيار مصطفى كامل (1874-1908) وتيار اللامركزية في المشرق العربي.. مثلاً؛ وخلال هذه العملية النضالية المعقدة تساقطت الشوائب وانقشعت الغيوم، وواكب وضوح الرؤية العربية في المسألة القومية صلابة عود الحركة القومية العربية، وانعكس ذلك كله في الثورات والانتفاضات والجمعيات والأحزاب والأدب السياسي، والفكر والفن الذي غدا مرآة الأمة العربية المعبرة عن الطور الجديد الذي بلغته في طريقها إلى بناء دولتها والوحدة المُجسّدة لقوميتها.
وعندما بدأت هذه اليقظة القومية في القرن التاسع عشر، كان الأدب السياسي العربي يستخدم مصطلح ’’الجنسية‘‘ بدلا من مصطلح ’’القومية‘‘، نسبة إلى ’’الجنس‘‘ الذي يُطلق على الجماعة من الناس؛ ولكن عموم هذا المصطلح الذي قد يطلق على كل الناس، قد جعل الأدب السياسي، يستخدم مصطلح ’’القومية‘‘ للدلالة على هذه الظاهرة المتمثلة في الجماعة البشرية العربية التي امتلكت قسماتها القومية الواحدة والساعية إلى إغناء وإثراء المحتوى التوحيدي لهذه القسمات، والخلاص من العقبات التي تحول بينها وبين بناء وحدتها القومية الجامعة.
فقد شهدت المنطقة العربية في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين العديد من المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية، التي كان لها أثر كبير في رسم الخارطة السياسية العربية بصورتها الحالية، فعلى المستوى المحلي كانت بداية المد الفكري وتبلور الحركة الوطنية ذات الطابع القومي والتي قامت كرد فعل طبيعي على الحركة القومية التركية والحركة الطورانية التي اتخذت من البعد القومي التركي ومحاولة تتريك العرب هدفاً وشعاراً لها، ما أثار حفيظة العديد من المفكرين العرب والدارسين وأصحاب الفكر المتنور ممن تلقوا علومهم في الغرب الذي كان سباقاً لبداية ميلاد عصر القوميات فيه، وفيما يتعلق بالمتغيرات الدولية فقد شهدت الساحة العربية في تلك الفترة بداية المطامع الاستعمارية الغربية التي اتخذت من تراجع الدولة العثمانية وإمبراطوريتها هدفاً سهلاً لتنفيذ أجندتها الهادفة إلى فرض الهيمنة والسيطرة على المنطقة العربية وفي نفس الإطار شكل الفكر الصهيوني في تلك الفترة والذي ظهر جلياً وواضحاً بعد مؤتمر بازل عام 1879، دوراً مهما في تحديد معالم الخارطة السياسية العربية وبداية تنامي الشعور القومي العربي بأهمية بناء الذات في سبيل تحقيق الوحدة العربية كرد فعل طبيعي على دعوات التتريك على المستوى العربي والتهويد على مستوى القضية الفلسطينية فيما بعد.
و قد كانت أولى الإرهاصات الفكرية للمد القومي العربي قد انطلقت من بلاد الشام و بالتحديد بعد حملة (محمد علي) عليها و التدخل الأوروبي الذي تبع ذلك, و الذي ساهم بجزء كبير في تبلور الفكر القومي العربي من خلال الدعوات للإصلاح بدايةً داخل إطار الدولة العثمانية و الدعوة لاستخدام أوسع للغة العربية في التعليم و الإدارات المحلية إي الإصلاح في إطار اللامركزية العثمانية كرد على سياسة التتريك التي لجأت إليها جمعية الاتحاد و الترقي العثمانية.
وبذلك يمكن أن نُعرف الحركة القومية العربية في تلك الفترة بأنها حركة أولئك العرب الخاضعين للسلطة العثمانية ضد سياسة التتريك وسعياً إلى الاستقلال، فقد بدأ الشعور القومي العربي يتزايد يوماً بعد يوم وبشكل خاص خلال الفترة التي شهدت انهيار السلطنة العثمانية وتزايد عمليات القمع العنيف بواسطة الجمعيات السرية التركية في بلاد الشام على يد ’جمال باشا السفاح‘ وإعدامه الكثير من الوطنيين بين عامي 1915 و1916، كما كان لبريطانيا التي استغلت علاقاتها مع الحركة الوهابية وتزايد مشاعر السخط تجاه الدولة العثمانية دور كبير في توجيه الوعي القومي العربي من خلال تحريضها لحاكم مكة الشريف ’حسين بن علي‘ – لصالح الحركة الوهابية – والتي استطاعت خداعه وإقناعه بالوقوف إلى جانبها في الحرب العالمية الأولى مقابل تأييد المطالب العربية القومية والتي شكلت الجزء الأكبر من القوة التدميرية التي عصفت بالدولة العثمانية وأطاحت بها نهائياً عام 1924؛ في المحصلة، ليست مرحلة تَكَوُّن الوعي القومي العربي الحديث إِلَّا المرحلة التي اصطلح المؤرخون على تسميتها بـ «مرحلة اليقظة» العربية؛ ولم تشذّ هذه المرحلة في إحيائها للغة والثقافة العربيتين، عن مراحل تَكَوُّن الوعي القومي لدى القوميات الأخرى.
الاتجاهات الفكرية والسياسية في مصر قبل ثورة تموز 1952:
في سبيل تحديد الاتجاهات الفكرية والسياسية في مصر قبل 1952، وتطور الفكر القومي في مصر لا بد من الاشارة إلى بعض الاتجاهات الفكرية التي سبقت حركة الضباط الاحرار وظهور الناصرية في مصر؛ فحال مصر في تلك الفترة لم يكن بأفضل من مثيلاتها العربية التي كانت تشهد مخاضاً عسيراً نجم عنه ولادة الكثير من حركات العمل الوطني والإقليمي والقومي نتيجة الظروف الدولية والإقليمية التي مرت بها المنطقة العربية في تلك الفترة، وفي إطار ذلك ظهر هناك العديد من الاتجاهات الفكرية في مصر – جلها مرتبط بالاستعمار – والتي تراوحت ما بين الدعوة للوطنية والإقليمية والقومية والتي كان ابرزها ما يلي:
* اتجاه إقليمي: حمل بين طياته أربعة اتجاهات فكرية متباينة من حيث الاهداف والغايات، فكان منها التيارات التي تبلورت بإطار وطني ذات أفق قومي بعيد، والتيارات التي قامت على نزعة اقليمية ضيقه دعت لعزلة مصر والعودة للتاريخ وتمجيد الدور الذي لعبته مصر الفرعونية بتبني “الفرعونية”، ومنها ما دعا إلى الاغتراب الكلي عن الحياة العربية من خلال الدعوة لإنشاء روابط اقليمية كالرابطة المتوسطية، يضاف إليها تيار انعزالي قام على الخصائص الجغرافية الداعي لوحدة مصر والسودان.
* اتجاه إسلامي: إذ اصبح الاسلام ظاهرة بارزة في أقطار المغرب العربي، وأصبحت معه القاهرة مرتكز الفكر العربي الإسلامي، وأصبح الأزهر جسر العبور نحو العالم العربي ومركز اشعاع حضاري، وظهر نتيجة ذلك تياران هما التيار التقليدي ومثله الازهر وعدد من الجمعيات الدينية التي جعلت من الوحدة الاسلامية محور نشاطها مع تبني فكرة الزعامة المصرية للعالم الإسلامي، ومثل التيار الثاني جماعة الاخوان المسلمين التي استهدفت تسييس الدين، بالإضافة للحزب الوطني الاسلامي ( جمعية مصر الفتاة سابقاً)، وقد طرحت تلك التيارات القضية العربية في إطار الجامعة الإسلامية على أساس أنها متضمنة في الاسلام وجزء منه والتي استطاعت أن تلعب دوراً في الحياة السياسية المصرية في مختلف مراحلها.
* اتجاه اشتراكي: فقد ساهمت الاوضاع المعيشية الصعبة التي مرت بها مصر في تلك الفترة بقوة في ظهور هذا الاتجاه، وكان لغياب السياسات التي تعالج المشكلات الاجتماعية ببرامج الأحزاب السياسية دور كبير في تطور هذا الاتجاه، ومن هنا كانت الأرضية مناسبة لظهور أولى الأحزاب اليسارية في مصر والذي تفرع عنه أول حزب شيوعي في العالم العربي في آب عام 1921.
* اتجاه عربي: والذي غاب لفترة حتى عام 1944 والذي تمثل بالدعوة لقيام اتحاد عربي شعبي، يُصار من خلاله الى تجديد فكرة الوحدة على أن يكون لكل دولة عربية شخصيتها، وقد مثل هذا الاتجاه تياران: الأول تمثل في نشاط النخبة المثقفة وإبداعها الفكري من موقع الدفاع عن عروبة مصر ومثله المازني والزيات وعبد الرحمن عزام؛ والاتجاه الثاني تمثل في الجمعيات التي كانت تحمل عناوينها ما يشير الى أنها عربية مثل “الرابطة العربية” و”جماعة الوحدة العربية” و”الاتحاد العربي” و”جامعة أدباء العروبة” والتي تفاوت خطابها السياسي ما بين وحدة البلاد العربية تحت راية مصر، والدعوة لتكوين اتحاد عربي شعبي يُصار من خلاله إلى تجديد فكرة الوحدة.
كانت هذه أبرز التيارات الفكرية المصرية التي لعبت دوراً كبيراً في الساحة السياسية المصرية قبل ظهور التيار والفكر الناصري، الذي كان له الفضل في وحدة مصر ووضعها في موقعها الصحيح، على طريق الدعوة للوحدة العربية، والتي كانت أبرز نتائجها تحقيق الوحدة المصرية السورية، فيما عرف باسم ” الجمهورية العربية المتحدة” عام 1958.
الإرهاصات الأولى لوعي عبد الناصر القومي:
هناك مجموعة من العوامل والمقومات التي ساهمت في تكوين البدايات الأولى للفكر القومي عند عبد الناصر، ممثلاً بالظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والروح الوطنية المتصاعدة في تلك المرحلة الممتدة من عشرينيات القرن الماضي حتى قيام ثورة يوليو المجيدة عام 1952، وفيما يلي أبرز العوامل التي تقف وراء البدايات لهذا الفكر:
1- الظروف السياسية المختلفة التي شهدتها مصر في فترة الملكية؛ والتي كشفت الكثير من المشاكل والتناقضات التي مرت بها مصر، ممثلةً بالاستغلال الزراعي الاقطاعي المدعوم من قبل السراي الحكومي للملك فاروق، والاستعمار الانجليزي ضد الفلاحين المصريين وأبناء الريف.
2- القيم الاجتماعية الموروثة، التي كان لها دور في ايقاظ الوعي الوطني لدى جماهير الشعب المصري؛ ففي الوقت الذي كانت تتعرض له بيوت الفلاحين والمنازل في مصر لقصف الطيران الانجليزي كانت الصيحات تتعالى ’’يا رب يا عزيز.. داهية تأخذ الإنجليز‘‘، فكان الادراك الأولي لدى جمال عبد الناصر في تلك الفترة بصيغة الرفض الشعبي للطغاة والغزاة، إذ بدأ الوعي لدى عبد الناصر يتشكل في تلك الفترة، فقال في ذلك ’’.. أتذكر أنني أُعجبت في طفولتي بعدد كبير من الأبطال؛ أعجبني غاندي كثيراً، وعندما كنت صغيراً استحوذ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم على كل إعجابي وتقديري، فقد كان زعيماً، وقائداً، كرس حياته لخدمة قومه.. ‘‘ ومن هنا كان الرسول قدوة جمال عبد الناصر عندما سخر نفسه لخدمة أمته العربية وقضاياها المصيرية، سواء من خلال إعلان وقوفه إلى جانب الكثير من الشعوب العربية ودعمها بالمال والسلاح ضد الاستعمار أو من خلال تأسيس منظمة عدم الانحياز برفقة ’’جوزيف بروز تيتو‘‘ و’’جواهر لال نهرو‘‘ من أجل أن تكون قوه عالمية ضد الهجمة الغربية الاستعمارية وفي خدمة قضايا الانسانية والتحرر العالمي.
3- النهوض القومي المتصاعد على الساحة العربية الدافع باتجاه ظهور النزعات الوطنية والقومية، والذي لعب الدور الأكبر في التعجيل بثورة 23 تموز 1952، فقد كان لمشاركة جمال عبد الناصر في الفعاليات القومية والتظاهرات والاحتجاجات الشعبية وبشكل خاص ما تعلق منها بالقضية الفلسطينية، دور فاعل في ولادة أحاسيسه القومية والعربية التي تُرجمت فيما بعد بفكره ورؤيته للقومية العربية والوحدة.
4- الهيمنة الاجنبية وما تبعها وارتبط بها من تخلف وضعف ومهانة للأمة العربية، كان لها الدور الأكبر في رؤية جمال عبد الناصر بأهمية استعادة روح الأمة انطلاقاً من الرسالة المحمدية التي جعلت أمة العرب خير أمة أخرجت للناس؛ لهذا تكاتف عبد الناصر ورفاق دربه ينشدون الوحدة للخلاص من الاستعمار وتبعيته.
حصارٌ يفضي إلى ثورة
إن ذلك الحدث التاريخي الذي وُلد فجر 23 تموز 1952، في القاهرة، كان قد تشكل جنيناً في (فلوجة فلسطين) عام 1948؛ حيث كان نفر من الضباط، والجنود ضمن وحدة عسكرية من كنانة العرب، مصر، في حالة حصار شامل مطبق عليهم من الجهات الأربع، وتشارك قوى متداخلة في فرض ذلك الحصار عبر أنساق متتالية، ومتشابكة:
– النسق الأول: أراغون، وهاجاناه، وما سمي “جيش الدفاع الإسرائيلي”
– النسق الثاني: جيش الاحتلال البريطاني من جهة قناة السويس، ومن جهة فلسطين؛ يؤمن الحماية للنسق الأول
– النسق الثالث: يديره السفير البريطاني من القاهرة، عن طريق بعض الأجهزة الفاسدة
– النسق الرابع: الحكام المُحّدثين على كيانات التجزئة التي تم ترسيم حدودها من خارج السياق التاريخي للأمة العربية، واعتداءً على وجودها، وبالتزامن مع إعلان “كيان إسرائيل”؛ أولئك الطغاة التابعين الذين أرسلوا جيوشهم إلى فلسطين بهدف وحيد، وهو ترسيم حدود ’’دولة المستوطنات الصهيونية‘‘ في فلسطين، ذلك أن الواقع على الأرض كان لمستوطنات صهيونية متباعدة في وسط كثيف من القرى والبلدات والمدن المأهولة، بين عرب فلسطين، مع إضافة عنصر هام كان قد بدأ يتشكل، وهو تواجد مقاومة عربية من جميع أرجاء الوطن العربي، حيث تنادى المناضلون العرب للانخراط في جيش الإنقاذ العربي، وفي الكتائب الفدائية العربية، وكانت تلك الفصائل التي بدأت بالتوجه إلى فلسطين تنمو، ويتسع نطاق عملياتها، وفي ظل تلك الأوضاع لم يكن بالإمكان إقامة (دولة إسرائيل)؛ إذ أن الدول، وهي أشخاص القانون الدولي، لا يمكن أن تقوم إلا ضمن ترسيم حدود مع الجوار، بين طرفين، أو بين أطراف ذات سيادة بمفهوم القانون الدولي، لهذا فإن الحل الوحيد لهذا المأزق كان بتقدم جيوش الدول (العربية) ’’ذات السيادة‘‘ إلى فلسطين، لتحقيق مهمتين في وقت واحد؛ الأولى: كانت إيقاف عمليات الفداء العربي التي بدأت تشكل خطراً جسيماً ليس على المستوطنات الصهيونية، وحسب، وإنما على سلطات الدول الفعلية التي أقيمت على الأرض العربية المجاورة لفلسطين؛ لقد حصل هذا التقدم تحت ادعاء كاذب بأن جيوش الدول “العربية” ستحرر فلسطين، وبالتالي لا حاجة لكتائب المقاومة العربية، فليعد كل إلى مكانه؛ و المهمة الثانية لتلك الجيوش، كانت ترسيم حدود الهدنة مع المستوطنات الصهيونية، فبذلك، وبذلك فقط، تقوم (دولة إسرائيل)، وفي الوقت ذاته تقوم تلك الجيوش بتسهيل تهجير عرب فلسطين من القرى، والبلدات، والمدن العربية التي تفصل بين المستوطنات الصهيونية، فتتحول تلك المستوطنات إلى ’’دولة‘‘ تحيط بها دول “ذات سيادة” لا تتخطى حدود الهدنة، وإذا تخطت ’’إسرائيل‘‘ تلك الحدود، فإن أقصى ما تُطالَب به هو العودة إليها، وإذا تكرمت، وعادت، فإن ذلك يعتبر بمفهوم تلك السلطات ’’نصراً مبينا‘‘!؛ لهذا فإن ’’إسرائيل‘‘ قامت بوعد بريطاني، ومؤامرة دولية، لكن قبل ذلك، ومعه، وبعده، قامت واستمرت، وتستمر بحماية جيوش ’’الدول الإقليمية‘‘ وأجهزة مخابراتها في الوطن العربي .
هنا سنقف، ونحن نحاول استكشاف المؤثرات التي صاغت ذلك الحدث التاريخي فجر 23 تموز 1952، لنحدد بوضوح لا لبس فيه، أن ما تقدم كان جانباً هاماً من المشهد، لكنه لم يكن المشهد كاملاً؛ ذلك أنه لو كان الأمر يقتصر على ما ذكرنا لكانت النتيجة مجرد تمرد بانقلاب عسكري، يتبعه صراع بين العسكر على السلطة، كما حدث في سورية، حيث توفرت ذات المؤثرات العامة، والتي كانت الدافع، أو المبرر للانقلابات التي حدثت.
ففي كنانة العرب، مصر، توفر جانب آخر من المشهد كان مكملاً ومتفاعلاً إلى أقصى حد مع الجانب الأول، وتمثل ذلك الجانب الهام في الظرف الذاتي المتمثل بشخص جمال عبد الناصر الذي قبض على اللحظة التاريخية، وأيضا في الظروف الموضوعية التي كانت سائدة في كنانة العرب لحظة عودة الوحدة العسكرية من الحصار في “فلوجة فلسطين”، والتي شكلت بجانبها السلبي استفزازاً وتحدياً، وشكلت بجانبها الإيجابي حاضنة، ورافعة ومنصة للحدث المُنتظر؛ ويمكن الإشارة، باختصار شديد، إلى الركائز الهامة في هذا الجانب من المشهد، الذي كان سائداً في مصر، خلال الفترة من 1948، وحتى فجر 23 تموز 1952.
ففي ظل تلك الأجواء المضطربة، والمتحفزة، عاد المُحاصرين من ’الفلوجة‘ (ضباطاً أحراراً)، وكانت الظروف الموضوعية في مصر العربية، السلبية منها والإيجابية مهيأة، ومتحفزة، لحلٍ يُخرج البلاد من أزماتها المستعصية، فالأوضاع السلبية المتمثلة في الفساد، والهيمنة البريطانية على الحكم، والوجود العسكري البريطاني المستفز للمشاعر، خاصة بعد أحداث فلسطين، وعجز باشوات السياسة في الأحزاب، والجماعات حتى الشعبوية منها، عن تحقيق طموحات الجماهير التي أعطتها كل ما تملك، دون أن تتلقى أي مردود؛ هذا كله استدعى الحل من خارج تلك الفئات؛ أما على الجانب الآخر، من المشهد في مصر، فقد كانت المجموعات الفدائية التي توجهت إلى منطقة القناة، تشكل إرهاصات هامة لما يجب أن يكون عليه الحل لمشكلات مصر، فكل شيء يجب أن يبدأ بالتخلص من الاحتلال، وهكذا تم التلاحم بين الضباط الأحرار، وبين الفدائيين، تدريباً، وتسليحاً، وتنسيقاً، وأكمل الضباط الأحرار رسم الصورة بالاتصال مع جميع القوى، والأحزاب السياسية على تنوعها، يحاورون، ويناقشون، ويستمعون، ويؤثرون، ويتأثرون؛ وفي الوقت ذاته ينتشر تنظيم الضباط الأحرار داخل الجيش، فالمؤسسة العسكرية، هي المؤسسة المُرشحة، لإحداث التغيير المطلوب، في تلك الظروف؛ وهكذا، فإن أربع سنوات، من الجهد المضنى، كانت كافية ليظهر إلى النور ذلك الحدث العظيم في فجر 23 تموز 1952.
التشكيلات السياسية بعد الثورة في 23 تموز، وقبل 1958:
– هيئة التحرير: وهي الصيغة الاولى للتشكيلات السياسية، تأسست في 23 كانون ثاني سنة 1953، التي قادت الثورة واستقطبت الجماهير من أجل تأمين الدعم الشعبي المستمر للثورة، وقد كانت صيغة ’’هيئة التحرير‘‘ كتنظيم سياسي أقرب لصيغة ’’هيئة التحرير القومي الفرنسية‘‘ التي تكونت حول ’شارل ديغول‘ ليقود من خلالها مسيرة التحرير وبناء المجتمع الفرنسي فيما بعد؛ وقد كانت تلك الصيغة أول تنظيم سياسي شعبي عكس فكر عبد الناصر الشعبي وكان الهدف وراء انشاء تلك الصيغة، دعم الثورة وملء الفراغ السياسي بعد تعطيل الأحزاب، وهي لم تكن حزباً بقدر كونها برنامج يسعى لتنظيم قوى الشعب وبناء مجتمعه على أسس جديدة.
– الاتحاد القومي: وهي الصيغة الثانية والتي تمثلت في تشكيل الأحزاب والتنظيمات السياسية الداعمة له، أنشئ في 3 تشرين ثاني 1957، والتي جاءت للتأكيد على الاستقلال السياسي والاقتصادي، ففيها تم التأميم والذي جاء للقضاء على الاستغلال الامبريالي وسيطرة رأس المال الأجنبي، وفي تلك المرحلة تمت تصفية العدوان الثلاثي على مصر وتحرير بورسعيد عام 1956، وفيها بدأت عملية البناء الاقتصادي، القائمة على التصنيع وتصفية كل العلاقات الخارجية، القائمة على التبعية والاستغلال، والسعي الدؤوب لفرض سلطة الشعب وسيطرته على وسائل الانتاج في سبيل تحقيق الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، وقد ضم الاتحاد القومي في عضويته المهنيون والمثقفون الذين لا يمكن التخلي عن خبراتهم وجهودهم بالإضافة للعمال الذين تركزوا في قطاعي الغزل والنسيج والصناعات الخفيفة الأخرى؛ كما شكل الفلاحون الغالبية العظمى داخل هذا الاتحاد واللذين وقفت الثورة إلى جانبهم، ناهيك عن الرأسمالية المصرية والتي وإن كان التعامل صعباً معها بداية الأمر، إلا أنه تم تطويعها أخيراً لتلتقي كل تلك الفئات والشرائح الاجتماعية في المراحل التالية من مراحل التنظيم والنضال.
وقد قامت فلسفة الاتحاد القومي على ركيزتين أساسيتين الأولى: تتمثل في مفهوم الاتحاد للوحدة الوطنية، باعتباره أساساً لصيانة الوحدة الوطنية، من خلال تجمع قوى الشعب وأحزابه في إطار حزبي، وتكتل سياسي واحد، وهذا من شانه إقامة المجتمع المنشود بالحد من الخلافات الطبقية والفئوية، وتقليصها إلى أقل درجة ممكنة، والتأكيد على أهمية مشاعر التضامن والوحدة بين المواطنين؛ والركيزة الثانية: تتمثل في مفهوم الاتحاد من أجل الديمقراطية الاجتماعية؛ فالديمقراطية السياسية لا يمكن تحقيقها وفق رؤية عبد الناصر ما لم تقترن بشروط ومتطلبات اجتماعية واقتصادية تدعمها وتتمثل في تحرر المواطن اقتصادياً واجتماعياً من أجل أن يكون مؤهلاً للحرية السياسية.
يتبع..
التعليقات مغلقة.