( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثانية والعشرون: (الفصل الخامس– نزع السياسة من المجتمع2 ” تدمير المعارضة”)
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
نزع السياسة من المجتمع
٢ – تدمير المعارضة:
في سياق فصل الأحزاب عن العمل السياسي، وربطها بالدولة العميقة وخياراتها، واستخدامها كأدوات وظيفية تتعاون مع أجهزتها، فك ميثاق “الجبهة الوطنية التقدمية” السياسة عن التنظيمات التاريخية للفئات البينية، بما فيها حزب البعث، الذي لم يعرف السوريون له اي نوع من النشاط المستقل عن السلطة، بل كان مجرد تجمع سياسي تتخذ قراراته جهات سلطوية تخصه بجزء يسير من اهتمامها كطرف تابع لها، وتستخدمه كواحدة من أدواتها، فلا تتعامل معه بصفته مرجعيتها المعترف بها، وتعالج ما تواجهه من مشكلات وقضايا دون التزام به أو بمواقفه وآرائه، كما تتجاهل أطره الأيديولوجية والتنظيمية كحزب، ومواقع هيئاته القيادية، التي تدين بها للدولة العميقة، ويملؤها الاقتناع بتبعيتها لقائدها، الذي يجمع مجمل السلطات والصلاحيات الرسمية والحزبية في شخصه، ويمارس حزبيته بما هي فرع من سلطويته، ولا تلزمه إطلاقاً بما قد تتخذه قيادة البعث من خطوات أو قرارات خاصة بالشأن العام، لأن اتخاذها ليس من صلاحياتها، بل هو من اختصاصه كموقع تتجمع عنده سائر القضايا: العامة والخاصة، ويقوم بدوره بالنيابة عن الحزب أيضاً، وعن قادته الافتراضيين، المحدودي الصلات بالشأن العام والحقل السياسي، وليس من حقوقهم التدخل في أي جانب من جوانب عمله، ناهيك عن لعب دور قيادي أو مبادر في أي شأن عام، بينما له وحده كل الحق في تحديد طبيعة ومآلات أعمالهم، وما يجوز وما لا يجوز منها. صحيح أن الدستور يجعل الحزب قائد الدولة والمجتمع، لكن نمط السلطة يلزمه بتفويض جميع صلاحياته للقائد، الذي يدين بالخضوع له جميع ما تحت ولايته من مؤسسات سياسية ورسمية: حافظ الأسد.
ـ إذا كان البعث قد خضع طيلة سنوات السلطة الأسدية لرقابة وثيقة من أجهزة الدولة العميقة، فهل كان لموقفها أن يختلف عن ذلك بالنسبة لأحزاب المعارضة الصغيرة، التي غادرت الجبهة الوطنية كالحزب الناصري، أو تلك التي انشقت عن أحزابها الأم، أو خرجت منها، قبيل أو بعيد انقلاب عام ١٩٧٠، اعتراضاً على موقفها منه، وتعرضت لأنواع من الملاحقات والضغوط حولتها إلى جمّعات مغلقة، تمارس سياسات متقطعة من حيث توقيتاتها، مجزأة من حيث موضوعاتها، محدودة من حيث تأثيرها، وتخضعها السلطة لشتى صنوف الاضطهاد والقمع، في ظل انكشاف أوضاعها التنظيمية أمام أي تدخل تقرر القيام به، للمحافظة على ما أرادت إقامته، أو فرضه، من توازنات داخلها، تحولها من قوى فاعلة إلى موجودات أمر واقع، لا يحتم وجودها ضرورة إدراجها في توازنات السلطة وما تقتضيه من سماح لها بالعمل الحر، أو امتناع دولتها العميقة عن إحاطتها بأجواء وتدابير احتوائية، تمثل قيوداً لا تستطيع تخطيها، والتغلب على أبعادها الرادعة، لأن خروجها عليها يعرضها لحملات قمع تصل إلى درجة تقويض وجودها، و/أو احتجازها في سياسات سلطوية تكبح نموها ودينامياتها الذاتية، وتبقيها حبيسة خطوط حمراء لا يقبل لها بتجاوزها، تتكفل بإبقائها في حال من الضعف والانكشاف ترسم الأجهزة حدوداً دنيا وعليا لقدرتها على الفعل، وتلزمها بالعمل بدلالة ما تتخذه من قرارات ترسم لها سقوفا منخفضة تمليها موازين قوى تقنعها أن من مصلحتها انتهاج خط سياسي وتنظيمي يجنبها التورط في معارك كسر عظم مع سلطة شديدة الشراسة، من المؤكد أنها ستخرج خاسرة منها، مثلما حدث عندما كتب عضو في حزب العمل الشيوعي على جدار إحدى مدارس بلدة مصياف جملة تدعو إلى الكفاح المسلح، فأمر حافظ الأسد باجتثاث الحزب، وهو ما حدث خلال حملة استمرت أياماً قليلة، اعتقل خلالها قادته وأعضاؤه وأرسلوا إلى السجون، وأخرج من الحياة السياسية والعامة لحوالي عقدين، لم يسّتعِد بعدهما وضعه السابق، مع أن من كتب الجملة قد يكون خطها على الجدار دون علم قيادته !.
ـ ثمة سقوف منخفضة تضعها الدولة العميقة لعمل المعارضة، تطبق عليها معايير تتفاوت مرونتها وشدتها من حزب لآخر، وتتعين بقدراتها المختلفة على الفعل، وبالتالي بحجمها ونشاطها، وما يتم منه بدلالة سياسات السلطة وخياراتها، وضمن أطر لا يجوز أن تخرجه منها، كأن تعارض مواقف النظام من غزو لبنان، أو موقفه من قضية الجولان، وأن تشكك بوحدويته أو اشتراكيته، فيعتبر تشكيكها ونقدها خروجاً على السياسات الرسمية ينتمي إلى دائرة غير المسموح به، أي دائرة الأمان الضرورية لاستقرار السلطة واحتواء مجمل المجال السياسي وتنظيماته، وإبقائها ضمن حدود آمنة، فإن خرج حزب معارض عن المحددات المسموح بها، وقع استهداف جهازه العصبي ولوحق دون رحمة، كما تتم أيضاً ملاحقات قمعية في حالة النقد الذي لا يخرج عن الانضباط بالحدود التي يُحرّم اجتيازها، لكنها تكون ملاحقات محدودة، وتستهدف غالباً الأفراد الذين انتهكوها، أو الذين يؤدي اعتقالهم إلى التزام أحزابهم بمواقف متحفظة وسلبية تجاه السلطة، كأن اعتقالهم أقنعها بالتقيد بنوع من تعاقد غير مبرم مع الأجهزة، لكنه قطعي، كما لو أنتجه توافق مسبق، يلزم الطرف المعارض وحده، ولا يلزمها هي، ومن حقها رفضه اليوم إن كانت قد فعّلته بالأمس، وقبوله غداً إن رفضته البارحة، فالعقد المعني لا وجود في الواقع له، وهو وهمي، وليس شريعة المتعاقدين، لأن الطرف الذي يفرض العقد ويلزم به من لم يحاورهم أحد، أو يطلب رأيهم فيه، هو الدولة العميقة، التي لا يرون منها غير قمعها، وتحجم عن محاورة أحد، ويحمل العقد شروطها الملزمة لغيرها، غير الملزمة لها، لكنها تتمسك بتطبيقه وتجبر الآخرين، سواء كانوا في الجبهة أم المعارضة، على تطبيقه بما هو تعبير عن إرادتها، ويعني تطبيقه انصياع الآخرين لها، وحقها في محاسبتهم ومعاقبتهم على الإخلال به، كأنه تم بالتراضي، وليس نتاج مواقف ومعايير تعسفية وأحادية الجانب، تمليها الأجهزة، وترسم بواسطتها حدود الأدوار في الحقل السياسي والمجال العام، يستوي في ذلك حزب البعث وأحزاب الجبهة والمنظمات الشعبية، ومجموعات المعارضة، بما لديها غالبا من تقديرات غائمة حول خلفيات ما تتخذه السلطة من مواقف، وتسمح أو لا تسمح به مما لا يثبت على حال، وقد يتغير من ساعة لأخرى، لإبقاء خصومها مكشوفين أمام تدخلها في شؤونهم، وغاراتها المباغتة عليهم.
ـ هذا النمط من التدخل المتنوع والدائم، عبر ما يمكن وصفه بـ”الاحتواء التأطيري”، والذي فرض على المعارضة موضوعات قررت الأسدية منعها من الخروج عليها، ومعاقبتها إن فعلت ذلك، عزز آلية نوع من “الاحتواء التوجيهي المسبق أو اللاحق”، القائم على التحكم بأنشطة المعارضين عن طريق ما يمكننا تسميته “ملاحقات واعتقالات وقائية أو علاجية”، تستهدف أشخاصاً مؤثرين يكره اعتقالهم تنظيماتهم على العودة إلى الحدود المسموح بها لها، وتضيق وتتسع لأسباب تعرفها الأجهزة وحدها، وكثيراً ما تستخدمها ككمائن وأفخاخاً تصطاد بواسطتها من تتهمهم بمخالفتها، عندما تضيق حدود المسموح به من لحظة إلى أخرى، أو تتسع فجأة لاستدراج الطرف الآخر، وتشجيعه على القيام بخطوات غير مدروسة، وإيهامه أن الأسدية قررت اعتماد حقبة من الانفراج في علاقاتها مع الداخل، وبوسع معارضيها القيام بخطوات لطالما أحجموا عن القيام بها، خوفاً من القمع. هذه الآليات في المنع والحظر والاحتواء، تتبدل باضطراد، في إطار تخرج محدداته عن علاقات السلطة بالمعارضة، وتتصل باعتبارات داخلية وخارجية تحرص الأجهزة على بقاء المعارضة جاهلة بها، أو تمدها بمعلومات مضللة عنها، لتقتنصها عند الضرورة بواسطتها أو بسببها، حين تقرر ملاحقتها بتهم ترتكز دوماً على التشكيك في هويتها الوطنية، أو اتهامها بإقامة صلات مع جهة عربية أو أجنبية ما، بين السلطة وبينها أزمة أو مشكلة ما. في هذه الحالة، تتبنى السلطة قاعدة لا تحيد عنها، تقوم على منع أي تشكيل سياسي أو أي شخص من ممارسة ما تسمح لنفسها به من أقوال وأفعال، بذريعة مسؤوليتها وحدها عن كل ما يقع تحت سلطتها، وما تمنحه لها من صلاحيات لا يحق لأحد الاعتراض عليها أو انتقادها، ولا بد أن تكون مطلقة بالنسبة لها، مقيدة لدى الآخرين، وملزمة لهم في جميع الأحوال، بحجة أن السلطة هي الجهة الوحيدة التي تغطي كافة مساحات الحقل العام الداخلية، وما تتطلبه سيطرتها عليه من علاقات خارجية، ليس لأي طرف أن يمتلك أو يتطلع لامتلاك ما يقاربها أو يقارب مسؤولياتها عنها في أي موضوع، مهما كان جزئياً أو ثانوياً.
ـ أكرر: هذه القاعدة تترجم على المستوى العلائقي إلى ما يلي: حتمية التزام المعارضة التزاماً صارماً بالعمل في حدود وأطر داخلية محدودة وضيقة ترسمها السلطة، فإن عملت، أو حاولت العمل، خارجها، أو في أي إطار خارجي، رأت الأسدية فيها خطراً على الاستقرار وجعلتها هدفاً لأجهزتها، مهما كان عملها محدوداً وهامشياً، كما لو كانت تنتمي إلى فُسح تهدد الشمولية وسياساتها، التي يجب أن تبقى في جميع الظروف حكراً على القائد وأجهزته. إلى ذلك، ليس هناك، ولا يمكن أن يكون هناك، أي نشاط متصل بالخارج، أو أي صلة معه إلا وتكمن وراءهما مؤامرة ما. هناك مؤامرة أيضا وراء أي نشاط داخلي يخرج عن الأطر المرسومة، مع ملاحظة أن الفعل الداخلي يخضع للرقابة، وتضبطه محددات، أما الخارجي فيبقى غامض الجوانب، مهما كان حجم الاختراق السلطوي لعلاقات السوريين بالخارج العربي والأجنبي. هذه القاعدة حول الصلة بالخارج كمؤامرة، قد تنطبق على مقالة في جريدة لبنانية، أو على دعوة إلى الغداء مع زميل أجنبي من أيام الدراسة، أو على مصافحة في مقهى، أو لقاء عابر في الشارع !.
ـ في منطق الدولة العميقة، يجوز للسلطة ما لا يجوز لغيرها. من ذلك، على سبيل المثال، عقد لقاءات سرية مع مسؤولين إسرائيليين، يعاقب كعميل اسرائيلي خائن وكمتدخل في شأن محظور عليه التطرق له كل من يكتب مقالة تؤكد هذه اللقاءات، أو يدلي برأي حولها، أو يشير ولو تلميحاً إليها ولو بعد عقود. ينطبق هذا أيضاً على بقية الشؤون الوطنية، التي يعاقب من يكون رأيه حولها مخالفاً لرأي الأجهزة، التي ترى في احتكار المجال العام والحقل السياسي ضرورة لا غنى عنها لاستمرار السلطة، وتعزيز سيطرتها على المجتمع والفاعلين فيه، أكانوا مواطنين عاديين أو سياسيين أو تنظيمات، موالين أو معارضين. هنا، تلتزم الدولة العميقة بمبدأ يقول: لا علاقة للمعارضة أو لغيرها من أحزاب سوريا بأي شأن وطني، لأن الوطنية يجب أن تبقى حكراً عليها، ومرتبطة حصرياً بما تتخذه من قرارات وتتبناه من مواقف، بما فيها تلك التي قد تتخلى عنها، لكنها تبقى في جميع الأحوال ملزمة لغيرها، إن كان من المعارضة بصورة خاصة. لا يعني هذا أن من يعتقل بتهم لا علاقة لها بالخارج لا يُعَد متآمراً، فالمؤامرة على الأسدية كونية ودائمة، وتغطي جميع الحقول السياسية والاقتصادية والثقافية والفكرية، كما أنها لا تستثني أحداً، بحيث يتهم شيوعي بالتآمر مع واشنطن، وياسر عرفات بالتواطؤ مع إسرائيل، في اليوم نفسه الذي يستقبله فيه حافظ الأسد ويصدر بياناً أو تصريحا يدعم النضال الوطني الفلسطيني ومنظمة التحرير. هذه جوانب لا علاقة بينها بالضرورة، فالمؤامرة متشعبة ولها أوجه متنوعة: الخفي منها أكثر من الظاهر، ومن يكون وطنياً في موقف يكون متآمراً في غيره، لذلك، تعتمد الأجهزة سُنّة تقول بسوء الظن كموقف لا يجوز أن يُستثنى أحد منه، بما في ذلك البعثيون وقادة الجبهة الوطنية التقدمية ومحازبوها، ناهيك عن المعارضة، فالثقة لا يجوز أن تُمنح لأحد، وهي تتراجع هبوطاً من الرئيس: مصدر الثقة الأوحد، الذي يحق له الشك بمن يشاء ولا يحق لأحد أن يشكك فيه ولو في منامه، وصولاً إلى الكائن الذي تحوم حوله جميع أنواع الشكوك: المواطن العادي، الذي يقف غالباً خارج صف السلطة والمعارضة، وترى الأجهزة فيه مصدر خطر داهم ودائم عليها، وتجب ملاحقته بافتراض أنه معارض بالفطرة.
………………..
يتبع.. الحلقة الثالثة والعشرون: (الفصل الخامس– نزع السياسة من المجتمع3 ” تدجين المواطن”)
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.