الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الإطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي للدكتور جمال اتاسي

محمد سليم طبارة *

هذا الكتاب هو، باختصار، عبارة عن دراسة لفكر جمال عبد الناصر وتحليل له، ووضعه في الموضع الذي يجب أن يكون فيه. إنه تنقل مع عبدالناصر وإبراز أهميته في الثورة المصرية والعربية التي انطلقت في تموز- يوليو من عام 1952، والإشارة إلى الاعتماد الكلي عليه، مما أفقد ثورته من بعده زخمها وقوتها فضعفت وتمكن الأعداء منها .

إنه تتبع لفكر الرجل القائد عبر الزمن، وتصوير تطوره معه تبعاً لمنطق التطور ذاته ولمنطق مسيرة التاريخ النامية .

إنه تحليل لما كان عليه فكر عبد الناصر وكيفية اعتماده على المنهج التاريخي وتأثره بما كان يحيط به من ثقافة وموقع .

إنه محاولة ناجحة لوضع الحقائق في نصابها، وللتدليل بذكاء على نقاط الضعف والوهن في الثورة الناصرية، والانطلاق من ذلك لوضع الحلول الحقيقية من أجل النهوض بالثورة العربية في أيام ما بعد عبد الناصر، كل ذلك في إطار من الموضوعية والتحليل الصحيح .

ولقد عولجت هذه المواضيع السابقة الذكر ضمن أربعة أقسام الأول منها كان تحت عنوان: ”مع الثورة في مسارها التاريخي العام: الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر” أما القسم الثاني ، فكان تحت عنوان: ”فكر عبد الناصر في جدلية تقدمه ونضجه؛ من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية العلمية”؛ ولقد وضع القسم الثالث تحت عنوان: ”من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي ” وأخيراً اتخذ القسم الرابع عنوان: ”الناصرية ومستقبليتها: الاقتناع والتجديد“ .

وما تجدر الإشارة إليه هنا هو أن المؤلف اعتمد في كتابه الذي بُني على مصادر عدة، كمراجع منها: كتاب ”فلسفة الثورة” و ”الميثاق” لعبد الناصر، ومنها بعض الخطب للرجل القائد، وبعض المقابلات الصحفية التي أجريت معه. كذلك اعتمد على معايشته ومعرفته الشخصية له. كما أن التاريخ، بشكل عام، كان أحد المراجع أيضاً .

والآن وقبل الانتقال إلى شيء من تفصيل لما ورد سابقاً عن مضمون الكتاب، لا بد من القول: إن القارئ، حينما ينتهي من مطالعة كتاب ”إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبد الناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي”  سيضع صاحبه في خانه الكتاب الإيجابيين الذين لا يكتفون بتحديد أو وضع اليد على المشاكل والثغرات التي نعانيها، بل يضعون الحلول لها أيضأ .

القسم الأول: مع الثورة في مسارها التاريخي العام- الثورة المستمرة وحضور عبد الناصر

بدأت ثورة عبد الناصر ثورة وطنية مصرية تخلع الملك وتُسقط النظام الملكي وأعوانه وتطرد الاستعمار. ولكن، ولأن عبد الناصر على رأسها وهو رجل التاريخ، المتعامل مع حركة التاريخ، المنفتح على أحاسيس الشعب وتطلعاته، الفاعل مع حركة الجماهير، المتفاعل معها، فإن هذه الثورة أخذت صبغة الثورة المستمرة، محددة أبعادها الأولى في أنها ثورة سياسية واجتماعية معاً، صاعدة بهذه الثورة مراحل وأطواراً، آخذة شيئاً فشيئاً، بعدها القومي العربي دفعاً على طريق وحدة نضال الأمة ووحدة أهدافها وعلى طريق اندماجها، منطلقة إلى أن تكون ثورة شمولية تقدم تجربتها للإنسانية .

أما أين تنتهي هذه الثورة، فإن عبد الناصر يجيب على ذلك بقوله: ”إن الثورة لن تقف إلا عندما ينتهي استغلال الإنسان للإنسان”. ومعنى ذلك أنها ثورة مستمرة، إنها ثورة بدأت من استيعاب رجلها لتاريخ النضال الوطني المصري السابق لها، مستفيداً من ذلك للوصول إلى استيعاب معطيات الحاضر، كل ذلك بإمعان التفكير والتحليل .

لقد قامت ثورات وحركات متعددة في أرجاء مختلفة من الوطن العربي، ولكنها لم تصل إلى ما وصلت إليه ثورة عبد الناصر من بعد شمولي وبعد قومي، وهذا عائد لعاملين اثنين: أولهما: دور مصر وشعب مصر ومكانة مصر في الوطن العربي؛ وثانيهما: الدور التاريخي لشخصية عبد الناصر الفذة .

ويتساءل المؤلف الكريم: لماذا توقفت ثورة عبد الناصر بعد غيابه؟ ويجيب على ذلك بالقول: إن السبب هو عبد الناصر وغيابه؛ فلقد تركنا دون أن يخلّف لنا بديلاً عنه، في مستوى قيادته ودورها وفعلها، مما أدى إلى تحرك الثورة المضادة من داخل مصر وخارجها .

وهذا كلام سليم؛ ذلك أنه لا بد من الاعتراف بأن ثورة مصر عبد الناصر كانت شامخة بشموخ قائدها، أخذت من شخصيته وكبرت بوجوده ومن وجوده، فعندما غاب ولم تكن هناك قيادة تتمتع بمزايا عبد الناصر واندفاعه، اختل توازن الثورة مما أضعفها وحرّك أعداءها .

إن الاعتماد الكلي على عبد الناصر والأخذ منه دائماً، وعدم إعطائه وإعطاء ثورته، والاكتفاء بأنه موجود، وبوجوده تُحل أو تُغطى، على الأقل، بعض المشاكل أو النواقص، أضرّ بثورته خاصة من بعده، ذلك أنه بذهابه تصدرت كل النواقص والمشاكل الواجهة، وليس هناك من يخفيها أو يغطيها أو يحلها، مما جعل أعداء الثورة يتمكنون منها، ويتعلقون بهذه الأغاليط ليعملوا منها وفيها على هدم ما بنته الثورة، وإزالة آثارها، كأنها لم تُخلق أو تبنِ سوى النواقص والأغلاط .

ثم يكلمنا الكاتب عما يسميه بهزيمة حزيران- يونيه 1967، وما أثرته بعبد الناصر وفكره، فهو يقول: ”وموقفه [ أي عبد الناصر ] منذ العاشر من حزيران- يونيه لعام 1967، يمكن أن يتلخص بكلمات: لقد قاد الأمة، وهزمت في معركة، وأعادته الأمة إلى قيادتها، فلا بدّ أن ينتصر، وصب كل جهده وبكل ما يطيق إنسان، وبكل ما يفكر ويعمل ويقوى، على أن يجعل الهزيمة معركة في حرب لم تتوقف ولم تنته، والانتصار في تلك الحرب أصبح الضرورة التاريخية التي لا بدّ عنها… لقد ظل عبد الناصر هو نفسه… ولكنه انتقل نقلة نوعية إلى طور جديد… لقد كان ظلُ الثورة ولكنه أصبح عقلنة الثورة… التي تضع كل شيء على محك الواقع الملموس وعلى محك الجدوى. كان مسار عبد الناصر… التعلم من التجربة والخطأ. ولكن بعد الهزيمة لم يعد هناك أمامه من هامش كبير للخطأ ولا من مجال للتجربة، فالممارسة لا بدّ أن تخضع لمنهجية واضحة كل الوضوح” لا مجال فيها للخطأ .

هنا يركز المؤلف على النقلة النوعية في فكر عبد الناصر وشخصيته، وخاصة بعد هزيمة حزيران، نقلة فرضتها الظروف ولكن صاغها فكر متيقظ لرجل دائم السهر ودائم الحركة .

فهنا دلالة على النمو المتصاعد أو التقدم المتنامي لحياة وفكر عبدالناصر المعايش أو المستجيب لواقع ما تفرضه الأحداث. إن الظروف فرضت وعبد الناصر سرعان ما تنبه وعمل لذلك بفكر هو، أصلاً، دائم التيقظ .

ويضيف الأستاذ الأتاسي فيقول: ”لقد أصبح منهاج إزالة  آثار العدوان (بعد هزيمة حزيران- يونيه 1967)  في تلك المرحلة معياراً للثورة يحكم مسارها ويراجع ويعدّل في عدد من مواقعها وانجازاتها، ولكنه ظل منهاجاً في الخط الأساسي للثورة يرصد بعدها التاريخي العام والتزامها بأهداف الأمة” .

فهنا، ودائماً مع التعرف على شخصية عبد الناصر،  تبيان لأصالة ذلك الرجل وثباته وعدم تنكره للمبادئ الأساسية لثورته، والتي كانت سبباً فيها، وإن كان هناك من أهداف جديدة مهمة فرضت الظروف العمل لها والجهد من أجلها، فهي الثبات وعدم التلون وعدم التنكر، إنه الأصالة، إنه الحقيقة .

وفي مكان آخر يقول الأستاذ الأتاسي: ”والجماهير الهائلة التي رفعته من السقوط (بعد هزيمة حزيران- يونيه) هي نفسها التي مشت تشيّع جثمانه منادية بتصميم واحد: حنكمّل المشوار… ولكن المشوار انقطع. فالجماهير تفرقت ولم تجد أمامها من يحشدها من جديد على طريق أهدافها، ولم تجد من يواصل بها المسار، ذلك أن طريق عبدالناصر كان قد انقطع أيضأ بغيابه لأن حضوره كان مقوماً أساسياً من مقومات ذلك الطريق…“.

ومن مضمون هذا المقطع السابق من كتاب الأستاذ الأتاسي، نتبين مدى ثقل عبد الناصر وأهميته العظمى في مسار الثورة وفي حشد الطاقات لها: إنه كان ركيزة الثورة، وفي غيابه ذهبت هذه الركيزة، واختل بالتالي توازن الثورة .

ولكن، وإن أعملنا الفكر في هذا المقطع وهذا المفهوم، نستطيع أن نجد نقصاً في ثورة عبد الناصر، ونقداً غير مباشر لجماهير الأمة العربية وبخاصة مفكريها، لأنها اعتمدت على ركيزة يعرف الكل أنها لن تدوم أبد الدهر، وبالتالي لم تعمل على إيجاد أو خلق البديل أو الصيغة الملائمة. وتدليلاً على ذلك النقص، أو الثغرة ، يشير مؤلفنا ، نقلاً عما قاله عبد الناصر، فيقول: لقد أشار عبد الناصر، أكثر من مرة ، إلى واحدة من تلك الثغرات في تجربته ، ونص على ذلك في الميثاق بقوله: (… إن هذا الشعب بدأ زحفه الثوري من غير تنظيم سياسي يواجه مشاكل المعركة، كذلك فإن هذا الزحف الثوري بدأ من غير نظرية كاملة للتغيير الثوري… )

وفي مكان آخر يقول المؤلف: ”والواقع أيضأ أن  العديدين منا في أيام عبد الناصر، وبخاصة في السنوات الثلاث الأخيرة من حياته، كانوا يتساءلون…: ”ماذا سيحل بقضية أمتنا ووقفتنا النضالية إذا انتهى أو غاب عبد الناصر، أي أننا كنا لا ندرك ما يجسده حضور عبد الناصر وقيادته للأمة من إيجابيات فحسب، بل ولما يغطي هذا الحضور، بل ويموهه أحياناً من ثغرات ومن سلبيات… ولكن وعى القصور لا يعني بالضرورة تداركه.. بل هو قصور في حركة نهوض الأمة وفي تطور الوعي التقدمي لطلائعها الثقافية والسياسية” .

القسم الثاني: فكر عبدالناصر في جدلية تقدمه ونضجه؛ من الثورة الوطنية إلى الثورة الكاملة والاشتراكية

في هذا القسم، يحدثنا الكاتب عن فكر عبد الناصر عبر الزمن، وتكيفه معه، وتطوره أساساً وتبعاً لمنطق التطور والتاريخ. فيقول الأستاذ الأتاسي: ”إن استكشاف فكر عبد الناصر السياسي في مساره العام ليس بالأمر الصعب، فلقد كان في أكثر الأحوال مبسطاً لا لبس فيه ولا تعقيد، بل كان يأتي دائماً في المستوى الذي يعيه ويستوعبه الناس جميعاً، إلا أنه يظل في مجمله فكراً يصعب حصره وتصنيفه مباشرة ضمن المعايير الأيديولوجية المأخوذة في تصنيف الأفكار السياسية وتصنيف النظم التي تقوم على أساس من هذه الأفكار وتصنيف الثورة ومراحلها…“ .

هذه الفقرة السابقة، إن أمعنا فيها تفكيراً ، تدلنا على الأسباب التي جعلت عبد الناصر محبوباً من قبل الجماهير؛ فهو استعمل أسلوبها وتعمّد أن يكلمها بلسانها: فأحبته كما أحبها؛ كما تدلنا على مدى استقلالية عبد الناصر تجاه الكل، وتجاه الأيديولوجيات والنظريات، ففكره بعيد عن أن يؤطر ضمن مفاهيمها، فهو غير ملتزم إلا بشعبه وبأمته. فقد يأخذ من هنا أو من هناك، وبعد تفكير، ما يراه مناسباً، وهو في اليوم التالي مستعد للتخلي عنه إذا رأى أن التجربة تثبت عدم جدواه. وليس معنى هذا أن عبد الناصر في عمله وأخذه وتركه كان مطلقاً من أية مبادئ أو قناعات أو منطلقات، بل كان هناك منها ما يشكل الركائز في مسيرة الرجل القائد. وفي ذلك يقول المؤلف في مكان آخر من كتابه: ”وإذا كان تقدم العمل على التخطيط النظري، وتقدم الممارسة على التوضيح الأيديولوجي، هما اللذين حكما المسار العام لتجربة عبد الناصر، فان ممارسته السياسية والنضالية كانت تستهدي، ومنذ بداياتها، بمناعات ومنطلقات أساسية صاغتها الحياة في نفسه وصاغتها ثقافة البيئة التي نشأ فيها ومنبته الطبقي والاجتماعي… ولكن عبد الناصر كان ومنذ بدايات تجربته أيضأ منفتحاً على روح أبعاد التقدم التي بلغتها الدول المتقدمة ومنفتحاً على روح العصر، وبهذا الانفتاح كان مدركاً لحالة التأخر التي يعيشها مجتمعه، وجاء يحمل هذا النوع الثوري للتغيير…“. لهذا نرى عبد الناصر وضمن إدراكه لحالة التأخر في قومه ومجتمعه يعمل للتخلص من هذه الحالة، ففي ذلك يتبين أنه أدرك ولم يقف عند حدود الإدراك فقط، بل انتقل إلى مرحلة ثانية هي العمل والعمل الثوري بالذات. وهذا يعطينا صورة أخرى عن شخصية عبد الناصر، وهي شخصية عاملة ثورية مدركة، ونتيجة للإدراك هذا، فهي شخصية تضع الحلول المناسبة .

وإننا نجد أن ثورة عبد الناصر، نتيجة لذلك كله، قد مرت بمرحلتين رئيسيتين في تطورها ونمائها: الأولى ثورة سياسية، والثانية ثورة اجتماعية. وعن هذا يحدثنا المؤلف فيقول: ”ففي المرحلة الأولى كانت الجهود مكرسة لإنجاز مهمات التحرر الوطني بكل أبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، لتصفية مرتكزات النظام القديم وتصفية الوجود الاستعماري… أما المرحلة الثانية، وهى المرحلة التي بدأت زمانياً بإجراءات التأميم عام 1961 وتأكدت فكرياً وعملياً عام 1962، وتواصلت، فقد سادها التوجه الاشتراكي… في التخطيط والبناء، وهي التي حسب عندها عبد الناصر أنه قد أنجز مهمات الثورة الوطنية الليبرالية وأصبحت ثورته… قادرة على خوض غمار الثورة الاجتماعية“. وفي هذا نستطيع أن نجد البرمجة، وما يمكن أن يسمى بالمرحلية في أسلوب عبد الناصر وفكره وعمله، فهو قد وعى مشاكل مجتمعه ووضع حلولا لها؛ على أنه لم يعمل بها في آن واحد، بل اتبع المرحلية لأنها الأسلوب الوحيد الذى يمكن أن يتماشى أو يتوافق مع ما كان عليه مجتمعه، ومع ما يمكن أن يستوعبه ويتقبله ويهضمه هذا المجتمع .

ومن هنا أيضاً، يمكن أن نستشف مدى تخطيطية [ أي عبد الناصر ] وبرمجيته متأثراً في ذلك ببعض العلوم العسكرية التي أخذ بها، وبالعلم الاقتصادي العام الذي انكّب عليه دراسة وبحثاً، خاصة بما جاء فيه من مواضيع تتعلق بالتنمية والتخطيط ووسائلهما .

القسم الثالث: من الاستراتيجية العسكرية إلى الاستراتيجية السياسية والفكر التاريخي

في هذا القسم يحاول المؤلف أن يبسط ما كان عليه فكر عبد الناصر بشكل عام، وكيف اعتمد المنهج التاريخي متأثراً بشخصيته وببيئته وبما تلقاه من علوم، وكيف أن عبد الناصر استفاد من بعض الدروس والنظريات العسكرية التي تلقاها، وذلك بتحويلها إلى الميادين السياسية العامة، ولكن- بالطبع- مع بعض التعديلات لتناسب الموقف والموضوع. كل هذا في سبيل هدف واحد هو خدمة شعبه وأمته؛ وهو في سبيل ذلك قد بذل الكثير وعمل وسهر وتعلّم .

إن الايجابية الكبرى في تجربة عبد الناصر، وكما يقول الاستاذ الأتاسي، هي ”أنها وضعت الثورة العربية في مسار تاريخي، وملكت حساً تاريخياً، وأن عبد الناصر صاغ فكره وممارسته في نهج استراتيجي. وهذا ما وضعه في تماس مباشر مع صراعات المجتمع ومع- حركة التاريخ ومراحلها، ووصل به إلى الإمساك بمنهجية الفكر في تحديد ملامح الثورة وأهدافها” .

ويضيف المؤلف في مكان آخر، نقلاً عن قول عبد الناصر في فلسفة الثورة: “.. فلقد شاء لنا القدر، أن نكون على مفترق من الطرق في الدنيا، وكثيراً ما كنا معبراً للغزاة ومطمعاً للمغامرين. ومرت بنا ظروف كثيرة يستحيل علينا أن نعلل العوامل الكامنة في شعبنا إلا إذا وضعناها موضع الاعتبار. وفي رأيي أنه لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني، ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا، ثم غزو الرومان والفتح الاسلامي وموجات الهجرة العربية التي أعقبته. وفي رأيي أيضاً أنه يجب التوقف طويلاً عند الظروف التي مرت علينا في العصور الوسطى. فإن تلك الظروف هي التي وصلت بنا إلى مانحن عليه الآن ..“ .

في الحقيقة إن إمعان النظر فيما جاء سابقاً، يوصلنا إلى أن عبد الناصر كان في فكره متحركاً غير جامد، يستعمل اسلوب التقميش [ أي جمع وتحصيل وتحقيق ] وأسلوب المقارنة لفهم الأحداث والحقائق فهماً جيداً؛ وهذا أسلوب علمي يستعمله العلماء والباحثون للوصول إلى تكوين صورة أوضح عن الحقيقة متعددة الجوانب بدل أن تكون أحادية الجانب. وبعد أن وعى عبد الناصر حالة تأخر الأمة والمجتمع، عبر سياقها التاريخي، انتقل إلى طريقة تدارك هذا التأخر، فيحدثنا الاستاذ الأتاسي عن ذلك بالقول: إنه بالرجوع إلى الميثاق نرى عبد الناصر يقول: ”لقد اثبتت التجربة… أن الثورة هي الطريق الوحيد الذي يستطيع النضال العربي أن يعّبر عليه من الماضي إلى المستقبل، والثورة هي الوسيلة الوحيدة لمغالبة التخلف…” ثم ينتقل عبد الناصر إلى التحديد العملي والتطبيقي لهذا التدارك وأسلوبه، فيراه في الاشتراكية وعن هذا يقول الاستاذ الأتاسي: ”وبعد هذا الادراك… يضعنا عبد الناصر أمام عدد من الأفكار الأساسية للمفهوم التاريخي للاشتراكية العلمية التي أخذ بها فيقول: ”إن الحل الاشتراكي لمشكلة التخلف الاقتصادي والاجتماعي في مصر وصولاً ثورياً إلى التقدم، لم يكن افتراضاً قائماً على الانتقاء الاختياري، وإنما كان الحل الاشتراكي حتمية تاريخية فرضها الواقع وفرضتها الآمال العريضة للجماهير كما فرضتها الصيغة المتغيرة للعالم في النصف الثاني من القرن العشرين” .

وهكذا استقرأ عبد الناصر مشكلة التأخر، ثم استعمل أسلوب التجريب فرأى أن الثورة هي الحل الوحيد، وهي الطريق. فتجاه اتساع هوة التخلف بين الأمة العربية والدول المتقدمة، فانه ليس بالإمكان، لهدم هذه الهوة، اتباع الوسائل العادية المتبعة من قبل الدول المتقدمة. فهي لم تصل إلى ما وصلت إليه اليوم إلا بعد عمل جاد عبر السنون. إذن، للحاق بركب التقدم لا بد من عمل تسريعي غير عادي، وهذا العمل هو الثورة .

ولكن بالاستناد إلى التقميش والتحليل والتجريب رأى عبد الناصر أن الثورة الليبرالية لا تجدي كثيراً للوصول إلى الهدف، وأن الطريق الأنسب هو نقيضها: الاشتراكية؟ لأنها الأكثر تسريعاً .

هكذا نرى مدى تمرحل فكر عبد الناصر وانسياقه المنطقي ضمن عقلنة تجريبية استقرائية.

هذا على الصعيد التاريخي والفكر التاريخي، أما فيما يتعلق بثقافة عبد الناصر العسكرية وتأثيرها على عمله السياسي فيجد الملاحظ أن عبد الناصر نقل الانضباط العسكري إلى السياسة ليكون الانضباط الثوري فيها، ومن التخطيط الاستراتيجي العسكري انتقل عبد الناصر إلى التخطيط السياسي والاقتصادي بعيد المدى، ومن التكتيك والخطط التفصيلية في ميدان القتال، التي تطالب بسرعة المبادرة وسرعة التنفيذ، انتقل عبد الناصر إلى رسم خطط تنفيذية في ميدان السياسة العام وإلى سرعة المبادرة فيها. ويعطينا المؤلف مثالاً عن اعتماد قائد الثورة على الخطة والإحكام فيها، قضية تأميم قناة السويس، فيقول: ”فعند تأميم قناة السويس أحكم عبد الناصر الخطة ووضعها في إطار استراتيجيته العامة للتحرر الوطني وللتحرر الاقتصادي… وأحكم ترتيب تلك الخطة… كما أدار بإحكام مناوراتها السياسية والدولية…” .

من ذلك، ومن ربط الأمور مع بعضها، نرى مدى حرية الانتقاء والأخذ عند عبد الناصر، واستقلاليته. فهو يأخذ من هنا وينهل من هناك بعد إعمال للفكر، فيما يراه خادماً للمصلحة العامة ولا يتعارض مع المبادئ العليا لثورته، ويطبق مواضيع ومفاهيم مادة على مادة أخرى إن كانت تخدم الهدف .

القسم الرابع: الناصرية ومستقبليتها، الاقناع والتجديد

في هذا القسم، يطلب منا المؤلف الإطلالة على تجربة عبد الناصر الثورية، والغاية من ذلك أن نستخلص منها ما يساعدنا في حاضرنا ومستقبلنا وفي قضية التثوير التي نحن بحاجة إليها اليوم أكثر من أي يوم مضى. ويقول، وقوله حق في ذلك، إن هناك قناعة هي أن مرحلة عبد الناصر كانت مرحلة نهوض ثوري بالأمة، فهي تجربة استطاعت أن تفجر ثورية الأمة .

علينا إذن الرجوع إلى تلك الثورة، لأن ما حاولت أن تعالجه هي ذاتها بعض المشاكل والمواضيع التي علينا أن نعالجها اليوم. فهي، وهنا تتبين مدى موضوعية الكاتب، قد نجحت في بعض منها، ولم تفلح في بعضها الآخر. ونحن علينا بالاستقصاء والتعلم أن نأخذ منها، ولكن بعقل، ما هو مفيد وما هو ناجح ونترك ما هو غير جدير بها وناقص فيها، وليس علينا أن نتمذهب بها بل يجب أن نجددها، فهي كانت أو أرادها قائدها أن تكون، دائمة التجدد، دائمة الحركة، دائمة الابتكار، دائمة الثورة. علينا أن لا نكون اتباعيين لمجرد الاتباعية، ”ومن هنا يصبح مطلوباً منا، ونحن نستخلص معطيات تلك التجربة في مرحلتها، أن نمد بها إلى الأمام، وأن نأخذ بجدلية حركتها في عبور المراحل وتجاوزها وأن نطبق عليها معاييرها أيضأ في النقد وفي تقييم الخطأ والصواب مما أعطته وتقدمت به” .

ويلاحظ الأستاذ الأتاسي، وهو على حق في ذلك، أن التجربة الناصرية في أيام عبد الناصر، وسياقها يختلفان عما نحن عليه اليوم، وبالتالي فإنه من غير الممكن دائماً أن نطبق اليوم ما كان معمولاً به بالأمس، ففي الماضي كان عبد الناصر على رأس السلطة، وما يمثله من قوة دفع للثورة وأهدافها، وهو كان مع الجماهير ولها وأعطاها عمره. أما اليوم، فإن الدولة وإمكاناتها موظفة ضد حركة التقدم والثورة، وهي تعمل بعكس اتجاه الجماهير. وعليه، فانه يجب قلب معادلة تلك التجربة الثورية التي بدأت من فوق، ومن الإمساك بزمام السلطة والدولة بداية، لتتحرك الثورة من القاعدة صاحبة المصلحة، وإن الديموقراطية السليمة هي من العوامل الملائمة لعمل هذه القاعدة وفائدتها، وبالتالي يجب التمسك بطلبها. وعليه أيضاً الاعتماد، وذلك استفادة من تجربة الأمة من ثورة عبد الناصر ونتائجها، على قيادة ثقافية وسياسية جماعية تكون دائماً في مستوى المسؤولية ولا يخشى غياب أحد أعضائها عنها، وبحيث لا يؤثر هذا الغياب على مسار الثورة وحياتها كما أثر غياب عبد الناصر على ثورته من بعده .

وفي هذا كله، يلاحظ القارئ مدى قدرة المؤلف على إدراك المصاعب والمشاكل التي تواجه الأمة العربية وثورتها، ومدى تمكنه أيضاً من وضع الحلول اللازمة لها .

وقبل الختام، لا بدّ من سوق الملاحظة التالية، وهي أن الأستاذ الأتاسي، وهو أراد أن يكون موضوعياً في كلامه عن عبد الناصر وثورته، وقد نجح في ذلك حيث بيّن حسناتها ودافع عنها ودلّ على ثغراتها وطالب بمعالجتها، قد أعطى هذه الثورة حقها الذي يجب أن تأخذه من الإجلال والإكبار. وهذا شيء قلما يصل إليه بعض من يدعون الغيرة على عبد الناصر وثورته وتبعيتهم لهذه الثورة. فهم لا يرون فيها إلا الكمال والحسنات وبالتالي لا ثغرات فيها. فمما يجدر قوله هنا، ومع الايمان العميق والتقدير لهذه الثورة، أن هذا المدح الذي لا يرى سوى الجمال، كثيراً ما يمس حس الشعور عند القارئ أو السامع، وبخاصة المفكر أو المثقف الذي يعلم أن لا كمال إلا لله وحده، وبالتالي إن الثورات، من أكبرها إلى أصغرها، لا بدّ لها، وهذا شيء طبيعي، من أن تكون فيها هنّات كما يوجد فيها حسنات .

من هنا، إن ما قدّمه الأستاذ الأتاسي لثورة عبد الناصر ولرجلها في كتابه ”إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبدالناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي”(1)، كان أفيد مما قدّمه ويقدمه بعض المنتمين إلى الناصرية أو مدعيها. وفي هذا يستحق الأستاذ الأتاسي شكر الجميع، وشكر الناصرية الحقيقية، كما أنه يستحق المديح، لأنه وعى المشكلة التي نعاني منها نحن العرب بعد عبد الناصر، وعياً كاملاً . ولم يكتف بذلك، بل وضع الحلول لها، وهي حلول غير كلامية أو خطابية، بل حلول عملية تنتمي إلى التحليل الواقعي. فشكراً للأستاذ الدكتور جمال الأتاسي .

(1). سيبدأ موقع « الحرية أولاً » اعتباراً من بعد غدٍ بنشر كتاب ”إطلالة على التجربة الثورية لجمال عبدالناصر وعلى فكره الاستراتيجي والتاريخي” .. وعلى حلقات
_______________

* كاتب لبناني

المصدر: صفحة التيار القومي العربي

التعليقات مغلقة.