محمد حسام الحافظ *
يثير الاهتمام الاستثنائي الذي أبداه السوريون حول العالم لرحيل الأستاذ الكبير ميشيل كيلو الكثير من الأفكار. يتساءل المراقب لماذا كل هذا الاهتمام بشخصية الاستاذ ميشيل؟ ولم أصر السوريون على اختلاف مشاربهم وخلفياتهم وتجاربهم على نعيه ولماذا أظهروا بالآلاف حزناً هائلاً على رحيله؟
لا ينبع اهتمام السوريين وغيرهم ممن يعرف الراحل الكبير إلا عن حب غامر ووجد وألم صادق وعميق لرحيله بمرض العصر.
وقد لفت انتباهي ما كتبه رامي الشاعر حول الرسالة الصوتية الأخيرة للاستاذ ميشيل والتي لخص له فيها مسيرة معارضته للاستبداد في سوريا مع أن الشاعر في الضفة الأخرى لقوى الثورة والمعارضة…وكذلك أثار حرص العديد من معارف الراحل ومحبيه لنشره من رسائل ومراسلات وصور جمعتهم به خلال السنين الماضية.
محاولات جادة ورصينة:
فعدت الى أرشيف مراسلاتي معه من رسائل صوتية ومكتوبة وإيميلات، كثير منها كان جزءا من محاولات جادة ورصينة وحثيثة لتجميع وترشيد وتصويب العمل السياسي لقوى الثورة والمعارضة وللسوريين عموماً وإعادة رسم خطوط الأمل لمسيرة هذا الشعب العظيم. ولما كنت كغيري من السوريين على تواصل مكثف معه وجدت العشرات من الرسائل الصوتية التي خصني بها أو تلك التي للنشر العام وكذلك الرسائل المكتوبة والمقالات والدراسات عن جوانب سياسية، سواء في العلاقات الدولية أو الجانب السياسي المعارض، وكذلك عن جوانب اجتماعية وعن من مفاصل الثورة وعن هموم الناس وعن هموم فردية وجماعية، تخص السوريين هنا وهناك وبعض مسوداتٍ لكتب أو أجزاء من كتب منها، كتابه الأخير عن البعث السوري وهو أعمق ما كتب عن البعث وعسكره كما أسماه الحزب ونقاشي له حول الكتاب.
كان الاستاذ أبو أيهم قد أرسل مثل الكثير من تلك الرسائل للسوريين وناقشهم فردياً وجماعياً وبث برسائله أفكاره وحنينه لدمشق ولسوريا وأبدى للكثيرين خوفه من الوفاة في الغربة بعيداً عن سوريا. قال لي مرة بأنه غير مرتاح للحياة كلاجئ في بلد بعيد ويتمنى حياة قريبة من سوريا على درب العودة للبلد…بل إنه تمنى أن يدفن في أي بلد عربي قريب من سوريا ليستقر فيها عندما يمكن ذلك لاحقاً.
هموم الإنسان السوري:
هذا التلاقي السياسي الممتزج بهموم الإنسان السوري العادي الذي يعاني ألم البعد وألم ما وصلت إليه حال البلد هو ما ميز الاستاذ أبو أيهم…القرب والتلاحم مع الناس؛ كل الناس كان أكبر أسرار الحب الكبير الذي يحمله له أبناء سوريا.
لم يستلم أبو أيهم منصباً سياسياً لا في الدولة ولا النظام ولا حتى في هياكل المعارضة الحالية. ولم يكن سياسياً منظراً فوق الناس بل بينهم ومعهم ولم يكن أيديولوجياً ماركسياً غارقاً في الماضي بل استعمل أدوات الفكر السياسي المتنوعة في محاولات مستمرة وحثيثة للفهم والتحليل والبناء والخروج نحو الأفضل كما رآه. وربما الأهم من هذا كله أنه حمل فكراً متقداً كان حاضراً في جميع الأوقات وفي سياق النقاشات المستمرة مع الجميع.
لم يكن يبخل بوقته على أي سوري أو على أي مهتم بالشأن السوري إن أراد رأياً أو نقاشاً سياسياً أو تحليلاً بصرف النظر عن اختلافه معه أو حتى خلافه بل وعلى الرغم من الفروقات بين السائل والمسؤول في السن أو الموقع أو المكانة.
ميز الراحل التواضع واللطف والكياسة؛ تواضع سياسي ومناضل قديم لأترابه وأحبائه وأهله وشركائه في الهم الوطني والوجع السوري القاسي. وكان كل ذلك ممزوجاً بحب عميق لسوريا ولأهلها وبهمة نادرة في سنه المتقدم على إحداث التغيير؛ إحداث الخرق الكبير الذي يخرجنا نحن أبناء الثورة وكل السوريين من عنق الزجاجة الطويل.
ماذا نحن فاعلون بهذا الحب وهذا العطاء المتبادل بين مناضل سياسي وبين أطياف واسعة من الشعب السوري؟
مع تميز واستثنائية الراحل الكبير فإنه ما زال بيننا اليوم سيدات مناضلات ورجال مناضلون سياسيون ومفكرون سوريون كبار ذوو فكر نير وهمم عالية وإصرار على العمل الجاد في هذا الزمن الصعب، إخلاصنا للراحل يرتب علينا التلاحم من جديد تنفيذا لوصيته ولرؤى رجالات سوريا الكبار ولطموحات وآمال هذا الشعب الصابر. و لم يكن الزمن في صفنا يوماً فهو عدو المستهتر به وعدو من يظن أنه يملكه.
إن كنا نود حقاً احترام وصية الأستاذ أبو أيهم ووصايا من نفقد يومياً من رجالاتنا الكبار… إن كنا حقاً نريد احترام ذواتنا والتشرف بحمل ما تمناه السوريون وحلموا به وحمل صرخات الشهداء الذين سقطوا في الساحات وفي المعتقلات، وشظف عيش المخيمات والغربة وألم البعد والفراق فلنترفع عن الصغائر ولننخرط في عمل سياسي ينطلق من آلام السوريين ويحمل أحلامهم بعيداً عن الأمراض التي نخرت جسد سوريا وثورتها وبعيدا عن الخفة وعن الاتهامات العشوائية والمغرضة وعن الاغتيالات المعنوية للشخصيات السياسية لقوى الثورة والمعارضة.
في سبيل ذلك لنرم بمخلفات التشاحن والتزاحم ولنفتح قلوبنا لبعضنا البعض ولنبدأ موجة جديدة من العمل السياسي الراشد بأدوات أكثر عصريةً وأكثر صراحةً ووضوحاً وشفافيةً بعيداً عن التمترس والتحزب والنفاق.
يجمعنا بحر واسع من المشتركات؛ يجمعنا وطن نريده حراً كريماً في ذاته وفي أبنائه ونضال عريض لمكافحة عقود من الاستبداد والفساد السياسي والاجتماعي. في حين أن ما يفرقنا فيكاد يكون عدماً؛ خليط من بقايا إيديولوجيات وأفكار سلبية تجاه بعضنا البعض من أفراد أو مكونات.
بالطبع تلك الكلمات والنوايا الطيبة لا تكفي للبناء، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى آليات العمل المشترك الفعال والمستدام والوصول لتلك الآليات ليس سهلاً لكنه بالتأكيد ممكناً.
نعم نستطيع ذلك من خلال إعادة الثقة بتلك الكوكبة من رجالات سوريا ودعوتهم إلى استعادة ثقة السوريين بهم من خلال شرعية العمل والإنجاز والبناء على خبراتهم السياسية وتاريخهم النضالي وإعادة الشباب الثائر الذي غدا مفخرةً للسوريين في كل أرجاء العالم إلى مواقع متقدمة في الشأن العام.
* دبلوماسي سوري يقيم في الدوحة
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.