
( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة السادسة والعشرون: (الفصل السادس– معضلة الشرعية)
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
الفصل السادس
معضلة الشرعية:
ـ وكان النظام قد استمد شرعيته الأولى من وعود “الوحدة والحرية والاشتراكية”، التي فَقدتْ مضمونها بمرور الوقت، ثم حملت شحنة تحريضية ضده، دفعت السوريين إلى مقارنة أوضاعهم بما قدم لهم من وعود براقة، انتهت إلى نتائج معاكسة لمقولاتها، ووضعت السلطة أمام خيارين، رفضت أولهما وعجزت عن ضمان ما تطلبه الثاني، هما:
ـ إعادة النظر في هويتها، والحد من طابعها الشمولي، وعصبيتها الطائفية، … أو ….
ـ ايجاد مصادر جديدة للشرعية، توّهم السوريين أن النظام بلور أهدافاً جديدة تستجيب لرغبتهم في التغيير، وأن عليهم قبولها والتكيف معها.
ـ واجهت الأسدية منذ عام ١٩٧٠ معضلة جدية في سعيها إلى امتلاك شرعية تتفق وإرادة الشعب أو قطاعات وازنة منه. وبما أن هدفها كان تضليلياً، وقرارها المضمر تمحور على إعادة انتاج بنية ما قبل مجتمعية، لا يقرها الشعب، أو يمنحها قبوله الطوعي، فقد أناطت تحقيقها بأجهزة دولتها العميقة، القمعية الوظائف، وبممارسات همشت دور المواطنين في خططها الصفرية وتأثيرهم عليها، خشية اهتزاز توازن نظامها الداخلي، وما يمكن أن يحدثه الرفض الشعبي من ارتدادات سياسية سلبية عليه، تقوض شرعية سيد /عبد التي كرستها الأسدية بعد عام ١٩٧٠، وجعلتها دليلها في علاقاتها مع السوريين، وأوكلت رعايتها إلى أجهزتها، ورأت فيها حاضنة استقرارها، ونهجها الموجه إلى إخراج المجتمع من السياسة والسياسة من المجتمع، ليبقى رفض النظام مقتصراً على النطاقين الفردي والشخصي، فلا يفضي إلى تكوين بيئة جماعية سياسية المآل، تتجاوزه بمرور الوقت تنظيمياً وفي مواقفها.
ـ لمواجهة معضلة الشرعية، التي تحدى اكتسابها سلطة تتمسك ببنيتها المؤدلجة والمغلقة، كما تتعين بأجهزة دولة طائفية عميقة، تفتقر إلى عمومية مجتمعية يمثل غيابها عنها مصدراً خطيراً لمشكلاتها، وللإكراهات التي تواجهها بنيتها في ما يتصل بأساليب لبناء أو لاكتساب شرعية تختلف عن تلك التي بلورها حافظ الأسد ودمر ابنه سورية بواسطتها، وتتلخص في معالجة المرض بمزيد من مسبباته، كاستخدام السياسة لتخويف الشعب من العنف، واستخدام العنف لإبعاده عن السياسة.
ـ لمواجهة استعصاء بناء شرعية بديلة لشرعية الأقنوم الثلاثي الذي أفلس، نشر النظام فكرة عن الواقعية السياسية ترى فيها “قبول الشعب بواقعه”، مهما كان قاسياً ولا انسانياً، وأحكمت السلطة قبضتها على عنقه. هذا الفهم للشرعية نجده لدى نظم الفاشية والاستبداد، التي ترى أنها تمنح الشرعية من ذاتها، وليس من قبول المجتمع الطوعي بها، هذا إذا جاز أن يطلبه “قائد” من مجتمع موالٍ له، ويسير على النهج الذي رسمه له، ولا شك في أنه يمنحه قبولاً لا تحفظ فيه، وإن لم يعبر عنه، لعدم الحاجة إلى القيام بما يثير مجرد وقوعه الشبهات والشكوك بين طرفي علاقة يقرر أولهما، أي السلطة، ما يجب أن يكون، ويوافق ثانيهما، المجتمع، موافقة مطلقة عليه، بالنظر إلى أن موافقته هي التعبير الوحيد عن وجوده السياسي، الذي يربط أطرافه ويوحدها، والفعل السياسي الوحيد الذي يحظى بموافقة “القائد”، ويكمن فيه التماهي المطلق بينه وبين الشعب، الذي عليه إظهار تعلقه به كمصدر لشرعية نظامه، المستندة إلى إخراج المجتمع من السياسة، الذي حاولت الأسدية ترسيخه من خلال المحافظة على استمرارية نظامها بواسطة سياسات من طابقين: واحدة حكومية، ظاهرة ومعلنة، يراها السوريون في كل شأن وموقع، وأخرى جهازية، سرية ومغفلة، لا يراها أحد مع أنها موجودة في كل مكان، وتخترق كل إجراء، وتقرر ما يتم من سياسات ويُتخذ من تدابير في الطابق الأول، إنها الدولة الطائفية العميقة، التي تحدد أنماط تفاعل الحكومة مع قضايا الشأن العام المتباينة، بما للدولة من حصانة تحميها من المساءلة والرقابة، وتمكنها من وضع يدها على معظم موارد الدولة والمجتمع، ومن التحرك في أطر يعرف المنتمون إليها خرائطها وتضاريسها، لكونها تمثل بقياداتها وقواعدها ضرباً من شعب بديل، محض سلطوي، هو الذي كان يعنيه حافظ الأسد عندما كان يتحدث عن “شعبنا”، في الخطاب الذي القاه عام ١٩٨٠ خلال زيارة تفقدية قام بها إلى “سرايا الدفاع”، سبقت هجومها على المدن عامة وحماه خاصة، بما لهذا الشعب من حضور كثيف ومنظم في الجيش، يحشد بمعونته قدراً من الأتباع الفاعلين يفوق ما يستطيع حشده أي طرف معارض، أو المعارضة مجتمعة. هذا الشعب الخاص والبديل، هو حامل الشرعية الأسدية، التي لا تحتاج الى قبول مجتمعي، بوجوده.
ـ هذه الازدواجية البنيوية، التي تبقي مجتمع الشعب طرفياً ومنفعلاً بالمقارنة مع طابقي السلطة الظاهر والخفي، تخلو من المشكلات التي تقف وراء “أزمات” النظم الأخرى. يرجع ذلك إلى حقيقة أن المؤسسات الأسدية لا تسمح بإقامة علاقات متبادلة، أو من طبيعة ارتدادية، مع الذين تحكمهم. إلا أنه، وبينما تخلو علاقة الطابق الخفي، بقيادته في القصر الجمهوري، من الأزمات والمشكلات، بفضل انصياعه المطلق لها، وتنفيذه ما تقرره دون اعتراض أو تحفظ او نقاش، يمكن للطابق الظاهري أن يتخذ إجراءات، ويتبع سياسات كيفية لا تحترم إرادة الشعب، فإن رفضتها جهة ما منه، استعان بالدولة العميقة، دولة الطابق السري، وعالجها بإشرافها. يرجع ذلك إلى محدودية صلاحيات الحكومة، وما تستطيع اتخاذه من تدابير تلتزم بدورها التزاماً مطلقاً بما تقرره القيادة، شأنها في ذلك شأن الدولة العميقة، الجهة المكلفة بإدارة المجتمع بالأزمات، وبما يتطلبه اختلاقها ورفدها بعناصر تزيدها تفاقماً باضطراد، وتحول دون أي تدخل للشعب في حلها. ومن يراقب الخدمات العامة على سبيل المثال، سيضع يده دون صعوبة على “فن الادارة بالأزمات”، التي تغطي حياة المواطنين وأسرهم من كافة جوانبها، وأكد حكم الأسدية المديد أنها أفعل “أفضل” طريقة لإخراج الشعب من السياسة وتفكيك صفوفه وإخضاعه. لذلك، دأبت السلطة على اختلاق الأزمات وتضخيمها وإدامتها، فإن حان وقت حلها، يكون السبب رغبة السلطة في تدفيع الشعب ثمنها، مع أنه كان ضحيتها الوحيدة خلال فترة نموها وإنضاجها. في هذه الأثناء، يكون النظام قد أسس أزمة أو أزمات جديدة، وبدأ بتنميتها وتعقيدها، لتكون أشد وطأة، وأعلى كلفة من سابقاتها. لعبت الإدارة بالأزمات الدور الرئيس في فصل الشرعية عن المجتمع، الذي شحن بأزمات قوضت أهليته لان ينشط كمجتمع موحد، وقادر بالتالي على أن يكون طرفاً قادراً على منح الشرعية للنظام أو حجبها عنه، الأمر الذي عزز دور الدولة العميقة في منح وحجب شرعية مغايرة للقبول الشعبي. حدث هذا، لأن النظام صدّرَ أزماته إلى المجتمع ووطنها فيه، لمنعه من بلوغ سن الرشد. لذلك، وبدل أن يسعى لإقناع المواطنين بأنه يعمل للصالح العام، تراه يقنعهم أنه يحكمهم ليحول دون إيجادهم مشتركات سياسية يكون لهم الحصة الأكبر في بلورتها، وليحتكر تغذيته بوعي الضعف والذلة، الذي يعزز استبداده “بوضع ما لديه من قوانين في خدمة مصالحه الخاصة”([39]).
ـ فصل رئيس النظام عن أي مؤثر مصدره المجتمع، لأن الرئيس هو مرجعية عليا مشتركة لطابقيّ السلطة ومؤسساتها. وحتمية تضخيم أعداد المنتسبين إليهما بحيث يكون بإمكانهما احتواء سورية، ومصادرة إرادة شعبها لضبط ومنع تخلق توجهات جامعة، وبيئة وطنية مجافية للسلطة فيها، كي لا تتعين بإرادات خارجية وتوازنات دولية ايضاً. يكمن فنّ الحكم، كما يمارسه الرئيس، في التخطي الدائم للتعارض بين المصالح العليا للدولة والمجتمع في سورية، على أن يأتي لصالح دولة السلطة، بعد أن يحددها، ويعين طرق التعامل معها، بالتعاون مع الدولة العميقة، وفي ظل الغطاء الدولي المطلوب، لِما للعلاقات الدولية من أهمية بالنسبة للتعويض عن شرعية النظام الوطنية، ولإقناع أرباب القرار الخارجيين بدوره في ضمان نفوذهم ومصالحهم. بذلك، اهتمت أجهزة دولته العميقة بتدجين الشعب، ليكون حالة باردة لا تصدر عنها شرعية، وحرص هو كرئيس على بقاء علاقاته مع السوريين محكومة بمبدأ سيد/ عبد، كتعبير عن صلاحياته المطلقة في الداخل، التي يستخدمها كواحدة من أدوات تكيفه مع الخارج، واكتساب شرعيته منه كجهة كانت قد دعمت وصوله إلى السلطة، وساعدته على البقاء في الحكم رغم تخلي نظامه عن الشرعية الوطنية أو الشعبية.
ـ هذا الوضع، أدى إلى نتيجتين حددتا وظائف الدولة العميقة، هما: اعتمادها العنف لردع وتنظيم علاقاتها مع السوريين، وطبع علاقات السلطة بالداخل السوري بطابع شمولي، يغطى تدابيرها بقرارات استثنائية وتوجيهات سرية، طوحت بما كان في سوريا من موروث قانوني ودستوري، وأزالت ما كان باقياً فيها من حقوق إنسان ومواطن. عند الحديث عن دولة عميقة، لا يدور الأمر حول دولة داخل الدولة، بل حول نمط دولة السلطة، التي بلغت ذروة تطورها بعد انقلاب عام ١٩٧٠، وما حُجِبت به مما هو مألوف في النظم القانونية والشرعية من وزارات وهيئات تمثيلية وبيروقراطية ومنظمات مدنية وأهلية. هذه الدولة العميقة، دمجتها الأسدية كطرف خفي في حاضنتها الدولية، لتبدو صلاحياتها وكأنها جزء من اختصاصات الطابق الاول، الظاهر والإداري، وغير المتورط بالعنف، والمحدود القدرة على اتخاذ القرارات في القضايا الحاكمة للعمل الرسمي، والتابع للدولة العميقة والخاضع لإشرافها السري واليومي، ولكن اختبائها وراء طابق السلطة الأول يوجه رسالة إلى العالم الخارجي، لإقناعه بأن عنف طابقها الثاني شرعي وقانوني وتمليه اعتبارات إدارية، وضروري لضبط مجتمع تصعب السيطرة عليه ديمقراطياً، ولا يضير العالم إن أخضع للقوة.
ـ كان من الضروري أن يرى العالم في الدولة الأسدية العميقة أداة يمكنه استخدامها مباشرة أو بالواسطة، داخل سوريا وخارجها، بالتعاون مع المشرف الأعلى عليها ومنسق أعمالها: حافظ الأسد. وكان من الطبيعي أن تكون قيادات الدولة العميقة، وليس وزارات الحكومة، هي من يجري التفاهمات الحقيقية، ويُعد الخطط المشتركة، ويحدد الالتزامات المتبادلة مع الخارج، من تحت الطاولة غالباً، حيث تطبخ الوجبات الدسمة، وتنشأ “وحدة الحال” بين قادة الأجهزة السرية وزملائهم من رجال الاستخبارات الدولية، شركاؤهم في الاغتيالات والعمليات الإرهابية والخطف، والإخفاء القسري، والاتجار بالبشر، والمخدرات، وإعداد ملفات تباع الى دوائر معلومات واستخبارات دولية ليكون لها مصلحة في إبداء الحرص على من يزودها بها، بصفته الحبل السري الذي يربط الأسدية بالخارج، ويزودها بقبوله كجزء لا يتجزأ من نظام أمن دولي، ينتشر عبرها إلى المنطقة العربية وما وراءها من مناطق وقارات بعيدة.
ـ سد ثغرة القبول المجتمعي كمصدر للشرعية، بواسطة العمل الرسمي في مختلف أصعدته: سواء منها “المبدئي” المتصل بالأقانيم الثلاثة، التي لا يعني إفلاسها التخلي عن دورها في إقناع السوريين بقابليتها للتطبيق، أم “العلائقي”، الذي يربط وظيفية الأسدية بمختلف الدول الأجنبية ومصالحها، وعاد عليها بمكانة قلما توفرت لنظام عربي، لأن الأسد، كما قيل في تسويقه داخلياً، قائد استثنائي كجوزيف ستالين وكيم إيل سونج، وليس مجرد قائد ملهم، كجمال عبد الناصر([40]). وفي النهاية، على صعيد نتائج السياسات الأسدية، وهي، كما قال إعلامه بألف طريقة، قصة نجاح لا تشوبها شائبة، حوّلت سورية من دولة هامشية إلى مركز عربي/ اقليمي/ دولي التقت عنده خيوط ومصالح المعنيين بالمنطقة، الذين يجدون أنفسهم أمام نظام قوي، وقائد أجبرتهم ظاهرته على قبول طريقته في الحكم، والالتقاء في منتصف الطريق معه كـ”قائد” يتمتع بدعم جماعي من الشعب السوري، الفخور به كرئيس ملهم، أنجز باسمه ونيابة عنه ما لم ينجز ولو جزءاً بسيطاً منه كل من مر على سوريا من قادة، وحكومات.
ـ هذا الوضع المعقد، بتنوع أنماطه المباشرة وغير المباشرة، بدأ بنمطه الأول، الذي يستحق اسم “شرعية القبول الصامت”، وهي، بالنسبة للنظام، التعبير الأصدق والأعمق عن الشرعية، بما يصحبها من “تفويض وإنابة”، كضرب من تكليف شعبي “للقيادة” (لقب حافظ الأسد) بفعل ما تراه باسم السوريين، ودون العودة إليهم، أو اخذ رأيهم مسبقاً فيه، ما دام منطلقه ثقة تبلغ حد التماهي بين إرادة القائد ورغبات شعب”ه”. وقد حرص حافظ الأسد دوماً على لفت أنظار زواره إلى هذا التفويض الشعبي، الذي يدمج الإرادة العامة في إرادته، ويجعلها جزءاً من صلاحياته، لذلك من غير الجائز اعتبار صمت السوريين تغييباً لهم عن الواقع السياسي، أو حجباً لدعمهم للنظام، فالصمت ليس دليلاً على الاقصاء، كما أنه ليس صمتاً، بل إثبات لشرعية التفويض والإنابة، التي تصدر عن ثقة مطلقة هي بمثابة تصويت يومي على الولاء لرئيس النظام، يؤكد إحجام المواطنين عن الاعتراض على ما يقوله أو يفعله، فالصمت ليس هنا دون معنى، بل هو ضرب من ديمقراطية عميقة توحد الحاكم والمحكوم، منزهة عن الإكراه والاستبداد والظلم، وهل كان من المعقول أن إسكات الشعب، لو وقع فيها ما يكدر صفوها!. رعت الأسدية “شرعية الصمت” بصفتها نوعاً مثالياً من “شرعية القبول”. وزاد من تجذرها ترجمتها إلى “شرعية خوف” ما انفكت الأجهزة السرية تعمق بواعثها، وتكرس تظاهراتها الخاصة والعامة في سلوك المواطنين، عبر إرهاب استباقي ولحاقي شامل، بالكاد بقي في سورية من لم يستهدفه، سواء انتقد الأمر القائم أم لم ينتقده، وكان من المهم والحيوي بالنسبة للأسد أن يتقاسمه السوريون بالقسطاس، ويكون مرئياً في حياتهم، ويتداولوا حكاياته عبر تبادل قصصه اليومية.
ـ صادرت الأسدية صوت الشعب، وحالت بينه وبين أن يدلي بدلوه في ما يقبل او يرفض، وأعلنت ان ما يقوله “القائد” ويفعله يتماهى مع ما يريده ويأمله كل سوري، فهو يتحدث باسمه ولسانه، وتقتضي مصلحة الوطن العليا ومصلحته الشخصية إطاعته، توطيداً لنمط من الشرعية لم يكن معروفاً في سوريا قبل انقلاب عام ١٩٧٠، هو “شرعية التماهي” بين “القائد” وما كان يسميه “شعبنا”، والتي يحضر السوريون بواسطتها إلى الشأن العام، وإن بصور غير مباشرة دوماً، فتنتهي غيبتهم عنه، من خلال قيام الأسد بما يلبي ما في كوامن نفوسهم وعقولهم من رغبات ومطالب وتوقعات، يعرفها دون أن يفصحوا عنها، لأنه هو الذي أوحى لهم بها. بكلام آخر: لا توجد في سورية، ومن غير الممكن أن توجد أزمة شرعية كتلك التي تعرفها بقية دول وشعوب العالم، لأنه لا يوجد فيها أصلاً طرف آخر تصدر الشرعية عنه، باستثناء دولة السلطة العميقة، المتجسدة في رئيس بلغ من تماهي الشعب معه أنه يترجم استباقياً ما يتفق مع إرادته، علماً بأن الشعب ما كان لينجح في التعبير عنها، لو ترك الأمر له. لهذا السبب وغيره، لا ينطبق على الأسدية ما ينطبق على السلطة في البلدان الأخرى، فهي أكمل تعبير عن وحدة السياسي والمجتمعي، القائد الاستثنائي والمواطن العادي، الإرادة العامة وإرادته الخاصة، فلا عجب إن توفرت له شرعية لم تتوفر لغيره، هي “شرعية القبول الاستباقي”، التي تفوق في أبعادها ودلالاتها “البيعة”، وتعني منحه الحق في أن يقرر ما يريده بعيداً عن أية قيود قانونية أو ممارسات دستورية، أو توقعات. هذا الواقع، يبدل هوية الشرعية، فتصبح فعلاً واحدي الاتجاه، يصدر في جميع صوره وحالاته عن القائد، الذي يضفي شرعيته على الذات الشعبية العامة، المرتبطة به، والمستقل عن ما عداه، والواجبة الوجود به وحده، فلا عجب إن حضر الشعب فيه حيثما يكون، ويصير شعباً له ليكون شعباً شرعياً. بالشرعية التي تصدر عنه كقائد، وتفيض على الأفراد، ويكفي لنيلها أن يكون لدى أحد من السوريين بطاقة شخصية موقعة منه، أو أن يقود سيارة تحمل لوحتها رقماً من أرقام سيارات قصره الجمهوري!.
الشرعية الخارجية:
ـ لم تؤرق الشرعية الداخلية وحدها الأسدية، بل أرقتها مشكلة أكبر هي بناء توازنات خارجية تحافظ على الموقع الوسط، الذي أراد أن يشغله في وضع دولي قرر أن ينجو نظامه من ارتداداته السلبية عليه، بالتكيف مع تحولاته والإحجام عن القيام بما قد يشجع القوى الدولية على التخلي عنه، أو يخل بوضع دولته العميقة الداخلي. في هذه النقطة، ارتكب بشار الأسد خطأً جسيماً، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وما ترتب عليه من اختلال بنيوي في التوازن الدولي، وموقع الأسدية الخارجي، وواجهها من بدائل حدُها الأول الرضوخ للولايات المتحدة، أو إيجاد معادل لها في عالم خلا منه، وحدُها الثاني إقامة توازن بينها كطرف دولي خارجي وبين داخل سوري يتم تفعيله سياسياً بالمشاركة الشعبية والحريات الديمقراطية، وعقد جديد بين مجتمع استعاد دوره كمصدر للسيادة، وسلطة تقبل التخلي عن أكذوبة “شرعية التفويض والإنابة” أو “القبول الاستباقي”، التي اقتصرت تاريخياً على دول الاستبداد الفاشية.
ـ برفض الأسد الابن البديل الشعبي/ الوطني، الذي اقترحَته وألحت عليه “لجان إحياء المجتمع المدني”([41])، وشاركت في المطالبة به قطاعات واسعة من الشعب السوري، وبقراره التحالف مع جمهورية إيران الإسلامية كبديل للسوفييت وطرف مقابل لواشنطن، اتسعت الهوة بين السوريين والنظام، وتحولت واشنطن من ضامن للأسدية زمن الأب، إلى متربص بها، رد على ما اختارته خلال زيارة قام بها وزير خارجيتها، الجنرال كولن باوّل، إلى دمشق في الثالث من أيار عام ٢٠٠٣، اعتبرت “بداية تدخل أميركي لبناء شرق أوسط جديد”([42])، طالب أثناءها بتغييرات تطال قضايا رئيسة بالنسبة للنظام. حين سأله الأسد عن الضمانات الضرورية لقبول المطالب، رد باوّل: ستأتي الضمانات بعد التنفيذ، وعلى قدره. حدث هذا في حمأة تصريحات أطلقتها كوندوليزا رايس، مستشارة الأمن القومي الأميركي، حول “تدخل أميركي عميق لبناء شرق اوسط جديد محوره إسرائيل، لأن أمنها ليس مفتاح أمن الشرق الأوسط وإنما أمن العالم كله. وكشفت النقاب عن أن باوّل حمل ثلاثة مطالب غير قابلة للتفاوض هي: عدم تدخل النظام الأسدي في الشأن الداخلي العراقي، وحل حزب الله اللبناني وإبعاد تهديده عن إسرائيل، وعدم عرقلة خطة “خريطة الطريق” للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، التي ستكون مبادرة للحل النهائي، وستُعلن في شهر حزيران من عام ٢٠٠٣”([43]). بقرار الأسد الابن موازنة علاقاته مع واشنطن بتحالفه مع إيران، وضع نفسه ونظامه خارج “الشرعية الخارجية”، التي كان أبوه يعتبرها الحاضنة الأكثر أهمية لنظامه، وانحاز إلى جهة رفعت علاقته معها الغطاء الدولي عنه.
… والمذهبية:
كان حافظ الأسد قد عزز شرعية “القبول الصامت والتفويض والإنابة والرضى الاستباقي”، أو شرعية الاستبداد المطلق، “بشرعية القبول الدولي، الخارجية”. ووضع بعد ثورة إيران حجر الأساس لمشترك طائفي/ مذهبي بين الدولتين، نوّع الأسس التي أقام علاقاته الخارجية عليها، وحولها من أسس حاضنتها المجالين العربي والدولي، إلى أخرى مغايرة، تحمل شحنات معادية لهما، نهض عليها نظام عقدي الركائز، إيراني المركز ومعادٍ للعرب، أراد تحصين نظامه به، رغم تعارضه الجذري مع أقانيمه، فكأنه أراد استباق عاصفة لن يقوى على مواجهتها بقدراته الذاتية، لم يجد طريقة لدرئها خيراً من فك ارتباطه بالعرب وربط مصيره بإيران، حاضنته الاقليمية الجديدة، التي ستساعده على الصمود لأطول فترة ممكنة، في عالم عربي ضعيف ويتفكك، وستمده بحلفاء يتيحون لدولته العميقة المزيد من اختراق وإخضاع السوريين، بما سيترتب على تحالفه مع طهران من تزايد في نفوذه من جهة، وتبدُل بنيوي في المجتمع ووظائف السلطة ومؤسساتها العسكرية، التي ستتكامل مع وظائف الأجهزة الايرانية بمهامها العربية والإقليمية، فضلاً عن ما سيحدثه التغير المعتقدي من تغير في هوية من يعيشون في ظل “الشرعية المذهبية”، المعززة بحامل طائفي داخلي، وصولاً إلى التقويض التام للهيئة المجتمعية العامة كمصدر للسيادة، وإخراج النظام من الحقلين الوطني والقومي، بإشهاره هويته الطائفية كبديل لهما.
ـ بالعلاقات مع إيران، التي كانت أولى نتائج تحالف الأسد الابن معها هي الإجهاز على استقلال سورية وهويتها القومية، واستبدالهما بتحالف دمجي/ عقدي سياسي في ظاهره، مسح شرعية القبول الشعبي الصامت، التي لم يجد وارث السلطة الأسدية غضاضة في التخلي عنها، لإقامة بديل مذهبي يشرعن سلطته بقدر ما تكون معادية لشعبها وللعرب، بعد أن تبنى موقف أبيه من الاستعانة بطهران في حماية نظامه من الداخل السوري، كما لم يجد غضاضة في شن حرب شعواء على السوريين، الذين دمرت ثورتهم شرعيات نظامه، فاقدة الشرعية جميعها، والقائمة على سلطة نافية للإرادة العامة والسيادة الشعبية، فواجهها بشرعيته الحقيقية الوحيدة: الطائفية داخلياً والمذهبية خارجياً، وبمصدرها الوحيد: سلاح الدولة العميقة بفرعيها الجيشي والمخابراتي، المكرس لهدف وحيد هو ردع أي فاعلية مدنية وسلمية تجسد الإرادة المجتمعية، والقضاء على أي ثورة تستهدف توطين سورية كطرف وطني وقومي فاعل في أمته العربية، وتعزيز دورها في التوازنات الدولية، وفك ارتباطها بملالي إيران، ومقاومة خططهم ضد الوطن العربي، كما وضعها الخميني عام ١٩٨٠ “من منطلق المسؤولية الإسلامية والتكليف الإلهي، وعلى ضوء ذلك فان مفهوم تصدير الثورة يعني تصدير مفاهيم وقيم الإسلام، استجابة للمسؤولية الشرعية في الدعوة إلى الإسلام وإيصال مبادئه إلى جميع البشر… إننا نريد تصدير ثورتنا السياسية والثقافية إلى جميع الأقطار الإسلامية، ولو تم تصدير الثورة المباركة، فإنها ستحل المشاكل في أية منطقة تصلها”.
ـ آلَ وعد “الوحدة والحرية والاشتراكية” إلى طائفية عضوض تسندها بمذهبية أجنبية توسعية وإقصائية، توطنت منذ أواسط ستينيات القرن الماضي في النظام الانقلابي الذي عاشته سورية، فكان من الطبيعي أن تلزمها طائفيتها بالمساعدة على تبني وتصدير ثورة إيران المذهبية إلى سورية، ثم إلى وطن عربي فقدت انتماءها إليه، رغم أكاذيب وزير خارجيتها وليد المعلم في لقاء جمعه بـ ماورا كونيللي، الأمين العام المساعد لمكتب شؤون الشرق الأدنى بالخارجية الأميركية، قال فيه: “إن سورية الأسد ليست تابعة لإيران، وإن علاقات البلدين تقوم على المصالح، وطهران تدعم المصالح السورية وخاصة في مجال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي”([44]). بانتقال الأسدية من “الشرعية المستحيلة”، التي أُطلق عليها مختلف الأسماء، إلى “شرعية الاستباحة”، التي أضفتها الطائفية والمذهبية على علاقاته مع شعبه والعرب، انتقل نظامها من قمع السوريين فرادى إلى قتلهم جماعات وفرادى، ببنادق الحرس الثوري، ومن أرسلهم من مرتزقة لبنانيين وعراقيين وأفغان وأوزبك، والشبيحة المحليين.
___________
هوامش:
[39] د. محمد مهدي: ماذا يعني الاستبداد النفسي، موقع اليوم السابع، ٢٥/٢/٢٠١٢.
[40] هاني خليل: الاسد كقائد استثنائي . جريدة البعث ، ١٢/٨/١٩٩٧
[41] تشكلت في سوريا اواخر شهر ايار من عام ٢٠٠٠، قبل وفاة حافظ الاسد بأسبوعين، واصدرت وثيقة الألف ووثيقة التوافقات ، واسست حركة المنتديات ، ولعبت دورا هاما في الحراك اللاحق ضد النظام.
[42] جريدة البيان: باول يبدأ من سوريا جولة تغيير المنطقة … ٣/٥/٢٠٠٣.
[43] جريدة البيان: باول يبدأ من سوريا جولة تغيير المنطقة ، ٣ ايار ٢٠٠٣.
[44] سورية وايران : علاقة تبعية أم مصالح؟. موقع الجزيرة نت.
………………..
يتبع.. الحلقة السابعة والعشرون: (الفصل السابع- التشوه البنيوي، السلطة الطائفية ودولتها)
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.