( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثامنة عشر: الأسدية في السلطة (الفصل الأول – مدخل عام) وهي الأولى من الجزء الثالث
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
الجزء الثالث
الأسدية في السلطة
الفصل الأول: مدخل عام
ـ وصل حافظ الأسد إلى السلطة في ظروف مواتية، فأدار نهجين متعارضين التقيا عند هدف واحد هو تمكين سلطته، وإرساء الأسس الضرورية لانتهاج سياسات ثابتة الركائز، مترابطة الحلقات، تمكّنه من ممارسة دور داخلي ينهض به نظام مستقر تحميه دولة عميقة محورها الجيش، ودور عربي يكرس مكانته كقائد مجال قومي أصبح خالياً من الزعامة، بعد هزيمة جمال عبد الناصر في حرب حزيران، ثم وفاته، وأخيراً، دور دولي يفيد من موقع سوريا الاستراتيجي، وحيوية شعبها، وقربها من النفط وإسرائيل، ومكانها على الساحل الشرقي للبحر الابيض المتوسط، وصراع المعسكرين. أما نقطة البداية في التمكين المطلوب، فكانت بناء دولة عميقة متعددة الأجهزة، تغطي مجالات الحياة العامة جميعها، وتنهي بوحدتها وانضباطها حقبة الانقلابات العسكرية في تاريخ سوريا المعاصر.
ـ هذان النهجان المتعارضان، استهدف أولهما الشعب، واعتمد خطاباً هدفه كسب المواطنين، وأقناعهم أن انقلابه العسكري على رفاقه وقع بتكليف منهم، واستجاب لإرادتهم، ولا هدف له غير تحقيق أهدافهم، وإعادة السلطة إليهم من تيار غريمهم وغريمه اللواء “صلاح جديد”، الذي كان “متسلطاً مناوراً” حال بين السوريين وبين حقهم في الحرية، وليس لأنه، أي الأسد، طامع في منصب أو راغب في سلطة، فقد كان لديه دوماً فائضاً منها كوزير للدفاع وقائد للجيش والقوات المسلحة.
ـ هذا الخطاب، أراد اقناع السوريين أن زعيمهم الجديد عازم على ملاقاتهم في منتصف الطريق، وأن جهوده ستكون مكرسة لتوطد حريتهم وكرامتهم وحقوقهم، لذلك رفع شعاراً كرره في خطب عديدة ألقاها عام ١٩٧١، خلال زيارات قام بها إلى أماكن مختلفة من سورية: “إن كرامة الوطن من كرامة المواطن”([1])، في رد على الخطاب السياسي الشائع، الذي كان يقول: إن كرامة المواطن من كرامة الوطن… الخ.
ـ استهدف النهج الثاني السلطة الانقلابية ودولتها العميقة، وكان سرياً ومجافياً لوعود النهج الأول، وخاصة منها وعد خطاب الحرية. هذا النهج، رسم هدفاً أعلى للانقلاب هو إخراج المجتمع من السياسة، والسياسة من المجتمع، بحيث لا يبقى له من وجود أو دور فيها، مهما كان رمزياً ومحدوداً، ويقتصر الحقل السياسي على السلطة الجديدة، التي يجب أن تنفرد به انفراداً مطلقاً لا يقيده قانون أو عرف أو معيار، لتمتلئ بدولة عميقة محورها الجيش، إلى جانب أجهزة أمنية ينتسب أغلبية موظفيها إلى الكيان ما قبل المجتمعي، الذي نشر سيطرته على بؤرتها العسكرية منذ عام ١٩٦٣، هو الطائفة العلوية، التي ينتمي إليها معظم ضباط الانقلاب وقياداته.
ـ هذا النهج جعل إلغاء حضور ودور المجتمع السوري في الحقل السياسي هدفه الأول، الذي حرص مؤسسه على أن لا يلفت تحقيقه الأنظار، وأن يمرره تحت العتبات الدنيا لوعي السوريين السياسي السائد، وهو وعي وطني/ قومي السمات والخطاب، قبل ان يصحوا من خدر وعود الحرية والحقوق، التي قطعها على نفسه قبل وخلال وبُعيّد انقلابه، ويتبينوا حقيقة رهانه، القائم على بناء سلطة عسكرية الطابع، تعيد إنتاج المجتمع بما يتناسب وسياسات ومصالح ملة فئوية حاكمة، تحوّل رهاناتها بينها وبين إقامة نظام حريات ومشاركة، بعد أن بادرت منذ أواسط الستينات بالانفراد بالجيش، وأبعدت مخالفيها في الرأي والموقف عن الحكم، وأقصت الأحزاب وتمثيلات المجتمع السياسية والمدنية، وتبنت تدابير عملية رفضت أن يشارك أي طرف غيرها في تحديد بنيتها أو مقاصدها العامة. وزاد من توجس السوريين وشكوكهم، ما اتخذه الأسد من قرارات جمعت السلطات الثلاث في يديه، أو حولتها إلى سلطات هامشية ترتبط قراراتها بتوجيهاته، بينما شرّع العمل الرسمي العام، الذي أشرف عليه من موقعه كرئيس للوزراء، يتسم بالسرية والغموض، الذي لم يتوقف عن قضم مساحات العلنية في الساحة السياسية، وإبعاد تمثيلات المجتمع والمواطن العادي عنها.
ـ استمر تعايش التوجهين المتعارضين طيلة مرحلة الإعداد لصعود حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة بين عامي ١٩٧٠و ١٩٧٢، في الفترة التي عيّن خلالها أحمد الخطيب رئيساً انتقالياً للجمهورية الجديدة، عمل بإمرته والتزم بتوجيهاته، وكان عقدة باردة في منصبه الرفيع، ينتظر أن ينضج صاحب السلطة الحقيقي شروط قفزه إلى الرئاسة، كأول رئيس علوي في التاريخ السوري .
ـ اتجهت خطوات الأسد الأولى نحو ضبط الوضع الداخلي، وإرساء المقومات المؤسسية الضرورية لإنهاء انقسامات العسكر البعثي، التي حفلت بها فترة ١٩٦٣/١٩٧٠، وشهدت انقلابات بعضها ظاهر وبعضها الآخر خفي، لكنها واكبت جميعها خطة “اللجنة العسكرية” ثم مكتبها العسكري للانفراد بالسيطرة على الجيش، وتالياً بالسلطة، بعد تحولين مفصليين مهدا لإقامة حكم تسلطي هما: تطييف الجيش، الذي فقد وظائفه ودوره كجيش وطني، وبناء حزب خاص بالمؤسسة العسكرية، معادٍ لميشيل عفلق وحزبه، حمل اسم “البعث”، وتمس الحاجة إليه في الصراع السياسي، كما يستخدم كأداة سيطرة على حقل سياسي لن يبقى حقل أحزاب.
ـ هذا الانقلاب النوعي، طال حقلي السلطة السياسي والعسكري، ووظيفية فئات المجتمع المختلفة، التي وضعها في سياق عام مغاير لأي سياق سبق لها أن انضوت فيه أو واجهته، وقوض القيم والمبادئ، التي حددت هوية النظم السابقة، التي آلفت التعامل معها، واستبدلها بقيم ومبادئ اقتصر عملها على إضعاف وتهميش المجتمع، وتعزيز السلطة، وفصلها عنه وربطه بها في آن معاً، عبر الإمعان في إحكام قبضة دولته العميقة من جيش ومخابرات وحزب، ثم جبهة وطنية تقدمية، على حياة السوريين، وإنتاج أنماط إدارية مغايرة لما استخدمته نظم ما بعد الاستقلال منها، في التعامل مع شأن عام سيغدو، من عام ١٩٧٠ فصاعداً، شأناً سلطوياً لا مكان أو دور فيه لغيرها.
ـ بهذه التحولات، ردت “الحركة التصحيحية” على هزيمة حزيران، وما اعتقدت أنها قد تنتجه من ارتدادات داخلية على مجتمع رفضت أغلبيته ما ترتب على انقلاب عام ١٩٦٣ من نتائج، أخطرها تطييف الحقل السياسي كحقل احتكرته الدولة العميقة، وما ارتبط به من تخلٍ عن الجولان لإسرائيل دون قتال، وتلازم مع هذين التطورين من تلاشٍ في الشرعية الوطنية والقومية للانقلابات المتتالية، التي وقعت بين عامي ١٩٦٣ و١٩٧٠، وعرفته من عزلة شعبية بدا أنها تطرح جدياً حاجة سورية إلى بديل لها، لم يلبث قطبا اللجنة العسكرية صلاح جديد وحافظ الأسد أن بادرا إلى محاولة إيجاده بأدوات النظام القائم ومن داخله.
ـ اختلف قياديا “اللجنة العسكرية” حول الرد على الهزيمة، فاقترح الأسد بناء نظام سلطوي شمولي يستقل تماماً بالمجال السياسي ويعيد إنتاجه انطلاقاً منه، وبقصرِه على دولة عميقة يتم تطييف فرعيها الجيشي والمخابراتي، وتغطيتهما بالبعث كواجهة أيديولوجية يعتقد السوريون أنها هي التي تمسك بالسلطة وتديرها، وتضفي عليها طابعاً قومياً يوحد العرب ويحقق أهدافهم في دولة البعث السورية، باعتبارها أول دولة تتماهى خصائصها ووظائفها مع دولة/الأمة، وإن تمت إقامتها في إطار قطري يرفضه الحزب ونظامه، الملتزم بالحرية سبيلاً إلى تحرير الأرض المحتلة، وبالاشتراكية وصولاً إلى العدالة الاجتماعية. هذا النظام الوحدوي، هو الرد على اتهام السلطة الجديدة بالطائفية، التي تتنافى جذرياً معه.
ـ كان أول ما بادر الأسد اليه هو توسعة وتوحيد الجيش والأجهزة القمعية والحزب، وربطها جميعها به كمركز يعاد إنتاج النظام وتوجيهه والإشراف عليه منه، يقبض في الوقت نفسه، ودون قيد أو شرط، على مفاصل النظام ومؤسساته العسكرية والمدنية، ويتمتع بصلاحيات ضبطية مطلقة، يشرف بواسطتها إشرافاً وثيقاً ومباشراً على بناها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ويختار قادتها، الذين يلتزمون بقصر عملهم على ما يكله إليهم من مهام ووظائف تبقي الدولة العميقة موحدة في مواجهة مجتمع عليها إخضاعه لرقابة وثيقة، بسبب الحاجة إلى إضعافه بالإفادة من تناقضاته.
ـ بضمان وحدة الدولة العميقة، والإيحاء بأنها لا يمكن أن تكون طائفية أو غير محايدة، بالنظر إلى أن مؤسساتها تنتمي إلى الدولة، التي لن تتهاون في تعزيزها، وإبقائها مؤهلة للسيطرة على من لا ينتمون إليها، أو هم خارجها، من الذين تكمن مهمتها في تفكيكهم، وإبقائهم عاجزين عن التخلص مما تخضعهم له، وتحدي ما يقوض قدرتهم، ويحول دون إحرازهم أي قدر من الاستقلالية عن سلطتها، لأن استقلاليتهم عنها سبيلهم إلى بناء مجتمع لذاته، يصعّب قيامه تحكمها بشؤونه، وتعزيز تماسكها وتبعثره، وحفر هوة تعمقها باضطراد بينها وبينه، وتحافظ بواسطتها على التفاوت بينهما. هؤلاء القادة، والقسم الأكبر من منتسبي الدولة العميقة يجب أن يكونوا أعضاء في طائفتها، ومؤمنين بنظامها، وبحمايتها ضد جميع الأخطار، وفي جميع الظروف يعني هذا ضرورة توفر قدر من التماهي بين الدولة العميقة بجيشها ومخابراتها وبين حزبها وبيروقراطيتها، هو شرط انسجام أجهزة النظام الوظيفية، وخضوعها المطلق لرمزه ومنتجه وقائده: حافظ الأسد، الذي يجب أن ينصاع الجميع لما يصدر عنه، وأن ينفذه دون اعتراض، لكونه مؤسس النظام ومسيّره، ومقرر طرق عمله، وضامن وحدته وتماهيه مع حامله الطائفي، وسيره في الاتجاه الذي يختاره، ويعرف وحده كيف يحول دون ظهور ثغرات أو نقاط ضعف وعيوب فيه، يمكن أن تنّفذ منها “مؤامرات” الأعداء واختراقاتهم.
ـ هذا النمط من الوحدة، يعززه اختلاق أعداء في الداخل والخارج، وإقامة صلات تآمرية بينهم، تقنع الدولة العميقة وحاضنتها أنهم مصممون على انتزاع السلطة منهما، وتدمير مجتمعهما الخاص، ونواته المركزية: طائفتهما، وأن الحلقة المركزية لعملهما العام تكمن في المحافظة على المركب الطائفي/السياسي/العسكري الحاكم والمسيطِر، كما يتجسد في السلطة: الجهة التي يريد أعداؤها تقويضها، وإلا فالاستيلاء عليها، ليتخلصوا من الدولة العميقة وحاملها الطائفي، بما هما جسدية واحدة تصعد من أدنى سلم الأجهزة وقاع الكيانات ما قبل المجتمعية، إلى أعلى موقع مقرر في نظامهما، مروراً بالدوائر الوسيطة التي يستند إليها. السلطة هي كلمة سر النظام، والأسد مؤسسها وخبيرها، الذي لا يضاهيه أحد في معرفة أسرارها. أما المجتمع، فهو مصدر خطر، وتنصب رغباته وأمانيه على انتزاعها منه. هذه الحقيقة، تجعل من الذين لا ينتمون إلى الدولة العميقة أعداء سياسيين، فقدوا حق الانتماء إلى مجتمعها الخاص وعالمها الرسمي، اللذان يجب أن يأخذا في حسبانهما أن الأسدية صححت خطأ شاع في عقول وسياسة السوريين، ساوى بين الأغلبية وبين الشعب، وبين السلطة والأقلية، وتجاهل أن انقلاب عام ١٩٦٣ أسس عالمين متفاوتين في هويتهما ووظائفهما، أحدهما عالم السياسة ومحوره الدولة العميقة وما تفرع عنها من سلطة، والآخر عالم الذين لا ينتمون إليهما، وليس من حقهم أن يكون لديهم روابط سياسية تجمعهم ببعضهم. وللعلم، فإن العالم الأول متبوع والثاني تابع، وأن تباينهما أسس واقعاً جديداً يمكن بواسطته تصحيح أوهام التاريخ والواقع السوريين حول مساواة المواطنين في الحقوق والواجبات، وما يجمعهم من مشتركات يضمنها القانون، وما شابه من أوهام ليس تحقيقها غير ضرب من الخيال، لكونها تجعل المساواة بين مالكي السلطة والخاضعين لها مسألة افتراضية، بل وهمية ينص عليها القانون، لكن تحقيقها حمال أخطار، لا بد أن تتصدى الأسدية لها، لأن من شأنها الإطاحة بنظامها، وتسليم سورية للإرهاب والأعداء، والأغلبية ليست مؤهلة لإدارة الشأن العام، وتهدد أقليات سورية، فلا ضير على السلطة ودولتها العميقة إن عبأتها دينياً واثنياً ضد خطر “أغلبي”، يُلزمها بالتحول إلى كتلة مندمجة، نجاتها في التفافها حول صاحب ومنسق السلطة الأعلى، كي لا تفشل في مواجهة سبعة عشر مليون “ابن تيمية” ينتمون إلى أغلبية موحدة في عدائها لهم، ولا تهددها خلافاتها، في حين يدمر أي قدر من الخلاف مع الأقليات، مهما كان محدوداً، ناهيك عن الطوائف، التي تخون نفسها بكل معنى الكلمة، وتضع عنقها تحت المقصلة، إن تخلت عن السلطة الأسدية.
ـ لمواجهة خطر على هذا القدر من الراهنية، على الدولة العميقة تكوين جسدية تنظيمية يسيّرها نظام خاص بطائفتها، على أن تكون مفاتيحه، بطبيعة الحال، في يد الأسد، ومن يضع ثقته فيهم من قادة الجيش والأمن، وخاصة منهم أولئك الذين يستخدمون المدونة السرية التي تشغله، ويحافظون عليها في دائرة ضيقة ومغلقة وتقتصر عليهم، وتحرص على إبعاد أي طرف آخر عنها، وإبقائه جاهلاً بتشابكاتها مع الشأن العام، بعموميته التي يعني تحكمها فيها خضوع السوريين للسلطة، كما لو أنها تحظى بقبولهم الطوعي، وبذلك النمط من الشرعية، الذي يوطد التفاوت بين مجتمع السلطة ومجتمع المواطنين، ويحبط بالتالي قدرة المجتمع على مواجهة النظام بتماهٍ مقابل، من شأن قيامه أن يحد من سيطرة الأقلية الممسكة بالسلطة على تابعها الأغلبي، ومن قدرته على تخطي تناقضات مزدوجة الوظيفة، توحد الدولة العميقة بقدر ما تفكك من لا ينتمون إليها، وتعزز أهليتها لإخضاعهم دون أن تسمح لهم بإبداء أي اعتراض عليها، أو مقاومتها، أو تجاوز الحواجز التي تمنع أي تفاعل إيجابي ومستقل عليها، وتحافظ بذلك على مجتمعي السلطة والشعب كطرفين ينتميان إلى عالمين مختلفين، يرتبط خضوع الثاني منهما بما يمارسه الأول من رقابة وحجر عليه، تتنوع آلياتهما بتنوع فئاته، وضرورة تحصين الدولة العميقة بدلالة الثاني ومصالحه وأمنه واستقراره، والحؤول دون اختراقه من الداخل، بإحكام الرقابة الذاتية على منتسبيه ودوائره، وإبقاء عين الرئيس عليه من خلال التقارير اليومية التي تصله عنه .
ـ رغم أهمية توحيد الطائفة والسلطة، وتزويد ممثلين عنهما بشيفرة تواصلية/ رقابية تستخدم في إدارتها بما يتفق مع هويتيها كجهة طائفية وكدولة عميقة، ويستطيعون وحدهم فك رموزها، المتصلة غالباً بعلاقاتهما الداخلية وبالشأن العام ودور الأسد، والمرتبطة بآليات إعادة انتاج تحكمها حاجة الدولة العميقة إلى توسعة عملها وصيانة أدواتها، فإنه لا بد في سلطوية النمط الأسدي من قائد تخلع عليه صفات فوق سياسية، لما لدوره من أبعاد تجدد بمواقفه صراع الخير ضد الشر. هذا الرمز المقدس، هو باني دولة الطائفية العميقة حافظ الأسد، الذي اصّطَفته العناية الإلهية وعصمته عن الخطأ، ووضعته في موقعه، ليتخطى عقبات ومصاعب ما كان له أن يتغلب عليها دون “سرٍ” فيه، مكنه من بناء نظام يمثل قلة، لكنه وطده ضد الأغلبية قسمٌ لا يستهان به من العلويين، وأرساه على أسس رادعة ولها من الخصوصية ما يجعل التمرد عليها ينقلب إلى حرب طائفية أو أهلية ، لا تبقي ولا تذر.
ـ لضمان مناعة نظامه وتوحيده، ضم الأسد أفراداً من الأغلبية إلى دائرته الخاصة، وأفرد لهم مكاناً خاصاً في دائرتها الاقتصادية، حظي باهتمام أجهزته ورعايتها، وأثار لديها شهوة الشراكة معها. وقد حقق ذلك بأساليب عزز بعضها تناقضهم مع بيئاتهم، وكذلك تناقضاتهم الشخصية والمصلحية، وعمل لجعلها أكبر من تناقضاتهم مع النظام، واستخدم ميلهم إلى الانتفاع من استقرار النظام لإكراههم على الانصياع له، والتعاون مع أجهزته على أسس تسمح لها بمد أذرعها إلى وسطهم الأغلبي، دون أن تتخلى عن سياسة العصا والجزرة تجاههم، وترئيسهم على غرف التجارة والصناعة والزراعة للتحكم بها من خلالهم، فضلاً عن منحهم لقاءات خاصة مع الرئيس، في بعض المناسبات والأعياد الدينية، لإشعارهم بتميزهم وفرض حمايته عليهم، وتوطيد انتمائهم إليه كمركز تلتقي عنده خيوط الجميع، وليس في مصلحتهم أن يفلت منه خيطهم منه، بما له من بعدين متكاملين: هو في أولهما قوة جذب ودمج، وفي ثانيهما ردع وإرعاب، ويؤهله بُعدَاه لسوّق المواطن إلى حيث يأمر أجهزته بسوقه، علماً بأن من يقربهم الرئيس منه يعلمون أنه مرجعية السلطة وما يسمونه المجتمع، ولا بد أن يأخذوا هذه الحقيقة وما يترتب عليها في حسبانهم.
ـ بما أن توازن نظام ركيزته دولة عميقة تدعمها أقلية عزلتها عن مجتمعها، يتوقف على عامل إيجابي هو انسجام أجهزتها وولائها لـ”قائد الوطن”، حافظ الأسد، وآخر سلبي هو استسلام الشعب لها، وامتناعه عن القيام بأي عمل عام خوفاً منها ومنه، فإن توازن السلطة مرهون ببقائها بمعزل عن أي مؤثرات تأتيها من تحت، من ما يسمونه “الشعب”، وبفصلها عنه بسور من الممنوعات والمحرمات والممارسات السلطوية القمعية والعنيفة حصراً، التي لا يجوز أن تكون مقاومتها متاحة لأي طرف، وعلى المجتمع الاستسلام لها دون اعتراض أو مقاومة، لذا، لا بد أن تنعدم قدرته على التأثير بانعدام وحدته وروابطه المادية والمعنوية، وقبل هذا وذاك اهتمامه بالشأن العام ودوره فيه، بعد أن حوله الأسد إلى شأن خاص بالسلطة، وقصّره على حقلها السياسي، ليكون الحقل العام الوحيد المشروع منذ استيلاء “اللجنة العسكرية” على الحكم. هذا الواقع، فرض تخلي المجتمع عن أي دور سياسي، بما في ذلك ما تعبر نخبه الثقافية عنه من آراء ووجهات نظر حيال الشأن العام، ما دام ذلك يحوِّلها إلى نخب عامة أو سياسية، وحمالة أخطار بالتالي، بالنظر إلى أن تخلُقها هو الخطوة الأولى بالنسبة لتقويض البناء السلطوي، بدءاً باختراقه، مثلما يحدث عادة قبل وقوع تطورات تمتنع السلطة عن، أو تقصر في المبادرة إلى السيطرة عليها، أو تحجم قيادتها عن اتخاذ موقف حاسم منها، وتسمح بتضارب الاجتهادات حولها.
ـ هذا التدخل الحاسم من الرئيس والأجهزة، تمس الحاجة إليه بسبب، هناك، ما يقوم النظام الأسدي عليه من ازدواجية تكاملية، تغطي علاقاته الخاصة بطائفته من جهة، وتلك المغايرة لها، المتصلة ببقية الفئات السورية، من جهة أخرى. إذ في حين يجب أن تبقى دائرته الطائفية مغلقة على ذاتها، لتبقى شيفرتها ولغة تداولها وشبكات تواصلها ومسارات عملها، وخططها خارج متناول من لا ينتمون إليها، أو لمن هم خارجها من أعضاء الهيئة الاجتماعية العامة، لا بد أن يبقى المجتمع مكشوفاً وممنوعاً من التكور على ذاته، وأن يظل، بالتالي، منقسماً إلى جماعات وجمّعات متفاوتة الحجم والأهمية والدور، وأهم من هذا وذاك، متناحرة، ومكشوفة في الوقت نفسه أمام تدخل الأجهزة، ومفتقرة إلى لغة تخاطب وأقنية تواصل وشبكات تفاعل خاصة بها، كي لا تبني بمعونتها عالماً خاصاً بها، تواجه به السلطة، بعد أن تستقل نسبياً عنها، وتقيّد سيطرتها الشاملة عليها، وتجبرها على إعادة النظر في أوضاعها، بدلالة المجتمع ومصالحه، وما تتطلبه من إعادة نظر في بنية السلطة وآليات اشتغالها، ووظائف دولتها العميقة ومؤسساتها الحكومية وحزبها، التي لن تقتصر سياساتها عندئذ على ممارسة الردع والعنف تجاهها، رغم ما في هذا التخلق من خطورة السلطة القائمة وتوازناتها.
ـ هل يمكن لسلطة تحتوي المجتمع، وتمتلك مجتمعاً بديلاً يضم من ينتمون إلى دولتها الطائفية العميقة، وتقيم نمطين من العلائق الوظيفية أحدهما داخلي يرسخها، والآخر براني يفكك المجتمع، أن تسمح بتخلق تمثيلات خاصة به، مهما كانت جنينية؟. وهل تسمح بوجود قيادات إلى جانب قائدها المُؤله: الواحد الأحد، الواجب التقديس ومحل إجماع السوريين، مهما كان موقفهم وموقعهم؟. وهل يجوز أن يكون هناك غير طائفة الرئيس وسلطته وقيادته وشخصه في نظامه، كما في شتى مجالات الوجود الملموسة، أيديولوجياً واجتماعياً وسياسياً، ولدى الأفراد والجماعات؟.
ـ قامت السلطوية الأسدية على إخضاع سورية لسلسلة متكاملة من التبدلات البنيوية: في نمط الإدارة، وممارسة الحكم، وإنتاج المجتمع. وأسست شبكة رقابات متبادلة ومتكاملة، ترعاها دولة عميقة تجسد طائفة تبقى بدونها كياناً افتراضياً، وإن سيطرت باسمه على المجال العام، وقنّعت سيطرتها بأرّدِية سلطة لم تعد سلطة دولة، بل سلطة جزئية لكيان ما قبل مجتمعي، جزئي بدوره، هي دولة للسلطة، التي تخضع لرقابة الأسد الشخصية والمباشرة، ولرقابات رديفة، تراتبية ودائمة، تدير بواسطتها الشأن العام. بتراتب الرقابات، وتغطيتها كافة تجليات وجوانب المجال العام، ونجاح “القائد” في بناء حقول غير تعادلية سواء داخل السلطة أم مع وفي المجتمع، طرفها الآخر فئات يساعد تبعثرها وضعفها على ضبط المجال العام، من خلال علاقات تبعية تقيمها معها، فتبني الدولة العميقة بمعونتها دوائر تأثير وتفاعل وتنشرها في الجسر المجتمعي بكامله، التزاماً بما يرسمه “القائد” لها من أهداف، ويتبناه من خيارات كسيّد يعرف كيف يتكيف استباقياً ولحاقياً مع الظروف المتبدلة، وكيف يحني رأسه أمام العواصف، ويعقد صفقات تجنبه معارك مع من هم أقوى منه، ويسيطر على تجمع طوائف متعادية يسمونه المجتمع السوري، ويجبره على الرضوخ لسلطة تكرس غيابه عن شؤونه.
___________
هوامش:
[1] الرئيس حافظ الاسد عام ١٩٧١. موقع تاريخ سوريا.
………………..
يتبع.. الحلقة التاسعة عشر: (الفصل الثاني – هوية “الثورة”)
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.