الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ملفات ساخنة وحلول مؤجلة

     لا يكاد يمضي زمن على المنطقة العربية وشعوبها، دون أن تواجه كوارث وأزمات، تطال وجودها وهويتها، في محاولات حثيثة لتشويه تاريخها؛ فتشويه تاريخ أي شعب، هو المقدمة لإطالة أمد أزماته، وتشتيت جهوده في الخروج من تلك الأزمات، انطلاقا نحو مستقبل تطمح إليـه.

      ويشارك في هذه المحاولات وينساق إليها، البعض من أبناء شعوبنا، سواء عن جهل أو عبر الانضواء ضمن مشروع يسارع للتشكيك في عروبة المنطقة العربية، ترديداً لمقولات بائسة تارة في رد هويتها إلى هويات غابرة، وتارة إلى اعتبارها تفتقد لهوية واحدة موحدة (خليط من شعوب وإثنيات مختلفة) ضاربين عرض الحائط بتاريخ يمتد إلى ألف وأربعمائة سنة في ظل الإسلام، وآلاف السنين السابقة عليه، من حضارات تشترك  في أسها وأساسها في الانتماء إلى العرب والعروبة. والعربية كلغـة.

     إن المسؤولية الكبرى عما آلت إليه  أمور البلاد والعباد، يقع على عاتق حكام أعفوا أنفسهم من القيام بواجباتهم تجاه شعوبهم، وانغمسوا في تبعية مرذولة، إلى إرادة القوى التي أوجدتهم على كراسي الحكم، تحقيقاً لمصالحها، وحمتهم (تلكم القوى) تنفيذاً لمشاريعها، وهم قبلوا بهذا الدور رغبة في البقاء في السلطة، ولو كانت تحت شبهة التبعية والعمالة والخيانـة.

     ملفات ساخنة ومتعددة، تواجهها شعوب المنطقة، ولا تجد من يمسك بها أو يسعى لمواجهتهـا.

     ملفات تبدأ بالحريات وحقوق الإنسان، وبناء الدولة الوطنية التعاقدية المدنية الديمقراطية بأفقها ذو العدالة الاجتماعية، وتنهي بملفات الحياة اليومية ولقمة العيش وما بينهما من ملفات، مع فشل ذريع بل وهروب ذليل من مواجهة أياً من تلك الملفـات.

     فملف القضية الفلسطينية الذي مر عليه حوالي ثلاثة أرباع القرن، وملف القضية الأحوازية الذي يكاد يكمل القرن على احتلاله، دون أن يُطرح بجدية على طاولة البحث، ليضاف إليهما ملفات دول الربيع العربي، وما أصاب سورية واليمن، والعراق قبلهم، وها نحن أمام دول فاشلة ببنية تحتية مدمرة، وتغيير ديمغرافي لا تخطئه العين، ولا تعجز الرؤيا عن معرفة نتائجه المستقبلية الكارثية على عموم الأمـة.

     وها هو ملف إيران ومشروعها النووي، حاضر وبقوة على طاولات المباحثات بين الدول الخمس العظمى مضافاً إليهم ألمانيا، دون أن يكون للعرب أي رأي أو دور فيه، رغم أنه موجه إليهم أولاً وابتداءً.

     تسعى إيران وبكل قوة لرفع مستويات التخصيب، وصولاً إلى امتلاكها سلاحاً نووياً، لن ترهب به سوى العرب، وهي تخفي وتتخفى وتناور. ومفاوضات مشروعها بين أخذ ورد وجذب وشد، ولو كان مشروعها النووي يشكل خطراً على الغرب وحلفائه، لما ترددوا في أن يكون مصيره مصير المشاريع النووية العربية (المصري والعراقي والليبي)، عدا عن سلاحها الصاروخي، الذي يطال البلاد التي تدخلت فيها والمجاورة لها، قتلاً وتدميراً وإرهاباً وتهديداً.

     وتأتي الضربات الإسرائيلية لمواقع إيرانية، لتحسين صورتها أمام العرب الغفل والمغفلين، لتبدو وكأنها صديقة للشعوب، ونصيرة لحقوقهم، وحريصة على السلم والسلام في المنطقة العربية، وكل ذلك يحدث بتواطؤ بين الأطراف، خدمة للرؤية الإسرائيلية، وحتى لو حدثت ضربة إسرائيلية لإيران، فستكون بذات المنحى والتوافق أيضاً.

     ويضاف إلى تلك الملفات ملف المياه، الذي لا يقل خطراً عن الملف السابق، بل ويتهدد مصير الشعوب العربية تهديداً وجودياً، خاصة وأن منابع جل الأنهار تقع خارج الحدود العربية، فعلى دجلة والفرات بنت تركيا عشرين سداً، وها هي أثيوبيا تبني سدها (سد النهضة)، ضاربة عرض الحائط بكل الاتفاقيات السابقة، التي تحفظ لمصر والسودان حقوقهما، والتي تمت بمجملها في عهد الراحل جمال عبد الناصر؛ وتلعب على الوقت لملء السد ، رافضة أية حلول تعرض عليها، طالما تتلقى الدعم من الدول صاحبة المصلحة في تعطيش وتجويع الشعبين الشقيقين؛ وفي غياب موقف عربي موحد، هذا عدا عن سرقات إسرائيل لمياه نهر الليطاني والكلب واليرموك، ولم تتردد إيران في تحويل مياه أنهار الاحواز، وتلويث بعضها، رغبة في تعطيش شعب الأحواز العربي وتجويعـه.

     ورغم أهمية هذا الملف البالغ الخطورة وجوديا، فإن الموقف العربي منه هو اللامبالاة، التي تدل على العجز والهروب من المسؤوليـة.

     ولعل ملف الفساد بكل حمولاته هو الملف الأكثر خطورة والأبعد تأثيراً. ولا نجافي الحقيقة إذ قلنا أنه السبب الرئيس لما وصلت إليه أحوال الأمة، ولا يقف أمر الفساد على نهب ثروات الشعوب على مدى عقود، بل وصل إلى تهاون الدول عن القيام بواجباتها في الحد الأدنى، لدرجات غير مسبوقة؛ فلا هي قادرة على تأمين معاشات الناس، ولا على الاهتمام بصحتهم، ولا تأمين فرص العمل لهم، ولا تشريع قوانين تحميهم، وليس هناك من تنمية بشرية ولا اقتصادية ولا علميـة.

     إن أنظمة الحكم العربي وصلت لمرحلة من التردي والتنابذ والفساد والاصطراع فيما بينها إلى درجة لم تعهدها المنطقة من ذي قبـل.

     ولا نُحمل هذه النظم المسؤولية وحدها (وهي تتحمل الجزء الأكبر من المسؤولية)، بل تطال المسؤولية النخب العربية على اختلاف اختصاصاتها ومسمياتها (النخب الأكاديمية والثقافية والتعليمية والمالية والسياسية والدينية والحزبية الخ …)، نخب تتفرق وتتشرذم وتتصارع فيما بينها، وتصل إلى حد الافتراق بل والتخوين؛ وتتمترس خلف مصالحها وأيديولوجياتها، ومازالت تتبنى خطاباً لم يعد يناسب العصر ولا قضاياه، ولا يرقى لطموحات شعوبهم، ولا لمعالجة الملفات التي تواجهها بلدانهـم.

     ويبقى الأمل قائماً في شعوب أمتنا، وتتالي ثورات وحراك شعوبها، رغبة في استعادة حرياتها وحقوقها المغتصبة، ودورها في صناعة تاريخها ومستقبل أبنائها، هذا الحراك الذي لا يهدأ ولا يتوقف رغم حجم التضحيات وجسامتها؛ وها هي فلسطين تنتفض لتشكل رافعة جديدة لثورات الربيع العربي، فالأقصى ليس مسجداً وليس ثاني الحرمين الشريفين وحسب، بل أصبح رمزاً لقضايا الأمة العربية بل والإسلامية ورمزاً للنضال التحرري عالمياً أيضاً.

التعليقات مغلقة.