الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» للكاتب: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة السابعة عشر

( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة السابعة عشر: ارتدادات الهزيمة والصراع على السلطة وهي الأخيرة من الجزء الثاني

من الأمة إلى الطائفة 

سورية في حكم البعث

    قراءة نقدية

ميشيل كيلو

باريس ٢٠١٧/٢٠١٩

ارتدادات الهزيمة والصراع على السلطة:

العسكر والحزب والحرب:

    كشفت هزيمة حزيران أن “تحرير فلسطين” أخذ من وقت وجهد رفاق “اللجنة” أكثر بكثير مما كرسوه من أوقات لصراعاتهم البينية، فهل كانت حماستهم لفورية حرب تحرير فلسطين هدفهم، أم أرادوا بها تعزيز صراعهم للانفراد بالجيش، وتخطي ما حال دون استيلائهم عليه، أم تحمسوا لها لأنهم كانوا أغراراً ومغامرين يصعب عليهم تقدير عواقب أفعالهم، أو متآمرين، كما اتهمهم خصومهم، وألمحتْ إلى ذلك أطراف لطالما تعاملت معهم بإيجابية كالرئيس أنور السادات(84)؟.

بينما زعم بعض من كانوا من أركان “اللجنة العسكرية” كالرئيس السابق أمين الحافظ، في برنامج “شهادة على العصر”، الذي يبثه تلفاز الجزيرة القطري، إنهم قبضوا ستة وستين مليون دولار ثمن الجولان(85)، بينما نسب المهندس هشام النجار في مقالة نشرها موقع “منتدى الجبل الثقافي” يوم ١٨/١١/٢٠١٨ إلى أبي رباح الطويل، أحد أعضاء “اللجنة العسكرية” قوله إن حافظ الأسد التقى عام ١٩٦٦ بالأميركيين في بيروت، واتفق معهم على تسليم الجولان لإسرائيل ونُسب لجولدا مائير، رئيسة وزراء إسرائيل خلال حرب عام ١٩٧٣، أنها قالت في أميركا: لن ننسحب من الجولان لأننا دفعنا ثمنه، و”انسحابنا سيحوِّل إسرائيل من ذخر إلى عبء استراتيجي على واشنطن”؟(86) .

   ـ تُلفِتْ نظر متابعي ما سبق الحرب ورافقها من تطورات أنه لم يظهر خلال أيامها الستة أي دور للحزبيين أو لغير الجيش ووزيره حافظ الأسد، الذي تولى إدارة الجانب السياسي من المعركة، خلال فترة التحضير لها وأثناء وبعد وقوعها، بينما غاب حزب البعث عنها، رغم أنه اعتُبر حامل السلطة وقائد الدولة والمجتمع، واكتفى بالنظر إليها عن بعد، شأن بقية السوريين دون أن يشارك في أي قرار من قراراتها أو حدث من أحداثها. وغادر معظم أعضاء اللجنتين القطرية والقومية، وعديد من الوزراء دمشق إلى حمص بصحبة أسرهم وعدد كبير من المسؤولين المدنيين، ثم غادروها إلى حلب، بعد إذاعة بيان إسقاط القنيطرة، الذي حمل اسم الأسد، وأقنعهم بقرب سقوط دمشق، لأنه يبدو أن قوات إسرائيل لا تواجه أي مقاومة.

   ـ غيّبَ الأسد الحزب والحكومة خلال الحرب، في إشارة إلى مكان مركز القرار في النظام، ورسالة تبين علاقات وموازين القوى بين أطرافه، وتؤكد تبعية السياسي للعسكري وما بلغته سطوة الأخير من استفحال، رغم تدثره الظاهري برداء حزب فضح تهميشه وتنكيل العسكر بقادته، بمن فيهم عفلق، هشاشة دوره ووهميته، وأظهر ما بين أعضائه وقيادته من افتراق، وكم هي واضحة عليه بصمات المؤسسة العسكرية، التي أعادت تأسيسه من القاعدة إلى القمة. وأخيراً، كم فشلت قيادته التاريخية، العفلقية، في استعادة دوره المستقل، ناهيك عن بناء تنظيم منفصل عن “اللجنة”، أو ملزم بخيارات ومواقف ترفضها المؤسسة العسكرية، لكونها تعتبره مجرد ستارة أيديولوجية محدودة القيمة بذاتها، كبيرة القيّمة بالنسبة لتعزيز سيطرتها على الحياة العامة، التي تأكد المدى الذي بلغته عندما رفض قرارات الموتمر القطري الرابع الاستثنائي، الذي تبنى موقفاً شبه جماعي منه، فقرر الانقلاب عليه، وأمر شرطته العسكرية باعتقال قيادته، بينما لم تجد أغلبيته الشرعية من يتعاطف معها أو يدافع عنها في الجيش، وبعد يوم الانقلاب الأول في الحزب أيضاً، ولو من قبيل الاحتجاج على تنفيذ الانقلاب “باسم قواعد الحزب في الوطن العربي بشكل عام، وفي القطر السوري بشكلٍ خاص”(87).

   ـ أظهر الانقلاب كم كان الجيش موحداً ومصمماً على كسر أي مقاومة يبديها أي طرف حزبي أو شعبي، وكم كان الحزب، بالمقابل، مخترقاً أمنياً ومفككاً تنظيمياً، وفاقداً القدرة على الحركة والرد، وحائراً بين رفض الانقلاب والانحياز إلى المرجعية السياسية، التي يتعاطف معها، لكنها ضعيفة، ويرجح أن يقوض انتصارها على المؤسسة العسكرية النظام برمته، ويحول افتقارها إلى قوة دون المحافظة على وحدة الجيش، لذلك، لم يكن تضامنه مع قيادته حلاً مقبولاً، ليس فقط لأن فشل الانقلاب مستبعد، وحاجته إلى البعث كغطاء ايديولوجي/سياسي مؤكدة، بعد أن ينفرد الانقلابيون بالشأن العام، وتنتهي فترة الصراع مع تيار “صلاح جديد”، ويبسطوا سيطرة دولتهم العميقة عليه أيضاً، فإن قاومها كسرت مقاومته، وقامت بدوره أجهزتها التي تبين خلال الأعوام والأشهر السابقة أنها الحزب الوحيد الفاعل والمنظم حقاً في سورية، وأن البعث ملحق وظيفياً بها، وسيتكيف بسرعة مع الانقلاب الذي تسانده. بكلام آخر: كان انتصار صلاح جديد يهدد الجيش والنظام، بينما يحفظهما انتصار حافظ الأسد .

   ــ وكان البعث قد أحرز تقدماً تنظيماً نسبياً قبل الوحدة بين مصر وسوريا، لكنه تشظى وتلاشى خلالها، وافترقت بعد انهيارها مواقف قياداته حيال وحدة العرب كمبدأ استراتيجي، وليس فقط تجاه الوحدة السورية/المصرية. وحين ساند الحوارني والبيطار فصل سورية عن مصر، تأكد أن وحدوية البعث غدت شأناً ثانوياً لن يملي مواقفه من الانفصال فصاعداً. ثم، ما أن استولى ضباط “اللجنة” على السلطة وطيفوا الجيش، حتى تماهى المجالان العسكري والسياسي، وبدأ الأول منهما يصبح نقطة الثقل التي تعين ما يدور في الثاني، الذي تحولت قيادته الجديدة إلى مجرد متعاون مع دولتهم العميقة وتابعْ لها، منذ تولى القائد العام للجيش والقوات المسلحة منصب أمين البعث العام، وكلف أجهزته السرية باختيار أعضاء القيادة القطرية، والإشراف على عمل البعثيين اليومي، وطبعه بطابع أمني حزبي المظهر، يجعل عودة البعث إلى هويته الأصلية ضرباً من الاستحالة، ويُمعن في تغوله الطائفي، ورعاية وتنمية عصبيته الإصنافية، التي تجافي الطابع الطوعي لأي حزب، وتقطع بصورة نهائية مع أي نزوع داخلي قد ينشأ في البعث نحو حياة سياسية وتنظيمية مفتوحة، وقائمة على الندية والتفاعل الحر والإيجابي بين الأعضاء وبيئتهم المجتمعية. ومن عايش مسيرة الحزب ولو من بعيد، بعد انقلاب عام ١٩٧٠، سيلاحظ دون عناء أنه لم يقم بأي نشاط مما تقوم به الأحزاب عادة، كتبني بعض القضايا والدفاع عنها لدى أهل السلطة، والتواصل مع الجمهور للاستماع إلى مطالبه، والحوار معه حول بعض المسائل التي تهمه، وفتح أبوابه أمام المواطنين والتفاعل مع شكاواهم… الخ. باختصار، صحيح أن البعث ضم عام ٢٠١١ حوالي مليونين ونصف من السوريين إناثاً وذكوراً، إلا أن من دخلوا إليه خرجوا في واقع الأمر من السياسة. عطل الجيش البعث كحزب، وبدل هويته من تجمع طوعي لأفراد يعملون لتحقيق أهداف مشتركة تحظى بموافقتهم، إلى جسد ضخم مترهل ودون عمل، وعوض أن يرفع قبضة أجهزته عنه، ليكون له دوراً في حياة السوريين، عامله بازدراء، واعتبره عبئاً يثقل كاهله، لا بد من مراقبته ما دام يعمل في الحقل السياسي والشأن العام، والإشراف عليه كي لا تظهر فيه انحيازات إلى الشعب، وانشقاقات يمليها تعاطف أعضاء منه مع قضاياه، ويبقى ارتباطه بالدولة العميقة مصدر رزق مئات الآلاف من كوادره وأعضائه، الذين يفهمون حزبيتهم من خلال انتمائهم إليها وعملهم فيها .

الصراع الأخير على السلطة:

   ـ لكن أكثر ارتدادات هزيمة حزيران السورية أهمية كان بلا شك الصراع الحاسم على السلطة، الذي خاضه اللواءان “صلاح جديد” و”حافظ الأسد”: قامتا اللجنة العسكرية الكبيرتان، اللتان نجتا من صراعات وتصفيات ومؤامرات شاركتا فيها، واستقطبا قطاعان كبيران من الضباط والحزبيين، مع ميل لدى العسكر إلى “الأسد”، والحزبيين إلى “جديد”.

   ـ وكانت أحداث عديدة ترشح الخطين والرجلين لصراع نهائي بقيت بداياته تحت رماد توقعات تؤكدها حادثة وتنفيها أخرى، في حين كان الرأي العام السوري يقرأ ما يتراكم أمام عينيه، أو يصل بغموض إلى مسامعه من تفاصيل المحاولة الانقلابية القادمة، كالقرار الذي أصدره الأسد عام ١٩٦٦ استجابة لقرار حول إبعاد الجيش عن السياسة، وطبقه لصالحه، بأن “منع ضباطه من الاتصال بالقيادة المدنية، وأمر بمنع إقامة أي علاقة بين هذه القيادة وأجهزة الدولة وبين فروع الحزب في الجيش، وحظر توزيع منشورات القيادة القطرية داخل القوات المسلح، وقاطع اجتماعاتها، وكان قد أخرج الجيش الشعبي قبل ذلك من سيطرة الحزب، ووضعه تحت أمرة قيادة الجيش، وأعاد إلى الخدمة ضباطاً طالهم التطهير من طيارين وتقنيين ومهندسين، وأصدر من جديد أمراً بحظر الأنشطة الحزبية داخل الجيش”(88)، كما منع ضباط التوجيه المعنوي من نقل وجهات نظر الحزب إلى وحدات الجيش المقاتلة بحجة أن تدريباتها لا تترك لها الوقت الكافي للاستماع إلى الرفاق المدنيين. هذا القرار أوحى في حينه أن وراء الأكمة ما وراءها، وأن انشطار الجيش بين الرجلين صار أمراً واقعاً ويزدادُ تجذراً، بينما انتشرت أنباء وشائعات حول الإعداد للمعركة الحاسمة بينهما، ووصلت إلى رأي عام متوجس، كان قد ألف صراعات وانقلابات “اللجنة”، التي يقول الدكتور منيف الرزاز: “إن غياب القاعدة الفكرية التي يقوم عليها الحزب أحل لديها الروابط التخلفية محل الروابط العقائدية، وإذا بكل الأمراض التي جاء الحزب للقضاء عليها في المجتمع المتخلف تنبتُ وتُزدهر، فمن الولاء الشخصي إلى التبعية الإقطاعية إلى الرباط العشائري، كل ذلك صار الرابطة الأهم في الحزب”(89)، ولو أضاف الرابطة الطائفية لأصاب كبد الحقيقة.

   ـ بعد هزيمة حزيران، صارت التخمينات وقائع دامغة، فقد سرت أخبار تقول إن عدداً يقارب العشرين ضابطاً دعوا إلى عزل الأسد من وزارة للدفاع، ومحاكمته بسبب مسؤوليته عن تدمير الجيش وتسليم الجولان والقنيطرة دون معركة. وقد قيل إن أعضاء القيادة القطرية للحزب انقسموا إلى فريقين متساويين، وأن حسم الموقف توقف على صلاح جديد، الذي لو أيد الضباط لكان غريمه اعتقل وحوكم، أو لانفجر الوضع العسكري للجيش المهزوم، كما كان سيحدث بعد رفض الأسد وكتلته العسكرية الكبيرة للقرار. لكن صلاح جديد جنّب النظام ما كان ينتظره، عندما قال إن الوضع بمجمله مسؤول عن الهزيمة، ومن غير الانصاف الصاقها بفرد مهما كان موقعه، ومنح صوته للأسد، الذي رأى في ما جرى إنذاراً شخصياً وسياسياً، فكثف عمله لتنظيم قواه في الجيش، وتعهد أن لا يدفعه إلى مجازفة عسكرية مع إسرائيل تهدد سيطرته على النظام(90). منذ ذلك التاريخ، أخذ الأسد يرعى فئوية الضباط وطائفيتهم، ويعزز اقتناعهم بضرورة سيطرة المؤسسة العسكرية ودولتها العميقة على حزب البعث والحياة السياسية والمجتمع عموماً، وفصلها عن تيار الحزب المدني الذي قاده اللواء “صلاح جديد”، واعتبار قادتها جهة حاكمة يمكنها أن تقبض بمفردها على السلطة وتدير الشأن العام، وتبني نظاماً يعيد إنتاج المجتمع بما يتفق ومصالحها كاملّة سياسية خاصة تمارس سلطة مركزية ينبثق الشأن العام منها، وتمسك بحقل سياسي لا مكان فيه للمجتمع كهيئة عامة لمواطنين أحرار، تخترقه دولتها العميقة بفرعيها المتداخلين: الجيشي والمخابراتي، وتعيد تشكيل الحياة العامة، ويشرعن ممارساتها نظام تضبطه، وتنظّم علاقاته بالسوريين مدونة إجرائية تتكون من قوانين استثنائيه، تقوم في موازاة الدستور والقانون، وتعطلهما في كل ما يتعلق بأمن السلطة وأوضاع الخاضعين لها.

   ـ تذكّرَ الجيش، في حمأة الاستعداد لحسم الصرع مع “جديد”، أن الأسد أنقذه خلال حرب حزيران، ومنح ضباطه المهزومين مكافآت مالية تعادل ثلاثة أشهر من رواتبهم، ورفض إجراء تحقيقات عسكرية حول أدوارهم في الحرب، وحماهم من “اللواء جديد”، الذي تولى منصب أمين الحزب القطري المساعد عام ١٩٦٥، وشرع يعيد هيكلة البعث ليجعل منه سلطة بديلة للمؤسسة العسكرية ومعادية لها، تمتلك تنظيماً عسكرياً خاصاً بها هو جهازه المسلح والمتراتب، والخاضع لنظام إمرته مما يُخضع له الجيش، ولئن كان يضم مدنيين يقودهم ضباط محترفون، فإنه سيكون مؤهلاً للقيام بأعمال “فدائية ” في الجولان، لكن هدفه هو أن يكون قوة قادرة على تحييد الجيش وإرغامه على الرضوخ لقيادتها، بعددها الذي يضم مئات الآلاف من المسلحين المنتشرين بكثافة في كل مكان.

   ـ ومع أن أعضاء الحزب لم يقوموا بأي نشاط مسلح، فإن معظمهم أخضعوا فعلاً لتدريبات قتالية، رأى الأسد وأغلبية ضباط الجيش فيها “ازدواجية عسكرية” وخطراً يهدد مؤسستهم، التي قرر “جديد” توريطها في “حرب تحرير شعبية”، ليست مؤهلة لخوضها، وليس خوضها من وظائفها، و ستكون نتائجها كارثية عليها.

   ـ وكان الأسد قد أمر، حين كان قائد مطار المزة العسكري، بتأسيس شعبة مخابرات تابعة للقوى الجوية، أخضعها لإمرته واستخدمها ضد خصومه خارج وداخل البعث، وأرسل بواسطتها رسائل سياسية داخلية وخارجية، كالاعتقالات التي طالت الشيوعيين قبل عام من استيلائه على السلطة سنة ١٩٧٠، وقتل خلالها شيوعي من آل بجبوج تحت التعذيب، وتزامنت مع اكتمال استعداداته للانقلاب العسكري، واعتبرت عموماً رسائل موجهة إلى واشنطن، تولت إيصالها شعبة المخابرات العسكرية التابعة له كقائد للجيش، الذي طهرته من جميع خصومه على وجه التقريب في الفترة بين عامي ١٩٦٨ و١٩٧٠، وضغطت بقوة على مدربي كتائب الحزب المسلحة، الذي تعاون معظمهم معها، بينما تولت مخابرات القوى الجوية اختراق الحزب ومراقبته وملاحقة خصوم “الجيش” فيه، ومن شكت في ولائهم له، ورسمت صورة دقيقة لقوام البعث الداخلي، ولمراكزه العصبية والقيادية، في الوقت الذي كثفت فيه دعوة الشبان العلويين الى الالتحاق بالدولة العميقة، وخاصة بسرايا الدفاع منها، الخاضعة لأمرة رفعت شقيق حافظ الأسد، لزيادة عديد الجيش والقوات الموالية له، ونشر وحداتها في شتى مناطق سورية.

   ـ  كانت الفترة ما بين ٢٣ شباط عام ١٩٦٦ وآخر شهر آب من عام ١٩٦٩ مرحلة فرز وتعبئة للقوى، التي ستتصارع على نمط نظام وصلت تفاصيل خلاف اللواءين حوله إلى الرأي العام، وحُسم لصالح الأسد منذ آب من ١٩٦٩، بعد أن انقضَّت مخابراته على الجهاز العصبي للواء جديد، كما تمثل في صحيفتي البعث، التابعة للحزب، والثورة، الناطقة باسم الحكومة، واحتلتهما وطردت رئيسي تحريرهما، واحتلت مكاتب الفروع الحزبية في بعض المناطق الموالية لجديد في اللاذقية وطرطوس، حيث الوزن العلوي كبير سكانياً وحزبياً، بينما احتلت مدرعات “سرايا الدفاع” مبنى الإذاعة والتلفاز، الواقع على بعد مائة متر من وزارة الدفاع والأركان العامة(91)، ليفاجأ السوريون بها كتشكيل عسكري محض طائفي، عُلم فيما بعد أنه ليس تابعاً لوزارة الدفاع، بل يأتمر بأمر حافظ الأسد شخصياً، الذي “أراد تعديل مواقف النظام باتجاه أكثر واقعية، وأدرك الحاجة إلى مسار جديد أكثر اتساقاً مع الامكانات التي ينطوي عليها الواقع الموضوعي”(92)، والتكيف مع ما تتطلبه هزيمة حزيران داخلياً وعربياً ودولياً. فيما بعد، اعتبر كثيرون أن انقلاب ١٦ تشرين الثاني عام ١٩٧٠، الذي حسم الصراع بين التيارين، ووضع مقاليد الأمور بيد الأسد، وقع في شهر آب عام ١٩٦٩، بما أن احتلال الاذاعة كان على الدوام فعلاً رمزياً يؤكد هوية المنتصر في أي صراع داخلي بين عسكر سورية .

   ـ في الفترة بين أيلول عام ١٩٦٨ وتشرين ثاني من عام ١٩٧٠ عُقد مؤتمران حزبيان لعب فشلهما في تسوية الأزمة الداخلية دوراً حاسماً في وقوع انقلاب ١٩٧٠، الذي قام به الجيش، ذلك أن المؤتمر الأول، القطري الرابع، انتهى بهزيمة واضحة للأسد، وبسيطرة اللواء جديد على القيادة القطرية الجديدة، التي ضمت موالين له، عدا حافظ الأسد ومصطفي طلاس عن الجيش. بعد المؤتمر أعلن الاسد “أنه لا يعترف بهذه القيادة السياسية”(93) وعلق بطاطو على ذلك في الصفحة نفسها من كتابه، بالقول: بذلك بدأت ازدواجية السلطة. في المؤتمر القومي الاستثنائي العاشر، الذي عقد بين نهاية تشرين الأول والثاني عشر من تشرين الثاني، وانتهى بإقالة الأسد من الجيش، “انتقد صلاح جديد امتيازات العسكريين وخروجهم عن خط الحزب، والالتزام بالقيادة القطرية، فكرر الأسد ما كان قد أورده في تقرير قدمه إلى المؤتمر القطري السادس، وهو: أنه منذ تسلم الحزب السلطة في سورية عام ١٩٦٣ مارست القيادة المدنية الوصاية على الشعب، وزرعت الشقاق بين أعضاء الحزب، ودعا إلى التعاون مع القوى والعناصر القومية وحماية المواطنين من تصرفات الاستخبارات، وإعادة الضباط الذين فصلوا من القوات المسلحة”(94)، ثم “جمع خمسمائة ضابط وأبلغهم أنه أقدم عضو عامل في الحزب، وأنهم هم الذين يقررون ويحسمون الأمور وليس المجتمعون أعضاء المؤتمر، وأن الجيش هو الذي جاء بهم وهو الذي يعرف كيف يتعامل معهم”(95).

   ـ كانت تعبئة القوى الضرورية لحسم الصراع قد غدت علنية، وكان الأسد قد أخذ يتصرف منذ بعض الوقت كجهة موازية للحكومة والحزب، ويستقبل زوار سورية العرب والأجانب في مكتبه، ويقيم اتصالات مستقلة مع الخارج، بما في ذلك بعث العراق وأنظمة الخليج، في حين كانت اتصالاته الداخلية يومية مع المؤسستين الدينية والتجارية، المصنفتان حزبياً كمعاديتين للثورة. كما فتح أبواب مكتبه أمام الراغبين بزيارته والاستماع إليه، وأصدر عبر “إدارة التوجيه المعنوي” في الجيش إعلانات رسمية عن أنشطته ومواقفه ولقاءاته، وعمم رؤيته التي تشي برغبته في إقامة علاقات دولية متوازنة مع واشنطن، ورفضه المزيد من ربط سورية بالاتحاد السوفياتي، كما يريد تيار صلاح جديد، لامتناعه عن تزويد الجيش بأسلحة هجومية تكفي لتحرير الجولان، وتفادي غضب أميركا وعدائها، الذي تترجمه واشنطن إلى ضغوط تمنع الخليج من دعم الجيش في استعادة الجولان المحتل، وردع إسرائيل بحيث تقبل أن يكون السلام مقابل انسحابها منه ممكناً .

   ـ أنجز الأسد انقلابه وهو يعلن: “إن النظام لا يمكن أن يعالج صعوباته إلا بالتحول نحو سياسة تسويات على الجبهتين الإقليمية والمحلية، تفضي إلى خفض حدة الصراع الحضري – الريفي والتصالح مع الطبقات الوسطى”(96)، وتطبّع علاقات سورية مع بلدان الخليج، وتقييّد حق منظمة التحرير بالعمل من سورية، والتراجع عن القطيعة غير المعلنة مع مصر، والتقارب مع الأوساط المالكة والدينية في الداخل. ورأى أن سورية لن تخرج من هزيمتها دون التعاون مع العالم العربي، بدءاً ببعث العراق وصولاً إلى المملكة العربية السعودية، فإن تخلت عن تعاونها معهما، وفقدت دورهما في حمايتها وتزويدها بما تحتاج إليه من أموال لشراء السلاح، بددت قواها في تناقضات وصراعات رسمية وحزبية تنهكها، كتلك القائمة بينها وبين العراق، أو غامرت بمصيرها من أجل منظمة التحرير، التي تقوم بعمليات فاشلة ضد اسرائيل ترد عليها كل مرة باستهداف الجيش السوري، بينما يجب أن تلزم معركة التحرير ضد العدو الخارجي والاحتلال نظام دمشق بإقامة اوسع وحدة وطنية ممكنة، لا مكان فيها لأعداء داخليين أو عرب.

   ـ كان تيار “صلاح جديد” يدرج الأوضاع في منظور مختلف، يقوم على التحالف مع الدول العربية التقدمية، والصراع مع الرأسمالية العالمية، شريك إسرائيل في العدوان على سورية والعرب، وعدو الثورة العربية، الذي يفضي التراخي حياله وحيال حلفائه الداخليين إلى تحقيق أهداف العدوان، ويحبط جهود تحرير الأرض السورية والعربية المحتلة، ودعم القضية الفلسطينية ومنظمة التحرير، وتعبئة طاقات شعبية وثورية ووطنية في سورية والبلدان العربية والعالم، من شأن تعبئتها تقديم دعم جدي لمعركة التحرير الوطني، ومن الضروري الارتباط بها لإرغام طبقات المجتمع الأخرى على السير في ركاب المشروع الثوري، والانضمام إلى معركته، وانتزاع قيادته من الايدي المعادية، ووضع حد لتساهل الثورة مع الطبقات التي ستنقض عليها في أول فرصة يصيبها فيها الضعف، أو تواجه أزمة جدية. أخيراً، اذا كانت الهزيمة قد عرّت وكشفت ما في المجتمع والدولة من عيوب ونقاط ضعف واحتجازات عصية على التجاوز، فإن الرد الناجع على الأعداء والاحتلال يجب أن يبدأ بإزالتها، وإبعاد من تسببوا بها عن مركز القرار ومؤسساته، وخاصة في الجيش.

   ـ بينما كان اللواء صلاح جديد يراهن على حزب في طور التأسيس، للجيش نفوذ واسع فيه، كان الأسد قد تصالح منذ عام ١٩٦٤ مع تيار محمد عمران، القوي والمسيطر على المكتب العسكري، وأغلق الجيش في وجه القيادة الحزبية الموالية لغريمه، وشكل وحدات عسكرية كاملة على أسس طائفية وعشائرية وعائلية، كما يقول حنا بطاطو، دون أن يتخلى، في الوقت نفسه، عن العمل للسيطرة على الحزب المدني. بينما يلفت الدكتور منيف الرزاز الأنظار إلى ما أسماه “خطيئة كبرى ارتكبتها القيادة قبل عام ١٩٦٦، وأودت بالحزب، وهي إشراك التنظيم العسكري في قيادة الحزب، التي منحتهم كل حقوق قيادته والإشراف على تنظيمه المدني، دون أن تمنح القيادة المختلطة حق الإشراف على التنظيم العسكري، الذي ظل مغلقاً إغلاقاً تاماً على قيادة الحزب، وتابع للقيادة العسكرية لا يحق حتى للأمين العام التدخل فيه”(97)، ويضيف في الصفحة التالية من كتاب التجربة المرة واقعة يبدو أنها لعبت الدور الرئيس في نجاح الانقلاب السهل الذي حققه الأسد بالهاتف تقريباً، فيلاحظ: “أن نصف أعضاء اللجنة العسكرية اشترك في قيادات الحزب القومية والقطرية، لا للنظر في قضايا التنظيم العسكري فحسب، بل للنظر في كل القضايا المعروضة على الحكم، أو على الحزب، فتُناقش بحرية وتصل إلى قرار يصبح إلزامياً لكل عضو في اللجنة مهما يكن رأيه. معنى ذلك أن العسكريين كانوا يعملون داخل الحزب ككتلة متساندة ملتزمة، وأن الحزب كان في الحقيقة حزبان”(98).

   ـ بالغلبة التي أحرزها، رد الأسد يوم العاشر من تشرين الثاني استباقياً على غريمه بالاجتماع العسكري الموسع سابق الذكر، الذي ضم خمسمائة ضابط كبير، وحين أعفاه المؤتمر القومي العاشر الاستثنائي من منصبه صبيحة يوم ١٣ تشرين الثاني، اعتقلت مخابراته اللواء “صلاح جديد” وقادة الحزب، عدا من نجح في مغادرة سوريا، كالراحل إبراهيم ماخوس وزير الخارجية، الذي ذهب إلى الجزائر وبقي فيها إلى أن وافته المنية.

   ـ هل فاتت هذه الحقائق المتصلة بميزان القوى اللواء صلاح جديد، الذي يشيد الدكتور الرزاز “بقدرته العجيبة على خلق تحالفات مع أعدائه ومعارضيه، ثم نفض يده منها، إذا انقضت فوائدها، وإضفاء صفة عقائدية على كل ما يقوم به”(99)، ويشهد له بطاطو كواقعي كان يعتبر الأيديولوجيا مجرد سلاح آخر في السعي إلى السلطة والاحتفاظ بها”(100)، أم أنه كان يعتقد أن علاقة العسكر بالحزب تغيرت بعد أن تولى عام ١٩٦٥ منصب الأمين القطري المساعد، وألحق به أجهزة الدولة جميعها، بما في ذلك جيشها ورئاستها؟.

   ـ بينما كان الأسد يطبق خطة وسعت وعززت أجهزة الدولة العميقة: العسكرية والمخابراتية، وأمعنت في علونتها وتحويلها إلى أخويات طائفية مغلقة وإقصائية، استخدمها بعد الانقلاب لاحتواء وإخماد الحياة السياسية والحزبية، وللتحكم بما هو قائم أو افتراضي منها، كان صلاح جديد يراهن على ما طرحه قادة اليمن الجنوبي وبعض ماركسيي فلسطين حول تحويل جهاز حزبي برجوازي صغير إلى بروليتاريا بالانتماء الفكري والدور السياسي، تعويضاً عن النقص في البروليتاريا كطبقة اجتماعية تحمل مشروعاً ثورياً. وكان ينخرط في مغامرة “ثورية” لا أفق لها، حال انقلاب الأسد دون اكتمالها، وتبين لاحقاً فشلها في اليمن الجنوبي ولدى الأحزاب اليسارية والماركسية الفلسطينية. وقد كان من المؤكد لأي عارف بموازين القوى أن خط ورهان اللواء “جديد” سيُهزم، في ظل ما شهدته فترة السبعينيات من تحول سياسي غطى معظم المجال العربي، ووقع التخلص خلاله من بقايا الحقبة التي صعدت بصعود الناصرية، في مختلف البلدان: من السودان جنوباً إلى سوريا والعراق مروراً بمصر والأردن، وانضوت تطوراته في سياقين رئيسين، يشبهان ما طالب الأسد به واعتبره هدف انقلابه: التكيف مع العجز عن تحرير الأرض المحتلة، والعمل للي ذراع إسرائيل عبر تنازلات تقدم لواشنطن، الجهة الوحيدة القادرة على ممارسة ضغوط جدية عليها، من جهة، وإجراء مصالحات داخلية مع الفئات التقليدية والمحافظة: الدينية والتجارية بالدرجة الأولى، وإن منحتها دوراً محدوداً ضمن حياة عامة تحكم الدولة العميقة سيطرتها عليها، من جهة مقابلة.

   ـ انضوى صراع التيارين في إطار الجواب على سؤال ما العمل، الذي طرحته الهزيمة، وتباين ردهما عليه إلى درجة التناقض بين نظرتين تتصلان بواقع الدولة والمجتمع والنظام، وبلور أنصارهما مشروعين مختلفين ضمن أمر قائم اتسم بازدواجية سلطته، وكان كل يوم يمر يؤكد حتمية حسم الخلاف بينهما، واستحالة تعايشهما دون حلول وسط استبعدها الطرفان، فذهبت علاقاتهما إلى صراع خالطته عوامل شخصية وداخلية وعربية ودولية، تعين أخيراً بقوة الجيش، الطرف الذي لم يتوقف يوماً عن إحكام قبضته على سورية، وهو ما كان اللواء جديد، الذي قاد الجانب العسكري بين عامي ١٩٦٣ـ ١٩٦٨، وكان يعرف البئر وغطاءه، ويعلم أن الأسد تحالف مع كتلة عمران المؤثرة منذ عام ١٩٦٤، ولم يتوقف عن ترتيب أوضاع الجيش خلال العامين السابقين لانقلابه، واجه بفاسدي الجيش ومهزوميه طهرانية اللواء جديد، وأوهامه الثورية والاشتراكية، وواجه جديد بحزب هزمه عسكره في جميع المعارك التي خاضوها ضده، بدءاً بمؤسسيه ميشيل عفلق وصلاح الدين البيطار وحزبه، الذي قضوا عليه تماما؟.

   ـ هناك نقطة لعبت دوراً حاسماً في المواقف العربية والدولية من طرفي الصراع، هي موقفهما من التسوية السياسية وتطبيق القرار الدولي رقم ٢٤٢. كان تيار “صلاح جديد” يعارض التسوية، ويعطي الأولوية للبناء الذاتي الذي سيغير شروطها ويجعلها متوازنة وقابلة للتطبيق بشروط مقبولة، لذلك وجد نفسه معزولاً عربياً ودولياً، وإلى حدٍ بعيد داخلياً. بينما أعلن حافظ الأسد قبوله القرار ٢٤٢، وتواصل بانتظام مع القوى الدولية والعربية المؤيدة له، وحصل على دعم مالي منها، كما تواصل مع السوفيات، الذين حسموا موقفهم من صراع الطرفين في ضوء موقفيهما من مسألة غدا القبول بها جزءاً من تقارب الانقلابيين مع رجال الدين والتجار والخليج، وتطبيع الأجواء مع الولايات المتحدة الأميركية، وقبول إسرائيل ككيان طبيعي في المنطقة العربية، مع ما رتبه ذلك على سورية من مواقف لطالما وصفها البعث بـ”تفريطية وخيانية”، وفَرَّ ثوريوه منها إلى خيارات نقلت المعركة إلى اليسار، ورأتها في استكمال النهج التأميمي، والحزم تجاه الطبقات والفئات “الرجعية”، والدول “الإصلاحية” كمصر الناصرية عربياً، والعدوة كواشنطن وإسرائيل دولياً، واعتبرها صلاح الدين البيطار في مقالات كتبها لجريدتي البعث والأحرار “اشتراكية بوليسية”(101). بما أن السوفييت كانوا يربطون نتائج المعركة الدائرة بثبات الموقف العربي ووحدته، وعدم السماح بانهياره تحت وطأة ضغوط إسرائيل محلياً وأميركا دولياً، وبتحييد ارتدادات الصراع، التي يمكن أن تضعف مواقعهم في توازن دولي غير متعادل ساد المنطقة بعد هزيمتهم في حزيران، ومال أكثر فأكثر لصالح واشنطن، وبما أنهم كانوا يعتقدون أن سورية تفتقر إلى القدرة على رد العدوان وتحرير الأرض، فقد تبنوا خط حافظ الأسد: التجميعي داخلياً، التصالحي عربياً، المعتدل والتسووي دولياً، الذي يجنبهم التورط في مشكلات هم في غنى عنها، ويتيح لهم إعادة بناء الجيش السوري في حاضنة ملائمة نسبياً، مدعومة عربياً ومقبولة دولياً، يقيهم نجاحهم فيها مزيداً من الخسارة في منطقة مفصلية الأهمية، حولت هزيمة أصدقائهم وحلفائهم إلى هزيمة لهم أيضاً، وانتصار لهجوم أميركي غطى القارات الثلاث، ونجح في إثارة صراع صيني ضدهم في فيتنام والعالم، وقوض مراكز رئيسة في حركة الحياد الايجابي وعدم الانحياز، الصديقة لهم، وسدد ضربة ساحقة للمشروع القومي والتقدمي العربي، بما تخللته من مفردات قريبة ايديولوجياً وسياسياً من مفرداتهم .

   ـ وقفت موسكو مع الأسد. وتداولت دمشق معلومات تقول إن اجتماعاً عقد يوم ١٢ تشرين الثاني بين السفير السوفييتي نور الدين محي الدينوف وحافظ الأسد في فندق مطار دمشق الدولي، حضره خالد بكداش، تقرر خلاله حسم الصراع في حال أصر صلاح جديد على موقفه من القرار ٢٤٢، بينما عقد صبيحة اليوم التالي اجتماع في بيت رئيس مجلس الوزراء الدكتور يوسف زعين لتحديد موقف الأمين القطري المساعد من التسوية، وحين علم السوفيات بميل الاجتماع إلى رفضها، أعطوا الضوء الأخضر للانقلاب، فاعتقلت شرطة الأسد العسكرية من كانوا في المنزل.

   ـ سيكرس صاحب الانقلاب وقته وأجهزته، من الآن فصاعداً، لتشويه سمعة “صلاح جديد”، واتهامه بانه صاحب عقلية “متسلطة مناورة”، ومسؤول عن سقوط الجولان ومنع الجيش من الدفاع عن الهضبة، بوابة فلسطين، لأسباب منها عمالته لبريطانيا، التي أكدها خبر نشرته موسكو على لسان كيم فيليبي، الجاسوس البريطاني الأشهر، الذي فر إلى الاتحاد السوفياتي، وقال إن “جديد” كان على علاقة بالمخابرات البريطانية ربما يكون هذا رد الأسد على تهمة شاعت تقول إنه حل ضيفا على وزير المستعمرات البريطاني عام ١٩٦٣، خلال زيارة وفد سوري إلى بريطانيا، مع أنه كان ضابطاً صغيرا برتبة رائد، ومجرد قائد لمطار المزة العسكري، بينما أعلن عبد الكريم الجندي: أحد كبار مسؤولي المخابرات عشية انتحاره تحت وطأة تهديدات هاتفية تلقاها من رفعت الأسد، قبيل تنفيذ الانقلاب، في وثيقة نشرتها جريدة النهار في بيروت: “إن التحرك الأخير لرفيقنا حافظ الأسد وزمرته يهدد كيان الشعب ويهدم منجزاته وينسف أسسه، فهو كـ”نيرون” سيدمر القضية ويدمر نفسه، لأنه مغرور، مرتبط ومشبوه، ينفذ بدقة مخططات الاعداء من كل الاصناف”(102).

   ـ اخترق صراع التيارين عام ١٩٦٨ بأكمله، وتلازم مع انقلاب البعث في العراق وقيام علاقات بين الأسد وبينه رأى تيار “جديد” فيها خروجاً على موقف الحزب وقيادته، ومع إقامة علاقات بين وزير الدفاع السوري وبلدان الخليج، فاقمت بدورها صراع الحزب والجيش، بعد فوز تيار “جديد” بأغلبية كبيرة في مؤتمر حزبي عقد خلال شهر أيلول عام ١٩٦٨، لكن الأسد رفض قراراته وفصل نفسه عن قيادة الحزب، وانصرف لإعداد انقلابه، و”إحكام سيطرته على القوات المسلحة، بفصل جهاز الحزب العسكري عن قيادته المدنية، ومنع اعضاء القيادة القطرية، أو مسؤولي الحزب المدنيين من زيارة أقسام تنظيم الحزب العسكري، أو القيام باتصالات مباشرة مع قطاعاته، كما منع ضباط الجيش من إجراء أية اتصالات مباشرة مع أعضاء الحزب المدنيين، إلا عن طريق القنوات الرسمية لقيادة التنظيم العسكري. من جانبها، منعت المخابرات العسكرية توزيع نشرات القيادة القطرية في الجيش، ووقع نقل بعض ضباط “صلاح جديد” إلى مناصب متدنية الأهمية في القوات المسلحة، دون تشاور مع “المكتب العسكري”، الذي يسيطر عليه أنصار “جديد”، وكان في الظروف العادية الجهة التي تتخذ القرارات بشأن التنقلات العسكرية”(103).

   ـ كان لإسقاط الجولان دون حرب أبعاداً شديدة الخطورة على وضع الأسد، الذي بدا لوهلة وكأن الهزيمة اقتلعت ركائزه العسكرية والحزبية من جذورها، وأن مصيره يتوقف على استعادة ما سلمه عام ١٩٦٧ لإسرائيل في حرب قادمة، الأمر الذي يبدو مستحيلاً بسبب ضعف جيشه وروحه المعنوية المنهارة، ولأن الأسد أعطى الأولوية لتجاهل الاحتلال وتمتين سلطته، تحاشيا للارتطام بجيش إسرائيل، الذي يقف على بعد كيلومترات قليلة من دمشق، ويطرح تحدٍ خطير على ضباط أغرار عسكرياً، وطبقة سياسية متهافتة من مصلحتها، كجهة انبثقت لأول مرة من الجيش، ولم تعد تخالط إرادتها تشوهات حزبية ومدنية، وكان عليها أن تأخذ في حسبانها:

   ـ فترة هدوء مديدة تتفرغ خلالها لبناء سلطتها، التي ستعيد بناء الجيش بصفته حاضنة للنظام، وليس جهة تقوم بمغامرات عسكرية، في الجولان وفلسطين، تهدد وجوده، مع العلم بأن هذه المهمة صعبة، بسبب الهزيمة وانهماك الجيش في صراعات سياسية متلاحقة، وطبيعة وظيفته بعد أن انفرد من جديد بالسلطة، وحتمية أن يبقى قوياً ليقبض بيد من حديد على الداخل السوري، ويؤسس نظاماً سلطوياً يعيد إنتاج المجتمع بحيث يُقلع عن أن يمثل أي تحدٍ أو تهديد بالنسبة له، وليواصل صراعه من موقع جديد مع عبد الناصر، الذي أخذ صمت الجبهة السورية يقلقه، ويقنعه أن دور عسكر دمشق ضد مصر لم ينته بعد، وأن الحرب ستبقى مقتصرة على مصر وحدها، وأنها انتهت بالنسبة لنظام سورية، التي تفرغ قادتها لصراعات بلا نهاية على السلطة، يُغلِب الأسد وجديد خلافهما خلالها على التناقض المفترض مع الاحتلال، ويرفضان تسوية نزاعهما رغم ما بذلته القاهرة من جهود، حين زارها وفد ضم الرئيس نور الدين الأتاسي واللواءين جديد والأسد، نجح في تجميد الانقلاب لبعض الوقت، وما أن غيبت الوفاة الرئيس المصري، حتى حسم الأسد الأمر ونفذ انقلابه.

   ـ رفض أي مشاركة شعبية أو حزبية في السلطة خصوصاً، وفي الحقل السياسي عموماً، ومقاومة أي مشروع سياسي أو اجتماعي أو ثقافي له حوامل مجتمعية، وحظر الحريات العامة والفردية، للحؤول دون بلورة مشاريع مُناوئة للسلطوية، وأي نشاط هدفه إقامة نظام تداولي أو برلماني أو متعدد الاحزاب، ووقف سياسات سياسة التنمية بالتأميم، ومصادرة الأملاك، دون التخلي عن الإيحاء بأن دمشق يحكمها النظام الأكثر ثورية واشتراكية في الوطن العربي!.

   ـ أيقن الأسد أن انتصاره على “جديد” يتطلب تبني خيارات لا تستفز أميركا وإسرائيل وبلدان الخليج، وتحظي بتعاطف الأوساط الدينية والتجارية السورية. ودعا غريمه إلى بناء نظام اشتراكي يخوض حرباً شعبية طويلة الأمد ضد الاحتلال وواشنطن والخليج. بالمقابل، دعا الأسد لإقامة نظام سلطوي/شمولي بمرتكزات وحوامل طائفية، يضبط داخله ويحتويه، ويجمد ضغوط الجولان الوطنية عليه، ويربط استعادته بأمن النظام، وبما إذا كانت ستترتب آثار سلبية عليه بالنسبة لسلطته، التي قررت أن يكون انقلابها آخر الانقلابات العسكرية.

   ـ وكان خلاف الأسد وجديد قد بدأ بعد لملمة الأوضاع أمنياً في الأسابيع التالية للهزيمة، وتسبب به قرار حزبي اعتمد “الكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية” سبيلاً إلى تحرير فلسطين، مروراً بالجولان، ودعا لتشكيل فصائل حزبية مسلحة تقوم بمهام ينجزها عادة الجيش، الذي اقنعت هزيمته كثيرين بعدم صلاحيته لخوض حرب تحرر الأرض، واستلهموا خطتهم من انتصارات فيتنام وما اعتقدوا أنها الحرب الشعبية، غير الجيشية الدائرة هناك، ومن النقمة العاصفة التي اجتاحت النفوس بعد ما حقنت به من مبالغات حول حرب حزيران بوصفها حرب الجيشين الأميركي والبريطاني على العرب، وليست حرب جيش إسرائيل، ومن غضب على التقصير السوفياتي في تزويد الجيوش العربية بالسلاح والقتال إلى جنبها أو بدلاً عنها، كما فعل الأميركيون على الطرف المقابل! وقد كان من الطبيعي أن ينعكس هذا في لغة السياسة، التي اكتسبت طابعاً يسارياً متطرفاً، رأى في قادة الجيش أعداء للخط الاشتراكي والثورة، وحصن ثورة مضادة تتربص بالاشتراكية وقواها. فلا عجب أن كان إعلام الحزب يسارياً بدوره، لا تخلو صُحفه من غمز ولمز يومي بالأسد والجيش، الذي كان يعمل بصمت لازدواجية تضع المؤسسة العسكرية والأجهزة، التي تخترق الحزب وتلعب دوراً وازناً فيه، من جهة، والحزب الذي تعزله لغته وخطته الكلامية عن القطاعات الشعبية الواسعة والفئات المالكة والمثقفة، من جهة مقابلة، بينما يزحف الانقلاب التدريجي ليغطي ويحتوي البلاد والعباد، ويصبح جهة تمعن في توسعة حضورها ونفوذها ورعبها في كل مكان، تاركاً للحزب خسارة مواقعه، الضعيفة والمشتتة أصلاً، وفقد مؤيدي خطه.

   ـ وكان تيار “صلاح جديد” قد قدم عرضا بالتعاون مع أحزاب سورية الاشتراكية والقومية، لكن البعث وصفها في إعلامه بكلمات بدا أنها تتنكر لهويتها كأحزاب تاريخية، وتدعوها للتعاون ككيانات تضم أفراداً، وليس كجماعات سياسية نوعية. لذلك تعثرت المفاوضات حول تأسيس كيان تنسيقي يجمعها إلى جانب شخصيات وطنية. بدوره، أشاع الأسد أنه سيعمل على إقامة جبهة وطنية، وسرعان ما قدم ملامح أولى لهيكليتها أغرت الحزب الشيوعي الصديق للسوفيات بالتقارب معه. وزاد من حماسة أمينه العام خالد بكداش للتعاون مع الجيش أن الأسد قبل القرار ٢٤٢ بشأن التسوية السلمية مع إسرائيل كخطوة لا بد منها لبناء نظام جديد، مسالم وتقدمي. بدوره، مال حزب الاتحاد الاشتراكي، الناصري، الى الأسد ومواقفه، التي بدا أنها ستفتح النظام على مشاركة كان غير البعثيين يعتقدون أنها الرد على انفراد البعث بالسلطة، والهزيمة التي أوقعها بسورية، وطالتها جميعها. عزل هذان الموقفان تيار اللواء جديد داخلياً، مثلما عزله التياران الديني والتجاري، لعدم ثقة الحزبين بتقدميته وراضيين عن استئثاره بالسلطة، ورفضه للتسوية بالنسبة للحزب الشيوعي، ولصراعه مع عبد الناصر في نظر الحزب الناصري.

   ـ وقد شجع هذا التحول نحو الأسد، نقده للحزب، الذي تبنى عديداً من وجهات نظر مناوئيه وخصومه، والاعتقاد بأنه سيضعف دوره إن لم يتخلى تماماً عنه، وأنه يقدم وجهات نظر وبرنامجاً يستجيب لما هو مطلوب وطنياً، من أجل الرد على الهزيمة. كان الأسد يربح وجديد يخسر، وزاد من هذه المفارقة أن الأول كان يستخدم قوته بطرق سلمية وغير ملموسة أو منظورة تقريباً، فصدق كثيرون أن الأمر لا يتعلق بانقلاب، بل بحركة حزبية هدفها تصحيح أخطاء لها عائد إيجابي على سورية.

   ـ وسط هذه التجاذبات، وقع حدث كاشف أظهر ميزان القوى بين الأسد وخصومه علي حقيقته، هو القتال الذي جرى في الاردن عام ١٩٧٠بين الجيش الأردني ومنظمة التحرير، واستهدف إخراج فصائلها من الأردن، واعتُبر حلقة في مسلسل الانقلابات اليمينية، التي اجتاحت الساحة العربية، وأطاحت بقواها الرافضة لمعاهدة السلام مع إسرائيل، بما احتوته من شروط أميركية. بقرار رئاسة النظام والحزب مساعدة منظمة التحرير، وممارسة ضغط عسكري على الأردن يرغمه على وقف هجومه، اتخذ قرار بإرسال لواء مدرع إلى درعا، ثم تلقى أوامر بالدخول إلى منطقة إربد الأردنية، حيث اشتبك مع اللواء العاشر المدرع الأردني، وتكبد خسائر. هذا القرار أثار خلافاً حاداً بين تياري القيادة السورية، فأمر الأسد قائد اللواء بالانسحاب من الأردن، ثم سافر إلى درعا للإشراف على تنفيذ قراره، وحين التقى بقائده عنفه بقسوة على مسمع من جنوده وضباطه والمدنيين المتجمهرين حوله. تلك كانت رسالة وصلت إلى العنوان الصحيح في واشنطن وتل أبيب.

   ـ وكانت إسرائيل قد هددت قبل يوم بتدمير اللواء، بينما اقتربت حاملة طائرات أميركية من سواحل فلسطين، واستطلعت طائراتها ميدان القتال بالتنسيق مع طائرات إسرائيل، مما أكسب الحدث المحلي أبعاداً دولية تُضمر نتائج وخيمة بالنسبة للنظام عامة، ولجيشه بصورة خاصة. هذه الواقعة أظهرت بجلاء حجم الافتراق بين الطرفين المتصارعين، والمدى الذي بلغته تحضيرات الانقلاب على قيادة الحزب، وذيوله المحتملة على منظمة التحرير، في آن معاً، مما جعل حركة “فتح” تتوجس خيفة مما يجري، وجعل فلسطينيين عاديين يحذرون بعضهم البعض من الخروج إلى الشوارع بالثياب المرقطة، كي لا يكشفوا هويتهم كفدائيين، وتلاحقهم مخابرات الأسد .

   ـ الحدث الكاشف الثاني الذي سبق الانقلاب كان “احتلال مدرعات تابعة لـ”سرايا الدفاع” الإذاعة والتلفاز في ساحة الأمويين بدمشق، وضربها طوقاً حول دمشق، كما عرف سكان العاصمة فيما بعد، وفهموا أن في سورية جهاز عسكري تابع لحافظ الأسد شخصياً اسمه “سرايا الدفاع”، تبلغ نسبة الضباط وصف الضباط والجنود العلويين تسعة وتسعين بالمائة من ملاكاته وكوادره، وأنه ينتشر في مناطق تشرف على العاصمة وتتحكم بخطوط المواصلات منها وإليها، وبالوحدات العسكرية القريبة منها، ومكلفة كذلك بحراسة المطارات، دون أن تكون تابعة للجيش أو لوزارة الدفاع. هذه الواقعة المباغتة أظهرت كم كان ضخماً ومدروساً جهد الأسد الاستباقي لإقامة ميزان قوى يمكّنه من الاستيلاء على السلطة والانفراد بها، والمدى الذي بلغته غلبته على الحزب وجديد، والجهة التي سيستخدمها كهراوة غليظة ضد خصومه ليس فقط في الحزب، وإنما ضد الجيش أيضاً، إذا ما رفض أوامره. بذلك يكون انقلابه على جديد هو الثاني، أما انقلابه الأول فكان فعلياً على الجيش من خلال بناء جيش خاص به هو السرايا، التي شاهد قادة الجيش مدرعاتها قرب مبني وزارة الدفاع والأركان العامة، وفهموا أنها رسالة لهم أيضاً، وأن من الأفضل لهم تأييد الانقلاب والمشاركة فيه، لأن؛ السرايا “لا تترك لهم خياراً آخر. ومع أن أحداً لم يُفصح رسمياً عن الأسباب المباشرة والحقيقية لإنزال السرايا إلى دمشق واحتلال الاذاعة والتلفاز، فإن الخطوة نفسها كانت تفصح عن مدلولاتها، وتُبين مدى الانتقال في مراكز القوة لصالح الأسد وسراياه، وحجم التبدل في صراعه مع الحزب خلال العامين السابقين للانقلاب، الذي قالت دبابات شقيقه حول التلفاز إنه حُسم استباقياً، لصالح من بنى أيضاً أجهزته الخاصة داخل الدولة القائمة، التي اخترقت كل ما شُيّد وتغلغلت في كل ركن من الدولة والمجتمع. يجزم حنا بطاطو بعد شرح مختصر لفارق الكفاءة بين الأجهزة الأمنية والحزبية” أن الحزب لم يكن يتمتع في عيني الأسد بالأولوية التي تمتعت بها أجهزة الأمن والمخابرات”(104).

   ـ ثمة ظاهرة مهمة لازمت تطور الأزمة الخفي، مثلت بدورها ضرباً من حدث كاشف اتصل بما بلغته أجهزة الأمن من نمو، وطبيعة الدور الرادع الذي قُيض لها أن تلعبه، وبرزت خلاله “شعبة مخابرات القوى الجوية”، التي سبق القول إن الأسد أسسها وربطها بشخصه، و”شعبة المخابرات العسكرية “، التي تحولت إلى شبه جيش قائم بذاته، ونشطت في جميع الاتجاهات، ونفذت خطة وزير الدفاع ضد خصومه، فحيدتهم أول بأول، وحددت مواقعهم في الحزب وعلاقاتهم ببيئاتهم المجتمعية، وسبل التعامل معهم: بكسبهم بالتهديد والوعيد من جهة، وبالامتيازات والأعطيات من جهة مقابلة، أو باختراقهم وتعطيل أدوارهم واعتقالهم، مدنيين كانوا أو عسكريين. خلال الصراع، تولت المخابرات العسكرية ترشيح ضباط الانقلاب من ذوي الرتب الصغيرة والمتوسطة لمناصب جديدة وضعت قدرات الجيش ومصير الانقلاب بين أيديهم .

   ـ في رده على سؤال ما العمل، الذي طرحته الهزيمة على قيادة النظام، قال حافظ الأسد: نبني نظاماً سلطوياً/ أهلياً، ما قبل مدني، يقوده الجيش، بما لديه من طاقات وخبرات متقدمة ومنظمة هو الوحيد الذي يمتلكها في بلاد متأخرة ومجتمع منقسم على نفسه، ضعيف بنيوياً ومبعثر طبقياً، ويحتاج إلى نظام يعيد إنتاجه بما يتفق وحاجته إلى سلطة دائمة، سيكون بين أولى مهامها أخذه إلى وضع سياسي جديد ومتماسك، يؤثر في مجتمعه من موقعه المتقدم ولا يتأثر بتأخره وتخلفه، ويحتويه ليوحده وراءه ليضمن الاستقرار الضروري لتنميته وبلوغه المستوى الذي يتيح له تحرير الجولان. هذه السلطة، ستنجز وظائفها بقدر ما تكون موحدة وقوية، وينضوي السوريون فيها.

   ـ من جانبه، دعا تيار اللواء جديد إلى نظام سلطوي من طراز مختلف، يضع نصب عينيه إقامة سلطة ثورية تبني مجتمعاً ثورياً تقوده نخبة طليعية، تقطع مع تأخر سورية المتعدد الأصعدة والأوجه، وتنقلها إلى سياق جديد: داخلي وعربي ودولي، تقف فيه إلى جانب قوى الثورة العالمية. وبينما كان مشروع السلطوية الأسدي يتطلب منح الجيش صلاحيات ليست من اختصاصه، وتحويله إلى حزب مقطوع الصلة مع مجتمع ليس له أي دور في ما سينتهجه عسكره من أساليب في الحكم، قطع مشروع “صلاح جديد” مع المؤسسة العسكرية، وراهن على حزب ثوري يخوض معركة تتخطى سورية، ميدانها الصراع ضد الصهيونية والإمبريالية والرجعية الداخلية والعربية، في الميدان العسكري وخارجه.

   ـ بين عامي ١٩٦٦و١٩٧٠، اصطدم المشروعان اللذان جعلا السلطة سبيلهما إلى التغيير: ورأى أحدهما في إعادة إنتاجها كسلطة طائفية وعسكرية طريق النظام إلى وضع تؤسسه دولته العميقة وتديمه، في حين رأى الآخر في تثويرها شرط تثوير المجتمع، حسب الوصفة السوفييتية المعروفة، التي جعلت تثوير السلطة السبيل إلى تثوير المجتمع. اللافت أن المشروع الأسدي كان الأقرب إلى النجاح، برهانه على الارتداد عن المرحلة الوطنية ببعدها القومي، والانخراط في طور طائفي/ ملّي مُحدَّث أمنياً، مركزه وحامله جيش مهامه داخلية أساساً، في طابعه الأمني ضمانة استمراره. أما المشروع الثاني، فراهن على انتزاع الحزب من الجيش وأجهزة الدولة العميقة، التي كان قسم وازن من أعضائه تابعاً لها، أو تدرب على يد ضباط عمل معظمهم في خدمتها، ولذلك ذهب قطاعه الأكبر إلى الطرف الأقوى، إلى الأسد، الذي بنى جيشه ليخدم أهدافاً لا علاقة لها بالأهداف، التي يحملها التنظيم الثوري، أو ليكون تنظيماً ثورياً، علماً بأن انتصار “جديد” عليه، كان سيضعه في مواجهة عدو خارجي منتصر، تقف طلائع قواته على مشارف دمشق الغربية، إلى جانب معارضة داخلية واسعة لن يستطيع التصدي لها، في ظل موقف دولي وعربي مناوئ له، وجيش هو الذي أسس النظام، ومن غير المنطقي أن يقبل الوقوف جانباً، متفرجاً على حزب ينتزع السلطة منه، وينجز انقلاباً مضاعفاً: على الجيش العقائدي من جهة، وعلى حزبه من جهة أخرى، الذي لم يكن ثورياً ومؤهلاً  لقيادة ثورة اجتماعية .

   ـ خلال الاستقطاب المحتدم، كان من الطبيعي أن يتم فرز شعبي واسع تعاطفت أغلبيته مع الأسد، الذي نشر برنامجاً بدا وكأنه سيلبي ما ينشده السوريون من حريات، تعهد الأسد باحترامها خلال جولة قام بها في سورية بعيد انقلابه، أكد فيها إن حرية الوطن من حرية المواطن، على العكس من الحزب، الذي تبنى فهما معاكساً جعل “حرية المواطن من حرية الوطن”. وزاد من حماسة السوريين للأسد الأمل بإعادة تعريف وظائف الحزب في ضوء حل وسط يتم التوصل إليه مع المؤسستين الدينية والتجارية، يقيد سيطرة الحزب، وما يتبناه من توجهات يسارية.

   ـ ترك موقف الجيش أثراً إيجابياً لدى كتل كبيرة من السوريين، الذين كان لتجربة الأعوام التالية للثامن من آذار وقعاً سلبياً في نفوسهم، أقنعهم أن الذين تولوا السلطة ليسوا أهلاً لممارستها، وها هو الجيش يعلمهم أنهم على صواب، فلا عجب إن رفع تجار سوق الحميدية يافطة ترحب بانقلاب الأسد على رفاقه، كتبوا فيها: “طلبنا من الله المدد، فارسل لنا حافظ الأسد”(105).

   ـ وزاد من الميل إلى الأسد اقتناع عام بأنه لم يسبق لحزب عربي أن ربح صراعاً مع الجيش، وأن من يترك موقعه فيه يخسر قوته، فكيف إن تركه لشخص كحافظ الأسد: وزير الدفاع المهزوم، الذي يريد تبييض صفحته على حساب غريمه، وقائد الجيش الذي تخلي دون قتال عن الجولان، ورجل الحاضر الذي قرر أن يكون رجل جميع الأزمنة، والانقلابي الأخير، الذي كان له أخطر الأدوار في تقويض حزب البعث، والجيش الوطني، ودولة المواطنة، والمشاركة السياسية، والأحزاب، والدستور، والنظام البرلماني والانتخابي، وأقام نمطاً من السيطرة لم يسبق أن مارسه في سورية أحد قبله، أهواؤه ونزواته هما قانونه ودستوره ومصدر الحق ومعيار الشرعية وإرادة الشعب العامة.

   ـ بانقلاب الأسد، الذي قوض فرص الانتقال إلى نظام مشاركة دستوري، بدأت سورية رحلتها نحو مآزق وأزمات سيُغرقها فيها عن سابق عمد وتصميم، بدل أن يكون ما وعد به: سفينة نجاتها!.

___________


هوامش
:

(84). انور السادات، تلفزيون مبارك ٥/١٠/١٩٨٠.

(85). احمد منصور: برنامج شاهد على العصر ، تلفزيون الجزيرة ، ٢٠١٦.

(86). يورام اتينغر: اسرائيل في الجولان…مصلحة أميركية ، القدس العربي ، ٢٥/٣/٢٠١٩.

(87). بين القيادة القومية لحزب البعث في الذكري الأولى لحركة السادس عشر من تشرين الثاني التصحيحية.

(88). د. جبار الشمري: الصراع على السلطة في سورية واثره في انقلاب حافظ الاسد . مجلة كلية التربية . الجامعة المستنصرية، بغداد، الصفحة الخامسة.

(89). د. منيف الرزاز، مرجع سابق، الصفحة ٦٣.

(90). أنكر الدكتور محمد الزعبي عضو القيادة القطرية ووزير الاعلام الاسبق ذلك وقال إن صلاح جديد صوت ضد الأسد. نقلا عن مقابلة أجراها مع الزعبي الصحفي السوري الاستاذ إياد العيسى ونشرها يوم ٢٤/١/٢٠١٥ في موقع اورينت ضمن مقالة جعل عنوانها : كيف واجه الأسد القيادة بعد سقوط الجولان.

(91). حنا بطاطو، مرجع سابق، الصفحة ٣٣٣.

(92). حنا بطاطو: فلاحو سوريا. مرجع سابق، ص٣٣٨.

(93). بطاطو، مرجع سابق، الصفحة ٣٣٢.

(94). د. جبار الشمري، مرجع سابق، الصفحة السادسة.

(95). بطاطو. مرجع سابق ، الصفحة ٣٣٥.

(96). حنا بطاطو: مرجع سابق ، الصفحة نفسها.

(97). د. الرزاز، مرجع سابق ، الصفحة ٩٣.

(98). المرجع السابق، الصفحة ٩٤.

(99). د، الرزاز. مرجع سابق ص ١٤٩.

(100). بطاطو: مرجع سابق، ص ٣٢٩.

(101). د، الرزاز، مرجع سابق، ص ١٧٩.

(102). وصية عبد الكريم الجندي ، موقع التاريخ السوري المعاصر، كتبت ليلة انتحاره بتاريخ ١/٣/ ١٩٦٩.

(103). تاريخ الشرق الأوسط/ تاريخ سوريا . موقع ويكيبيديا.

(104). بطاطو، مرجع سابق، الصفحة ٤٤١.

(105). حنا بطاطو: مرجع سابق، الصفحة ٣٣٥.

………………..

يتبع.. الحلقة الثامنة عشر: الأسدية في السلطة (الفصل الأول – مدخل عام) وهي الأولى من الجزء الثالث     

«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

التعليقات مغلقة.