ترجمة: بدرالدين عرودكي
تحقيق: المال، والسلطة، والخيانة… والعلاقة الصاخبة بين بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف، الذي كان خلال زمن طويل مصرفيَّ النظام، هو ذا ما يؤلف مكونات مسلسل شعبي عربي. ولأنه أبعد ما يكون عن الضعف، يقوم الرئيس السوري بتنظيف محيطه.
“منحبك“. هذا الشعار العبقري، المطبوع على صور ضخمة لبشار الأسد، يغطي جدران دمشق. نحن في أيار/مايو 2007، قبل أسابيع عدة من الاستفتاء الذي سوف يمنح ولاية جديدة للرئيس السوري مع نتيجة تصل إلى 97.6 بالمائة. وتعمل الحملة المصممة لهذا الموعد على أن تعطي الانطباع بأن البلد بأكمله قد وقع تحت تأثير سحر هذا الأربعيني (الذي وُلدَ عام 1965) ذي المظهر الحديث والطبع البارد. فقد كان أبوه حافظ الأسد، قائدًا جافًا وغامضًا، يحكم بالخوف… أما الإبن فيريد، من ناحيته، أن يجعل نفسه محبوبًا.
الحملة هي من عمل إبن خال بشار الأسد، رجل الأعمال رامي مخلوف، الذي يصغره أربع سنوات، والذي يعتبر أغنى رجل في سورية. قبل أشهر عدة من ذلك، كانت السفينة القائدة لمجموعته، أي شركة الهاتف الجوال سيرياتيل، قد بسطت على اللافتات الإعلانية في العاصمة صيغة من النوع ذاته، حافلة بالسذاجة، كان بوسعها هي الأخرى أن تكون بمثابة شعار لرئيس الدولة: “دايمًا معاك!”
تحالف شديد المرونة:
كان ذلك بالنسبة إلى النظام الحقبة الذهبية. فقد كان الثنائي بشار ــ رامي، صديقا الطفولة، يملآن الفضاء العام. السياسة منوطة بالأول، والأعمال بالثاني. ولم يكن ثمة أي ظلٍّ يمكن أن يشوب هذا التحالف شديد المرونة، ملاط النظام الجديد، الأكثر ليبرالية على الصعيد الاقتصادي، الذي يجسّده الأسد الإبن. كانت حماية الرئيس تسمح للملياردير بأن يهيمن على أكثر الصفقات مردودًا. ولقاء ذلك، يعيد الأخير دفع جزء من الأرباح في صناديق الحكومة وفي حصّالة نقود الزوجين الرئاسيين، بشار وأسماء الأنيقة.
بعد ثلاثة عشر عامًا، لم يعد هناك أي مجال للحب. الإثنان اللذان لا يفترقان باتا يشهران السكاكين. فالحكومة المدمرة بتسع سنوات من الحرب الأهلية والمخنوقة بالعقوبات الدولية، وضعت يدها على سيرياتيل، بحجة ضرائب لم تدفع. جُمَّدت أصول رامي مخلوف، واعتقل بعض موظفيه، وجُردت أذرعه من كل سلاح. هكذا جرى تهميش الممول الكبير، البالغ من العمر خمسين عامًا.
لكن في سلسلة من الفيديوهات المسجلة في الربيع على صفحته على الفيسبوك، شنَّ المُبعد هجومًا مضادًّا. احتج على اتهامات التحايل الضريبي المتهم به وندَّد بتعسف دوائر الأمن ــ مظالم مضحكة في فم هذا الرجل الذي موَّل قمع الثورة عام 23011 في البلد. لا بل إن إبن الخال رامي قدَّم نفسه بوصفه المحسن الحريص على الطائفة العلوية، وهو تحدّ ضمني للرئيس، المنتمي مثله إلى هذه الأقلية الدينية المنحدرة من المذهب الشيعي، والتي تؤلف قاعدة النظام.
“أي شخص آخر سواه كان سيقضى عليه فورًا“، كما يلاحظ المعارض أيمن عبد النور، المستشار السابق لبشار الأسد. سوى أن الجريء يحمل اسم أسرة شهيرة، تحميه، وتملك الكثير من المال في الخارج، مودَعًا في حسابات سرّية خارجية وشركات الواجهة. “إنه التأمين على حياته، كما يقول رجل أعمال دمشقي يعرف الخصمين في هذا النزاع. لو جرى القضاء عليه الآن، فإن كل أصوله ستذهب إلى زوجته وأبنائه الذين يعيشون في الخارج. لقد جُرح رامي، لكنه لم يسقط أرضًا بعد”.
هذه القضية الصاخبة تؤلف مكونات مسلسل كامل – على غرار مسلسلات الحلقات العربية الشهيرة خلال شهر رمضان. أنهار من الدولارات ومن المجد ومن السلطة، ثم، وراء هذه الواجهة، المبهرجة، أحقاد حامية، وضربات سكاكين في ظهر العشيرة التي يلتهم بعضها البعض الآخر. سقوط بيت مخلوف، هو مسلسل دالاس في دمشق.
تستمد قصة بشار ورامي أصولها من أصول أبويهما على التوالي، حافظ الأسد ومحمد مخلوف.
تستمد قصة بشار ورامي أصولها من أصول أبويهما على التوالي، حافظ الأسد ومحمد مخلوف. إذ بعد وصوله إلى السلطة عام 1970، بفضل انقلاب عسكري، عيَّن الأول الثاني، وهو أخو زوجته أنيسة، على رأس هيئة التبغ والتنباك. وقد كانت هذه المؤسسة الحكومية، على غرار أمثالها من المؤسسات في سورية خلال تلك الحقبة، تملك المؤسسة حق احتكار إنتاج واستيراد السجائر. بل وكذلك تهريبها! وبفضل هذا الصرّاف الآلي، تمكن محمد مخلوف، أبو رامي، من الإثراء بصورة سريعة.
يتقن حافظ الأسد مكافأة المخلصين له. حين جاء طالبًا الزواج خلال خمسينيات القرن الماضي، أبدى أهل أنيسة الامتعاض. فالخاطب، رغم أنه ضابط في القوات الجوية، ينحدر من أسرة علوية أقل مقامًا من أسرة مخلوف. لكن محمد مخلوف دعم طلبه فتوثقت عرى الصداقة بين الرجليْن.
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وفي أوج الازدهار العمراني، نقل الرئيس شريكه في طاولة الزهر إلى رئاسة البنك العقاري الحكومي المعني بالقروض الخاصة بالبناء. فارتفعت الأرباح والرشاوى. ومع احتفاظه بصفة الموظف، فرض أبو رامي نفسه بوصفه المحاور الضروري لمستوردي النفط السوري ــ المدفوع له بغزارة.
ترعرع قطب الاتصالات السورية القادم في بيئة خدّاعة. نظام اشتراكوي يزدري المال رسميًا، لكنه يتيح لخدمه المخلصين بعض العوائد المربحة للغاية. أما وقد ثمل بفعل صعوده وقربه من الرئيس، فقد ربَّى محمد مخلوف إبنه “على أنهم يؤلفون جزءًا لا يتجزأ من السلطة في سورية”، كما كتب أيمن عبد النور في مقال نشره معهد أبحاث الشرق الأوسط (Middle East Institute).
حين يسافر آل مخلوف، يتمتعون بمعاملة كبار الشخصيات، مع جوازات سفر دبلوماسية، وقاعة انتظار خاصة، وإعفاء من الرقابة ومرافقة رئاسية. “من الممكن أن يتصلوا بهاتف القصر الرئاسي ويطلبوا أن ينقلوا إلى مساكنهم، يتابع أيمن عبد النور: (…) كان آل مخلوف شركاء آل الأسد؛ هكذا كانوا يرون أنفسهم. لم يكن النظام نظام الأسد فحسب، بل نظامهم أيضًا“.
حين حلَّ محلَّ أبيه الذي توفي عام 2000، سار بشار على الخط نفسه. منح رامي إدارة سيرياتيل، رائدة سوق جديد واعد. وكما نشر موقع تقرير سورية (Syria Report)، وهي صحيفة إعلامية اقتصادية على الأنترنيت، جرى توقيع العقد بعد استدراج للعروض دام أسبوعين فقط، إذ نظم في منتصف الصيف لضمان عدم قدرة أي منافس جاد على الظهور.
“رأسمالية الأصحاب”:
النائب رياض سيف الذي كشف للملأ هذه المناورة دفع ثمن جرأته سنوات عدّة من السجن. إدارة التنباك، معقل أبي رامي، كانت رمز دور الدولة الفاسدة في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي. وستكون سيرياتيل شعار “رأسمالية الأصحاب” التي أطلقها رئيس الدولة الجديد. يتغير الإخراج، لكن المحسوبية تستمر.
في بداية عام 2001، أضفى بشار الأسد الطابع الرسمي على زواجه من أسماء الأسد، وهي ابنة طبيب مختص بالقلب، سنّي من حمص، ومقيم في المملكة المتحدة. التقاها الرئيس خلال سنوات دراسته طب العيون في لندن. أسعد مظهرها الفاتن واختصاصها كمحللة مالية المجلات الشعبوية. لكن القادمة الجديدة لم تكن موضع ترحيب لدى آل مخلوف. لابد من القول بأن الأسرة كانت قد تطلعت إلى أن يتزوج وريث حافظ الأسد كندة، أخت رامي.
كانت أنيسة [والدة بشار] ومحمد مخلوف ضد هذا الزواج، كما أسرَّ مستشار سوري كان يعمل في تلك الحقبة في خدمة الزوجين الرئاسيين. على أن بهجت سليمان [وهو فرخ من الجهاز الأمني السوري، ومستشار بشار الأسد في بداية عهده] هو الذي أقنعهما بقبولها: كان يرى فيها انفتاحًا هامًا نحو السنة“، الطائفة الأكثرية في سورية.
جعلت الحجة رامي مخلوف بلا حراك. “كانت العلاقات بينه وبين أسماء سيئة منذ اليوم الأول، كما يؤكد أحد أفراد النخبة الاقتصادية السورية. لم يحب أن تكون سنية وأن تكون لديها طموحات“. بل ويزاود المستشار، “آل مخلوف من المدرسة القديمة، في حين تفتخرأسماء بنفسها باعتبارها امرأة إصلاحات وحداثة. لم يكن من الممكن والحالة هذه أن تكون الأمور بينهما على ما يرام“.
كانت الفرص الاقتصادية في تلك الفترة كافية بما فيه الكفاية كي ترضي كل هذه الأنانيات. ففي عام 2006، وفي إطار سياسة تنمية القطاع الخاص، أنشأ رامي مخلوف شركة قابضة هائلة أطلق عليها اسم “شام”. شاركه فيها سبعون من رجال الأعمال اللامعين في هذا المجال. يملك الأقلوي الجديد حجة وازنة، كما يروي في تلك الحقبة موقع الإعلام الاقتصادي تقرير سورية (Syria Report): “انضموا إليّ وسوف تحصلون على جزء من الكعكة، وإن بقيتم جانبًا فلن تتلقوا شيئًا“.
طموحات أسماء المُقيَّدة:
في اللحظة نفسها، شكلت أسماء مجموعتها الخاصة بها، الشركة القابضة سورية. لكن من شاركها كان أقل مكانة مرموقة: عشرون مستثمرًا فقط، من الدرجة الثانية. دشنت زوجة بشار أيضًا منظمة للإحسان، تروست سورية، أول منظمة غير حكومية في تاريخ البلد. ولكن حسب أيمن عبد النور، كبحت أنيسة وابنتها بشرى (الأخت الكبرى لبشار) طموحات المصرفية السابقة. أما رامي، فلم يتوقف عن النمو. إذ بفضل علاقاته على أعلى مستوى في الدولة، باتت إمبراطوريته تمتد إلى الهيدرو كاربونات، وإلى الخدمات المالية، وإلى النقل الجوي وإلى التأمينات.
“لم تكن حمّى الاستثمار هذه دومًا مرضيًا عنها من بشار، كما يؤكد رجل أعمال مطلع بدمشق. ففي عام 2004، حين ذهب رامي مخلوف إلى دبي للتسوق، في مجال الأموال غير المنقولة والفنادق، ارتفعت النبرة بين الرجلين. لكن أنيسة ومحمد تدخلا لتهدئة الشجار“. على أن المساهم الأكبر في سيرياتيل ملاحق من قبل الخزانة الأميركية، التي وضعته تحت العقوبات عام 2008، نظرًا لأنه “يستفيد من فساد المسؤولين الرسميين ولأنه يشجع عليه“.
لكن العقاب لم يؤثر على شهيته. “لدينا المال. ولدينا السلطة“، كما قال يومًا، وهو يضرب يبده على طاولة مكتبه، خلال اجتماع مع الشركاء. “أريد الكعكة كلها“، كما أجاب مرة أخرى وزيرًا كان يقترح عليه أن يخفف من طموحاته. لقد روى هذا المشهد الصحفي اللبناني – الأميركي سام داغر في كتابه “الأسد أو نحرق البلد Assad or We Burn the Country“، المنشور عام 2019، ولم يترجم.
في نهاية العقد الأول من عام 2000، كان يقال إن رامي مخلوف يسيطر على 60 بالمائة من الاقتصاد السوري. هذا التقدير موضع خلاف. إذ كان على ربِّ الشركة القابضة شام أن يتعايش مع منافس لا يقل مقامًا عنه، ماهر الأسد. فقد كان الأخ الأصغر للرئيس، والرجل القوي في الجيش، يستثمر بواسطة عدة أسماء مستعارة للتغطية، مثل محمد حمشو. لكن رامي يبقى متقدمًا بمسافة طويلة عنه. يبقى هو الرقم الأول.
في عام 2011، تحوَّلت هذه الميدالية إلى قنبلة. منذ أولى التجمعات المضادة للنظام في درعا، جنوب البلاد، كان اسمه موضع احتقار. فقد أحرقت متاجر سيرياتيل، وصار ملك الصفقات بطل الافتراس. كان آل مخلوف يخشون أن يكونوا أولى الضحايا إذا ما تنازل النظام للمتمردين، ولذلك حضوا بشار الأسد على أن يكون الردُّ على التمرد قاسيًا.
قام حافظ، الأخ الشاب لرامي، الذي برز في هذا المجال. بوصفه عقيدًا في دوائر المخابرات، بالإشراف على القمع بدرعا، إلى جانب ماهر الأسد. تدخل الرجلان أيضًا في دوما، بضواحي دمشق، التي انتفضت خلال ذلك. وحين كان الجنود يترددون في فتح النار على المحتجين، كان الكولونيل مخلوف وأتباعه يتولون الأمر بأنفسهم.
حاول رامي من ناحيته المناورة. ففي حزيران/يونيو 2011، أعلن أنه ينسحب من الأعمال كي يكرس نفسه للأعمال الخيرية. أسس جمعية البستان، كي تقوم بمساعدة عائلات المقاتلين القتلى من أجل النظام، وبصورة رئيسة، عائلات العلويين في الساحل. كانت هذه المبادرة تنافس مشروع أسماء الأسد. سوى أن هذه المنظمة تتمتع بفرع شبه عسكري، مكلف بحماية المنشآت النفطية. وفي الكواليس، يتابع مصرفيُّ النظام عمله.
في عام 2012، جعل ناقلات النفط ترسو في ميناء طرطوس مارة عبر شبكات الحصار النفطي الذي قررته الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. استثمر أيضًا في استيراد المنتجات الغذائية، وهي صفقة جديدة، ظهرت بفضل المحصول السيء في عام 2013 وانتقال المناطق الريفية إلى التمرد. “كان الفاعل الرئيس في صمود السلطة السورية”، كما يعترف خبير أمني أجنبي. ولقاء هذه الخدمات الثمينة، خفَّضت دمشق عام 2014 حصة الأرباح في سيرياتيل المخصصة للدولة من 60% إلى 20 %. خصم سخي!
“مدرب” بشار يستقر في موسكو:
أما بالنسبة إلى رب العائلة، محمد مخلوف، فقد عمل في بداية الانتفاضة مستشارًا للرئيس. “نُظِرَ إلى الخال، كما يطلق عليه، يومئذ، بوصفه صوت وظل و“مدرب“ بشار، كما يؤكد المفكر السياسي جوزيف باهوت، الخبير بالمشهد السياسي السوري. حين ذهب للاستقرار بموسكو، صار بعد وقت قصير من ذلك، رجل شحنات الأسلحة الروسية إلى سورية“.
في ظل الكرملين، حليف دمشق الذي لا يتزعزع، ستكون مسروقات أبي رامي في أمان. في عام 2014، وعلى إثر خلاف مع الرئيس، انضم إليه ابنه حافظ. وقد كشفت صحيفة الفايننشال تايمز أن جلاد درعا وأخويه إيهاب وإياد وأختهما كنده حصلوا على عشرين شقة فاخرة في ناطحة سحاب موسكوفية، قيمتها الإجمالية: 40 مليون دولار (أي 5ر35 مليون يورو). أما رامي فقد بقي من ناحيته بدمشق إلى جانب آل الأسد. إذ كان الخوف من انهيار النظام يحمل أبناء الخال على رصِّ الصفوف.
ولكن بعد استعادة حلب الشرقية، في نهاية عام 2016، وهي الحيازة العمرانية الرئيسة التي كانت بين يدي التمرّد، بدأت الريح في الدوران. إذ بفضل الدعم الجوي لروسيا التي تدخلت قبل عام من ذلك، استعادت السلطة ثقتها بنفسها. فبالإضافة إلى حمل المتمردين على التراجع، قرر الأسد الناجي أن يعيد تنظيم السديم الموالي. وفي نهاية عام 2017، أمر بتفكيك الميليشيا الموالية للنظام، صقور الصحراء، التي صار رجالها شديدي الجشع وشديدي الاضطراب.
مصيبة مفاجئة:
بين ليلة وضحاها، جرى حظر رؤساء هذا التنظيم، الأخوين أيمن ومحمد جابر، وهما من رجال الأعمال في الساحل. لم يشفع لهما أبدًا قربهما من بشار الأسد ومشاركة رجالهما في معارك عدّة رئيسة، كمعركة حلب. كانت الرسالة التي أرسلها بذلك طاغية دمشق شفافة. لا أحد في ملجأ من مصيبة مفاجئة.
بالنسبة إلى رامي مخلوف، بدأت المشكلات في صيف 2019، حين حوصرت القيادة العامة لميليشياته من قبل الجنود النظاميين. جرى تسريح البلطجية ونقلوا إلى الجيش النظامي. وفي الوقت نفسه، جرى تسريح مدراء جمعية البستان، الجمعية المنافسة لسيريا تروست، أي الجمعية غير الحكومية التي أسستها أسماء الأسد، وعُيِّن مكانهم رجال من أتباع السلطة.
ثم جاءت العقوبات الاقتصادية. جُمِّدت أصول شركة آبار النفط (Abar Petroleum)، إحدى حلقات إمبراطورية مخلوف في شهر كانون الأول/ديسمبر. وفي منتصف شهر نيسان/ أبريل، أعلنت الحكومة أنها تطالب شركة سيرياتيل و م ت ن، وهما يحتلان الرقم الثاني في الهاتف الجوال، بمبلغ 233 مليار ليرة سورية (180 مليون دولار يومئذ)، بمثابة ضرائب غير مدفوعة. وفي الأيام التالية، أرسل المحظور الجديد على صفحته في الفيسبوك، ثلاثة فيديوهات غاضبة فجرت القضية في وضح النهار.
انتقمت أسماء الطموحة. ولعل الصور المنشورة طوال الصيف لإبنيْ رامي مخلوف، علي ومحمد، كانت استفزازًا إضافيًا. كانت هناك الصور التي وثقت إجازتهما بوصفهما روك ستار، بين مونت كارلو وميكونوس، وراء مقود سيارتهما الفيراري البراقة. يعلق أيمن عبد النور، مدير الموقع الإعلامي كل سورية، والذي كان قريبًا من القصر، “بما أن أسماء تفكر بأولادها، وتريد تأمين مصالحهم على المدى الطويل. فإنها لم تعد تكتفي بدفعات رجال الأعمال الموالين للنظام، بل تريد أن تسجل هذه الأصول باسمها وباسم بشار. وباعتبارها مصرفية سابقة، فهي على قناعة بأنها قادرة على إدارتها”.
أما رئيس الدولة، فلم يكن من ناحيته مستاءًا من تذكير ابن خاله بقواعد اللعبة. “ففي ذهنه، كان رامي دومًا مديرًا، لا شريكًا. هذا هو سوء التفاهم في أصل الأزمة”، كما يفكك أحد أعضاء النخبة الدمشقية. ولن يكون لدى الرئيس أي تردد لتفريغ جيوب ابن خاله لاسيما وأن جيوب الدولة شبه فارغة. فالنظام بحاجة ملحة إلى الدولارات من أجل الحدِّ من انهيار الليرة السورية وهبوط القدرة الشرائية لدى السكان المنهكين.
يجب عليه أيضًا أن يهدِّئ حلفاءه في موسكو وفي طهران، الذين يستعجلون الحصول على ثمرات دعمهم الذي قدموه له طوال السنوات التسع الأخيرة. كان نشر عدد من المقالات النقدية إزاء الرئيس السوري في الإعلام الروسي خلال الربيع قد فسر على أنه طريقة عبرت فيها موسكو عن نفاذ صبرها. “نستثمر مبالغ كبيرة في الاقتصاد السوري، لكننا لا نرى أي نتيجة”، كما يسعنا أن نقرأ في واحد من هذه المقالات المخصصة للفساد في قلب النظام السوري.
وأخيرًا، في هذه الأزمة، العائلية قبل كل شيء، كان غياب القدماء، أنيسة ومحمد مخلوف، قضاة السلام في العشيرة القائدة، محسوسًا. فالأولى توفيت عام 2016 بدمشق، بعد أن عاشت زمنًا في دبي، مع ابنتها بشرى. والثاني مريض في موسكو. “بعد وفاة أمه وابتعاد خاله، تحرر بشار من ولاية شيوخه ومنذ ذلك الحين حلت دوامة الجحيم” كما يرى جوزيف باهوت، مدير معهد عصام فارس، في الجامعة الأميركية ببيروت.
على ثلاث فيديوهات انتهكت المحرمات، ردّت السلطة بطريقة ماهرة، بلا عنف ظاهر بل بدفق من العقوبات على مؤلفها: منع من السفر، منع من التعاقد مع الدولة، تجميد أصوله كلها، إلخ. وبالتوازي، فشلت محاولات رامي مخلوف في تقسيم الشارع العلوي والجهاز الأمني. وباستثناء العائلات المدعومة من جمعية البستان، فقد أثار أنينه المتداخل مع الآيات القرآنية الاستنكار أو السخرية.
“لا تجرب صبر الأسد”، نصحه في نهاية أيار/مايو أحد رجال الطائفة، أحمد أديب أحمد، أستاذ الدين المختص بالعلويين في جامعة اللاذقية. لا بل إن من كان سابقًا لا يُمَسّ تبرَّأ منه أخوه إيهاب، الرجل الثاني في سيرياتيل، الذي استقال من منصبه. وفي الخامس من حزيران، وُضِعَت جوهرة العقد، شركة الشام القابضة، تحت الحراسة القضائية. ولعل ذلك يؤلف مدخلًا إلى أعادة هيكلة إدارتها، على نسق م ت ن، حيث جرت ترقية المقربين من أسماء الأسد.
لا تزال خاتمة المسلسل تنتظر الكتابة. حسب معلوماتنا، هناك مباحثات تجري بين المعسكرين، بواسطة وجيهيْن علوييْن: غسان مهنا، أحد أعمام رامي مخلوف، وسليمان حداد، وهو سفير سابق ببرلين. تتركز المباحثات على أصول رامي المخفية في الخارج، التي أفلت جزء كبير منها من المباحث الغربية. ويحذر عضو من النخبة الدمشقية قائلًا: “ما يملكه في سورية ليس إلا الجزء الصغير من ثروته الشاملة. إذ أنه يملك استثمارات في روسيا، وفي بييلو روسيا وفي الإمارات العربية المتحدة بالطبع، بل وكذلك في آسيا وفي بعض البلدان الأوربية. إنه على استعداد للمرونة بصدد سيرياتيل، لكنه لا يريد أن يتنازل عن أيٍّ من ممتلكاته في الخارج”.
برهن بشار الأسد في المواجهة مع ابن خاله القوي أنه لا يزال يسيطر بقوة على أجهزته الأمنية.
سوف تحدد نتيجة المفاوضات على وجه الاحتمال إن كان ابن الخال رامي مخلوف سيبقى في سورية أو أنَّ عليه أن يحزم حقائبه وينضم إلى أبيه في موسكو. إلا أن من الممكن عند هذا الحد استخلاص بعض الدروس من هذا التمزق. إذ أن هذه الأخيرةلا تكشف عن تصدعات النظام بقدر ما تكشف عن قدرته على التغلب عليها. من الواضح أن السلطة المركزية السورية ضعفت بفعل حالة الركود الاقتصادي والتذمر الخفي الذي يثيره في المناطق الموالية. لكن بشار الأسد في المواجهة مع ابن خاله القوي، برهن على أنه لا يزال يسيطر بقوة على أجهزته الأمنية.
يبدو أن النظام قد تجاوز هذا الاختبار مثلما سبق وتجاوز في تموز/يوليو 2012 اختبار انشقاق الجنرال مناف طلاس، الصديق الحميم السابق للرئيس، ومغادرته إلى فرنسا. أو كما سبق وأدار بعد أيام عدة من ذلك حلقة شديدة الحرج، هي حلقة استبعاد أعضاء وحدة الأزمات بدمشق: كانت هذه العملية، المقنعة بعملية هجوم للمتمردين، قد سمحت بتصفية سهلة لكبار المسؤولين الأمنيين المشتبه بإرادتهم الوقوف مع العدو، ومنهم آصف شوكت، نائب وزير الدفاع وزوج بشرى الأسد. للنظام السوري خصوصية تتمثل في أنه حين يتراجع، يقسو، ولا يضعف.
يحلل جوزيف باهوت: “قضية مخلوف هي علامة على عودة بشار الأسد القوية بالعلاقة مع أعضاء الحلقة الأولى التي كان مدينًا لها، فقد أعاد تنظيف الداخل، كما كانت هي عادة أبيه. قبل سنتين، لم يكن بوسعه أن يسمح لنفسه بذلك، فقد كان بحاجة كبيرة إلى رامي. إنها بصورة مفارقة، علامة صحة جيدة.” الأقلويين الجدد، هؤلاء شبه المجهولين الذين انتهزوا الحرب من أجل جمع المليارات، على غرار سامر فوز، المالك الجديد لفندق فورسيزون، الفندق الفخم الأول بدمشق، جرى من الآن فصاعدًا تحذيرهم. إذ من غير المحتمل على الإطلاق أن يسمح لهم النظام بالوصول إلى مقام رامي مخلوف، الرجل الذي ظن نفسه نائب ملك سورية.
الكاتب الأصلي : بنجامن بارت Benjamin Barthe
مكان نشر الأصل: صحيفة اللوموند ، 26 حزيران/ يونيو 2020
المصدر مركز حرمون
التعليقات مغلقة.