الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عشر سنوات على “الحرب” السورية

أيمن أبو جبل *

قبل عشر سنوات، أطلق جنود الأسد النار على ثلاثة أطفال، رسموا شعارات تدين النظام. واندلعت الاحتجاجات وسقط في الحرب الأهلية التي لم تخبُ نارها بعد نحو مليون شخص.

في مطلع آذار/ مارس 2011، أي قبل عشر سنوات بالضبط، أطلق جنود جيش الرئيس السوري بشار الأسد النار على ثلاثة أطفال كانوا يرسمون شعارات ضد النظام، في بلدة درعا جنوب سورية. عندما جاء ذوو الأطفال القلقون للاطمئنان على ما حدث لأبنائهم، قال لهم الجنود: “انسوا الأطفال. عودوا إلى المنزل لتنجبوا أطفالًا آخرين، وإذا كانت هناك مشكلات، فسنرسل إليكم جنودنا لينجبوا لكم أطفالًا من نسائكم”.

بعد أيام قليلة، في 18 مارس/ آذار، اندلعت تظاهرات احتجاجية في المدينة. أرسل الأسد جيشه لإعادة النظام والأمن في درعا، لكن أعمال الشغب استمرت. وقتل الجنود مئات المتظاهرين. امتدت أعمال الشغب إلى مدن أخرى في حوران، وبشكل تدريجي في جميع أنحاء سورية. ما بدأ أعمال شغب في مدينة واحدة تحول إلى انتفاضة شعبية في جميع أنحاء البلاد، وتحولت الاحتجاجات إلى حرب أهلية، بين نظام الأسد، ومعظم المواطنين السوريين الذين سئموا الحكم الاستبدادي لأسرة الأسد.

بدأ تسلل العناصر الأجنبية إلى سورية، بينهم متعصبون من الطائفة السنية، وفي مقدمتهم تنظيم (داعش) الذي كان يحاول السيطرة على سورية، إضافة إلى أكراد العراق وتركيا، بهدف تعزيز نفوذ الأكراد في شمال البلاد، وقوات حزب الله. من لبنان، بهدف تقوية الأسد. عندما كان نظام الأسد على وشك الانهيار، انضمت إيران وروسيا اللتان دعمتا الأسد إلى نظامه، واستطاعتا حمايته من الانهيار والسقوط.

عدد القتلى في الحرب الأهلية السورية غير معروف، لكن التقديرات تراوح بين نصف مليون ومليون شخص، وعدد أكبر من الجرحى، معظمهم من المدنيين والنساء والأطفال. فيما نزح أكثر من 13 مليون شخص من ديارهم، معظمهم نازحون داخل سورية وأكثر من 5 ملايين لاجئ خارجها.

في الحرب الأهلية السورية، أظهرت جميع الأطراف، وبخاصة نظام الأسد، قسوة مروعة، من دون أي خطوط حمراء. استخدم الأسد الأسلحة الكيمياوية ضد خصومه. اليوم، هناك وقف واضح لإطلاق النار، أدى إلى استقرار الوضع، مع سيطرة الأسد على معظم أنحاء البلاد، بإشراف الحراب الروسية والإيرانية التي تسيطر على ما يقارب ثلثي البلاد، لكن الحرب ما تزال مستمرة على نار هادئة، وبالتأكيد هناك جمر تحت الرماد في ظل انعدام أي حل سياسي في الأفق.

سورية ليست مصر:

اندلعت الحرب الأهلية في سورية في خضم (الربيع العربي)، وهي موجة الانتفاضات الشعبية ضد حكام مختلف الدول العربية، بدأت في تونس، وانتقلت إلى مصر وليبيا، وانتشرت في معظم الدول العربية.

في مقابلة مع صحيفة (وول ستريت جورنال) الأميركية، في أواخر كانون الثاني/ يناير، قبل شهر من اندلاع الحرب الأهلية، أوضح الأسد أن الربيع العربي لن يصل إلى سورية. وأوضح أن (سورية ليست مصر). وأضاف: “على الرغم من حقيقة أننا نعاني مشكلات أكثر خطورة من البلدان الأخرى، نتمتع بالاستقرار. هذا لأننا أكثر انتباهًا إلى شعبنا، وأقرب إلى المواقف والتصورات التي يحملونها. عندما يكون هناك توتر، وعندما يكون هناك هوة بين سياسة الحكومة والمواقف العامة، يفتح باب لعدم الاستقرار والاضطراب. مصر تلقت مساعدات أميركية، وبقينا بلا شيء، وبقينا في عزلة دولية، ومع ذلك، لم ينزل الناس هنا إلى الشوارع للتظاهر، لأن ما يدفع الناس إلى النزول للشوارع ليس المطالبة بالإصلاحات، ولا المشكلات الاقتصادية، بل إيمانهم الأيديولوجي والعقائدي”.

وقدّر الأسد أن موقف سورية المتطرف من العلاقات مع إسرائيل، وتطرفه في الموقف الداعم للقضية الفلسطينية، سيعطيها حصانة من موجات الاحتجاجات الشعبية التي تجتاح العالم العربي، فهذه القضايا في نظره أساسية لفهم النفس والمواقف العربية في العالم العربي. وقال في حينها إن حكمه ملتصق بما يؤمن به شعبه، وأنه لا يوجد في سورية، سخط وغضب على الدولة، لذا لا داعي للخوف من انتشار الاحتجاجات فيها.

فوجئت إسرائيل بالحرب الأهلية السورية. في إسرائيل، صُوِّر نظامُ الأسد مستقرًا، وكان من المقدّر أنه في حالة اندلاع أعمال شغب ستقمع بسرعة وحسم وبكل وحشية، تمامًا مثل الانتفاضات التي شهدها الحكم في عهد حافظ الأسد (والد بشار). حين اندلعت الحرب وأصبح كرسي الحكم مهددًا، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك بأن “أيام بشار الأسد في الحكم معدودة”. وكان باراك قد تفاوض على تسوية للانسحاب الإسرائيلي من الجولان، في زمن حافظ الأسد، ووصفه بالزعيم الشجاع والذكي، وبأنه أبو الدولة السورية الحديثة.

سوريا خيال:

عشر سنوات مضت منذ تصريح إيهود باراك حول الاحتجاجات في سورية، وما زال الأسد الابن مستمرًا في الحكم، ومن الواضح أن حكمه ليس على وشك الانتهاء. لكن ما الذي يسيطر عليه؟ هل يسيطر على البلاد؟ هل يتحكم في الناس؟ أعتقد أن أهمّ فكرة قدمتها الحرب الأهلية السورية هي أن سورية خيال ووهم، والشعب السوري أيضًا خيال. سورية دولة مصطنعة، تضمّ السكان الموجودين داخل حدود، حُدِّدت بشكل تعسفي، من دون أي منطق ديموغرافي أو جغرافي، من مسؤولي القوى الاستعمارية، بحسب مصلحتهم. وفقًا لهذه الحدود الدولية، كان من المفترض أن تكون الجولان جزءًا من سورية. في (الربيع العربي)، انهار المخطط العام الذي أنشئ في الشرق الأوسط بعد الحرب العالمية الثانية، وبخاصة في سورية. الفكرة الثانية المهمة هي أن حكم سلالة الأسد هو حكم أقلية صغيرة، تشكل نحو 10٪ من السكان السوريين (وبعضهم يدعي أنها أقل) أقلية طائفية من الشعب السوري، تحكم بالاستبداد والطغيان والقساوة منذ 1969، وتزداد الكراهية تجاهها، وتأخذ أبعادًا عدة تراكمت على مدار سنوات طويلة، وتنبع قسوة عائلة الأسد غير المحدودة، من كونها تدرك أن فقدان السلطة سيجعلها تتعرض لإبادة جماعية، وانتقامات قاسية، ليس ضد عائلة الأسد فقط، وإنما ضدّ الطائفة العلوية، لهذا يحاول الاحتفاظ بكرسي الحكم بكل ثمن، مهما كان باهظًا.

سياسة إسرائيل:

في ضوء الحرب الاهلية السورية، كانت سياسة إسرائيل ذكية ومتعقلة، على الرغم من بعض الأخطاء الإسرائيلية المحدودة في تعاملها مع الحرب السورية. وتمثلت السياسة الإسرائيلية، في خطوات عدة أبرزها:

أولًا، لم تتدخل إسرائيل في الشأن الداخلي السوري، لأن تحديد الحكم في البلدان العربية -وبخاصة في سورية- ليس من وظيفتها، على الرغم من المأزق الذي واجهته إسرائيل في تدخلها في الشأن اللبناني، خصوصًا أن الحرب تجري أيضًا بين حزب الله وداعش، فمن الصعب تحديد موقف داعم لهذه الجهة أو تلك.

ثانيًا، تقدّم إسرائيل دعمًا إنسانيًا وطبّيًا للسكان المدنيين في سورية، خصوصًا السكان الذين يعيشون بالقرب من الحدود.

ثالثًا، تدافع إسرائيل وتحمي أمنها وحدودها وسيادتها ضد أي اعتداء على أراضيها، من خلال إطلاق النار أو القذائف العشوائية التي تسقط من جراء الحرب السورية.

رابعًا، تدير إسرائيل معركة عسكرية وأمنيّة إستراتيجية، لمنع أي تهديد يمس مصالحها الحيوية، ومنع التموضع الإيراني في سورية، ومنع قوات منظمة حزب الله من الانتشار على الحدود الإسرائيلية، والتصدي لشحنات الأسلحة المخصصة لحزب الله عن طريق سورية، والقصد شحنات الصواريخ التي ترسلها إيران، أو تلك التي يحصل عليها من المخزون السوري، وهذه تشكل تهديدًا كبيرًا على إسرائيل.

خامسًا، التكتم الإسرائيلي على مختلف النشاط الإسرائيلي في سورية، وعدم أخذ المسؤولية عنها، لمنع الأعداء من استهداف إسرائيل، على الرغم من أن إسرائيل، مع الأسف، لا تحافظ دائمًا على هذه العقيدة في سياستها.

الوعي الإسرائيلي المهمّ، في الموقف من الحرب الأهلية في سورية، كان من خلال التعامل مع قضية الجولان، لأنه ضروري لأمن إسرائيل، في نظرة إلى الوراء، لو انسحبت إسرائيل من الجولان في السابق، لكان هناك كارثة وطنية، كان علينا أن نتعامل اليوم مع خطر قيام إيران بتثبيت قواعدها على ضفاف بحيرة طبريا، وإنشاء قواعد لداعش وحزب الله في الجولان المطلّ على إسرائيل.

اليد التي تجمدت:

في الأسبوع الماضي، نشرت جريدة الشرق الأوسط السعودية مقالًا، لمبعوث الرئيس الأميركي لمفاوضات السلام السورية الإسرائيلية، قال السيد فريدريك هوف “في مرحلة الرئيس أوباما، وصلت المفاوضات بين إسرائيل وسورية إلى مرحلة متقدمة جدًا حتى اندلاع الحرب الأهلية السورية. حيث جرى التوصل إلى مقترح مفصل تقدّم به المبعوث الأميركي لبشار الأسد في 28 شباط/ فبراير 2011، قبل أيام قليلة من اعتقال الأطفال في درعا، يقضي الاقتراح بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، على أساس الانسحاب الإسرائيلي إلى خطوط 4 حزيران/ يونيو 1967.

وتشير الوثائق التي قدمها هوف “إلى أن المفاوضات استندت إلى رغبة نتنياهو في العودة، إلى حدود 4 حزيران/ يونيو، بموجبها تستطيع دمشق السيطرة الكاملة على الجولان، مقابل اتفاق سلام شامل مع إسرائيل، بما في ذلك توقع إسرائيلي بأن سورية ستقطع العلاقات مع إيران وتنهيها”.

أدى اندلاع الحرب الأهلية في سورية إلى وضع حد للمفاوضات الخطرة التي كانت مغامرة خطرة كُبرى، وأصبح واضحًا للجميع اليوم مدى خطورتها، إذا انسحبت إسرائيل من الجولان، فقط حفنة من الناس الذين خاب أملهم، ما زالوا يرفضون الاعتراف بخطئهم، لأن الانسحاب من مواقفهم السابقة، والاعتراف بالخطأ كلمة مفقودة من قاموسهم، إلا أنهم ما زالوا يعتقدون أنه كان يجب الانسحاب من الجولان، مقابل اتفاق سلام مع السوريين، ومن بين أولئك الرئيس السابق لهيئة الأركان الإسرائيلية أوري ساغي. وهو رائد التصورات الخاطئة الخطرة في التاريخ الإسرائيلي بل إنه كان من أصحاب الادعاء بأن حافظ الأسد “اتخذ قرارًا إستراتيجيًا لتوقيع اتفاقية سلام مع إسرائيل، ولتحقيق هذه الغاية، من الضروري أن تنسحب إسرائيل من الجولان، حتى قبل حرب يوم الغفران 1973.

منذ ذلك الحين، كان أوري ساغي من أشد المؤيدين للانسحاب من الجولان. عندما حاول باراك تسليم الجولان للعدو السوري، جنده إلى تياره، على الرغم من العلاقة العدائية بينهما، منذ خدمتهما في الجيش الإسرائيلي، وأوكل إليه قيادة المفاوضات مع السوريين والتنسيق لها. في النهاية، بعد أن رفض الأسد اقتراح باراك بالانسحاب من الجولان بأكمله، بسبب الخلاف على بضع عشرات من الأمتار على شواطئ بحيرة طبريا، ألقى ساغي باللوم على باراك، واتهمه بأنه لم يتنازل بما فيه الكفاية إرضاءً للأسد والسوريين، ونشر كتابًا عن تلك المفاوضات بعنوان (اليد التي تجمدت). ولم يقصد يد باراك الذي بقيت معلقة في الهواء عندما رفض وزير الخارجية السوري فاروق الشرع، مد يده والضغط على يد باراك في قمة واشنطن، إنما قصد موقف باراك الذي لم يتخذ الخطوة الأخيرة، تجاه السلام مع سورية.

خلال الحرب الأهلية السورية، ابتكر ساغي نظرية وهمية، مفادها أن انسحاب إسرائيل من الجولان كان سيحول دون اندلاع الحرب الأهلية ، لأن سورية كانت ستتبنى خيار السلام والديمقراطية. والنهج الليبرالي، وكان الشعب السوري سيتقبل استمرار الحكم العلوي من دون تحفظ، وسيؤيد الأسد زعيمًا وقائدًا ورجل سلام، وبانِي الديمقراطية، لاقت أوهام ساغي -مع الأسف- بعض التعاطف من المؤيدين والأتباع الحمقى الذين يرددون هذا الهراء. قلت سابقًا إن ساغي مجرد وهم، وأكثر وصف ملائم له، هو ما حمله عنوان كتابه الأول (أضواء في الضباب). إنه بالفعل مثل من يقود في ضباب كثيف، ويضيء الأضواء العالية التي تبهره، ولا تسمح له برؤية الواقع حاضرًا.

لا تكن راضيًا:

خلال الصراع على مرتفعات الجولان، في التسعينيات، إلى جانب حججنا الرئيسية -القيمة الصهيونية والاستيطانية لمرتفعات الجولان، والقيمة الأمنية لمرتفعات الجولان، وأهمية السيطرة على موارد المياه في البلاد- قدمنا ​​أيضًا طبيعة النظام السوري. لهذا، قيل لنا إن موقفنا منحاز، ولا ينبع من حكم مهني، لكننا تمسكنا بمواقفنا ودافعنا عنها، بما يتناسب مع رغبتنا في البقاء في الجولان.

إن عيشك في الجولان يجعلك خبيرًا مهنيًا في الشؤون السورية أكثر من قائد هيئة الأركان، وكثير من المستشرقين والخبراء المهنيين، الحقيقة أنهم كانوا جميعهم مخطئين، وكنّا على حق؛ إذ اتضح أنهم في حرصهم على اتفاقية سلام، بأي ثمن، فقدوا البوصلة الصهيونية وفقدوا الاتجاه، وقطعوا صلتهم واتصالهم بالواقع. واتضح أن موقفهم كان منحازًا إلى مصالح ضيقة، وكل توقعاتهم كانت أسرابًا من الخيال.

اليوم، تدرك الأغلبية العظمى من الجمهور الإسرائيلي أن الجولان يجب أن يكون إسرائيليًا، وأنه سيكون إسرائيليًا إلى الأبد. ومع ذلك، يجب ألا نتقاعس أبدًا، ويجب أن نستمر في تقويته وتطويره، لضمان أن الواقع الذي أنشأناه هنا لا رجعة عنه، بأي شكل من الأشكال.

—————————-

ترجمة: أيمن أبو جبل

عنوان المقال الأصلي: عقد على الحرب الأهلية السورية

الكاتب: هيئة تحرير مجلة شيسي بغولان – اوري هيتنر

رابط المقال: https://bit.ly/2PDWoqP

تاريخ النشر: 11 آذار/ مارس 2021

————————–

* صحفي سوري وأسير سياسي سابق في المعتقلات الإسرائيلية

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.