الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي

أولاً - مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر (3/4)

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر (3/4)

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام

 الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر

 (3/4)

لقد أصبح منهاج ” ازالة آثار العدوان ” في تلك المرحلة معياراً للثورة يحكم مسارها ويراجع ويعدّل في عدد من مواقفها وانجازاتها، ولكنه ظل منهاجاً في الخط الأساسي للثورة، يرصد بعدها التاريخي العام والتزامها بأهداف الأمة. وكما قال عبدالناصر في خطبته التي افتتح بها ” مجلس الأمة الجديد ” في 20 كانون الثاني (يناير) عام 1969، “نعمل سياسياً ونناضل عسكرياً لدحر العدوان ونظل دائماً تحت نفس الأعلام التي وقف تحتها نضالنا الوطني والقومي… مهما حاولت قوى الاستعمار… ومهما حاولت قوى الاستغلال… ومهما حاولت اسرائيل أداة هذه القوى كلها… سوف نظل دائماً تحت علم التحرير. وسوف نظل دائماً تحت علم الاستقلال الوطني. وسوف نظل دائماً تحت علم الوحدة العربية. وسوف نظل دائماً تحت علم الاشتراكية. وسوف نظل دائماً تحت علم عدم الانحياز…” .

ولقد وقف بعد ذلك بأيام ، ليقول في 29 كانون الثاني (يناير) عام 69، في افتتاح المؤتمر الرابع للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب: ” إن الأرضية الأصلية وراء الصراع العربي الاسرائيلي هي في الواقع وعلى وجه الدقة أرضية التناقض بين الأمة العربية… وبين الاستعمار… وفيما مضى كان سلاح الاستعمار ضد الأمة العربية هو سلاح التمزيق. وبعد حربين عالميتين تعاظم الإيمان بالوحدة العربية فقد لجأ الاستعمار إلى اضافة سلاح التخويف إلى سلاح التمزيق… وسلم وطناً من أوطان الأمة العربية غنيمة مستباحة للعنصرية الصهيونية المدججة بالسلاح لكي يتم تكريس التمزيق للأمة العربية ولتحقيق تخويفها باستمرار… فضلاً عن استنزاف كل امكانيات القوة العربية… ولقد زاد من حدة التناقض بين الأمة العربية والاستعمار ظهور الحركة التقدمية العربية بقيادة الفلاحين والعمال العرب، الأمر الذي دفع الاستعمار الى مغامرات عنيفة ومخيفة، عبرت عن نفسها… بحرب السويس، ثم عبرت عن نفسها مرة ثانية سنة 1967 في ما عُرف فيما بعد بحرب الأيام الستة والتي هي في الحقيقة حرب لم تنته حتى الآن ” .

وفي هذا المجال بالذات فقد استطاع عبدالناصر أن يقف في وجه الهزيمة ويصمد لها وأن يحولها الى اندحار في معركة لحرب ما زالت متواصلة. ولقد تواصلت فعلاً، بدءاً من حرب المدافع على السويس وهجمات الكوماندوس المصري، وصولاً الى حرب الاستنزاف، وإعداداً للانتقال الى حرب التحرير. وكان في تقديرات عبدالناصر أن ينتقل الى تلك الحرب التحريرية وعبور القنال قبل نهاية عام 1970. وإذا ما أشهر البعض هنا في وجهنا اعتراضاً، حول قبول عبدالناصر بمبادرة روجرز في تموز (يوليو) من ذلك العام، وإذا ما استُغل ذلك القبول في حينه، كما استُخدم من بعد وفاة عبدالناصر من قبل القوى المعادية لثورته للتشكيك بتصميمه القاطع على التحرير، فان ذلك القبول وفي السياق العام الذي جاء فيه، وفي إطار ممارسات عبدالناصر كلها في تلك المرحلة، الداخلية والعربية والدولية، يأخذ مكانه الواقعي كتكتيك بين جملة التكتيكات التي سار فيها عبدالناصر، وبدءاً من القبول بقرار مجلس الأمن رقم 242، لإعطاء آفاق للعمل السياسي وللتعامل مع القوى الدولية والفعل فيها، ثم كان ذلك القبول فرصة لالتقاط الأنفاس العسكرية في مهلة ايقاف إطلاق النار المحددة، لاستكمال الاستعداد للعبور وتقديم سلاح الصواريخ الى جبهة القتال…

وأذكر بهذا الصدد كلاماً سمعته من عبدالناصر في لقاء كان لي معه في الاسكندرية في آب (أغسطس) عام 1969. كان موضوع ذلك اللقاء تعاون سورية مع مصر في معركتها المصيرية هذه أي ” معركة ازالة آثار العدوان ” وما هو مطلوب من القوى الوحدوية في سورية من مواقف ايجابية لتعزيز هذا التعاون لصالح المعركة والانتصار فيها. وما كنت بحاجة لطرح بدايةً السؤال: أين أصبحنا على طريق المعركة… لأرى كل شيء صريحاً وواضحاً أمامي، فلقد كان عبدالناصر مأخوذاً بكليته للإعداد لها فكرياً ونفسياً، وسياسياً وعسكرياً، وبخاصة عسكرياً. والشعارات التي كنا نسمعها تتردد على لسانه في كل خطاب وتصريح ومناسبة ” لا بديل لنا عن النصر في هذه المعركة… وما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة… ” كانت مترجمة إلى وقائع وإنجازات وخطط، وكان حينها يستعد لمباشرة حرب الاستنزاف وقال: ” لقد نفد صبر شعبنا، إنني أعيش مع الشعب إحساسه هذا. لقد بذلنا جهداً كبيراً لكي يصبر علينا شعبنا، اذ لا بد أن يكون إعدادنا كبيراً وكاملاً… إن لدينا اليوم نصف مليون جندي ونيّف تحت السلاح، ولقد تدربوا وبسرعة مذهلة ووصلوا إلى كفاءة ممتازة، وسنصل بهذا الجيش المؤهل إلى مليون جندي. لقد كنت اليوم في اجتماع عسكري مشترك على مستوى القيادة العليا، إن تقدير قيادة أركان جيشنا، وكذلك تقدير الخبراء السوفيات الذين يشاركوننا، أن جيشنا قادر اليوم على خوض معركة ناجحة ضد اسرائيل واجتياز القنال إلى الضفة الشرقية، ولكن المسألة لا يمكن ان تتوقف عند معركة محدودة (كما كانت تتحدث بعض الصحف ذلك الحين) ولا عند اجتياز القنال. ان معنويات جنودنا وضباطنا رائعة ويريدون القتال، والشعب يدفع بقوة ويريد، ولكن المعركة لا بد ان تمضي في طريقها كحرب تحرير، وأن تواجه مختلف الاحتمالات السياسية والعسكرية لعدونا الاسرائيلي ومن وراءه. إنني ما زلت بحاجة، وفي المسار الذي نحن عليه إلى سنة أو سنة ونصف تقريباً لاستكمال مستلزمات هذه الحرب، وكذلك للاستفادة من دعم أصدقائنا السوفيات والسير بهم إلى التزام أقوى بمعركتنا هذه في مواجهة التزام أميركا بإسرائيل، ووجودها العدواني على أرضنا… ولكن هذه المدة من الاستكمال لن تكون مجرد إعداد وانتظار، بل سنشن فيها حرب الاستنزاف، إن هذه الحرب الأولية ستؤهل جنودنا أكثر وتحافظ على جاهزيتهم القتالية، كما ستشد جماهير شعبنا من الداخل، وجماهير الأمة العربية دفعاً على طريق المعركة واستمراريتها إلى أن نحقق هدفنا كاملاً… ” .

وفي ذلك الحديث، كما في كل المواقف والأحاديث، كان تصميم عبدالناصر قاطعاً. وكان تطلعه المستقبلي وتطلعه لاستمرارية الثورة ولأهداف الأمة، من خلال إنجاز تلك المهمة، مهمة الانتصار في حرب ” إزالة آثار العدوان ” .

كذلك كان موقفه في تلك المرحلة، عندما يطرح عليه الكثير من المسائل والقضايا الكبرى، كمسائل الوحدة مثلاً، أو مسألة الثورة الفلسطينية وفصائلها، أو مسائل وحدة قوى الثورة على المستوى القومي، ووحدة أداة تلك الثورة .

ولكن عبدالناصر، ومن خلال موقعه القيادي ومسؤولياته، إذا ما ظل محاصراً في تلك المرحلة بذلك الهدف المحدد، وإذا ما حصر همه بإعادة بناء جيش مصر المقاتل، وببناء صمود المجتمع المصري من ورائه، وبالفعل في السياسة العربية والدولية لصالح ذلك الهدف، فإنه لم يضع قيداً بذلك على حركة القوى الثورية العربية الأخرى في أن تعمل لما هو أكثر من ذلك الهدف أو لما سيكون بعده. فعبدالناصر ولو أنه أراد تحديد دوره في تلك المرحلة بإزالة آثار العدوان، فان الدور التاريخي الذي أعطته له جماهير الأمة ظل يحاصره ويطالبه بما هو أكثر، وموقفه من المقاومة الفلسطينية واضح وصريح في هذا المجال. فمنذ البداية وفي مرارة الهزيمة، وجد في صعود النضال الفلسطيني المقاوم، وبخاصة في عمليات حركة فتح، ومضة رائعة من ومضات الأمل ومن التأكيد على الحيوية الثورية للأمة وعلى استمرارية الكفاح من أجل القضية… ولقد وجد أن من الطبيعي بل ومن الضروري أن ترفض المقاومة ويرفض الفلسطينيون ما قبلته مصر من قرارات مجلس الأمن، وأن لا يوضع أي قيد على حركة المقاومة ونضالاتها، وما كان يريد لها إلا أن تصمد وتستمر وأن تكون بحق طليعة متقدمة من طلائع الثورة العربية، وليس دفعاً على طريق ” إزالة آثار العدوان “، فمهمتها لا تتحدد بهذا الهدف، بل ولما بعد ذلك ولما هو أبعد من ذلك بكثير. ولقد ظل ثابتاً عند هذا الموقف من المقاومة، رغم الكثير من الانتقادات والتجريحات التي نالته من بعض عناصرها وفصائلها، ورغم تحريضات تلك العناصر العنيفة ضده والتشكيك بمساره. وبخاصة عند قبوله مبادرة روجرز، وهو لم يُسّكت صوتها الإذاعي في القاهرة لفترة إلا بعد أن أصبحت تحريضاً ضده داخل مصر ذاتها، وعندما وقعت الواقعة مباشرة بعد ذلك وحل أيلول الأسود، كانت له وقفته المشهودة في الانتصار لها، وكان إرهاقه من تلك الأحداث الدامية وعذابها، الطعنة الأخيرة التي وجهت لقلبه فقضى .

ومثال آخر: موضوع الوحدة العربية والدفع على طريق خطوات وحدوية. فلقد كان شاغله الوصول في تلك المرحلة الى أقصر ما يمكن الوصول إليه من التماسك العربي في وجه مخططات أعداء الأمة، وتوظيف كل ما يمكن توظيفه من طاقات الأمة الجاهزة لصالح المعركة وإسكات كل ما يمكن إسكاته من تناقضات أمام ذلك التناقض الخطير بين مصلحة الأمة ككل، وبين عدوها الاسرائيلي المحتل لأرضها والحلف الصهيوني- الامبريالي المساند له. وكثيراً ما كان قادة النظام السوري ذلك الحين يطرحون عليه في لقاءات التنسيق معه تمنيات تتعلق بموضوع الوحدة والقيام بخطوات وحدوية بين مصر وسورية. وكان يجيب: ” دعونا الآن نعمل للمعركة وللتنسيق من أجلها ولوحدة القوة فيها، وأخشى أن يؤدي فتح ملف الوحدة إلى إثارة تناقضات نحن بغنى عنها الآن “. ولكن هدف الوحدة، وقوة الوحدة لم يغيبا عن فكره واستراتيجيته الشاملة يوماً، بل وعندما جاءت ثورة الفاتح من سبتمبر (أيلول) في ليبيا كومضة ضياء جديدة في أيام النكسة، ورافداً جديداً للنضال العربي، أصبح من اهتماماته الكبرى أن ينجح نظام تلك الثورة ويثبت ويقوى. ولقد جاءت الثورة الليبية منذ بدايتها تطرح عليه قضية الوحدة، وكان في ذلك بعض الإرباك لعبدالناصر ولخط سيره في مواجهة ضرورات المعركة، وأراد لتلك الثورة أن تصلّب عودها في البداية بنفسها. ولكنه عندما جاء لزيارة ليبيا في حزيران ( يونيه) عام 1970 بمناسبة احتفالها بجلاء القوات الأميركية عن قاعدة ” عقبة بن نافع “، وتعرف عن قرب إلى ما تواجهه القيادة الثورية الفتية من مصاعب، فإن تخوفه على تلك الثورة فرض عليه أن يفكر بالحل الوحدوي. لقد كان رئيس الجمهورية السورية ذلك الحين (الدكتور نور الدين الأتاسي) موجوداً معه بتلك المناسبة في ليبيا، وأرسل عبدالناصر يوقظه من نومه قبيل الفجر (وبعد اجتماع طويل لعبدالناصر مع قيادة الثورة الليبية حتى ذلك الوقت) ليطرح عليه موضوع الوحدة وإقامة اتحاد ثلاثي بين مصر وسورية وليبيا. لم يُرد عبدالناصر أن ينفرد بوحدة مع ليبيا، لما يمكن أن تعطيه تلك الوحدة من انطباعات في بسط الهيمنة المصرية عليها. وأخذت الحماسة ليلتها مأخذها بالجميع، وذهبت الاستعدادات الفورية لتنقل في طائرة واحدة الرؤساء الثلاثة صباح اليوم التالي (وكان يوم جمعة) ليصلوا صلاة الجمعة في المسجد الأموي، وشكلت لجنة متابعة. وسافر بعدها عبدالناصر مباشرة الى الاتحاد السوفياتي. وكان من أخطر الموضوعات التي طرحها على الزعماء السوفيات في لقائه الأخير معهم، فضلاً عن مواضيع التسليح وشبكة الصواريخ والمواقف الدولية، موضوع الوحدة، فلقد كان يهم عبدالناصر، أن يكون هذا الأمر وضروراته واضحاً أمام السوفيات وأن يكون موقفهم ايجابياً منه، وأن لا يعطي أي انعكاس سلبي على مساندتهم لعبدالناصر وللأمة العربية في معركتها ضد العدوان، ولقد كان التفهم السوفياتي جيداً والاستجابة معقولة. وعاد عبدالناصر، وظل للمعركة أولاً، وأعلن في 23 تموز (يوليو) قبول مبادرة روجرز وقبول وقف إطلاق النار ثلاثة أشهر. وذهب عبد الناصر، وأخذت المطامح والمطامع فرصتها، وتقدمت في الساحة ولكن على طريق غير طريق عبدالناصر، ووضعت نفسها في تعارض مع حركة الجماهير بل وفي تصادم معها غالباً، وليس في تفاعل معها ومع طموحاتها.

____________________

يتبع..

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر (4/4)

التعليقات مغلقة.