الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ورقة عمل ناصرية لحوار قومي كعملية تنظيم ثوري عربي موحد *

د. جمال الأتاسي

   ١- لقد عاشت جماهير أمتنا العربية في الخمسينات والستينات مرحلة نهوض قومي، قادته على مدى الوطن العربي، طلائع ثقافية وسياسية وأحزاب وحركات وطنية وقومية، تحركت معها قوى شعبية واسعة، وأعطت مقومات ثورة قومية تحررية تبلورت أهدافها في الحرية والاشتراكية والوحدة.. ولقد جسدت القيادة التاريخية لجمال عبد الناصر في تلك المرحلة سياسياً ونضالياً، عبر الإنجازات التي تقدمت اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، التعبير الأكثر وضوحاً والأكثر تقدماً في إطار حركة الثورة القومية هذه، كما أعطتها ومنذ عام ١٩٦٢، نهجاً استراتيجياً وميثاق عمل يحمل أسس ومبادئ نظرية في العمل الوطني والقومي، وفي التطلع الديمقراطي والاشتراكي والـوحدوي و جعل من مصر، كبرى الدول العربية بشعبها وطاقاتها الوطنية وموقعها الاستراتيجي في قلب الوطن العربي وعلى حدود الصدام مع العدو الصهيوني ركيزة أساسية ومنطلقاً لهذه الثورة القوميـة .

      إن حركة نهوضنا القومي لم تكن بمصر عبد الناصر وحدها، بل أسهمت فيها قوى نضالية وثورية عديدة، وتيارات سياسية وفكرية على مدى الوطن العربي، شكلت في مجموعهـا ذلك التيار الشعبي الكبير.. التحرري الوحدوي، ولكن النهج الناصري هو الذي ألف بينها إلى حد… ومدها بالدعم وأعطاها المُرتكـز.

      ولقد جاءت هزيمة حزيران عام ١٩٦٧هزيمة للأمة ولمشروع نهوضها القومي، لا هزيمة لمصر عبد الناصر وحدها.. وإذا ما كشفت ظروف تلك الهزيمة عن أبعاد التآمر الكبير للحلف الإمبريالي الصهيوني ضد وجود الأمة العربية، وضد تحررها وتقدمها ووحدتها، والذي استهدف أول ما استهدف ضرب تلك القاعدة الأساسية للنضال القومي التحرري المتجسدة في مصر عبد الناصر فإنها قد كشفت عن جوانب الضعف والقصور، في ذلك الأمن القومي في استراتيجيته، بل وفي مُرتكز صموده، وعن الثغرات التي نفذَ منها ويظل ينفذ ذلك التآمر.. ولقد بذلت القيادة الناصرية جهداً دؤوباً ومُرَكزاً لسد تلك الثغرات وإعادة بناء ذلك المركز ومقومات قوته وصموده وانّشدَت إليها جماهير الأمة وقواها النضالية لتجاوز النكسة وتجديد مسار نهوضها، ولكن هدف ((إزالة آثار العدوان)) الذي ركزت عليه قيادة عبد الناصر كهدف مرحلي لا بد من الوفاء بمهمات تحقيقه أولاً، ووضعت في سبيله استراتيجية عمل وطنية وقومية ودولية، هذا الهدف أصبح اليوم وبعد مرور ما يقّرب من ثمانية عشر عاماً على تلك الهزيمة هدفاً بعيد المنال، في إطار المتغيرات التي طرأت على العمل القومي العربي، وعلى النظم العربية الإقليمية، وفي العلاقات الدولية بحيث دمرت أكثر مقومات تلك الاستراتيجية.

      لقد مرت شعوب أمتنا العربية وحركات نضالها، بأزمة كبيرة في مواجهة تلك الهزيمة وآثارها عاشتها عدد من المواقع عبر حركة نقد ومراجعة وتقييم، أعطت في البداية، بوادر قدرة على تجاوزها والرد على تحدياتها.. ولكن الساحة العربية شهدت وتشهد حالة من التراجع والردة، منذ غياب عبد الناصر ومصر عبد الناصر عن مسرح القيادة، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة، ومنذ انتهاء حرب تشرين وما أعقب ذلك من تغيرات تناولت مصر أولاً وامتدت إلى أكثر المواقع والنظم العربية، لتتوالى حلقات السقوط وتتعاقب الهزائم، ولتوضع الأمة في موقع العجز عن الرد على الأخطار التي تتهددها، وعن إيجاد حل للمشكلات التي تعترض سبيلها، وليصبح مشروع ثورتها القومية الديمقراطية معلقاً في الفـراغ .

      فلقد أخرج السادات وزمرته مصر عن موقعها الطبيعي في قيادة حركة التحرر العربي وأجهز على كل مقومات الاستراتيجية الناصرية في دحر العدوان وإزالة آثار هزيمة حزيران، وقطع ما بينها وبين أداء دورها الطليعي على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى للأمة.. وبعد الردة الساداتية في مصر وصعود القوى المضادة للثورة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى مواقع السلطة والسيطرة وتوقيع الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، والانتقال إلى مواقع سيطرة ونفوذ الإمبريالية الأمريكية أسّقط المرتكز الرئيسي لحركة الثورة العربية.. وفي مقابل ذلك لم يقم أي بديل، لا في قُطر أو نظام حكم ولا في تحالف أقطار أو أنظمة، ولا في حركة ثورية شعبية قادرة.. فما سمي بـ ((جبهة الصمود والتصدي)) وقعت في التناقض والعجز، وسورية والعراق بدلاً من أن يلتحما في أية صيغة للوحدة أو التحالف الاستراتيجي لسد الفراغ ولو مرحلياً، وقفتا في تصادم وتحارب، بل وحركة المقاومـة الفلسطينية، التي عُقدت عليها الآمال لتؤدي دورها كقاطرة للثورة القومية على المستوى الشعبي وقعت هي أيضاً أسيرة تناقضاتها الذاتية وأسيرة سياسات النظم ومحاولات الاحتواء.. هذا في الوقت الذي يواجه فيه الوطن العربي امتداداً للاستعمار الاستيطاني، وهجمة مُركزة من الإمبريالية الأمريكية لبسط هيمنتها على المنطقة، بل ولجعل هذه الهيمنة أعمق وأشمل في إطار مجتمعات عربية يسحقها الاستبداد ويُقعدها التأخر ويفتت قواها الظلم والاستغلال، ويُشوه وجهها الإنساني ما يسود فيها من امتهان لحقوق الإنسان وكرامتـــه.

      لقد أخذت الردة في الوطن العربي كل أبعادها، وليس الدليل على ذلك انتقال مركز القيادة والتأثير في السياسة العربية من القطر الأكثر تقدماً والأكبر قدرةً من حيث طاقته الشعبية ومن حيث بنيانه الاجتماعي والثقافي ولحمته الوطنية، إلى القطر الأكثر تأخراً وتخلفاً في بنيانه الاجتماعي والثقافي والسياسي، ولكنه الأكثر ثراءً بنفطه وأمواله، بل والدليل الأوضح أيضاً اندحار القوى الشعبية الوطنية وانسحاق، حركة الجماهير بتنامي استبدادية النظم كنظم فئوية تمثل مصالح أقلية تعمل للهيمنة الشمولية على الدولة والمجتمع، وتَركُزْ الإقليمية في الأطر التي رسمها النظام الكولونيالي في الماضي، أو التي يحاول تأكيدها في أطر أضيق، الاستعمار الجديد والحلف الإمبريالي الأمريكي الصهيوني.. وفي هذا المناخ العام من الارتداد والتراجع تتفجر الانقسامات الطائفية في العديد من المجتمعات العربية، لتضعها على طريق الحروب الأهلية ولتُهددها بمزيد من التفتت والضياع.. فالفئات الحاكمة في الوطن العربي أصبحت كلها تقريباً في موقع المحافظة، لا يعنيها إلا الحفاظ قبل كل شيء على مصالحها الفئوية والطبقية وتنمية هذه المصالح الخاصة ولو جاء ذلك على حساب قضية الأمة وضد مصالح غالبية الشعب، أما ثروات الوطن العربي الطبيعية والمالية، والنفطية منها بخاصة، فإنها بدلاً من أن توضع في خدمة نهوض الأمة، وتعزيزاً لاستقلالية قرارها واقتصادها الوطني عن التبعية، وتكامل اقتصادها الوطني والسير في خطط التنمية على طريق تلبية حاجات الشعب وبناء القاعدة الصناعية والاجتماعية للتقدم، فإن الكثير منها لم يُوظَف إلا في خدمة مصالح الفئات الحاكمة وتنمية ترفها وفسادها وربطها بروابط التابعية للسوق الرأسمالية والاحتكارات الدولية، وتحويل مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات استهلاكية تقود حركتها الطبقات الطفيلية، والتابعية الاقتصادية تجر بالضرورة إلى التابعية السياسية، وصولاً إلى هذا الواقع العربي المتأزم من كل جوانبه والذي لا يصب على طريق أي مخرج، إلا ما يسود من عجز وضياع تعبر عنها أقوى تعبير تلك المشكلات السياسية الكبرى التي نتخبط بها ولا تصب على طريق أي مخرج وطني أو قومي، بدءاً من الأزمة اللبنانية إلى حرب الخليج وإلى الصراع حول الصحراء الغربية وغير ذلك من أزمات، لينقلنا انسحاق إرادة الشعوب وفقدان الاستراتيجية القومية واقليمية النظم وعجزها وعلاقات التابعية التي ترتبط بها، إلى تدويل قضايانا وإدخالها في دوامة الصراعات الدوليـة وتنّافُس القوى العظمى على المواقع الاستراتيجية في المنطقة، ليُهدَر الكثير مما بذلته شعوبنا العربية من تضحيات على طريق تحررها الوطني، و لتُفتح الأبواب من جديد أمام التحالفات والقواعد العسكرية الأجنبية، وأمام آخر إخراج لها المُمثل في قوات الانتشار السريع الأمريكيـة .

   ۲- هذا الواقع العربي المتعثر والمتأزم، ما الذي يقف في مواجهته ومعارضته، ومن الذي يتصدى له ويتطلع لتغييره ولتجديد مسار الثـورة العربية نحو أهدافهـا؟

       هناك حركات معارضة وطنية في كل قطر من الأقطار العربية، ولكنها في أكثرها مشتتة ومعزولة ولم تصل الى أن تصوغ وحدتها على الصعيد النظري ولا على الصعيد الوطني، ولتصل إلى أن تشكل قوة قيادية وتياراً شعبياً تتقدم به، ولا إلى وضع برنامج واضح ومطابق لهذا التغيير.

      والتغيير المطلوب لم يعد عملاً إصلاحياً بل عملاً ثورياً وتغييراً جذرياً لهذا الواقع وإذ أن المهمات المطروحة أمام أي حركة للتغيير هي مهمات ثورة قومية ديمقراطية، فإن قوميتها تعني قبل كل شيء، أن يكون للوحدة السياسية للوطن العربي، في تطلع ونهج أية قوة من قوى هذه الثورة وديمقراطيتها تعني أنها ثورة وطنية بالشعب ومن أجل حريتهِ وسيادتهِ ورفـع الظلم والاستبداد والاستغلال عنه وبناء وحدته الوطنية واندماجه القومي والنهوض بقواه الشعبية العاملة إلى مواقع التأثير الفعلي والإمساك بمصائره، وإلى مواقع الهيمنة في الدولة والمجتمع وفي هـذا الإطار تأتي بقية التفاصيل .

      ولكن هذا الواقع المتأزم إذا كان يطالب بثورة، فإنه لا يحمل بعد بوادرها ولا يتمخض عنها وعن تشكل برنامجها المطابق وأدواتها وقواها، إلا ما يلوح في الأفق، من بوادر ثورة ثقافية، وحركة مراجعة ونقد يمارسها بعض المفكرين العرب، كما تمارسها طلائع ثقافية وسياسية من مواقع مشتتة ومتفرقة في الوطن العربي، أو في مهاجرها ومنافيها.. فالظروف صعبة والمعوقات كثيرة وطريق ثورتنا القومية طريق صعبة وطويلة، وهذا لا بد أن يوضع في الحسبان، كي لا نستسلم للعجز أو نصب في طريق المغامرات السياسية، ولكن المشروع الطويل لا يستبعد العمل المباشر وإيجاد منطلق بداية، وإنما يطالب به، فلا بد لتحقيق أي مشروع من بداية، وما العمل الذي ندعوا إليه والحوار الذي نديره إلا تلك البداية، أو هما تلمُس الطريق إلى إيجاد منطلق ومرتكز بدايـة.

     وبعد مسلسل الهزائم والفشل، المطلوب مراجعة نقدية لمسار تاريخنا الحديث، ولمسار تشكل قوانا الاجتماعية ونظمنا السياسية ومنظوراتها الثقافية والأيديولوجية، سواء في مرحلة نهوضنا القومي، مرحلة عبد الناصر بخاصة، أو في مرحلة التراجع والردة، لنُمسك بعوامـل النهوض ولنعرف من أين أتت وتجيء الردة.. إن هذه المراجعة النقدية، طالبت وتطالب بها، ومارستها ومازالت تمارسها عناصر ومجموعات فكرية وسياسية، وقد صدرت في هذا السبيل كتب عديدة ونشرات كثيرة، وعُقدت مناظرات وندوات بحث، وصدرت كراسات ومجلات.. ولكنها لم تأخذ طريقها بعد الى أن تصبح ممارسة جدلية (أي ثورية) ومنهج تقدم وتغيير، فهي لكي تتحول إلى ممارسة جديدة، ولكي تنتقل من تحليل الواقع، ونقده وتفسيره إلى وعيه واستيعابه والتعامل معه والتأثير فيه والعمل على تجاوزه وتغييره وتجاوز الذات والتغيير معه تقدماً إلى الأمام وتقدماً نحو الهدف، لا بد أن توضع في إطار جماعة وأن تكون ممارسة جماعية ومنهجاً لتشكل أداة عمل وتغيير، وأن ترتبط بمصالح وأهداف اجتماعية شعبية واسعة تصعد معها وتعمل على بناء تلاحمها الوطني والقومي لحلف شعبي وكحركة تاريخية وأن تتقدم بها طوراً بعد طور، وعياً وتنظيماً ونضالاً، حاملة معها معالم منظورٍ مستقبلي للإنسان والعالم الإنساني .

      إن الكثير من المراجعات النقدية، التي طبقتها على نفسها وعلى الغير، عناصر وحركات سياسية وقوى (ثورية) في الوطن العربي لم تكن حتى الآن في غالبها ممارسة جدلية لأنها لم تنتهي إلى عملية تجاوز للذات وحركة تقدم إلى الأمام ولا إلى عملية تجميع وتوحيد متطور أو شد للكتلة الشعبية إليها وحركة جماهير، إذ هي جاءت عملية نقد للغير أكثر منها للذات، وعمليات تشبث أيديولوجي وتبرير وتنميق، أشبه ما يكون بعملية صب الزيت الجديد في الزق المهترئ العتيق، لتضع نفسها وغيرها في إطار من الصراعات الهامشية التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من التشتت والانقسـام .

      إن القوى الناقدة على صعيد الوطن العربي، أي المعارِضة لمسار التراجع والردة، الذي تمثله النظم العربية الاستبدادية والاقليمية الراهنة، تقف كلها عند مسألة الديمقراطية كما تقف عند مسألة الوضوح الفكري والتخطيط النظري الذي يوجه النضال السياسي والعمل التنظيمي نحو أهدافه، وعلى اعتبار أنهما كانتا الثغرة الكبرى في العمل الوطني والقومي، حتى في إبان نهوضه ومهما نفذت قوى الردة وصعد الاستبداد، وهما مسالتان على علاقة مباشرة بظروف تشكل القوى والأحزاب السياسية في الوطن العربي وظروف تطور مجتمعاتنا العربية سياسياً واقتصادياً، وطبيعة تطور القوى والفئات التي قادت العمل السياسي وصعدت إلى السلطة، من حيث مرتكزاتها الاجتماعية والأيديولوجية، والأساليب التي انتهجتهـا في التعامل مع الشعب وفي الصراع على السلطة وفي تشكيل النظم والطبقات الحاكمـة .

      ولكن مسألة الديمقراطية لا يمكن فصلها عن المسار التاريخي الذي تقدمت عليه حركة نضالنا القومي، وتداركها لا بد أن يوضع في مقدمة أي عمل قومي جديد، فبها تُصنع اللُحمة الوطنية للأمة، على اختلاف فئاتها ومذاهبها وأيديولوجياتها، ومنها تنطلق الإرادة الشعبية التي سحقها الاستبداد، ولكنها إذا كانت الحاجة والمطلب الأول، فإنها في الوقت ذاته لا تأتي من ذاتها، أو بفعل التطور العفوي لمجتمعاتنا ونظم حكمنا أو بالضغط عليها لإصلاحها، وإنما بتغيير النهج كله، وتغيير في طبيعة القوى، والعلاقات السياسية والاجتماعية، وهذا التغيير لن يأتي من داخل النظم التي لا تزداد إلا هيمنةً قسرية واستبداداً، وإنما يأتي من القاعدة، ويفرضها تطور نضال الحركات الشعبية لجماهيرنا المسحوقـــة .

      فمسألة الديمقراطية أكبر من أن تكون مشكلة هذا النظام أو ذاك، وهذه القيادة السياسية أو تلك، بل هي إشكالية عامة، لا بد أن توضع حلولها منذ البداية في أساس تشكيل حركة النضال العربي وقواها، وفي طبيعة علاقاتها وتحالفاتها وجبهاتها واندماجاتها لتأخذ مبدأ التعددية في القناعات والمعتقدات ووجهات النظر وبحريتها والحوار الدائم المفتوح، في إطار النهج الاستراتيجي القومي الموحد والهادف الذي تلتقي عليــه .

   ٣- إن هذا الواقع المتعثر الذي تمر به الأمة العربية في شتى أقطارها، والذي من ملامحه الكبرى كما ذكرنا تراجع حركة التحرر العربي والنضال القومي، وغياب الديمقراطية والتحول الاستبدادي للنظام الحاكمة وإن بدرجات متفاوتة، والعجز عن مواجهة أعداء الأمة والأخطار التي تتهددها، والعجز عن إيجاد حل لأية مشكلة من مشاكلنا القومية الرئيسية وتدويل قضيتنا بحيث أصبحت النظم في غالبيتها مرتبطة بالقوى الإمبريالية ومصالحها وسياساتها هذا كله بالإضافة إلى كل ما أصاب قوى النضال العربي والحركات الشعبية من تمزق وتشتت يطالب كل الوطنيين العرب، وكل المنادين بالديمقراطية والتحرر والوحدة، بالالتقاء على نهج جديد للخروج من هذا التعثر الخطيـر.

      وإذا كانت هناك معوقات كثيرة أمام حركة التحرر العربي، منها ما يرتبط بالظروف الداخلية بكل قطر، ومنها ما يرتبط بالظروف الدولية، وامتداد الهيمنة الإمبريالية وتهديد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني المتواصل، فثمة ثغرة كبيرة تبقى أمامها، وهي عدم وجود مُرتكز أساسي للعمل القومي العربي، لا في قُطر ولا في مجموعـة أقطار، لا في نظام ولا في تحالف نظم ولا في جامعة عربية، ولا في حزب قومي واسع الانتشار ومستقل عن النظم ومرتبط بالشعب ولا في جبهة أحزاب أو حركات شعبية وقوى اجتماعية، فالأحزاب التي قامت على أساس التنظيم القومي في الماضي قد تفتتت وتهمشت أو انحرفت وتحولت تحولاً إقليمياً وسلطوياً محلياً أو دخلت في لعبة النظم وصراعاتها واحتواءاتها، والمرتكز الذي كانتّهُ مصر عبد الناصر لحركات النضال العربي، قد عملت كل قوى الردة وكل المصالح الفئوية للنظم على محاصرته واستبعاده، بما في ذلك تمكن الردة من السيطرة على السلطة وعلى نظام الحكم في مصر ذاتهـا .

      إن مثل هذا المُرتكز المطلوب، لصياغة استراتيجية نضال قومي على طريق أهداف الأمة وجبهة نضال شعبي موحدة، وليكون مرتكزاً لتوجيه العمل القومي المشترك ومساندة النضال الوطني الديمقراطي داخل كل قطر، لم يعد من الممكن في إطار الواقع الراهن أن يقوم في حِمى أي نظام من النظم القائمة ولا أن يرتبط بأي نظام بل لا بد أن يأتي مستقلاً كل الاستقلالية عن كل النظم والفئات الحاكمة، وعليه أن يتحمل مسؤوليته أمام الحركات الوطنية الشعبية وحدها، في مواجهة النظم ومحاولات احتوائها وقسرهـا .

      إن مقولة عبد الناصر التي جاءت في ((ميثاق العمل الوطني)) بصدد الوحدة والعمل القومي، من أن ((قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية العربية أمر سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال)) لم تعد مقولة لمرحلة قادمة بل هي المطلب الذي تقتضيه المرحلة الراهنة، وللوقوف في وجه هذا الارتداد من الأهداف القومية، ولإيجاد مخرج من هذا الواقع المُتعثـر .

      وفي عـام ١٩٦٣ وأمام تعثر العمل الثوري الوحدوي، وسقوط مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، بحكم الصراع على السلطة بين قوى تقول بالوحدة والتقدم، طرح عبد الناصر شعار ((الحركة العربية الواحدة)) أي الأداة الفكرية والسياسية والنضالية الموحدة للثورة العربية الواحدة، ونادى الثوريين الوحدويين في كل بلدٍ عربي إلى أن يعملوا و يجتهدوا من أجل قيام هذه الحركة التي يجب ان تنبثق من النضال الشعبي ومن التفاعل الشعبي… ((وقال بضرورة أن تبدأ مُتخلصة من كل الطفيليات التي تغلغلت بالنضال العربي الثوري في مراحله الثورية المختلفــة)) .

      ولكن هنا أيضاً ترك عبد الناصر مسؤوليـة النضال من أجل هذه الحركة إلى قوى النضال العربي، وقال إنها مسؤولية الجماهير العربية ومسؤولية الشعوب العربية ومسؤولية الأجيال العربية وإذا كان شعار ((الحركة العربية الواحدة)) هو الهدف العريض المطروح اليوم أمامنا فإن التحرك اتجاهه لا يمكن أن يتم إلا عبر مراحل من النضج، في العمل الوطني والقومي وفي تشكل القوى الوطنية والقومية وصياغة تحالفاتها وتكتلاتها الجبهوية وإدارة حركة نضالها وصولاً بها إلى البرنامج المشترك والعمل الموحــد .

   ٤- المطلوب إذن أن يبدأ حوار مركز ومنظم في هذا السبيل، إن كثيراً من رجال الفكر الملتزم في الوطن العربي ومن قادة الحركات الوطنية المعارضة، يتطلعون إلى ما نتطلعُ إليه ويصّبوُن إلى ما نصبو إليه ويجدون أن الحاجة أصبحت مُلحة لتلاقي أصحاب القضية الواحدة والمنطلق الديمقراطي والهدف الوحدوي خارج أطر هيمنة النظم واحتوائها وقسرها لتنسيق مواقفهم وتوحيد منظورهم لمختلف القضايا القومية، وأن يعملوا لإقامة مركز توجيه فكري وسياسي قومي موحد، وأن يُجروا تقييماً لحركات النضال الوطني والديمقراطي في كل ساحة عربية وكل قطر وأن يدفعوا لمساندة التلاحم الجبهوي لهذه القوى قطرياً ويعملوا لقيام جبهة للحركات الشعبية العربية على المستوى القومي، فلقد أصبح من الضروري أن يتحول هذا التطلع والتوجه إلى ممارسة وإلى مشروع عمل مُركز، فمن الذي يبادر له وعلى أية قوى وعناصر يمكن أن يعتمد ومن أيةِ نقطةٍ يمكن أن يبـــدأ؟

      إن العمل القومي في الظروف العربية الراهنة لن يكون بأن تتخذ فئة أو مجموعة أشخاص قرار بتنظيم حزب قومي تُنشئ له قيادة مركزية وفروعاً في عدد من الأقطار تحت مجموعة من الشعارات وأيديولوجية من الأيديولوجيات، إن هذا لن يزيد عن أن يضيف فئة حزبية إلى شتات الأحزاب والفئات أو يأتي على حساب واحدة من الفئات أو تقسيم حزب من الأحزاب كما وأن هذا العمل القومي لن يأتي نتيجة امتداد واتساع حزب قطري يحمل عنوانـاً قومياً أو أممياً.. وإذا كان الواقع الوطني داخل كل قطر يطالب بجبهات نضال وطني وديمقراطي، فإن العمل القومي والجبهة الشعبية القومية لن تأتي كمحصلة طبيعية لقيام العديد من الجبهات الوطنية القطرية.. إن أي عمل قومي اليوم لا بد أن يُفتش عن مرتكزات له حيث توجد مواقع وطنية وديمقراطية صلبة، في أي قطر من الأقطار العربيــة .

      لقد أصبح من الضروري أن يأخذ النضال الوطني الديمقراطي القطري والعمل القومي المشترك أو الموحد صيغتهما المتكاملة، وأن يسيرا معاً ليجد العمل القومي رصيده في النضال الوطني القطري وكذلك النضال القطري في العمل القومي، وأن يعطي العمل القومي الموقف العام الذي تلتقي عنده كل المواقف، ويعطي للمواقف الوطنية القطرية اتفاقها مع القضية القومية في كُليتها.. إن حركات المعارضة الوطنية الديمقراطية التي تناضل من مواقع متفرقة في أطر العزلة الإقليمية التي تفرضها عليها الأسوار الحديدية التي تقيمهـا استبدادية النظم وصراعاتها فيما بينها، وفي غياب العمل القومي، كثيراً ما تُحجب عنها الرؤية الشمولية لقضاياها الوطنية، وكثيراً ما توقعها في تحالفات أو في صراعات جانبية لا تنعكس إلا سلبياً على قضيتها، كالاحتماء بهذا النظام ضد ذلك، والوقوع في مصيدة الهيمنة والاحتواء.. إن مسألة وحدة المصير العربي، تفرض نفسها اليوم أكثر من أي يومٍ آخر، وإن سياسة أي قطر أو نظام أو حركة وطنية، إنما ينعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل القضية وكل ذلك يُطالب بنهج جديد لعمل قومي مشترك، ولإيجاد صيغة استراتيجية موحدة لمن يلتقون على وحدة الهــدف .

      إن أية بداية في هذا المنحى لن تأخذ ضمانتها إلا من حركتها ذاتها، وليس من بداية تأتي كاملة وإن مسائلنا القومية ليس أمامها من حلول جاهزة، وتقدمنا نحو الهدف لا يمضي صاعداً في خطٍ مستقيم، وإن كل قضية جزئية لا تجد تعبيرها الصحيح إلا في المكان الذي تأخذه في إطار القضية الكلية، وإذ كانت الكلية هنا هي قضية الوحدة القومية فإنها لا تُدرك أيضاً إلا من خلال تقدم معرفتنا ومعاناتنا لقضايا أجزائها ومسائل كل قطـر .

      إن عبد الناصر هو الذي جسد بممارسته النضالية تلك العلاقة الجدلية بين الوطني والقومي فكان منظوره وحدوياً وكذلك كان نهجه وكفاحه.. لقد وضع مصر في العروبة كتوجيه كلي لها، ووضع العروبة في مصر كخصوصية من خصائصها، وأعطى مصر للنضال العربي كما أشرك شعبها في كل نضال عربي وقضية عربية، وجعل من قضايا مصر ذاتها قضايا عربية أيضـاً.

      وعبد الناصر وإن كان رجل دولة ورجل سياسة وممارسة سياسية، ولم يكن باحثاً فكرياً ومُنظراً، فهو من خلال الممارسة والمعاناة المتواصلة، وما ملكه من حس تاريخي ونهج استراتيجي ومن ربط لفكره وسياسته ومنظوره وقضيتة بقضايا الجماهير والطبقات الشعبية المظلومة الواسعة وبمصالحها وأهدافها، فلقد كان يصل إلى المقولات الكلية من غير تمهيداتها النظرية، وينتهي إلى تحويل الشعارات والمبادئ إلى نهج في التطبيق والعمل، وهكذا فإن مقولة الطليعة القومية، والأخذ بالنهج الوحدوي كاستراتيجية لتحرير الأمة والتصدي لأعدائها، ومقولة ((التحالف)) ومقـولة ((الحركة العربية الواحدة)) ومقولة الديمقراطية بجناحيها السياسي والاجتماعي ، والحياد الإيجابي، وغيرها، كلها نجدها اليوم أمامنا وليس وراءنا، ونجدها متسابقة مع ما نصل إليه في تحليلنا النقدي للواقع، وما يمكن أن نأخذ به من منهج وحلول لمسائلنا النضالية والقـوميـة .

      لقد وحد عبد الناصر الجماهير العربية وعبأها للنضال، من فوق النظم بل وفي أكثر الحالات ضدها، ولكنه لم يبنِ أداةَ ثورتها القومية ووحدتها، وهكذا وصل به إلى منتصف الطريق، وما كان بمقدور عبد الناصر الدولة والنظام أكثر من ذلك، بحكم الطبيعة المرحلية لنظامه، وبنيان ذلك النظام، ولكن عبد الناصر الثورة والشعب، كان مطالباً بذلك، وقد قَطَعَنا عند منتصف الطريق عندما انقطع وتوقفت الممارسة القومية الثورية من بعده والمطلوب اليوم رداً على الواقع العربي المتعثر، تجديد تلك الممارسة القومية الثورية في نهجٍ متكامل.

      ومن أولى بالمبادرة إلى الإمساك بزمام هذه الممارسة من العناصر القومية الناصرية، وناصريتها إنما تعني الأخذ بنهج عبد الناصر الوحدوي في جدليته الوطنية- القومية وتقديم هدف وحدة الأمة، وأخذ الإطار القومي كقاعدة لاستراتيجية العمل السياسي والنضال الوطني، والالتزام دائماً بأهداف الجماهير الشعبية ومصالحها، والتوجه إلى الشعب والحركات الشعبية لبناء حلفها الاجتماعي التاريخي، وتعزيز وحدتها الوطنية وتلاحمها القومـي.

      وليكن واضحاً أنه ليس المطلوب إقامة حزب قومي يحمل عنواناً ناصرياً ويقول بمبادئ عبد الناصر، وينادي للانضمام إليه العناصر والتنظيمات السياسية التي تسمي نفسها ناصرية في عدد من الأقطار العربية، فمثل هذا التصور أو العمل إنما يحصر الناصرية في نهج غير نهجها وفي إطار ضيق غير الإطار الذي تطلعت إليه لبناء أداة الثورة العربية كثورة قومية ديمقراطيـة.

      فالمبادرة المطلوبة، هي مبادرة تبدأ من النقطة التي وقف عندها عبد الناصر في مواجهة، الأزمة التي كانت تتخبط فيها القوى السياسية التي تعلن عن أهداف وتطلعات قومية وحدوية، والتي كان يُفترض فيها أن تلتقي وتتعاون من خلال وحدة الهدف والنضال المشترك، بينما هي منقسمة وتناضل من مواقع متفرقة وتخوض فيما بينها صراعات أيديولوجية ونزاعات على السلطة والهيمنة، تلك الصراعات والنزاعات التي أوصلتنا إلى ما وصلنا إليه، لتبتعد بنفسها وبالأمة عن الهدف الوحدوي، الذي هو أساس ثورة شعوب هذه الأمـة .

      ونعود لنقول أن عبد الناصر عندما طرح عام ١٩٦٣ شعار ((الحركة العربية الواحدة))، لم يبادر إلى إقامة تنظيم قومي أو تنظيم ناصري تحت هذا العنوان، بل كان يشير إلى أن العمل الوحدوي أصبح بحاجة لصياغة جديدة موحدة، تلتقي عندها قوى النضال العربي والحركات الشعبية الوطنية العربية، وتجد فيها وحدتها السياسية والفكرية وتصوغ من خلالها علاقاتها ببعضها وروابطها وتوجهاتها السياسية والنضالية وترسم في اطارها استراتيجية عمل موحد لتحقيق أهداف الأمة.. ومن هنا فهي لا بد أن تأتي بالضرورة محصلة عمل جماعي وأن تحيط بعدد من القوى والتيارات السياسية .

      إن صيغة ((الاتحاد الاشتراكي العربي)).. كما قدمها عبد الناصر لم تكن صيغة لتنظيم سياسي قطري يراد له أن ينمو وينتشئ ليصبح تنظيماً حزبياً قومياً، يقام له فروع في الأقطار العربية، بل هي تجربة قامت لصياغة الإرادة الشعبية والوحدة الوطنية داخل مصر بإقامة تحالف بين القوى الاجتماعية الرئيسية في مصر، ومن حيث تتقاطع مصالحها وتلتقى أهدافها في مرحلة معينة من مراحل تطور العمل الديمقراطي، سميت حينها بمرحلة الثورة الاجتماعية وبمرحلة التحويل الاشتراكي، بل وأن الصيغة التي أريد لها أن تقوم لتنظيم سياسي قاعدته ((تحالف قوى الشعب العامل))، أو ما سمي بالجهاز السياسي للاتحاد، فإنها لم تكن أيضاً صيغة للتصدير والعمل القومي، بل هي تجربة قامت تحت مظلة نظام الحكم وحمايته وتشكلت في كثير منها من كوادر البيروقراطية، وانتهت عندما أخذ النظام بالتغير في عهد السادات وبالتحول ضد أهداف الثورة وأهداف عبد الناصر.. والناصرية اليوم هي أخذ بروح تلك التجربة وبحوافز نهوضها ومنطلقات تقدمها وتطورها، وليس بأشكال وصيغ تجريبية جاءت في مرحلة مضت أو اقتضتها ظروف معينة.. فمقولة “التحالف” مثلاً، التي مازلنا نأخذ بها كمنطلق أساسي، لبناء القاعدة الشعبية والاجتماعية للعمل الوطني والقومي، نجد أن صيغتها لا بد أن تختلف بالضرورة عما قامت عليه أيام عبد الناصر، وكذلك القوى الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تتشكل منها، فعدا ما جرى من متغيرات منذ ذلك الحين حتى اليوم في مجتمعاتنا العربية فإن مواقع تلك القوى قد تغيرت وبعضها أصبح موضوعياً ضد الثورة وضد الديمقراطية وضد الوحـدة .

      وإذا ما سميناها مبادرة ناصرية، فليس فقط من حيث أنها تنهض على المبادئ القومية التحررية، وعلى الأسس الاستراتيجية التي خطتها أمامنا تجربة عبد الناصر في النضال القومي وفي التوجه الشعبي العربي الوحدوي، ثم في دوائرها الاستراتيجية الإسلامية والأسيو- أفريقية والدول التي تعمل للحياد الايجابي… ليس في هذا فحسب، بل من حيث أنها تتطلع أولاً إلى كُلية العمل القومي الوحدوي، وإلى صياغة تلاقي “الحركات الوطنية التقدمية في الوطن العربي” التي تقف في معارضة الواقع القائم، والعمل على توحيد برنامج نضالها وتكامل منهجها وعملها.. كما أن في صُلب ناصريتها أيضاً، التطلع إلى مصر وإلى الحركة الشعبية في مصر كمرتكز استراتيجي لا بد أن تصب الجهود لتعود وتأخذ مكانهـا في استراتيجية التحرر العربي والنضال الوحدوي .

      لقد كانت مصر عبد الناصر تساند حركات النضال العربي من غير شروط عليها إلا وطنيتها، وهذا ما نطلب أن يلتزم به أي نظام قائم أو يمكن أن يقوم باسم التقدم والتحرر والوحدة، أو باسم الناصرية، فمشروع عملنا القومي لا بد أن يكون شعبياً بالكامل، خارج كل أطر الهيمنة من النظم واحتواءاتها، بل وأن يقاوم عمليات الهيمنة والاحتواء التي ما كان من نتائجها إلا تدمير العمل القومي.

   ٥- ولنأتِ الآن إلى الجوانب العملية، وإلى ما نتصوره من بدايات لتأخذ هذه المبادرة طريقها الى الوجود وتنتقل الى حيز الممارسة.. المطلوب أن تلتقي مجموعة من رجال السياسة والفكر القومي ممن كان ومازال لهم رصيد وطني ناصع على صعيد أقطارهم كما لم تحجبهم تقلبات الظروف عن النظرة القومية الشاملة للأمور، وممن ملكوا تجربة سياسية ونضالية ويحملون مثل هذه الحوافز والقناعات المشتركة بضرورة عمل قومي جديد، مستقلين كانوا اليوم أو ملتزمين بقوى سياسية أو اجتماعية أو ثقافية تقف في المعارضة، ويكون من صفاتها الأساسية أيضاً الاستقلالية عن النظم القـائمة وعن سياساتها الإقليمية وصراعاتها وأن تلتقي لتشكل مجموعة بحث وعمـل .

      ومن الطبيعي أن تبدأ بعدد قليل، ممن بادروا للتلاقي والاتصال في هذا السبيل، سواء كأفراد، أو كممثلين لحركات سياسية معنية بذلك، ولكن أياً ما كانت الصيغة التي تبدأ منها بحكم الظروف العربية الصعبة لتجمُّعها واجتماعها، فهي لا بد أن تكون صيغة مفتوحة للآخرين وقابلة للتطور، فالمهم أن تكون هناك بداية وأن تستمر وتتلاحق من بعدها الخطــوات.

      أن أول مهمة توضع أمام هذه المجموعة الأولى للعمل، الوصول إلى تقييم موحد للواقع العربي ومعطياته في إطار الظروف الدولية الراهنة، ولواقع النظم والقوى السياسية والحركات الشعبية في الوطن العربي، وأن تضع برنامجاً للاتصال ولإدارة حوار منظم ومتبادل بين العناصر والقوى الوطنية العربية التي تأخذ بالنهج الديمقراطي في العمل والتغيير، والتي تجمعها وحدة الهدف القومي وتعمل لوحدة الأمة، على تعدد منطلقاتها الأيديولوجية ومنظورها العام للعالم.. كما لا بد للأطراف والقوى المعنية أن تساندها، وتوفر لها ما يلزم من إمكانيات لتُشكل مكتباً دائماً لها في بلدٍ يتوفر لها فيه الحد الأدنى اللازم لحرية الحركة والتعبير، دون قيد على حركتها أو وصاية من أي نظام من النظم وكذلك لتكون بيديها الوسائل اللازمة للاتصال والنشــر .

      لا شك أن وحدة الفكر عامل أساسي من عوامل بناء اندماج الأمة ووحدتها، ولكن تلك الوحدة الفكرية والثقافية عملية حضارية وتاريخية، لا يُقررها فرد أو أفراد ولا حزب أو جبهة أحزاب بل تأتي عبر التطور السياسي والاجتماعي والثقافي للأمة وتعبير عنه، فليس المطلوب إذن أن نضع في مقدمة العمل المنظور الأيديولوجي الموحد أو أن تطالب مجموعة العمل الوصول إلى وحدة أيديولوجية، وإنما الوصول أولاً إلى مواقف سياسية موحدة من قضايانا القومية الأساسية والوصول إلى الأسس الاستراتيجية الواضحة التي يقوم عليها عمل قومي ونضال قومي مشترك.

      إن وحدة التوجيه السياسي لا بد أن تتقدم إذن في العمل، على وحدة المنظور الأيديولوجي، والحوار النظري مطلوب ويمكن له أن يستمر ويتواصل بين الأطراف المعنية، ولكن في إطار الاستراتيجية القومية الواحدة، ومن خلال توحيد المواقف السياسية حول مختلف المسائل الوطنية والقومية، وعبر تقدم حركات النضال العربي نحو أهدافها الواحــدة.

      إن التيارات السياسية السائدة في الوطن العربي، والتي نسميها عامة بالوطنية التقدمية، منها ما يأخذ بمنظور قومي ثوري ديمقراطي ومنها ما ينطلق من منظور ماركسي، و منها ما يأخذ توجهه من فكر إسلامي مستنير، ونقطة التقاطع والتلاقي التي يمكن أن تؤلف بينها ولا تضعها في مواقع الافتراق والتصادم، وهي الأخذ بالنهج الديمقراطي وبالإطار القومي في التوجه والعمل.. وديمقراطيتها كما سبق وقلنا، إنما تعني القبول بالتعددية وبالحوار المفتوح، وقوميتها أو نهجها الوحدوي، لا يفرض عليها أن تتخلى عما تؤمن به من منظورات إنسانية ودولية وكونية وإنما أن يكون توجهها أولاً إلى تأكيد وجود الأمة العربية وتعزيزه، إلى العمل على تحررها وتقدمها ودرء الأخطار عنها، وإلى بناء وحدتها السياسية واستقلاليتها.. فعبر الأمة وليس بالتجاوز عنها، يكون التوجه الشمولي الإنساني والعالمي.. وهنا لا بد من التأكيد على منظورنا للأمة العربية، لا يقف عند الجامعة الدينية، ولا الجامعة الطبقية أو الجامعة العنصرية، بل عند الجامعة التي تضم على صعيد الوطن العربي كل الفئات والجماعات التي تجمعها الوطنية والمواطنية وإرادة الحياة المشتركة على مختلف مذاهبها السياسية وأديانها السماوية وطبقاتها الاجتماعيـة.

   ٦- إن بناء وحدة الأمة طريقها طويلة، وإن معركة الحرية لا تنتهي، ولكن هناك مسائل ملحة يطرحها علينا واقع الظلم والاستبداد والقهر، الذي يسود كل الأقطار العربية، وإن على درجات مختلفة.. فلا بد أن تولي مواجهتها الاهتمام الأول، أي لا بد من العمل بمختلف الوسائل المُتاحة والتي يمكن أن تتوفر، لكشف هذا الواقع ومساندة كل القوى والعناصر الوطنية التي تعاني القسر والظلم وتناضل في سبيل التغيير الديمقراطي ومن أجل الحريات السياسية والفكرية، ومن أجل كرامة الإنسان وحماية حقوقه الأساسية، وهذه الممارسة الديمقراطية لا يجوز أن يقف في وجهها أي اعتبارٍ آخر، كتقدير خاص لواقع نظام أو لعلاقة ما بنظامٍ من النظـم .

      وهناك مسائل قومية مشتركة، وقضايا عربية ملحة لا تنتظر تأجيلاً، وبؤر يدور فيها الصراع بشكلٍ حاد وخطير في الوطن العربي، هناك مسألة فلسطين أولاً وقضية نضال الشعب الفلسطيني وحركة المقاومة، وهي مسألة لا تخص قطر لوحده أو حركة سياسية بعينها بما في ذلك حركة الثورة الفلسطينية ذاتها، بل ولا مجموعات من تلك المجموعات العربية التي تُسمى بنظم الصمود أو نظم الاعتدال فلا بد من الوصول فيها إلى تقييم مشترك وتوجيه موحد، وإلى استراتيجية عمل متعددة المراحـل .

      وهناك مسألة لبنان بكل تداخلاتها، ومسألة الحرب العراقية- الإيرانية، ومسألة الصحراء الغربية، هذه وغيرها لم تعد مسائل تخص هذا القطر أو ذاك، أو ما يحيط به ويجاوره بل هي مسائل تُلزم قوى النضال العربي كلها، وهي مصادر أخطار يتعلق بها المصير العربي والمستقبل العربي.

      وإذا كان الموقف من إسرائيل والاستعمار الصهيوني كخطر داهم لا يقتصر على التوسع واحتلال الأرض العربية، بل ويتدخل في تدمير البنيان العربي كله، يُلزم العرب جميعاً، فلا بد من تحديد نهج استراتيجي وطني وعربي ودولي للتصدي للإمبريالية الأمريكية حليفة إسرائيل، والتي تعمل بكل الوسائل لبسط هيمنتها على المنطقة العربية، كذلك فإن مبدأ الحياد الإيجابي الذي نهضت به سياستنا القومية في الإطار الدولي وصراعاته أيام عبد الناصر، لا بد أن يجد ترجمة صحيحة له في إطار المتغيرات الجديدة في العالم، وكذلك لا بد من تحديد معالم نهج عربي في العلاقات والمواقف الدولية بما يتفق مع أهدافنا القومية في التحرر والتقدم والوحدة، وبما يتفق أيضاً مع قضايا تحرر الشعوب في العـالـــم.

      وإذ أننا نقول باستراتيجية قومية للتحرك نحو أهداف أمتنا في التحرر والتقدم والوحدة، فهذا يطالبنا بإعطاء مضامين هذه الأهداف وتلازمها ومنحاها، والنهج الذي يُتبع للوصول إليها على ضوء واقعنا العربي ومرحلتنا التاريخية ومتغيراتهــا.

      وإذ أننا نقول بالديمقراطية مبدأً ومنهجاً وممارسةً، فلا بد أن نعطى وضوحاً كافياً لأسلوب العمل في سبيل التغيير الديمقراطي وصيغة النظام أو الدولة الديمقراطية التي نريدهــا .

      وهذه مسائل لا تأتي الإجابة عليها كلها دفعةً واحدة، ولا يختص بها طرفٌ قبل الآخر، بل هي تعني جميع الأطراف، والإجابات عليها تأتي عبر الحوار المستمر وكيفية إدارته، وستأتي على مراحل أيضاً، وعبر التجربة القومية المشتركة، ولسنا نقف عندها حصراً، ولكن هناك أولويات لبعضها تقدمُها على غيرهـا .

      ولا بد أن نعود ونقول في النهاية، إن محاولة تقوم اليوم لبناء عمل قومي مشترك على الصعيد العربي الشعبي لا بد أن تكون أطر عملها مفتوحة، وإذا ما فرضت الظروف أن تقتصر أولاً على أفراد وقوى سياسية ومجموعات ثقافية محدودة، فإن نهجها الوحدوي ذاته يطالبها بأن تنفتح لكل رافد يعمل في هذا الاتجاه، وأن تتسع لكل من تربطهم وحدة القضية، وتجمعهم وحدة الهدف .

      هذا تصور أولي لمنطلقات عمل قومي نحرص على الالتزام به، ونقدمه كورقة عمل، وهو تصور يبقى مفتوحاً لكل ما هو أكثر وضوحاً وأكثر جدوى.. وكل ما نريده أن يبدأ عمل وأن يدور حوار، وأن يستمرا ويتناميــا .

                  ==============================

* ورقة أرسلت للمفكرين والمثقفين العرب أوائل عام 1985

التعليقات مغلقة.