الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

تقرير عن أعمال المؤتمر السابع (1985) لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية ..فـــي العمــل القـــومـــي (1/2)

حزب الاتحاد الاشتراكي العربي                                                                         حرية * اشتراكية * وحدة

       في سورية 

                                                             (من وثائق المؤتمر السابع)

                                                                     *      *      *

                                                 تقرير عن أعمال المؤتمر السابع (1985)

                                             لحزب الاتحاد الاشتراكي العربي في سورية

                                                      *                    *                       *

                                                                      –   ٤    –

فـــي العمــل القـــومـــي (1/2)

=============

       بعد أن انتهى المؤتمر من بحث مسائل العمل الوطني، انتقل حسب جدول أعماله الى مناقشة قضية العمل القومي، مؤكداً على الأولوية التي يجب آن تُعطى لهذا العمل كعمل ثوري يهدف إلى وحدة الأمة العربية بكل أقطارها وإلى تغيير واقع التجزئة والتخلف والتبعثر القومي، ومؤكداً في الوقت ذاته على ضرورة السعي إلى إقامة تلازم وتكامل بين العمل الوطني والعمل القومي في مسار حزبنا، نضالاً سياسياُ وعملاً تنظيمياً، وإلا كان حزبنا مقصراً عن تأكيد دوره كجزء من حركة الثورة العربية وكطليعة (وإن صغرت) من طلائعها، كما يبقى متأخراً عن الإحاطة الفعلية بالمهمات الأساسية لهذه الثورة كثورة قومية ديمقراطية، في فكرها ومنهجهــا .

      وكانت اللجنة التحضيرية قد وضعت بين أيدي أعضاء المؤتمر، وكوثيقة من الوثائق المعروضة عليه (ورقة عمل) كان الأمين العام لحزبنا قد بعث بها إلى عدد من المناضلين السياسيين على المستوى القومي، ومن ممثلي بعض التيارات والقوى القومية الوحدوية، في سبيل إدارة حوار بينهم يهدف إلى إيجاد منطلق بداية للوصول إلى صيغة عمل قومي مشترك أو موحد .

      ولقد قدمت اللجنة التنفيذية أمام المؤتمر عرضاً للجهود التي بذلتها، والمحاولات التي قامت بها والاتصالات التي أجرتها في هذا السبيل، أي في سبيل الوصول الى عمل ديمقراطي عربي مشترك أو موحد يقف في معارضة مسار التراجع والردة، وفي مواجهة نظم الإقليمية والتابعية والاستبداد.. كما جرى استعراض ومناقشة للعقبات التي تعترض سبيل مثل هذا العمل القومي ولقصور الوسائل والإمكانات التي وُظفت لهذا الهدف، وللحواجز التي تقيمها إقليمية النظم العربية واستبداديتها سداً في وجه هذه المساعي والتحركات الشعبية الديمقراطية الوحدويــة .

      وبعد أن قدم عددٌ من أعضاء المؤتمر في مداخلاتهم انتقادات لما كان من تقصير في الدفع بخطوات العمل القومي نحو نتائج مُثمرة وملموسة، ولقصور الوسائل التي استخدمتها القيادة في هذا السبيل، طالبوا بوضع خطة عمل لتنسيق الجهود وصولاً إلى (عمل عربي موحد) وتوظيف إمكانات أوفى لهذا الغرض… وقد لحظ المؤتمر أنه مازال هناك انقطاع في العمل القومي، كعملية تنظيم ثوري عربي موحد، وأن المبادرة التي عبرت عنها ورقة العمل المُقدمة قد وقفت عند خُطوتها الأولى وتحتاج لمتابعة.. ولقد وافق المؤتمر على ما جاء في الورقة من تصور ومنطلقات للعمل، وقرر المؤتمر تثبيتها كوثيقة، وكتوجه عام تستدل بها اللجنة المركزية المنبثقة عنه لمتابعة هذا العمل، ونورد هذه الوثيقة بنصها فيما يلي، كتعبير عن المنطلقات التي ننطلق منها أساساً، وعن التوجهات التي نتوجه بها نحو العمل القومي في هذه المرحلة:

   ١- لقد عاشت جماهير أمتنا العربية في الخمسينات والستينات مرحلة نهوض قومي، قادته على مدى الوطن العربي، طلائع ثقافية وسياسية وأحزاب وحركات وطنية وقومية، تحركت معها قوى شعبية واسعة، وأعطت مقومات ثورة قومية تحررية تبلورت أهدافها في الحرية والاشتراكية والوحدة.. ولقد جسدت القيادة التاريخية لجمال عبد الناصر في تلك المرحلة سياسياً ونضالياً، عبر الإنجازات التي تقدمت اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، التعبير الأكثر وضوحاً والأكثر تقدماً في إطار حركة الثورة القومية هذه، كما أعطتها ومنذ عام ١٩٦٢، نهجاً استراتيجياً وميثاق عمل يحمل أسس ومبادئ نظرية في العمل الوطني والقومي، وفي التطلع الديمقراطي والاشتراكي والـوحدوي و جعل من مصر، كبرى الدول العربية بشعبها وطاقاتها الوطنية وموقعها الاستراتيجي في قلب الوطن العربي وعلى حدود الصدام مع العدو الصهيوني ركيزة أساسية ومنطلقاً لهذه الثورة القوميـة .

      إن حركة نهوضنا القومي لم تكن بمصر عبد الناصر وحدها، بل أسهمت فيها قوى نضالية وثورية عديدة، وتيارات سياسية وفكرية على مدى الوطن العربي، شكلت في مجموعهـا ذلك التيار الشعبي الكبير.. التحرري الوحدوي، ولكن النهج الناصري هو الذي ألف بينها إلى حد… ومدها بالدعم وأعطاها المُرتكـز.

      ولقد جاءت هزيمة حزيران عام ١٩٦٧هزيمة للأمة ولمشروع نهوضها القومي، لا هزيمة لمصر عبد الناصر وحدها.. وإذا ما كشفت ظروف تلك الهزيمة عن أبعاد التآمر الكبير للحلف الإمبريالي الصهيوني ضد وجود الأمة العربية، وضد تحررها وتقدمها ووحدتها، والذي استهدف أول ما استهدف ضرب تلك القاعدة الأساسية للنضال القومي التحرري المتجسدة في مصر عبد الناصر فإنها قد كشفت عن جوانب الضعف والقصور، في ذلك الأمن القومي في استراتيجيته، بل وفي مُرتكز صموده، وعن الثغرات التي نفذَ منها ويظل ينفذ ذلك التآمر.. ولقد بذلت القيادة الناصرية جهداً دؤوباً ومُرَكزاً لسد تلك الثغرات وإعادة بناء ذلك المركز ومقومات قوته وصموده وانّشدَت إليها جماهير الأمة وقواها النضالية لتجاوز النكسة وتجديد مسار نهوضها، ولكن هدف ((إزالة آثار العدوان)) الذي ركزت عليه قيادة عبد الناصر كهدف مرحلي لا بد من الوفاء بمهمات تحقيقه أولاً، ووضعت في سبيله استراتيجية عمل وطنية وقومية ودولية، هذا الهدف أصبح اليوم وبعد مرور ما يقّرب من ثمانية عشر عاماً على تلك الهزيمة هدفاً بعيد المنال، في إطار المتغيرات التي طرأت على العمل القومي العربي، وعلى النظم العربية الإقليمية، وفي العلاقات الدولية بحيث دمرت أكثر مقومات تلك الاستراتيجية.

      لقد مرت شعوب أمتنا العربية وحركات نضالها، بأزمة كبيرة في مواجهة تلك الهزيمة وآثارها عاشتها عدد من المواقع عبر حركة نقد ومراجعة وتقييم، أعطت في البداية، بوادر قدرة على تجاوزها والرد على تحدياتها.. ولكن الساحة العربية شهدت وتشهد حالة من التراجع والردة، منذ غياب عبد الناصر ومصر عبد الناصر عن مسرح القيادة، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة، ومنذ انتهاء حرب تشرين وما أعقب ذلك من تغيرات تناولت مصر أولاً وامتدت إلى أكثر المواقع والنظم العربية، لتتوالى حلقات السقوط وتتعاقب الهزائم، ولتوضع الأمة في موقع العجز عن الرد على الأخطار التي تتهددها، وعن إيجاد حل للمشكلات التي تعترض سبيلها، وليصبح مشروع ثورتها القومية الديمقراطية معلقاً في الفـراغ .

      فلقد أخرج السادات وزمرته مصر عن موقعها الطبيعي في قيادة حركة التحرر العربي وأجهز على كل مقومات الاستراتيجية الناصرية في دحر العدوان وإزالة آثار هزيمة حزيران، وقطع ما بينها وبين أداء دورها الطليعي على طريق تحقيق الأهداف الاستراتيجية الكبرى للأمة.. وبعد الردة الساداتية في مصر وصعود القوى المضادة للثورة ثقافياً واقتصادياً وسياسياً إلى مواقع السلطة والسيطرة وتوقيع الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلي، والانتقال إلى مواقع سيطرة ونفوذ الإمبريالية الأمريكية أسّقط المرتكز الرئيسي لحركة الثورة العربية.. وفي مقابل ذلك لم يقم أي بديل، لا في قُطر أو نظام حكم ولا في تحالف أقطار أو أنظمة، ولا في حركة ثورية شعبية قادرة.. فما سمي بـ ((جبهة الصمود والتصدي)) وقعت في التناقض والعجز، وسورية والعراق بدلاً من أن يلتحما في أية صيغة للوحدة أو التحالف الاستراتيجي لسد الفراغ ولو مرحلياً، وقفتا في تصادم وتحارب، بل وحركة المقاومـة الفلسطينية، التي عُقدت عليها الآمال لتؤدي دورها كقاطرة للثورة القومية على المستوى الشعبي وقعت هي أيضاً أسيرة تناقضاتها الذاتية وأسيرة سياسات النظم ومحاولات الاحتواء.. هذا في الوقت الذي يواجه فيه الوطن العربي امتداداً للاستعمار الاستيطاني، وهجمة مُركزة من الإمبريالية الأمريكية لبسط هيمنتها على المنطقة، بل ولجعل هذه الهيمنة أعمق وأشمل في إطار مجتمعات عربية يسحقها الاستبداد ويُقعدها التأخر ويفتت قواها الظلم والاستغلال، ويُشوه وجهها الإنساني ما يسود فيها من امتهان لحقوق الإنسان وكرامتـــه.

      لقد أخذت الردة في الوطن العربي كل أبعادها، وليس الدليل على ذلك انتقال مركز القيادة والتأثير في السياسة العربية من القطر الأكثر تقدماً والأكبر قدرةً من حيث طاقته الشعبية ومن حيث بنيانه الاجتماعي والثقافي ولحمته الوطنية، إلى القطر الأكثر تأخراً وتخلفاً في بنيانه الاجتماعي والثقافي والسياسي، ولكنه الأكثر ثراءً بنفطه وأمواله، بل والدليل الأوضح أيضاً اندحار القوى الشعبية الوطنية وانسحاق، حركة الجماهير بتنامي استبدادية النظم كنظم فئوية تمثل مصالح أقلية تعمل للهيمنة الشمولية على الدولة والمجتمع، وتَركُزْ الإقليمية في الأطر التي رسمها النظام الكولونيالي في الماضي، أو التي يحاول تأكيدها في أطر أضيق، الاستعمار الجديد والحلف الإمبريالي الأمريكي الصهيوني.. وفي هذا المناخ العام من الارتداد والتراجع تتفجر الانقسامات الطائفية في العديد من المجتمعات العربية، لتضعها على طريق الحروب الأهلية ولتُهددها بمزيد من التفتت والضياع.. فالفئات الحاكمة في الوطن العربي أصبحت كلها تقريباً في موقع المحافظة، لا يعنيها إلا الحفاظ قبل كل شيء على مصالحها الفئوية والطبقية وتنمية هذه المصالح الخاصة ولو جاء ذلك على حساب قضية الأمة وضد مصالح غالبية الشعب، أما ثروات الوطن العربي الطبيعية والمالية، والنفطية منها بخاصة، فإنها بدلاً من أن توضع في خدمة نهوض الأمة، وتعزيزاً لاستقلالية قرارها واقتصادها الوطني عن التبعية، وتكامل اقتصادها الوطني والسير في خطط التنمية على طريق تلبية حاجات الشعب وبناء القاعدة الصناعية والاجتماعية للتقدم، فإن الكثير منها لم يُوظَف إلا في خدمة مصالح الفئات الحاكمة وتنمية ترفها وفسادها وربطها بروابط التابعية للسوق الرأسمالية والاحتكارات الدولية، وتحويل مجتمعاتنا العربية إلى مجتمعات استهلاكية تقود حركتها الطبقات الطفيلية، والتابعية الاقتصادية تجر بالضرورة إلى التابعية السياسية، وصولاً إلى هذا الواقع العربي المتأزم من كل جوانبه والذي لا يصب على طريق أي مخرج، إلا ما يسود من عجز وضياع تعبر عنها أقوى تعبير تلك المشكلات السياسية الكبرى التي نتخبط بها ولا تصب على طريق أي مخرج وطني أو قومي، بدءاً من الأزمة اللبنانية إلى حرب الخليج وإلى الصراع حول الصحراء الغربية وغير ذلك من أزمات، لينقلنا انسحاق إرادة الشعوب وفقدان الاستراتيجية القومية واقليمية النظم وعجزها وعلاقات التابعية التي ترتبط بها، إلى تدويل قضايانا وإدخالها في دوامة الصراعات الدوليـة وتنّافُس القوى العظمى على المواقع الاستراتيجية في المنطقة، ليُهدَر الكثير مما بذلته شعوبنا العربية من تضحيات على طريق تحررها الوطني، و لتُفتح الأبواب من جديد أمام التحالفات والقواعد العسكرية الأجنبية، وأمام آخر إخراج لها المُمثل في قوات الانتشار السريع الأمريكيـة .

   ۲- هذا الواقع العربي المتعثر والمتأزم، ما الذي يقف في مواجهته ومعارضته، ومن الذي يتصدى له ويتطلع لتغييره ولتجديد مسار الثـورة العربية نحو أهدافهـا؟

       هناك حركات معارضة وطنية في كل قطر من الأقطار العربية، ولكنها في أكثرها مشتتة ومعزولة ولم تصل الى أن تصوغ وحدتها على الصعيد النظري ولا على الصعيد الوطني، ولتصل إلى أن تشكل قوة قيادية وتياراً شعبياً تتقدم به، ولا إلى وضع برنامج واضح ومطابق لهذا التغيير.

      والتغيير المطلوب لم يعد عملاً إصلاحياً بل عملاً ثورياً وتغييراً جذرياً لهذا الواقع وإذ أن المهمات المطروحة أمام أي حركة للتغيير هي مهمات ثورة قومية ديمقراطية، فإن قوميتها تعني قبل كل شيء، أن يكون للوحدة السياسية للوطن العربي، في تطلع ونهج أية قوة من قوى هذه الثورة وديمقراطيتها تعني أنها ثورة وطنية بالشعب ومن أجل حريتهِ وسيادتهِ ورفـع الظلم والاستبداد والاستغلال عنه وبناء وحدته الوطنية واندماجه القومي والنهوض بقواه الشعبية العاملة إلى مواقع التأثير الفعلي والإمساك بمصائره، وإلى مواقع الهيمنة في الدولة والمجتمع وفي هـذا الإطار تأتي بقية التفاصيل .

      ولكن هذا الواقع المتأزم إذا كان يطالب بثورة، فإنه لا يحمل بعد بوادرها ولا يتمخض عنها وعن تشكل برنامجها المطابق وأدواتها وقواها، إلا ما يلوح في الأفق، من بوادر ثورة ثقافية، وحركة مراجعة ونقد يمارسها بعض المفكرين العرب، كما تمارسها طلائع ثقافية وسياسية من مواقع مشتتة ومتفرقة في الوطن العربي، أو في مهاجرها ومنافيها.. فالظروف صعبة والمعوقات كثيرة وطريق ثورتنا القومية طريق صعبة وطويلة، وهذا لا بد أن يوضع في الحسبان، كي لا نستسلم للعجز أو نصب في طريق المغامرات السياسية، ولكن المشروع الطويل لا يستبعد العمل المباشر وإيجاد منطلق بداية، وإنما يطالب به، فلا بد لتحقيق أي مشروع من بداية، وما العمل الذي ندعوا إليه والحوار الذي نديره إلا تلك البداية، أو هما تلمُس الطريق إلى إيجاد منطلق ومرتكز بدايـة.

     وبعد مسلسل الهزائم والفشل، المطلوب مراجعة نقدية لمسار تاريخنا الحديث، ولمسار تشكل قوانا الاجتماعية ونظمنا السياسية ومنظوراتها الثقافية والأيديولوجية، سواء في مرحلة نهوضنا القومي، مرحلة عبد الناصر بخاصة، أو في مرحلة التراجع والردة، لنُمسك بعوامـل النهوض ولنعرف من أين أتت وتجيء الردة.. إن هذه المراجعة النقدية، طالبت وتطالب بها، ومارستها ومازالت تمارسها عناصر ومجموعات فكرية وسياسية، وقد صدرت في هذا السبيل كتب عديدة ونشرات كثيرة، وعُقدت مناظرات وندوات بحث، وصدرت كراسات ومجلات.. ولكنها لم تأخذ طريقها بعد الى أن تصبح ممارسة جدلية (أي ثورية) ومنهج تقدم وتغيير، فهي لكي تتحول إلى ممارسة جديدة، ولكي تنتقل من تحليل الواقع، ونقده وتفسيره إلى وعيه واستيعابه والتعامل معه والتأثير فيه والعمل على تجاوزه وتغييره وتجاوز الذات والتغيير معه تقدماً إلى الأمام وتقدماً نحو الهدف، لا بد أن توضع في إطار جماعة وأن تكون ممارسة جماعية ومنهجاً لتشكل أداة عمل وتغيير، وأن ترتبط بمصالح وأهداف اجتماعية شعبية واسعة تصعد معها وتعمل على بناء تلاحمها الوطني والقومي لحلف شعبي وكحركة تاريخية وأن تتقدم بها طوراً بعد طور، وعياً وتنظيماً ونضالاً، حاملة معها معالم منظورٍ مستقبلي للإنسان والعالم الإنساني .

      إن الكثير من المراجعات النقدية، التي طبقتها على نفسها وعلى الغير، عناصر وحركات سياسية وقوى (ثورية) في الوطن العربي لم تكن حتى الآن في غالبها ممارسة جدلية لأنها لم تنتهي إلى عملية تجاوز للذات وحركة تقدم إلى الأمام ولا إلى عملية تجميع وتوحيد متطور أو شد للكتلة الشعبية إليها وحركة جماهير، إذ هي جاءت عملية نقد للغير أكثر منها للذات، وعمليات تشبث أيديولوجي وتبرير وتنميق، أشبه ما يكون بعملية صب الزيت الجديد في الزق المهترئ العتيق، لتضع نفسها وغيرها في إطار من الصراعات الهامشية التي لا تؤدي إلا إلى مزيد من التشتت والانقسـام .

      إن القوى الناقدة على صعيد الوطن العربي، أي المعارِضة لمسار التراجع والردة، الذي تمثله النظم العربية الاستبدادية والاقليمية الراهنة، تقف كلها عند مسألة الديمقراطية كما تقف عند مسألة الوضوح الفكري والتخطيط النظري الذي يوجه النضال السياسي والعمل التنظيمي نحو أهدافه، وعلى اعتبار أنهما كانتا الثغرة الكبرى في العمل الوطني والقومي، حتى في إبان نهوضه ومهما نفذت قوى الردة وصعد الاستبداد، وهما مسالتان على علاقة مباشرة بظروف تشكل القوى والأحزاب السياسية في الوطن العربي وظروف تطور مجتمعاتنا العربية سياسياً واقتصادياً، وطبيعة تطور القوى والفئات التي قادت العمل السياسي وصعدت إلى السلطة، من حيث مرتكزاتها الاجتماعية والأيديولوجية، والأساليب التي انتهجتهـا في التعامل مع الشعب وفي الصراع على السلطة وفي تشكيل النظم والطبقات الحاكمـة .

      ولكن مسألة الديمقراطية لا يمكن فصلها عن المسار التاريخي الذي تقدمت عليه حركة نضالنا القومي، وتداركها لا بد أن يوضع في مقدمة أي عمل قومي جديد، فبها تُصنع اللُحمة الوطنية للأمة، على اختلاف فئاتها ومذاهبها وأيديولوجياتها، ومنها تنطلق الإرادة الشعبية التي سحقها الاستبداد، ولكنها إذا كانت الحاجة والمطلب الأول، فإنها في الوقت ذاته لا تأتي من ذاتها، أو بفعل التطور العفوي لمجتمعاتنا ونظم حكمنا أو بالضغط عليها لإصلاحها، وإنما بتغيير النهج كله، وتغيير في طبيعة القوى، والعلاقات السياسية والاجتماعية، وهذا التغيير لن يأتي من داخل النظم التي لا تزداد إلا هيمنةً قسرية واستبداداً، وإنما يأتي من القاعدة، ويفرضها تطور نضال الحركات الشعبية لجماهيرنا المسحوقـــة .

      فمسألة الديمقراطية أكبر من أن تكون مشكلة هذا النظام أو ذاك، وهذه القيادة السياسية أو تلك، بل هي إشكالية عامة، لا بد أن توضع حلولها منذ البداية في أساس تشكيل حركة النضال العربي وقواها، وفي طبيعة علاقاتها وتحالفاتها وجبهاتها واندماجاتها لتأخذ مبدأ التعددية في القناعات والمعتقدات ووجهات النظر وبحريتها والحوار الدائم المفتوح، في إطار النهج الاستراتيجي القومي الموحد والهادف الذي تلتقي عليــه .

   ٣- إن هذا الواقع المتعثر الذي تمر به الأمة العربية في شتى أقطارها، والذي من ملامحه الكبرى كما ذكرنا تراجع حركة التحرر العربي والنضال القومي، وغياب الديمقراطية والتحول الاستبدادي للنظام الحاكمة وإن بدرجات متفاوتة، والعجز عن مواجهة أعداء الأمة والأخطار التي تتهددها، والعجز عن إيجاد حل لأية مشكلة من مشاكلنا القومية الرئيسية وتدويل قضيتنا بحيث أصبحت النظم في غالبيتها مرتبطة بالقوى الإمبريالية ومصالحها وسياساتها هذا كله بالإضافة إلى كل ما أصاب قوى النضال العربي والحركات الشعبية من تمزق وتشتت يطالب كل الوطنيين العرب، وكل المنادين بالديمقراطية والتحرر والوحدة، بالالتقاء على نهج جديد للخروج من هذا التعثر الخطيـر.

      وإذا كانت هناك معوقات كثيرة أمام حركة التحرر العربي، منها ما يرتبط بالظروف الداخلية بكل قطر، ومنها ما يرتبط بالظروف الدولية، وامتداد الهيمنة الإمبريالية وتهديد الاستعمار الصهيوني الاستيطاني المتواصل، فثمة ثغرة كبيرة تبقى أمامها، وهي عدم وجود مُرتكز أساسي للعمل القومي العربي، لا في قُطر ولا في مجموعـة أقطار، لا في نظام ولا في تحالف نظم ولا في جامعة عربية، ولا في حزب قومي واسع الانتشار ومستقل عن النظم ومرتبط بالشعب ولا في جبهة أحزاب أو حركات شعبية وقوى اجتماعية، فالأحزاب التي قامت على أساس التنظيم القومي في الماضي قد تفتتت وتهمشت أو انحرفت وتحولت تحولاً إقليمياً وسلطوياً محلياً أو دخلت في لعبة النظم وصراعاتها واحتواءاتها، والمرتكز الذي كانتّهُ مصر عبد الناصر لحركات النضال العربي، قد عملت كل قوى الردة وكل المصالح الفئوية للنظم على محاصرته واستبعاده، بما في ذلك تمكن الردة من السيطرة على السلطة وعلى نظام الحكم في مصر ذاتهـا .

      إن مثل هذا المُرتكز المطلوب، لصياغة استراتيجية نضال قومي على طريق أهداف الأمة وجبهة نضال شعبي موحدة، وليكون مرتكزاً لتوجيه العمل القومي المشترك ومساندة النضال الوطني الديمقراطي داخل كل قطر، لم يعد من الممكن في إطار الواقع الراهن أن يقوم في حِمى أي نظام من النظم القائمة ولا أن يرتبط بأي نظام بل لا بد أن يأتي مستقلاً كل الاستقلالية عن كل النظم والفئات الحاكمة، وعليه أن يتحمل مسؤوليته أمام الحركات الوطنية الشعبية وحدها، في مواجهة النظم ومحاولات احتوائها وقسرهـا .

      إن مقولة عبد الناصر التي جاءت في ((ميثاق العمل الوطني)) بصدد الوحدة والعمل القومي، من أن ((قيام اتحاد للحركات الشعبية الوطنية التقدمية العربية أمر سوف يفرض نفسه على المراحل القادمة من النضال)) لم تعد مقولة لمرحلة قادمة بل هي المطلب الذي تقتضيه المرحلة الراهنة، وللوقوف في وجه هذا الارتداد من الأهداف القومية، ولإيجاد مخرج من هذا الواقع المُتعثـر .

      وفي عـام ١٩٦٣ وأمام تعثر العمل الثوري الوحدوي، وسقوط مشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسورية والعراق، بحكم الصراع على السلطة بين قوى تقول بالوحدة والتقدم، طرح عبد الناصر شعار ((الحركة العربية الواحدة)) أي الأداة الفكرية والسياسية والنضالية الموحدة للثورة العربية الواحدة، ونادى الثوريين الوحدويين في كل بلدٍ عربي إلى أن يعملوا و يجتهدوا من أجل قيام هذه الحركة التي يجب ان تنبثق من النضال الشعبي ومن التفاعل الشعبي… ((وقال بضرورة أن تبدأ مُتخلصة من كل الطفيليات التي تغلغلت بالنضال العربي الثوري في مراحله الثورية المختلفــة)) .

      ولكن هنا أيضاً ترك عبد الناصر مسؤوليـة النضال من أجل هذه الحركة إلى قوى النضال العربي، وقال إنها مسؤولية الجماهير العربية ومسؤولية الشعوب العربية ومسؤولية الأجيال العربية وإذا كان شعار ((الحركة العربية الواحدة)) هو الهدف العريض المطروح اليوم أمامنا فإن التحرك اتجاهه لا يمكن أن يتم إلا عبر مراحل من النضج، في العمل الوطني والقومي وفي تشكل القوى الوطنية والقومية وصياغة تحالفاتها وتكتلاتها الجبهوية وإدارة حركة نضالها وصولاً بها إلى البرنامج المشترك والعمل الموحــد .

   ٤- المطلوب إذن أن يبدأ حوار مركز ومنظم في هذا السبيل، إن كثيراً من رجال الفكر الملتزم في الوطن العربي ومن قادة الحركات الوطنية المعارضة، يتطلعون إلى ما نتطلعُ إليه ويصّبوُن إلى ما نصبو إليه ويجدون أن الحاجة أصبحت مُلحة لتلاقي أصحاب القضية الواحدة والمنطلق الديمقراطي والهدف الوحدوي خارج أطر هيمنة النظم واحتوائها وقسرها لتنسيق مواقفهم وتوحيد منظورهم لمختلف القضايا القومية، وأن يعملوا لإقامة مركز توجيه فكري وسياسي قومي موحد، وأن يُجروا تقييماً لحركات النضال الوطني والديمقراطي في كل ساحة عربية وكل قطر وأن يدفعوا لمساندة التلاحم الجبهوي لهذه القوى قطرياً ويعملوا لقيام جبهة للحركات الشعبية العربية على المستوى القومي، فلقد أصبح من الضروري أن يتحول هذا التطلع والتوجه إلى ممارسة وإلى مشروع عمل مُركز، فمن الذي يبادر له وعلى أية قوى وعناصر يمكن أن يعتمد ومن أيةِ نقطةٍ يمكن أن يبـــدأ؟

      إن العمل القومي في الظروف العربية الراهنة لن يكون بأن تتخذ فئة أو مجموعة أشخاص قرار بتنظيم حزب قومي تُنشئ له قيادة مركزية وفروعاً في عدد من الأقطار تحت مجموعة من الشعارات وأيديولوجية من الأيديولوجيات، إن هذا لن يزيد عن أن يضيف فئة حزبية إلى شتات الأحزاب والفئات أو يأتي على حساب واحدة من الفئات أو تقسيم حزب من الأحزاب كما وأن هذا العمل القومي لن يأتي نتيجة امتداد واتساع حزب قطري يحمل عنوانـاً قومياً أو أممياً.. وإذا كان الواقع الوطني داخل كل قطر يطالب بجبهات نضال وطني وديمقراطي، فإن العمل القومي والجبهة الشعبية القومية لن تأتي كمحصلة طبيعية لقيام العديد من الجبهات الوطنية القطرية.. إن أي عمل قومي اليوم لا بد أن يُفتش عن مرتكزات له حيث توجد مواقع وطنية وديمقراطية صلبة، في أي قطر من الأقطار العربيــة .

      لقد أصبح من الضروري أن يأخذ النضال الوطني الديمقراطي القطري والعمل القومي المشترك أو الموحد صيغتهما المتكاملة، وأن يسيرا معاً ليجد العمل القومي رصيده في النضال الوطني القطري وكذلك النضال القطري في العمل القومي، وأن يعطي العمل القومي الموقف العام الذي تلتقي عنده كل المواقف، ويعطي للمواقف الوطنية القطرية اتفاقها مع القضية القومية في كُليتها.. إن حركات المعارضة الوطنية الديمقراطية التي تناضل من مواقع متفرقة في أطر العزلة الإقليمية التي تفرضها عليها الأسوار الحديدية التي تقيمهـا استبدادية النظم وصراعاتها فيما بينها، وفي غياب العمل القومي، كثيراً ما تُحجب عنها الرؤية الشمولية لقضاياها الوطنية، وكثيراً ما توقعها في تحالفات أو في صراعات جانبية لا تنعكس إلا سلبياً على قضيتها، كالاحتماء بهذا النظام ضد ذلك، والوقوع في مصيدة الهيمنة والاحتواء.. إن مسألة وحدة المصير العربي، تفرض نفسها اليوم أكثر من أي يومٍ آخر، وإن سياسة أي قطر أو نظام أو حركة وطنية، إنما ينعكس سلباً أو إيجاباً على مجمل القضية وكل ذلك يُطالب بنهج جديد لعمل قومي مشترك، ولإيجاد صيغة استراتيجية موحدة لمن يلتقون على وحدة الهــدف .

      إن أية بداية في هذا المنحى لن تأخذ ضمانتها إلا من حركتها ذاتها، وليس من بداية تأتي كاملة وإن مسائلنا القومية ليس أمامها من حلول جاهزة، وتقدمنا نحو الهدف لا يمضي صاعداً في خطٍ مستقيم، وإن كل قضية جزئية لا تجد تعبيرها الصحيح إلا في المكان الذي تأخذه في إطار القضية الكلية، وإذ كانت الكلية هنا هي قضية الوحدة القومية فإنها لا تُدرك أيضاً إلا من خلال تقدم معرفتنا ومعاناتنا لقضايا أجزائها ومسائل كل قطـر .

      إن عبد الناصر هو الذي جسد بممارسته النضالية تلك العلاقة الجدلية بين الوطني والقومي فكان منظوره وحدوياً وكذلك كان نهجه وكفاحه.. لقد وضع مصر في العروبة كتوجيه كلي لها، ووضع العروبة في مصر كخصوصية من خصائصها، وأعطى مصر للنضال العربي كما أشرك شعبها في كل نضال عربي وقضية عربية، وجعل من قضايا مصر ذاتها قضايا عربية أيضـاً.

      وعبد الناصر وإن كان رجل دولة ورجل سياسة وممارسة سياسية، ولم يكن باحثاً فكرياً ومُنظراً، فهو من خلال الممارسة والمعاناة المتواصلة، وما ملكه من حس تاريخي ونهج استراتيجي ومن ربط لفكره وسياسته ومنظوره وقضيتة بقضايا الجماهير والطبقات الشعبية المظلومة الواسعة وبمصالحها وأهدافها، فلقد كان يصل إلى المقولات الكلية من غير تمهيداتها النظرية، وينتهي إلى تحويل الشعارات والمبادئ إلى نهج في التطبيق والعمل، وهكذا فإن مقولة الطليعة القومية، والأخذ بالنهج الوحدوي كاستراتيجية لتحرير الأمة والتصدي لأعدائها، ومقولة ((التحالف)) ومقـولة ((الحركة العربية الواحدة)) ومقولة الديمقراطية بجناحيها السياسي والاجتماعي ، والحياد الإيجابي، وغيرها، كلها نجدها اليوم أمامنا وليس وراءنا، ونجدها متسابقة مع ما نصل إليه في تحليلنا النقدي للواقع، وما يمكن أن نأخذ به من منهج وحلول لمسائلنا النضالية والقـوميـة .

                                                       *                    *                 *                    *

يتبع.. «فـــي العمــل القـــومـــي (2/2)»

التعليقات مغلقة.