الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

بادية الظلمات

أحمد مظهر سعدو

في الجزء الخامس من سلسلة (مدن الملح) للروائي والكاتب الكبير عبد الرحمن منيف الذي عنونه (بادية الظلمات) وقد جاء ضمن /584/ صفحة من القطع المتوسط .. يُبحر الكاتب في ملكوت العمل الروائي عبر المدن القابلة للذوبان، والمهددة بالسقوط، إحداهما تلو الأخرى، وهو لم يألُ جهدًا (في جلها) عن المضي بعيدًا في تصوراته إلى تلك الكيانات الآيلة للسقوط ( كما يرى) في مدنه الملحية تلك.

وهو هنا في “بادية الظلمات” يحاول أن يلامس الملاذات النهائية لهذه التكوينات، دون أن يغفل على الاطلاق، تلك الحالة الشعورية من الإنصات والالتفات والترقب من جديد، كما يحب أن يقول، وهو الذي يصر على حالة الصمت والتأمل لغد قادم لا بد.

انهارت سلطنة “فنر” كما انهارت قبلها سلطنة “خزعل” وقبل ذلك قصور “خريبط ” بينما السجون تغص بالنزلاء الذين لا ذنب لهم، سوى أنهم لا يستطيعون أن يتحملوا كمّ أفواههم عن الكلام المباح.

وحيث يصف السلطان/الأمير – المأخوذ عن (منامات الوهراني) بقوله: “إنه لركاكة دينه، وضعف يقينه، يصلي قاعداً من غير ألم، ويبول قائماً على فرد قدم، وتراه يسهر على التمام والوِرد، وينام عن ليلة القدر، يحلل بيع القِبلة بقُبلة، ومكة بصكة، ولا يشتري حجة بعجة، ولا عمرة بتمرة، قد أخرج مال الفتوح والصدقات، في وزن المهور والصَدقات، وصيّر مال الحبس والأوقاف، لربات الشنوف والأرداف، وقد أفرخ في الوطء قواه، واتخذ الهه هواه، فغدا بلا عقل ولا حلم، وأضله الله على علم، وختم سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة”  .

لكنه يعود ليتساءل “هل يجب أن يُضرب السلطان على يده أو يُقره على ما هو عليه؟”  .

ويستنسخ بعض الموجزات من كتاب (الأمير) التي يضعها ” هاملتون ” بين يدي الأمير ” فنر ” قبل أن يصبح سلطانًا ليقول له: ” الأمير العاقل من يختار لمجلسه حكماء الرجال، ويسمح لهؤلاء وحدهم بالحرية في الحديث اليه، ومجابهته بالحقائق ” .

ولا ينسى الكاتب في روايته هذه من الإشارة إلى تأثير اليهود والصهاينة، ومنذ البداية في آلية نشوء ” مدن الملح ” هذه، وتغلغلهم في جوانيتها اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، ابان ظهور النفط أو الذهب الأسود كما يقال .

صراعات المُلك، والنهب المنظم للثروات والاستيلاء على اقتصاديات الأوطان، كانت الشغل الشاغل لمنعطفات الرواية، في محاولة مستمرة ودؤوبة لإظهار الحالة المعاشية للناس من جهة، وحالات التسلط والهيمنة السلطوية للأمراء وأصحاب الحظوة من جهة أخرى، وصولًا الى حالات كم الأفواه وإلغاء الانسان كوجود فاعل، أو كوجود حر، والاستعاضة عنه برجالات أعمال وسماسرة ينهبون الأخضر واليابس، ثم يسرقون المال والدولار ويغيبون كما غاب (صفاء شالاتي) الذي لا يعرف أحد كيف وأين ذهب بأموال الأمير (راكان) التي سرقها من قوت الشعب، ومن وجع الناس.

حيث كان هذا العمل الروائي الذي بين أيدينا عملًا شاقًا وشيقًا وصعبًا، وهو من أفضل الأعمال الأدبية التي خطها قلم الراحل الكبير عبد الرحمن منيف، هذا الأديب الذي ترك في النفس ذاك الأثر وتلك الذكرى.

أحمد مظهر سعدو

كاتب صحافي سوري، رئيس القسم السياسي في صحيفة إشراق

 

المصدر: موقع مصير

التعليقات مغلقة.