الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (2/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (2/4)

ثم لنعد إلى كلمة النهاية التي قالها عبد الناصر: ” النصر عمل… وكل شيء يبدأ بالإنسان ” . ونبدأ بفكر عبد الناصر الإنسان وإيمانه، إيمانه بالله، والإيمان بالوطن والوطنية، والإيمان بالعروبة ووحدة الأمة مصيراً وغاية، والإيمان بالتقدم الإنساني والتحرر والثورة، والإيمان بقضية الجماهير المسحوقة وحقها في الحرية والكرامة والمساواة والعدالة، من إيمان ينيره الفهم والممارسة والعقلانية، ليصوغ التوجه العام لفكر عبد الناصر ولتجربته السياسية والنضالية .

ومثل هذا الإيمان للإنسان، أي مجمل القناعات التي تترسخ في منحى تفكيره وحياته، هو الذي يصوغ توجهه الايديولوجي العام، في مواجهة المسائل التي تطرحها عليه تجربة الحياة التي يخوضها، والإجابات التي يقدمها، وهي التي تحدد منحى مواقفه وتوجهاته، أي هي التي توجه في النهاية سياساته .

وإذا كان تقدم العمل على التخطيط النظري، وتقدم الممارسة على التوضيح الأيديولوجي، هما اللذان حكما المسار العام لتجربة عبد الناصر، فإن ممارسته السياسية والنضالية، كانت تستهدي ومنذ بداياتها، بقناعات ومنطلقات أساسية صاغتها الحياة في نفسه وصاغتها ثقافة البيئة الي نشأ فيها، ومنبته الطبقي والاجتماعي، والمرحلة التي كان يمر بها مجتمعه من مراحل التطور التاريخي في معطياتها المادية والروحية. ولكن عبد الناصر كان ومنذ بدايات تجربته أيضاً منفتحاً على روح أبعاد التقدم التي بلغتها الدول المتقدمة ومنفتحاً على روح العصر، وبهذا الانفتاح كان مدركاً لحالة التأخر التي يعيشها مجتمعه، وجاء يحمل هذا النزوع الثوري للتغيير والدفع بحركة التقدم إلى أقصى ما يطيق مجتمعه وقواه النضالية…

إن مبدأ التعلم من التجربة الذي كان يؤكده عبدالناصر، واستخلاص النتائج بالتعلم من تجربة الخطأ والصواب، في سبيل إنضاج حركته الثورية، والتقدم بفكره وتخطيطه للمستقبل … إن هذا المبدأ وقد وقف الكثيرون عنده في التعليق على مسار فكر عبدالناصر السياسي ليصفوه بالبرغماتية أو التجريبية، لا يجوز الوقوف به عند هذا الخط من التجربة في الوصف، وليس من تجربة إلا ووراءها حوافز وأفكار. وممارسة عبد الناصر، لا نستطيع أن نفهمها ونفهم عمقها وأبعادها، إلا عندما نفهم الخلفية الأخلاقية والفكرية التي كان ينطلق منها عبد الناصر. فالتعلم من تجربة الخطأ والصواب لم يأت في سياق عفوي أو من منطلق تكتيكي صرف، بل كانت تحكمه معايير ومقاييس أساسية انطلق منها عبدالناصر، وهي التي كانت تحدد قيمة الخطأ وقيمة الصواب في مسار الممارسة. وإن أي ناقد منصف، إذا ما حاول الإطلال على مسار تجربة عبدالناصر في مراحلها كلها، فإنه لا يجد فيها إلا ما رسمته على أرض الوا قع من جدلية الممارسة، أي الممارسة الثورية التي تملك حس التاريخ ومراحل تطوره، والتي تنطلق من معايير أساسية وتتوجه إلى أهداف تندرج في سياقها التاريخي، وكأنها الحتمية التي يرسمها منطق التطور وحرارة الحياة .

إن الذين نقدوا فكر عبدالناصر وعارضوه، أو الذين انتصروا له واخذوا به، كثيراً ما أصدروا أحكامهم على منحاه الأيديولوجي العام بالوقوف به عند نقطة معينة أو مرحلة محددة من مراحل نضجه، أو هم اخذوا به في جانب من جوانبه دون الإحاطة به في كليته ومسار نضجه، أو هم وضعوا فيه منظورهم الخاص وقناعاتهم المسبقة… فالبعض مثلاً لم يجدوا فيه إلا فكراً تقليدياً تأثر بعض الشيء ” بالفكر التاريخي والمنظور الماركسي للاشتراكية ” والبعض قالوا إن أيديولوجيته هي أيديولوجية طبقته البورجوازية الصغيرة في تأرجحها الفكري ونهجها التجريبي والتكتيكي، بينما وجد فيها البعض الآخر، ومنذ بداياته، الثورية الكلية والكاملة. بعضهم وقف عند نهجه الأول في صياغة الدولة وعلاقتها بالمجتمع وقواه الاجتماعية والبعض مضوا معه إلى النهاية ليجدوه وقد أخذ بالمنهج الاشتراكي العلمي الكامل لصياغة الدولة والمجتمع. وبعضهم ومن خلال موقف معادٍ أو مؤيد في مرحلة، كان يمسك بكلمة يقولها عبدالناصر أو فكرة يطلقها في خطاب، ليُصّدر من خلالها حكماً على الخلفية الأيديولوجية التي يتوجه منها عبدالناصر، فلقد رأينا مثلاً عدداً من المزايدين على عبد الناصر باليسارية والثورية يقفون عند كلمة قالها في خطبة له وقف يشرح فيها ظروف هزيمة حزيران (يونيه) ووقائعها إذ قال: ” ولا يُنّجي حذرٌ من قدر “، ليمسكوا بهذه الكلمة وحدها وليعلقوا ويحكموا على تفكير عبد الناصر، بالغيبية والقدرية… واللا علمية..

هذا بالنسبة لبعض ناقديه والمزايدين بالثورية، أما بالنسبة للمنتسبين لعبد الناصر وفكره، فإن بعضاً من المجموعات التي تشكلت تحت عنوان ” الناصرية ” والالتزام بنهجها، لم يأخذوا منها إلا الجانب الذي يلائم مصالحهم ووضعهم السياسي والطبقي المحافظ أو البورجوازي، ووقفوا بها أيضاً عند مرحلة من مراحلها أو وقفة من وقفاتها، وظلوا يخافون من كلمة طبقة وصراع طبقي، ومن كلمة حزب سياسي أو ثوري، بل ومن كلمة ” الاشتراكية العلمية ” تخصيصاً، وظلوا يقولون باشتراكية عبد الناصر من غير اشتراكية وبرفض مقولة الصراع الطبقي وبرفض الحزبية والتنظيم الحزبي، لينتهوا إلى تفريغ الناصرية من كل مضمون ديمقراطي وتاريخي وثوري .

ذلك أن فكر عبدالناصر الأيديولوجي يستعصي على التصنيفات الأيديولوجية التقليدية، وهو لا يدّرَك إلا في إطار جدليته الخاصة ومسار تشكله من البداية حتى النهاية، إذ أنه فِكرُ الثورة وهي تتشكل منتقلة من مرحلة إلى مرحلة ومتدرجة من إنجاز إلى إنجاز، وهو فِكرُ الثورة وهي تتجاوز نفسها باستمرار إلى الأمام. وإذا كان هناك من تصنيف ينطبق عليها، فهو ما يسميه بعض المفكرين الماركسيين بالثورة المستمرة ” فهي الثورة ” الوطنية الديمقراطية المصرية المتعددة المهمات، المتداخلة المراحل، الآخذة ببعدها القومي العربي إطاراً وهدفاً وحدوياً، المتوجهة باتجاه الاشتراكية عمقاً ومضموناً… وفكرها إذا ما بدأ من الفكر الوطني الليبرالي يضاف له تأثره على نحو ما ببيئته الثقافية الخاصة وما تأصل فيها من قيم دينية وأخلاقية، فلقد تقدم منفتحاً على الفكر القومي العربي متمثلاً له ودافعاً بآماله نحو التقدم والمستقبل لا السلفية والماضي، وتقدم منفتحاً على الفكر التحرري الإنساني والاشتراكي منه بوجه خاص. وتقدّم فكر عبد الناصر كان مرتبطاً بتقدم تجربته وممارسته، ولكنه كان محكوماً بواقع عبد الناصر السياسي ومسؤولياته منذ بداية تجربته، ولذا فإنه وفي كل مرحلة وفي كل نقلة ينتقلها إلى الأمام، لم يكن يعطى أبعاده القصوى نظرته الشمولية، وكأن تلك المسؤوليات كانت قيداً عليه وتطالبه بالوقوف عند حد معين من الالتزام الأيديولوجي .

ولنعد هنا الى مقتطفات من كلام عبدالناصر عن تشكل تطلعاته الثورية وثوريته في حديث مطوّل أدلى به في حزيران (يونيه) عام 1962 (أي في مرحلة اعلان الميثاق الوطني) لمورغان مندوب صحيفة الصنداي تايمس الانكليزية، قال: ” كثيراً ما سئلت هذا السؤال: متى أصبحتَ ثورياً لأول مرة؟ وهو سؤال تستحيل الإجابة عليه، فهذا الشعور أملته ظروف تكويني وتنشئتي وغذاه شعور عام بالسخط والتحدي اجتاح كل أبناء جيلي في المدارس والجامعات، ثم انتقل إلى القوات المسلحة… “. ” إنني الابن الأكبر لأسرة مصرية من الطبقة المتوسطة الصغيرة وقد كان أبي موظفاً صغيراً في مصلحة البريد يبلغ مرتبه الشهري نحو عشرين جنيهاً، وهو مرتب يكفي بصعوبة لسد ضرورات الحياة… وكان أبي قلقاً بسبب آرائي السياسية حتى في أيام التلمذة، فقد سجن أخوه أيام الحرب العالمية الأولى بتهمة الإثارة السياسية.. ولكنني بعد اشتراكي في المظاهرة السياسية الأولى دخلت الميدان بكل جوارحي وأصبحتُ رئيس لجنة لتنظيم المقاومة ولا سيما مقاومة السيطرة الساخطة. ولقد كان ذلك متنفساً لا بد منه لعواطفنا الحادة ولشعورنا بالكبت الذي يضغط على وطننا… في سنوات التكوين هذه شغلت اهتمامي كل الأحزاب السياسية التي كان هدفها الأول أن ترد إلى الشعب حريته. وقد انضممت مدة عامين بعد مظاهرة الاسكندرية الى جماعة مصر الفتاة ولكن تركتها بعد أن اكتشفت أنها رغم دعواها العالية لا تحقق شيئاً واضحاً. وقد فوتحت في عدة مناسبات للانضمام للحزب الشيوعي لكني رغم دراستي للمذهب الماركسي وكتابات لينين وجدت أمامي عقبتين أساسيتين، عقبتين كنت أعلم أن لا سبيل للتغلب عليهما- الأولى هي ان الشيوعية في جوهرها ملحدة- وقد كنت دائماً مسلماً صادقاً أؤمن إيماناً لا يتزعزع بوجود قوة فوق البشر… أما العقبة الثانية فهي أني أدركت أن الشيوعية معناها بالضرورة سيطرة من نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية- وهذا ما كنت أرفضه رفضاً باتاً- وقد كان كفاحي وكفاح زملائي طويلاً وشاقاً لانتزاع السلطة من الطبقات الاقطاعية ولتحطيم السيطرة الأجنبية على مصر ولتحقق بلادنا الاستقلال الصادق الذي كانت تحتاج إليه احتياجها إلى أنفاس الحياة. وعلى هذا فلقد كان مجرد الظل لسيطرة أجنبية أمراً لا استطيع أن أقبله. وقد كانت لي اتصالات متعددة بالإخوان المسلمين… وهنا أيضاً وجدت أمامي صعوبات دينية، فقد كان في تصرف الأخوان المسلمين ضربٌ من التعصب الديني وما كنت لأرضى بإنكار عقيدتي أو بأن تحكم بلادي طائفة متعصبة. وكنت واثقاً من أن التسامح الديني لا بد وأن يكون ركناً أساسياً من أركان المجتمع الجديد الذي كنت أرجو أن أراه قائماً في بلادي. وتبلورت مشروعاتي لمستقبلي بعد عقد المعاهدة المصرية الانجليزية عام 1936 التي نجم عنها أن حكومة الوفد أصدرت مرسوماً يقضي بفتح الكلية الحربية للشبان بصرف النظر عن طبقتهم الاجتماعية أو ثروتهم… فالتحقت بالجيش بعد أن كنت أدرس في كلية الحقوق… كان الجيش المصري حتى ذلك الوقت جيشاً غير مقاتل- وكان من مصلحة البريطانيين أن يبقوه على حاله- أما بعد ذلك فقد بدأت تدخله طبقة جديدة من الضباط الذين كانوا ينظرون إلى مستقبلهم في الجيش بوصفه مجرد جزء من جهاد أكبر لتحرير شعبهم… ثم كانت ظروف الحرب العالمية الثانية وفي هذه المرحلة رَسخت فكرة الثورة في نفسي رسوخاً تاماً، أما السبيل إلى تحقيقها فكانت لا تزال بحاجة إلى دراسة وكنت يومئذ لا أزال أتلمس طريقي إلى ذلك… ” (وبعد الكلام عن أثر حوادث فبراير ( شباط) في نفس عام 1942 حين تدخل جيش الاستعمار البريطاني مباشرة ليفرض التغيير الوزاري الذي يريده) قال: ” وبالنسبة لي- كان عام 1945 أكثر من عام انتهاء الحرب- فقد شهد العام بداية حركة الضباط الأحرار.. وقد ركزت حتى سنة 48 على تأليف نواة من الناس الذين بلغ استياؤهم من مجرى الأمور في مصر مبلغ استيائي- والذين توفرت لديهم الشجاعة الكافية والتصميم الكافي للإقدام على التغيير اللازم- وكنا يومئذ جماعة صغيرة من الأصدقاء تحاول أن تُخرج مثلنا العليا العامة في هدف مشترك وفي خطة مشتركة- وكانت بي رغبة عارمة للمعرفة- فأقبلت على الاطلاع بنهم والتهمت كتب المفكرين من أمثال لاسكي ونهرو، بل وأنيوزين بيغان، وبدأت الأفكار الاشتراكية تتكون شيئاً فشيئاً… “.

وإذا كان من حوافز الثورة الإحساس بالمهانة الوطنية التي يلحقها الوجود الاستعماري البريطاني، فلقد جاءت أحداث عام 48 وحرب فلسطين لتضيف حوافز جديدة ولتكشف أمام عبدالناصر الواقع العربي العام، واقع التأخر والتبعية وقال: ” اتضح لي عندئذ أن المعركة الحقيقية هي بالفعل في مصر، فبينما كنت ورفاقي نحارب في فلسطين كان السياسيون المصريون يكدسون الأموال من أرباح الأسلحة الفاسدة التي اشتروها رخيصة وباعوها للجيش، ولقد كان من الضروري تركيز الجهود لضرب أسرة محمد علي… وكان في نيتي أن نحاول القيام بثورتنا في سنة 1955- (لاستكمال التنظيم والتخطيط والاستعداد)- لكن الحوادث أملت علينا قرار القيام بالثورة قبل ذلك بكثير… ” .

_________________

يتبع..

ثانياً- فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية (3/4)

التعليقات مغلقة.