كه يلان محمد *
« الحرية أولاً » خاص..
حضور المرأةِ في حقل الدراسات الدينية والحفريات المعرفية مؤشرُ إلى انفتاح الأفق بوجه تأويلات جديدة للنصوص المؤسسة للأحكام والمفاهيم الفقهية وبالتالي لم يعد هذا المجال حكراً لصوت الفقهاء، بل بدأت الاشتغالاتُ للإبانة عن حيثيات عملية التعتيم على دور ومواقف النساء في مناهضة هيمنة التأويل الذكوري للنص المقدس. حول رهانات الحراك النسوي في إنجاز قراءة مختلفة للتيار السائد بشأن المعطيات الدينية كان لنا حوار مع الباحثة اللبنانية ريتا فرج وهي متخصصة في علم اجتماع الإسلام ودراسات المرأة رصد في كتابها ” إمرأة الفقهاء وإمرأة خطاب اللامساواة في المدونة الفقهية” التباين فيما كان عليه دور المرأة في بداية الإسلام والمنحى الارتكاسي الذي اتخذته النظرة لموقعها لاحقاً جراء تشابك عوامل متعددة.
- تتواردُ في كتابك مواقف عدد من النساء في مناهضة المرويات التي تهدف إلى تكريس هيمنة التأويل الذكوري لمفهوم المقدس. برأيك، لماذا لم تؤسس هذه المحاولات لخطاب فقهي مختلف؟
_ لا يرتبط ولوج المرأة أبواب المعرفة الدينية في الإسلام بالتاريخ الحديث والمعاصر، تكشف لنا المصادر النصية التراثية عن أدوار عدة للنساء في تطوير وبناء المدونة الدينية، مما يدل على انخراطهن المبكر في السجال أو الجدال الشرعي الذي ظهرت أولى إرهاصاته مع زوجتي الرسول عائشة بنت أبي بكر وأم سلمة. حيث ذكرت كتب أسباب النزول دورهما بما ورد في الآيات القرآنية الخاصة بالنساء والتي عكست- إلى حد كبير- التوتر في العلاقات بين الجنسين داخل المجتمع الإسلامي في بداياته .
تشير النصوص التراثية المبكرة التي درستها الباحثات في قضايا الإسلام والجندر أو المنضويات في الحركات النسوية المعنية بمواقع النساء داخل الإسلام، إلى صورة «عائشة» التي تقوم بدور المعارضة الحريصة في ما يتعلق بالأحكام الشرعية غير المنّصفة للنساء، والتي لم تخضع للقدر الكافي من البحث في آليات الجندر في بداية القانون أو الشريعة الإسلامية، تلك الروايات الخاصة بمناسبات نزول الآيات القرآنية (أسباب النزول) وفي طليعتها حق النساء في الميراث، بعد أن طالبت بعض النساء به، وتم منحهن هذا الحق على الرغم من معارضة رجال المدينة/ يثرب.
قدمت المسلمات منذ مراحل تاريخية مبكرة إسهامات بارزة في أبواب المعرفة الدينية، وبرهنت دراسات معاصرة حول القرون الإسلامية الأولى على وجود ثمانية آلاف إمرأة اضطلعن في كل العلوم الإسلامية كالحديث والتفسير والفقه. وهذا يدل على حجم الفاعلية النسائية في المنظومة الدينية الإسلامية، ولكن غالباً ما يتم إغفالها أو تناسيها لصالح الشخصيات البطريركية في المدونة التراثية الإسلامية، علماً أن كتب الطبقات والتراجم ملأى بأمثلة عن النساء المحدثات والمتصوفات، ومَنْ شَغلنَ موقع الفتوى والفقيهات. لقد أحصيتُ في دراسةٍ لي “النساء والفقه: الفقيهات المنسيات في تاريخ الإسلام” (مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2018) وجود 26 فقيهة منذ مرحلة الإسلام المبكر حتى القرن السابع عشر ميلادي. وعلى الرغم من أن هذا العدد قليل إذا قورن بعدد المحدثات، بسبب تقييد أدوار النساء في العلوم ومن ضمنها العلوم العقلية، لقرون طويلة، لكنه مؤشر جندري وثقافي وحضاري كاشف عن الدور المبكر للمسلمات، فعائشة بنت أبي بكر على سبيل المثال أدرجها أبو إسحاق الشيرازي الشافعي في طبقات الفقهاء، وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: “لو كانت امرأة تكون خليفة لكانت عائشة خليفة”. ويمكن أن نشير إلى شخصية أخرى من الفقيهات وهي دهماء بنت يحيى بن مرتضى من القرن الخامس عشر ميلادي، صنفت كتباً منها: “الأنوار في شرح الأزهار في فقه الزيدية” لأخيها المهدي. وتُعد هذه العالمة الفقهية من الأسماء القليلة التي سجلت المصادر أسماء مؤلفاتهن وتراثهن المكتوب. والمؤسف أن العدد الأكبر من مؤلفات وكتب الفقهيات في الإسلام ضاع، والمعلومات عنها قليلة.
أشير إلى أن الحضور النسوي في التأويل وتفسير المدونة التراثية الإسلامية ليس نتاج الأمس، وأميل إلى وضع أي ظاهرة دينية أو اجتماعية في الفترة الطويلة للتاريخ من أجل فهمها ودرس عواملها.
إن المشتغلات اليوم في دراسات المرأة والإسلام والجندر كثيرات في العالم العربي والغرب، وقد نشرن منذ عقود كتباً في الفقه، ووضعن مقاربات جديدة تتقاطع أحياناً، وتختلف غالباً مع المنظومة الفقهية التقليدية؛ وأصبح لهن حضورهن وفاعليتهن في المشهد الثقافي، حجاجاً وإنتاجاً وحضوراً إعلامياً وتأثيراً في الخطاب الفقهي السائد. نلفت في السياق إلى ألفة يوسف صاحبة كتاب “حيرة مسلمة“، وهي عالمة قديرة، وقد أثار كتابها حفيظة المؤسسة الإسلامية التقليدية، وقد استعانت ليس بالأدوات الكلاسيكية والمصادر المواكبة للنص القرآني في القضايا المرتبطة بالنساء فحسب، بل استخدمت مناهج العلوم الاجتماعية الحديثة. ذهبت باحثات نسويات أخرى إلى مقولات “إسلام ما بعد الأبوي” وأخريات دعيّن إلى تجاوز بعض الآيات القرآنية حين تعطل المساواة أو العدالة الكلية القرآنية.
إن خطاب النسويات المعاصرات مؤثر في الفضاءات العامة، سلباً أو إيجاباً، وفي المجال الثقافي، تأليفاً وقولاً. وقد خرجن بأطروحات وخلاصات جديدة تقارع التفسير الديني الأبوي في الإسلام، ولكن تأثيرهن في الإسلام التقليدي، يكاد يكون غير ملحوظ وموجود، فالمنظومة البطريركية الدينية تدافع بقوة عن نفسها وتتبنى لغة متوترة تجاه “النسويات المجددات”، لأنها تخشى من أن تخسر أدوارها، ولأن خلفية العديد من رجال الدين المنضوين في المؤسسات الإسلامية، خلفية تراثية لا تأخذ بالاعتبار التطورات الهائلة في شروط وفهم النص الديني، لذا لا تتقبل الحداثة الدينية في ميادينها المختلفة، لا سيما إذا تم رفعها من النسويات، فرمزية المرأة في الإسلام، مدججة بالحمولات الثقافية والدينية والاجتماعية، وأجد نفسي هنا أستحضر ما قالته العالمة الكبيرة فاطمة المرنيسي في كتابها “الجنس كهندسة اجتماعية“، إذ تشير إلى القيود التي وضعها الإسلام على النساء، وتبني هذه الخلاصة على أساس أن النساء يشكلن خطراً على الأمة بسبب رغباتهن الجنسية التي تسبب خطراً للرجال، وتقول: “إن البنية الاجتماعية الإسلامية كلها يمكن رؤيتها كهجوم على القوة المشتّتة للطبيعة الجنسية الأنثوية”.
يتطلب تاريخ استقبال النصوص الدينية، أن تكون دوائر التقليد في الإسلام أكثر انفتاحاً على الدراسات الجديدة، ومن مهم إشراك النساء العالمات في الميادين المختلفة المتعلقة بحركة الحقوق في صناعة الفقه الخاص بهن.
- لا يُفرق النص القرآني بين الجنسين على المستوى الوجودي. هل كان إقصاء المرأة من فضاءات اجتماعية وسياسية وعبادية انعكاساً لمشيئة إلغائية؟
_ لا يمكن الحديث عن إقصاء كلي للنساء المسلمات من الفضاءات الاجتماعية والسياسية، كانت المرأة عبر التاريخ حاضرة في المجتمع والسياسة وثمة شواهد كثيرة على ذلك. أما في مجال العبادات فالنساء كالرجال متساويات ومتساوون في أداء العبادات، ولا نكاد نجد في القرآن في مجال التكاليف الدينية، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب أي تمييز بين الجنسين. لكن التمييز في القرآن يظهر في القوامة والإرث والشهادة. وآية 34 الواردة في سورة النساء {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ ۚ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ ۚ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ ۖ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا} حظيت بتأويلات عدة مفارقة للفقه التقليدي، الذي رأى أن القوامة تعني مسؤولية الرجل على المرأة بكل ما يترتب عليها من سلطة معنوية وتأديبية والتي وصلت إلى حدود منع النساء من الإمامة والولاية العامة.
نلاحظ أن المشتغلات في دراسات الإسلام والجندر أو “الإسلام النسوي” قدمن تفسيرات متقدمة، من بينهن أسماء برلاس ورفعت حسن وأسماء المرابط وأمينة ودود وغيرهن. وقبل هؤلاء النسويات المجددات المشتغلات في أدوات وشروط الفضاء التقليدي، نقدت نظيرة زين الدين القائلين بـ الولاية المطلقة قائلة: “الولاية ليست مطلقة، بل مقيّدة بمصلحة من عليه الولاية، وليس من مصلحة المرأة أن يحرمها رجلها، في مقابل إنفاقه، حرية هي لها منحة من الله في شرعه، مستبداً بها كما يهوى، فقد جاء في الإنجيل ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بمعنى أنه يحتاج إلى الحرية لإحياء روحه، كما يحتاج إلى الخبز لإحياء جسده. وتستشهد زين الدين بمجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية لهذه الغاية، منها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ } (سورة النساء، الآية 135) و ” أَحْسِنُوا إِذَا وُلِّيتُمْ، وَاعْفُوا عَمَّا مَلَكْتُمْ “.
يشكل إقصاء النساء جزءاً أصيلاً في بنية المنظومة البطريركية وينعكس بدوره على مجالات اجتماعية وسياسية عدة. لكن النساء عبر التاريخ تمكن من تثبيت حضورهن بالقوة حيناً وبالحيلة حيناً آخر.
إن الواقع التاريخي الاجتماعي والسياسي، غالباً ما يكون أقوى من النص المقدس، ولنلاحظ أيضاً أن إسلام الفرق والمذاهب أنتج مواقف مختلفة ومتباينة تجاه قضايا الجندر ومواقع النساء في المنظومة العقدية والحياتية (السياسية والاجتماعية)، إذ إن العديد من المسلمات وصلن إلى مناصب مهمة في الحكم، نذكر منهن ست الملك الفاطمية والحرة أروى الصليحية اليمنية وشجرة الدر، وأنظر هنا لدور المرأة في السلطة خارج التصنيف الإثني أو العرقي، أي حضورها بالنسبة لي هو حضور أنطولوجي، أي حضور الذات الأنثوية في قمة السلطة.
ما أود التأكيد عليه مرة أخرى كما قال فرهاد دفتري أن “البيئة التاريخية للإسلام تميزت بالدينامية والتنوع على مستوى المجتمعات والفرق والمدارس الفكرية، وكذلك على مستوى مواقفها من القضايا السياسية والدينية”. وفي السياق فإن “بعض فرق الخوارج – كما يذكر فهمي جدعان في كتابه خارج السرب– قد أجاز إمامة المرأة، وخلافتها أيضاً، كالشبيبية، “أتباع شبيب بن يزيد بن أبي نُعيم، الخارج في خلافة عبد الملك بن مروان وصاحب الحروج العظمة مع الحجاج بن يوسف الثقفي. وهم على ما كانت عليه الحَكَمية الأولى، إلاّ أنهم انفردوا عن الخوارج بجواز إمامة المرأة وخلافتها. واستخلف شبيب أمه غزالة، فدخلت الكوفة وقامت خطيبة، وصلَّت الصبح بالمسجد الجامع، فقرأت في الركعة الأولى بالبقرة، وفي الثانية بآل عمران”.
هنا نطرح سؤالاً إشكالياً: هل إسلام الفرق كان أكثر انفتاحاً من الإسلام الرسمي/ السُنّي على قضايا النوع؟ ويشتق من هذا سؤال آخر: هل الإسلام العربي أكثر تشدداً من الإسلامات الأخرى المنتشرة في أوروبا والبلقان وتركيا وإيران؟
إن إمكان المناورة والتفاوض النسائي مع المنظومات الأبوية لاكتساب الحقوق، أوسع وأرحب مما نظن، على الرغم من الضغوط الهائلة الذي تمارسه في مجالات الدين والمجتمع والسياسية والجنس.
- تشيرين إلى أنَّ استنطاق الفقهاء لمدلولات النص القرآني، انطلق من ترسبات بيئة سادت فيها العقلية الذكورية. كيف نفهمُ امتدادات ذلك الموروث وأسبقيته على ما يصرحُ به النص الأول؟
_ أفهم مما تقصده “بالنص الأول” القرآن الكريم. إن البيئة التي حضنت الحضور التاريخي للنص القرآني هي بيئة يهمين عليها النظام الأبوي، على الرغم من وجود آثار للنظام الأمومي في بعض الممارسات في حقبة ما قبل الإسلام أو القريبة من الإسلام خصوصاً في المدينة/ يثرب. لكن القرآن في المقابل قدم خطاباً مساواتياً في مسائل عدة مرتبطة بالنساء تخالف الثقافة السائدة، وهو أيضاً تأثر بالثقافات المحيطة به، أو تلك القريبة من حدوده.
إن النص القرآني حمّال أوجه وهو يأخذ هوية قارئه أو مفسره، وفي المقابل ليس بمقدورنا عزله عن محيطه وسياقاته وأسباب نزوله لأن ذلك يسهل على المتلقي وعلى الجماعة الفهم والتفاعل معه وتكييفه مع مستجدات العصر، وأحياناً تجاوزه حين يعطل المساواة.
إن الفقه التقليدي الغالب في بنيته وجوهره فقه بطريركي، تأثر في المحيط الذي نشأ فيه، فأنتج نصاً فقهياً معادياً للنساء وغير قادر على التحرر من المركزية الذكورية لصالح الجوهر المساواتي. وفي التاريخ المعاصر ما زال الفقه التقليدي الغالب الساعي إلى احتكار تفسير النصوص، يدافع عن حصونه وقلاعه ضد الأصوات التي تريد استعادة الجوهر المساواتي القرآني، الذي تطالب به بشدة الناشطات في الحركة النسوية الإسلامية، أي اللواتي طالبن بجهاد مضاد للتمييز بين الجنسين. وقد اتفق مع أفكار وخلاصات عدة أتت به هؤلاء النسويات ولكنني اختلف معهن في الذهاب بالنص القرآني إلى أقصاه، فمع أهمية التمييز بين النص وتفسيره، لكننا ندرك أنه من الصعب- أحياناً كثيرة- تحريره من طابعه المعادي للنساء، إذا كانت الطبقات الأبوية أصيلة فيه .
- من الملاحظ أنَّ معظم الأسماء النسائية البارزة في القراءات الأركيولوجية والتأويلية للنصوص المقدسة تتوزع في جغرافية محددة ويأتي المغرب العربي في المقدمة هل تجدُ هذه المساعي حاضنة في البيئات الأخرى؟
_ لا تقتصر الدراسات النسوية المهتمة بمواقع النساء في الدين والتاريخ والمجتمع والثقافة والجندر، على “جغرافية محددة” أي المغرب العربي، حيث يحضرني هنا الباحثات المرموقات على سبيل المثال لا الحصر: آمال قرامي، ورجاء بن سلامة، وألفة يوسف، وأسماء المرابط وغيرهن. ففي الدول العربية الأخرى كمصر ولبنان وفلسطين وسورية والعراق والسعودية والكويت، ثمة إنتاج نسوي متقدم يحاكي الأدوات والمناهج التي عملت عليها الباحثات في تونس والمغرب، كما أن الحركة النسوية في إيران المعارضة للخطاب الديني والسياسي المتشكل منذ عام 1979 قوية وفاعلة ومؤثرة في الإنتاج النسوي، أذكر هنا زيبا مير حسيني التي لها مواقف متقدمة من الفقه التقليدي أو الفقهاء في الإسلام التي طرحت عليهم سؤالاً أساسياً: إذا كانت العدالة والمساواة هي القيم الجوهرية والمبادئ الأساسية في الإسلام والشريعة فلماذا لا تنعكس هذه العدالة والمساواة في القوانين التي تنظم العلاقات بين الجنسين والحقوق بين الرجل والمرأة؟ لماذا النصوص الفقهية الإسلامية تحدد شروطاً للشريعة تؤدي إلى معاملة النساء كمواطنات من الدرجة الثانية ووضعهن تحت سيطرة الرجال؟ ميزت ’حسيني‘ بين الشريعة والفقه وما يترتب عليهما ويتشعب عنهما معرفياً وسياسياً.
وفي استحضاري للنسويات العربيات أنوه هنا بالخلاصات المهمة التي تقدمت بها الأكاديمية والباحثة المصرية ليلى أحمد في مؤلفاتها ودراساتها، وقد اشتغلت على مقاربات ومناهج مهمة ولافتة. ولعل أكثر ما شدني إليها في كتابها “المرأة والجنوسة في الإسلام: الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة” التمييز الذي أقامته بين صوتين مميزين في إطار الإسلام وصورتين متنافرتين ومتنافستين من حيث الجندر: القواعد أو الرؤية البراغماتية الفقهية/ الأبوية والرؤية الأخلاقية الصوفية. تقول في السياق: “فحتى عندما قام الإسلام بتأسيس الزواج بناء على تراتبية جنسية، أكد الصوت الأخلاقي- ذلك الصوت الذي لا يكاد يسمعه الحكّام وواضعو القوانين- باستمرار أهمية البعدين الروحي والأخلاقي للوجود والمساواة بين الأفراد كافة. وقد تمّ إفراد مساحة واسعة للصوت الأول في الفكر السياسي والقانوني [الشريعة الإسلامية] الذي يكوِّن جوانب الفهم العملي للإسلام، إلاّ أن الصوت الثاني لم يترك أثراً يذكر في التراث السياسي والقانوني للإسلام”.
إن حركة الانتاج النسوي المغربي مؤثرة في البيئات العربية الأخرى، وأظن أن جدلية التأثير متبادلة في التفاعل الصامت والدينامي بين النسويات العربيات في ميادين مختلفة. ومن المفيد أن تهتم الجامعات العربية أكثر بدراسات المرأة أو الدراسات الجندرية، فمن النادر أن نجد تبنياً رسمياً وأكاديمياً يواكب تخصصات العلوم الانسانية والاجتماعية الأخرى، بشكل يحاكي المناهج المتقدمة في الغرب في مجال الدراسات النسوية، لا سيما “اللاهوت النسوي المسيحي” والدراسات الكتابية.
- يفهمُ مما قدمته في كتابك أنَّ اهتمام المرأة في قراءة النص الأول أي القرآن والتنقيب في سند الأحاديث لا يخرجُ عن محاولة تموضع الأحكام المستنبطة حول موقعها في الشريعة داخل السياقات التاريخية. أليس من الضروري أن تكون اجتهاداتها أكثر شمولاً؟
_ تعاطت النماذج النسوية الكلاسيكية والمعاصرة المدروسة في الكتاب، مع القرآن وفقاً لبيئتها التاريخية والظروف المشكلة لوعي قارئات النص القرآني وحدود تفاعلهن معه. صحيح أن ما أسميه الطبقة الأولى من مفسرات النصوص الدينية، كانت تدور في فضاء التقليد، لكن حتى في بدايات تنزيل الوحي يمكن ملاحظة الثورة على النص المقدس نفسه ونجد في ذلك أمثلة كثيرة، لا سيما مع زوجة الرسول أم سلمة. وفي مرحلة لاحقة اشتغلت النساء في أبواب المعرفة الدينية في ميادينها المختلفة، لكن المصادر الإسلامية لا تسعفنا كثيراً في تظهير الجانب الاجتهادي والفقهي النسائي، وأظن أننا نحتاج إلى قراءة هادئة ومتأنية للمدونة التراثية في أجل الكشف عن “الأنثوي المستتر” فيها. وقد اضطلعت النسويات والباحثات في مجال الدين والجندر في الإسلام في دراسة الحضور النسائي المعرفي، ولكن الدراسات في هذا المجال ليست قديمة وأعتقد أنها ما زالت في بداياتها في العالم العربي. وفي المقابل فإن حركة الاجتهاد النسوي أو التفسير النسوي للنص الأول نشطة وملحوظة، وفيها مسارات اجتهادية قوية وانقلابية، بالاحتكام إلى الشروط الأولى المفسرة للقرآن .
إن “الإسلام النسوي التقدمي” مؤثر ومنتج، لكنه يحتاج إلى رافعة رسمية وقانونية ودينية. وإذا لم تدير الدولة الشأن الديني من منطلقات حداثية في العالم العربي، فإن حركة الحقوق لن تتقدم إلى الأمام، ليس في قضايا المرأة فحسب، بل أيضاً في الإصلاح الديني .
- ذكرتِ تأثير الثقافة الشعبية والميثولوجيا في تنميط صورة المرأة. هل تتلاشى سطوة المعطيات القيمية بمجرد تفكيك الخطاب الفقهي؟
_ يمكن الحديث عمّا أسميه “القهر التقاطعي” الذي أقصد به أن أدوات قهر النظام الأبوي متعددة، فلا تقتصر على الدين، فالمجتمع والتقاليد والقوانين تمارس قهراً مضاعفاً. من هنا فإن الحداثة بشروطها وأدواتها يجب أن تطاول المقدس والبنى الاجتماعية، والوعي المجتمعي والثقافة. وفي تركيز بعض النسويات على تفكيك أو مقارعة الخطاب الفقهي الأبوي، رغبة عقلانية واعية وهادفة إلى زعزعة الأنموذج الأبوي/ الديني الذي يتجاوز النص الأول بإضفاء القدسية على نفسه .
* كاتب وناقد كردي عراقي
التعليقات مغلقة.