الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر و على فكره الاستراتيجي والتاريخي

الدكتور جمال الأتاسي

دمشق – 1981

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر (1/4)

المحتويات:

أولاً– مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر


ثانياً
– فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه: من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية


ثالثاً
– من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي


رابعاً
– الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد

 

 

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام

 الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر

(1/4)

قال عبد الناصر عام 1953 في ” فلسفة الثورة “: ” إنني كنت بنفسي داخل الدوامة العنيفة للثورة. والذين يعيشون في أعماق الدوامة قد تخفى عليهم بعض التفاصيل البعيدة عنها… وكذلك كنت بإيماني وعقلي وراء كل ما حدث وبنفس الطريقة التي حدث بها، وإذن فهل أستطيع أن أتجرد من نفسي حين أتكلم عنه، وحين أتكلم عن المعاني المستترة وراءه؟

أنا من المؤمنين بأن لا شيء يمكن أن يعيش في فراغ . حتى الحقيقة لا يمكن أن تعيش في فراغ… والحقيقة الكامنة في أعماقنا هي: ما نتصوره أنه الحقيقة، أو بمعنى أصح: هو الحقيقة مضافاً إليها نفوسنا… نفوسنا هي الوعاء الذي يعيش فيه كل ما فينا. وعلى شكل هذا الوعاء سوف يتشكل كل ما يدخل فيه، حتى الحقائق. وأنا أحاول- بقدر ما تستطيع طاقتي البشرية- أن أمنع نفسي من أن تغيّر كثيراً من شكل الحقيقة. ولكن إلى أي حد سوف يلازمني التوفيق؟ .

هذا سؤال … وبعده أريد أن أكون منصفاً لنفسي، ومنصفاً لفلسفة الثورة، فأتركها للتاريخ يجمع شكلها في نفسي، وشكلها في نفوس غيري، وشكلها في الحوادث جميعاً، ويخرج من هذا كله بالحقيقة كاملة… ” .

وهذا الذي قاله عبد الناصر في بدايات ثورته، لم يأت في سياق تقديم فلسفة للثورة التي يريدها، أو تقديم تحليل أيديولوجي لمسارها، بل جاء في سياق النفي لذلك، ولأن يكون كتابه فلسفياً أو يحمل فلسفة للثورة ولو أنه صدر وهو يحمل هذا الاسم. فذلك الكتاب الأول والصغير جاء ليعطي صورة أولية عن مخاض الثورة في حياة عبدالناصر وحياة وطنه وشعبه، وليسجل المقدمات الأولى لحركة هذه الثورة واستراتيجيتها ولآفاقها العامة وأبعادها وتطلعاتها وأهدافها، وليؤكد أصالة هذه الثورة وجذريتها، فهي ليست انقلاباً، وهي ليست لمرحلة تتوقف عندها، بل هي ثورة وطنية تتطلع للمستقبل وتتطلع للشمول، شمول الأمة وشمول تاريخها وحضارتها، وشمول التحرر الإنساني والتقدم والنهوض بالأمة إلى مستوى العصر.

ولكن هذه الفقرة التي اقتطعناها من سياقها في كتاب ” فلسفة الثورة “، أتينا بها في هذا التقديم للبحث عن ” الفكر التاريخي لعبد الناصر “، ما جئنا بها إلا لأنها تكاد تكون تعبيراً عن سياق نضج الوعي الثوري في حياة عبدالناصر وسياق تجربته، وليس في تلك البدايات فقط، بل وفي استمراريتها حتى النهاية. كما وأنها التعبير ومنذ تلك البدايات، عن الحس التاريخي عند عبد الناصر، من قبل أن يقرأ فلسفة التاريخ، ومن قبل أن يأخذ بالاشتراكية العلمية، أي بالجدلية التاريخية، التي صاغ على أساس من مبادئها ومقولاتها العامة، دليل عمله الاستراتيجي ” الميثاق الوطني “، بعد عشر سنوات من تلك البدايات. وهو من خلال هذا الحس التاريخي، جاء ليقول، إن الحقيقة ليست جاهزة ولا منزلة، بل هي صيرورة تتكامل وتتجدد في مسار التاريخ، وهي تتشكل أيضاً في نفس الإنسان، أي في تقدم حركة وعيه الذاتي واستيعابه.

وهي صيرورة من خلال تلك الجدلية بين وعي الإنسان وقوانين التاريخ الإنساني الناظمة لحركته، هذا من غير أن يقف عند تأكيد المقولة الثانية في الفكر التاريخي وهي ” أن الإنسان يصنع التاريخ “، وعبدالناصر من خلال ثوريته، ومن خلال تفاعله مع تاريخ أمته وجماهير شعبه وفعله فيهما، كان ممن صنعوا ذلك التاريخ .

ولكن عبدالناصر لم يكن فيلسوفاً للثورة ، ثورة الأمة العربية في هذا العصر، بل كان يعيش هذه الفلسفة إحساساً ومعاناة، ويطبقها ممارسةً ونضالاً. وعبدالناصر لم يقدم أيديولوجية أو ” نظرية متكاملة ” ومنهجاً في البحث والتفكير يدل الثورة في كل مراحلها، إلى طريقها وأهدافها، ويبني الوحدة الفكرية لطلائعها وأداتها، ولكنه كان أيديولوجية ثورية في مخاض التشكل، من خلال التجربة الثورية الخاصة والتعلم من تجارب الآخرين، لتأتي مطابقة للواقع الثوري الذي يتقدم به نضال شعبنا وحركة نهوض أمتنا. وكان يتحرى الكلمة التي تعبر عن حس الجماهير وعن المرحلة التي نهض إليها وعيها السياسي والاجتماعي. وكان يطالب بالفكر الموحد الذي يؤلف بين قوى الثورة العربية ويدفع على طريق وحدة برنامجها الثوري ووحدة أداتها، ولو أنه لم يصل إلى صياغة أيديولوجية لهذا الفكر ولم يتوصل إلى تحقيق تلك المرامي .

ومن خلال هذا المنظور، وبالتطلع إلى ذلك الهدف، الذي تطلع إليه عبدالناصر وأراده ولم يصل بنا إليه، نعيد اليوم قراءة عبدالناصر، ونخوض في حوار مع تجربته وممارساته وأفكاره، في محاولة لاستكشاف حقيقة تلك التجربة الثورية وحقيقة تشكلها ” في نفسه ” وفي حركة الجماهير التي أعطاها الكثير وأعطته أكثر، وعن شكلها أو انعكاسها ” في الحوادث ” التي تعاقبت في حياته وبحضوره ثم من بعده وفي غيابه .

إن التقييم الذي يجري اليوم من قبل البعض، للدور التاريخي الذي قام به عبدالناصر ولفكره المتقدم في مرحلته، من خلال الفراغ الذي خلفه بغيابه عن مسرح الأحداث، ومن خلال النكسات التي توالت من بعده، على أرض مصر وفي أرجاء الوطن العربي، شيء هام وجدير بالتأمل، ولكن الأهم من ذلك، هو تقييمه وتثمينه عبر تحليل ونقد تجربته الثورية في مساره كله. فهي تجربة أمسكت بمسار الأمة العربية كلها وشدتها إليها كما لم تشدها في يوم من أيام تاريخها منذ قرون، وشدت الجماهير، كما شدت بشكل أو بآخر، سلباً أو إيجاباً، جميع فئاتها وقواها، ولذا لا بد أن يكون نقدنا لها بالضرورة، نقداً أعم وأشمل يتناول تيارات الثورة العربية ككل من خلال تجربة عبدالناصر، ثم إن قضية الثورة الناصرية ما زالت قضيتنا، وأهدافها ما زالت أهداف جماهير أمتنا في مختلف أرجائها، إلا أنها ثورة تعثرت وانقطعت، ولا بد أن نعي بعمق عوامل التعثر والانقطاع، ليكون هذا الوعي النقدي سبيلنا إلى تدارك هذا التعثر الكبير بل هذا الانحطاط الذي تردت إليه أوضاع النظم السياسية وتردت إليه الحياة الاجتماعية والثقافية لشعوب أمتنا، وتردت إليه حركة تحررنا ونضالنا، وليظل هذا الوعي النقدي متواصلاً ومتقدماً، يضع جدلية الثورة ويدفع بحركة التاريخ. ولعل الخطأ الكبير الذي وقع به نظام عبدالناصر والأدوات التنفيذية لسلطته الثورية، كما وقعت به ثورات ونظم ثورية أخرى، هو أنها لم تساعد على تفتيح هذا الوعي النقدي، أي تقدم الوعي الثوري عن طريق النقد المتواصل للتجربة الثورية في مساراتها كلها، ولم تعمل على خلق أدوات مثل هذا الوعي الجماعي، الذي يصنع حيوية الثورة وتجددها المستمر، فضلاً عن أنها في عدد من مراحل هذه الثورة، عملت ضد تفتح هذا الوعي النقدي وأدواته بحيث لم يمارس مثل هذا الطراز من النقد (أي نقد الثورة لذاتها وتجربتها) إلا عبدالناصر ذاته. وكان هذا يأتي أحياناً وبحكم الواقع والضرورات، بعد أن تحل الكوارث والمصائب، كما جاء النقد الذاتي لتجربة الوحدة، بعد كارثة الانفصال، وكما جاء النقد لبنيان النظام وتكوين أجهزته وقياداته والأمور التي كانت من عوامل الهزيمة، بعد أن وقعت الهزيمة في حزيران ( يونيه). وإذا كان من الحق القول إن عبدالناصر قبل الهزيمة، كان يعيش بنفسه، استمرارية الثورة (وكما قال في البداية عن نفسه في كلماته التي قدمنا بها مقالتنا)، ” داخل الدوامة العنيفة للثورة ” يقود صراعاتها ويدفع بحركتها إلى الأمام ويصارع أعداءها الكثر في الداخل والخارج، فلقد كان يعيش أيضاً في إطار النظام البيروقراطي الذي يبسط مصالحه وهيمنته من حوله. وإذا كانت دوامة الثورة وحرارتها تشد الإنسان في كليته ” لتخفي عنه بعض التفاصيل البعيدة عنها “، فلقد كان من طبيعة النظام البيروقراطي واللاديمقراطي الذي شيّد في ظل قيادة عبدالناصر، أن يغيّب عن عين ” قيادة الثورة “، لا التفاصيل البعيدة، بل والكثير من الوقائع والكثير من القصورات والثغرات ومن المصالح اللا ثورية والانحرافات، التي راهن عليها التآمر على الثورة والقوى المضادة للثورة والتي دخلت منها القوى المعادية ودخلت الهزيمة.

                   ** *                   ** *                    ** *

ونعود مرة ثانية إلى التاريخ ومنطق التاريخ، حيث تأخذ الحقيقة الإنسانية صيرورتها، وحيث تتسلسل الأحداث وتتوالى، آخذة إيجابيتها معناها، وحيث تفعل قوانين التطور والصراع لتدفع بمراحله وتحدد منحاها، وحيث يأخذ رجال الفكر ورجال السياسة التاريخيون دورهم في تحريك الوعي والدفع بحركة الأحداث وتحريض النقلة النوعية واختصار الزمن، وحيث تأخذ الثورات الإنسانية للشعوب دورها في التغييرات التاريخية وتخطي المراحل، ولكن التاريخ يبقى في تسلسله الزمني ماضياً وحاضراً ومستقبلا.

وإذا كان من منطق الفكر التاريخي، أن يفسر الحاضر بالماضي، وأن يجد الحدث الذي يمر الآن تعليله في توالي الأحداث التي جاءت قبله وما فعلت، كذلك فإن الماضي لا ينفصل عن حكم الحاضر عليه. والحدث التاريخي العظيم الذي تعيشه الأمة في مرحلة، لا بد وأن يفقد الكثير من عظمته إذا ما توالت الإخفاقات من بعده وبسبب تلك الإخفاقات. وهكذا ينال كثيراً من شموخ المرحلة التي عاشتها أمتنا نضالاً وثورة وتقدماً في أيام عبد الناصر، وفي ظل قيادته وفي حضوره القومي والفاعل، وينال كثيراً من عظمة تلك المرحلة، ما كان بعدها من انتكاس، وما كان بعدها من ردات ومن تشتت وضياع. وذلك منطق الأمور في مراحل التقهقر الثوري، وعندما تتوقف حركة الدفع نحو المستقبل .

ولكن الظاهرة التي عاشتها أمتنا في مرحلة عبدالناصر وبحضوره القوي المتحرك على مسرح الأحداث، هي أن المستقبل وآمال المستقبل أخذت تقتحم الحاضر وتفعل فعلها في حياتنا وترسم ملامحها عليها، وتؤجج حيوية الجماهير ونضالها اندفاعاً على طريق التغيير ودفعاً على طريق أهداف المستقبل، أي أن تاريخنا بعد الركود الطويل، أصبح تاريخاً هادفاً وأخذ يسير. ولكننا، وبعد غياب عبدالناصر عن مسرح الأحداث، وبهذا الغياب لدوره الذي كان، وبتدخل عدد من العوامل والقوى السلبية المضادة للثورة ولحركة تاريخ الأمة التي وجدت فرصتها في هذا الغياب، تجمدت حركة تاريخنا وانغلق المستقبل وتاهت الأبصار دون الهدف وعادت رواسب الماضي تلقي بأثقالها على الحاضر، وتدور به في دوامة التأزم والتشتت والعجز .

إن عبد الناصر ما جاء، ومنذ البداية، نداء بالثورة وتأكيداً على ضرورتها، لتغيير مجرى حياتنا وتاريخنا فحسب، بل جاء وكأنه بدوره القيادي والمحرك فيها، ضرورة من ضرورات تلك الثورة. جاء ليستكشف أمام جماهير أمته، مقدار ضياع حريتنا وقدراتنا ومقدار تأخرنا عن الركب الإنساني الصاعد، وليحرض في نفوسنا وحياتنا حافز الثورة لتدارك هذا التأخر وتحرير إرادتنا وإطلاق طاقات أمتنا ومبادراتها الإنسانية المبدعة .

والثورة التي قادنا عبدالناصر على طريقها، لتحرير أوطاننا وإرادة جماهير أمتنا، ولتدارك تأخرنا واللحاق بركب التقدم والنهوض إلى مستوى العصر، لم تكن ثورة واحدة ومحددة، لم تكن ثورة التحرر الوطني فحسب (حسب التحديد الأيديولوجي وحسب التحديد التاريخي والاجتماعي للثورات التي توالت في تاريخ الإنسانية) بل هي حركة تغيير ثوري، تعددت وتداخلت مهماتها ومراحلها. وهي إذا ما انطبقت عليها تلك التسمية العامة التي تطلق على الثورات الوطنية لأقطار (العالم النامي)، أي الثورة الوطنية الديمقراطية المتعددة المراحل والمهمات التاريخية، فإنها قد صاغت بذاتها ومن خلال مسارها، لحمتها الثورية الواحدة، لتصبح ثورة الأمة العربية، لتحرير أوطانها وشعوبها، ولبناء اندماجها الوطني ووحدتها القومية، ولصنع تقدمها وبناء حياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية من جديد على طريق الحرية والاشتراكية .

فمن أين بدأ عبدالناصر ثورته، أو بالأحرى ثورة الأمة العربية في مرحلة القيادة الناصرية لها، وأين وقفت هذه الثورة وإلى أين تنتهي؟

____________

يتبع..

أولاً – مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر (2/4)

التعليقات مغلقة.