د.م.مروان الخطيب
دار نقاش قصير مع صديق حول الثورة البلشفية، وكيف أزهقت دماءاً كثيرة قبل أن تتركز السلطة في يد من إستأثروا بالسلطة قبل أن تنهار بعد حوالي سبعين عاماً، وماكنت أحاول الوصول إليه أننا يجب نركز البحث حول طبيعة السلطة التي تم بناءها بعد الثورة، الدولة، الاقتصاد، وحالة المجتمع بكليته، وهو المفيد لنا من تلك التجربة.
الثورة السورية التي انطلقت ضد سلطة الأسد، وحملت شعارات ركزت على الكرامة والحرية والمطالبة بدولة المواطنة، مما أدى إلى رد الفعل الأسدي، من خلال إشهار المسألة الطائفية لتجريد الثورة من جمهورها العام المفترض ومحاصرتها في بيئة مذهبية واحدة، واللعب على وتر الأقليات ومن ثم تحييد الأكراد عن الثورة، رد الفعل هذا منطقي جداً ما يُسهّل وصمها بالطائفية.
مع أننا، كمواطنين وثوار، ضد النظام وضد توظيف الطائفية، ونتوق مجتمعين لتشكيل دولة مدنية وللجميع، ليس فقط دفاعاً عن دولة مدنيةٍ تنصف كل أفراد الطوائف، وإنما لكون الدولة الدينية ستعيدنا بالضرورة إلى الغلبة الطائفية. فثورات الربيع العربي بأجمعها قامت ضد الإستبداد، ولم تكن القضية إنتصاراً لمظلومية الأكثرية السنية، وإلا فما حال الثورة في مصر مثلاً؟ ومن يتصارع في ليبيا؟ وفي لبنان؟ هل تعاني كما حالة التغيير الديمغرافي والتهجير الملاييني لكثيرين منها في سورية أو العراق؟ قصدت من هذه الأسئلة، أن هناك واقعاً كارثياً في كل الدول العربية، وتتنوع المعاناة والمظالم وتتعدّد مستوياتها. مايوحد الثوار في كل البلدان هو موقفهم من الإستبداد والظلم وتوقهم إلى دولة المواطنة بعيداً عن مذاهبهم وطوائفهم والبحث عن رؤية وبرامج مشتركة، وأن يكون هذا المشترك قوميّاً أو برنامجاً سياسيّاً عاماً، لا تختلط فيه أية تغلبات قومية أو دينية، وهذا تحقّقه فقط دولة المواطنة، وفي حال استُخدِمت كلمة مدنية، فيجب تقديمها ضمن أطر أنها هي دولة المواطنة الديمقراطية.
الدولة أعلاه، وحينما تعتمد النظام الديمقراطي، وتتيح لكل طبقات المجتمع وأفراده تحديد خياراتهم وممارساتهم، وتنتفي فيها كل أشكال الظلم والقوانين التغلبية، حينها سيتحقق شيء من الاستقرار وينتفي فيها قلق الأقليات، و”قلق” الشعوب العربية، بدستور يمثل العقد الاجتماعي الذي ينظم العلاقة في الدولة بمستوييها العامودي والأفقي، أي بين المواطنين كأفراد مع بعضهم من جهة، وبين الحكومة والشعب من جهة ثانية، على أن يبقى الشعب هو مصدر السلطات جميعها.
التصالح مع التاريخ ومع الثورات يكون بتبنّي أهداف الثورات في الحرية والعدالة والمساواة والمواطنة، والتخلص من أوهام تسييس الدين بشكل إيجابي أو سلبي. وهذا غير ممكن بدون التأسيس للدولة الحديثة، والدين فيها منزّه عن السياسة والدولة، وبدون أية لجلجلة، وهو فقط ما يساوي بين أفراد الشعب، ومهما كانت غلبتهم الدينية، ويؤسس لغلبة سياسية ديمقراطية، تعمل من أجل جميع أفراد الشعب.
الانقسام الداخلي السوري هو المشترك بين العديد من الأمثلة، كنا مثلاً في بداية الثورة قد شهدنا مؤتمراً لبعض العلويين المعارضين للأسد، وحينها نال الحاضرون استحساناً من بعض أنصار الثورة وانتقاداً من بعضهم الآخر، غير بعيد عن ذلك، نالت حركة “مشايخ الكرامة” تعاطفاً شديداً بين أنصار الثورة، بسبب دعوتها إلى الامتناع عن الخدمة في قوات الأسد، ولم تغب العشائر عن لوحة الانقسام، ولعل المثال الأشهر هو نواف البشير، شيخ عشيرة البقارة. وتقدّم سيرة البشير بتناقضاتها نموذجاً معبّراً عن شيخ العشيرة السوري، فالرجل استهل حياته “السياسية” كعضو في مجلس الشعب الأسدي، ثم انتقل إلى صفوف المعارضة على نحو معلن أثناء ربيع دمشق، ليصبح عضواً وناشطاً فيما سُمي إعلان دمشق، وكما نذكر قبل قرابة سنة من الآن كان تركمان سورية قد اعتمدوا علماً موحداً، في حين ما يزال أكراد سورية منقسمين بين العلم الكردي التاريخي والعلم الذي يعتمده حزب العمال الكردستاني وفروعه.
لكن الأكثر إشكالية يكمن في طابع الثورة السورية، والذي استقر في الإعلام والمرويات العالمية منذ سنوات، على أنه طابعٌ عنفيٌّ عسكري، بل استقر قبل ذلك أن ما حدث ويحدث في سورية إنما هو حرب أهلية، ذات طابع طائفي بين أقلياتٍ تبرز بينها الطائفة العلوية التي تنتمي إليها العائلة الأسدية الحاكمة، في شخصي الأب حافظ والابن بشار، وضد أكثريةٍ سنيةٍ تنتشر في معظم مدن سورية وأريافها الداخلية. وهذا الطابع قوي ومسيطر، إلى درجة أنه صار من المسلمات المسبقة التي أشيع أنها ارتبطت بدخول منظمات الإرهاب الدولي على خط الثورة السورية، بدءاً من جبهة النصرة والقاعدة، وصولاً إلى منتوجهما الفظ والأشد عنصرية وإرهاباً وامتداداً في معظم الدول، تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الأمر الذي دفع إلى إنشاء تحالف دولي لمكافحتها، ومن ثم تبرير أي تدخلٍ لاحق ومستمر في سورية تحت ستار ذلك.
وفي حقيقة الحال، سبق ذلك كله المسعى الحثيث والخبيث للنظام لتوظيف صفة الإرهاب والطائفية في محاربة الثورة السورية منذ أيامها الأولى، الأمر الذي أضاف إلى المظلومية السنية الاجتماعية والسياسية بعداً آخر، ما لبث أن أغلق مخيال الحاضنة الشعبية على طابع طائفي، طغى وبدّد، من ثم، الأهداف الأولى الديمقراطية للثورة. وأضيف إلى ذلك التوظيف تحالف النظام السوري مع نظام القيصر الروسي الجديد بوتين الذي استند إلى ذاكرة أرثوذكسية متعصّبة، سبق لها أن دعمته في قمع الثورة الشيشانية، وباركت مجددا كتائب جيشه الذاهبة إلى التدريب الحي على إبادة المدنيين والحواضر والقرى السورية.
وهنا، لا بد لأي باحث أمين أن يعود إلى مراجعة الأشهر الستة الأولى تقريباً من عمر الثورة السورية، ليكشف عن طابعٍ آخر، طالما كان النظام والإعلام العالمي قد اعترف به وذكره في تلك الفترة. وتوثيق ذلك متوفرٌ في سجلات مظاهراتها السلمية، وكان ذلك الطابع السلمي غنياً بشعارات الوحدة الوطنية والأغاني والأهازيج التي نشهد مثيلاتها في الثورات اللبنانية والعراقية اليوم، فمن لا يتذكر لافتات كفرنبل الساخرة، وأغاني الشهيدين إبراهيم القاشوش وعبد الباسط الساروت، التي كانت المظاهرات السورية ترقص على وقعها، وتغني الجماهير الشقيقة حقاً في لبنان اليوم على منوالها.
كذب النظام السوري، وما زال يكذب، فهو وحده الذي كان طائفياً، كما لم يكن سلمياً منذ البداية، على عكس جماهير الثورة السورية. ولكن الأحياء وحدهم القادرون على فضح تلك الكذبة الكبرى، أي كذبة العنف والطائفية في الثورة السورية، ولابد لهؤلاء الأحياء الأحرار، المؤمنين بأهداف الثورة السورية الأولى، لا بد لهم أن يعودوا إلى نبع الثورة السورية، وأن يجددوا طابعها السلمي الغنّي، ولهم في سيرتها الأولى، وفي سيرة الثورات العربية الجديدة خير معين، فهي ثورة الكرامة وهدفها كان ومازال بناء دولة المواطنة.
د.م. مروان الخطيب
كاتب وباحث وأكاديمي سوري عروبي
التعليقات مغلقة.