سلوى لوست بولبينا *؛ ترجمة: عبد المنعم الشنتوف **
تسعى الكاتبة والأكاديمية الفرنسية الجزائرية الأصل سلوى لوست بولبينا في هذه الدراسة التي نقدم ترجمتها العربية إلى الاقتراب من تجربة الصحافي والأكاديمي اللبناني الشهيد سمير قصير في الكفاح من أجل الحرية. تقرأ الكاتبة التي تعمل أستاذة في جامعة السوربون باريس ديدرو، ومديرة للبرامج بالكوليج الدولي للفلسفة كتاب «تأملات في شقاء العرب» الذي مثل تشخيصا دقيقا، رغم مأساويته لحال العرب، واستشرافا لما يمكن أن يحدس به المستقبل من حلول. تبدو قراءة الكاتبة منسجمة وانشغالاتها، بوصفها واحدة من أبرز رموز النقد ما بعد الاستعماري في فرنسا.
ولد سمير قصير في بيروت عام 1960 لأب فلسطيني وأم سورية. انتقل إلى باريس حيث حصل على الدكتوراه في التاريخ المعاصر عام 1990 اشتغل الراحل محررا في جريدة «لوموند ديبلوماتيك» قبل أن يقرر العودة إلى لبنان ليصبح أستاذا للعلوم السياسية في جامعة القديس يوسف، إلى جانب عمله محررا في جريدة «النهار». اشتهر بمقالاته النارية المعارضة للنفوذ الأمني السوري في لبنان، وبنضاله في صفوف حزب اليسار الديمقراطي، الذي شارك في تأسيسه، وقد ترتب عن كل ذلك اغتياله في صباح الثاني من يونيو/حزيران في بيروت بواسطة زرع لغم في سيارته.
أحلام، حركات تمرد، وثورات، ليس ثمة من ثورات عربية أو ربيع عربي شامل أو روائح ياسمين، وإنما حركات انشقاق سياسي ومظاهرات في الشوارع، وإسقاط حكومات وأنظمة ديكتاتورية، ومعارضة عشائر وتكتلات وانتفاضات شعبية وأحلام بالحرية وأشياء كثيرة أخرى. وكي نتحدث عن اليقظة يتحتم الإقرار بأن العرب كانوا قبل ذلك التاريخ في حالة سبات. هل يتحتم اعتبار استقرار نظام بمثابة تخدير أو فرض بالغصب والقوة وإكراه على الصمت. يفصح دعم القوى «الغربية» التي كانت التجاوزات الفرنسية في خصوص الحالة التونسية أكثر من معبرة عن حقيقة مؤداها، أنه ينبغي لحرية العرب أن تكون خاضعة للمراقبة. وقد خلخلت هذه الأحداث بفعل حالة الشك والضبابية التي أفرزتها المصالح الجيوبوليتيكية والسياسية بعمق للبلدان الأقوى والأكثر تسليحا في العالم.
من تونس إلى مصر ومن سوريا إلى المغرب وليبيا واليمن، لم تعد النار كامنة تحت الرماد، لكن الشعوب اشتعلت بشكل حرفي ومجازي. وقد أسهمت تكنولوجيا الإنترنت التي تخيلنا أنهم محرومون منها في تأجيج حرائق السياسة وتكثيف شبكات التواصل، وتسريع وتيرة اللقاءات السياسية. ولم يكن ذلك ليتحقق دون عواقب سلبية ووخيمة. وقد مثل ذلك لا محالة حدثا فريدا في ما يهم انتشاره وحِدّته. وكما يقول سيوران فان الحدث ينبثق من الشيء. وقد يكون ربما محصلة شقاء العرب.
ليس ثمة من تقديم لهذا النص أفضل من تلكم «التأملات في شقاء العرب» للمأسوف عليه سمير قصير، التي صدرت عام 2004 أي قبل سنة من اغتياله في بيروت بواسطة لغم في سيارته ، والذي زاوج في سياقه بطريقة مثيرة للإعجاب بين حس الكلمة ولذوعة وحدة الذكاء. ويبرر الكاتب في المستهل اختياره للغة الفرنسية المثيرة للجدل أحيانا. وإذ يقدم نفسه بوصفه عربيا من الشرق العلماني المطعم ثقافيا، فهو لا يعتبر نفسه مستلبا حيال ثقافة أجنبية، ويعتبر النسخة العربية للكتاب تعبيرا عن إمكانية الالتزام بخطاب عن العرب ومن أجلهم.
ارحل! جرى تصدير هذا الشعار خارج حدود تونس، كي يعبر عن إرادة التغيير لدى الشعوب وشبابها التواق إلى المستقبل، الذين احتلوا من أجله الشوارع والساحات وأفصحوا علنا عن غضبهم وبسطوا دون مواربة مطالبهم. يشتمل فعل ارحل على تعدد دلالي لافت. إرجاع ما كان مرهونا أو منذورا لغرض ما، جعل مبلغ مالي متاحا لاستعمال آخر ، تخليص شخص مما يعرقل حركته بمعنى تحريره، إيقاف الإلزام بوعد أو قسم، تعرية جزء من الجسد، تحرير مكان من النافل وسقط المتاع. يتعلق الأمر إجمالا بالأحداث التي بصمت من الداخل العالم العربي؛ ذلك أن هذا العالم لبث لأمد طويل حاملا لبصمة الخارج، كما يشهد على ذلك الاحتلال الطويل للعراق، وإفساح المجال أمام حل يستند إلى التوافق الصعب بين الحرية والحكم. يتعلق الأمر بافساح المجال أمام فضاء عام يتيح حرية التعبير عن الآراء، التي ظلت إلى حدود ذلك التاريخ تحت طائلة القمع واللجم والتجريم، هذا إن لم تكن رجع صدى لما ترغب فيه الأنظمة الحاكمة. ارحل! هو ذا الفعل الأول الذي يأخذ شكل فاصلة، والذي يتيح النقد والاحتجاج. وعلى سبيل الإيجاز ورفعا للحرج، فإن هذا الفعل «ارحل» يبقى متسما براديكاليته. تستلزم صيغة الأمر التي تتسم بألفتها وعدوانيتها تفاهة وسخف أي تفاوض واستحالة الحوار ونهاية مرحلة.
يمكن للسلطة أن تمارس من لدن آخرين أقل سلطوية وجشعا واستلابا حيال الخارج، وأحيانا في صورة حركات وطنية متطرفة، وإن كانت متحررة من التقاليد السياسية الداخلية الكارثية، التي لا نظير له في القرن العشرين، الذي شهد حركات التحرر والاستقلال. يمكن للسلطة عِوَض أن يكون مستحوذا عليها أن تمارس بشكل أكثر إيجابية، ووفق طريقة متعددة ومنظمة في آن.
يمكن لـ»ارحل» أن تسمع من الجميع. كان الجزائريون قد رفعوا شعار «ارحل إيها النظام». أن تجعل المكان واضح المعالم إن لم يكن صفحة بيضاء. يبدو الكلام أسهل من الفعل والتعبير الشفهي أيسر من التأسيس، ما دام الفضاء السياسي تشغله القوى النقيضة، ويبدو أن السياسة لا تطبق فكرة الفراغ.
حين انكب سمير قصير على ما أطلق عليه «الشقاء العربي» فقد كان يتبع مسارا يشتمل على سبع محطات، علاوة على انتقادات ومساءلات في خصوص العالم العربي. وبالنسبة إليه فإن العرب ذوو حظ عاثر وإن كانوا لا يعترفون بذلك. ويبدو شقاؤهم أعظم مما كان عليه بالأمس، وهو محصلة إجهاض مشروع الحداثة. يحتفظ هذا الشقاء بأسباب وطيدة بالجغرافيا أكثر منه بالتاريخ، وينبع مما يرفض العرب الخروج منه. تبدو التبعات الثقيلة لذلك وخيمة ولا تخطئ لا الليبراليين الوطنيين، أو الإسلاميين أو الاشتراكيين الأمميين. كيف يتمثل سمير قصير الخلاص من هذا الجمود الذي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار حجمه وعلاقته بالقمع؟ يبدو تشخيصه متسما بطابع النبوءة: إذا نحن أخذنا بعين الاعتبار المشهد الثقافي العربي المعاصر، سواء تعلق الأمر بالأعمال الإبداعية أو شبكات نقل وتداول المعلومات فإن المستقبل العربي يحض على مزيد من التفاؤل. يكمن المشكل في أن هذا التنوع لا يجد ترجمته في تغيير صيرورة اتخاذ القرار. تفترض ترجمة هذا التعدد في الواقع رفع عراقيل عدة. ثمة يقينا المتاريس والأغلال الداخلية، لكن ثمة كما يشدد على ذلك سمير قصير هيمنة القوى الغربية والتفوق الإسرائيلي. وما جرى التخلص منه جزئيا وليس كليا يتمثل في اطراح الأولوية الوطنية التي لا ترى إلى بلد إلا من منظور بلدان أخرى، واستنادا إلى العالم نفسه. والانتظارات التي جرى الكشف عنها تفصح عما مؤداه أن الأساس يكمن من الآن فصاعدا في إيلاء الأولوية للذوات السياسية، بشكل خاص بما يستدعيه ذلك من أن تقييم بلد لا يتم في علاقة قوى دولية باخرى، وإنما في علاقة الذات بالحكومة والمؤسسات. وفي هذا السياق يكتسب جهاز الشرطة الأولوية، ويكون التهديد الإمبريالي حاضرا باستمرار.
يحضّر العالم العربي لما سوف يأتي؛ إذ أن الماضي شل حركته لأمد طويل. ويمكننا كما شدد على ذلك سمير قصير أن نقيم القطيعة مع هذا الماضي. لكن ذلك فكرة مغلوطة، إذ اضطلعت الاستماتة في التزام مسافة من القوى الاستعمارية بدور الكابح بالنسبة للعرب. وكان الاضطرار إلى التحرر من الهيمنة الاستعمارية ملحمة. ولا يتيح الزمن ما بعد الاستعماري وراهن هذا العالم طرح كل التساؤلات. يقول في هذا السياق: يمكن بالأرقام احتساب الكلفة البشرية لحرب الجزائر وإحصاء آلاف الفلاحين المصريين، الذين قضوا نحبهم من أجل تأمين حفر قناة السويس. لكن هل يمكن معرفة الثمن الاقتصادي والسياسي للتوتر الذي سيطر على الحياة اليومية للشعوب، التي كانت تصطدم يوميا بعوائق الهيمنة الأجنبية، في أثناء البحث لها عن مكان تحت الشمس؟ ومن يقدر حجم الجهود التي بذلت فصرفها المستعمر عن مجال التطور؟ ومن يدرك مدى ما بدد من الوقت الاجتماعي من أجل التعبئة السياسية؟ ومن يقيم تضحية الفرد في المعركة وهو يستنفد ذاته من أجل أن يحقق الشعب ذاته؟». (الكتاب)
تلك هي الكارثة أو النكبة كما يعبر عنها الفلسطينيون، وفي أثناء ذلك يزدهر ويتضاعف عدد المتاجرين في العقيدة والدين، الذين طالما مولهم ودعمهم الغرب لأسباب استراتيجية. يفرض المتشددون وجهات نظرهم ويشوحون بقبضاتهم. يزهر الأفيون «السياسي» ويستهلك ويتداول. القرآن والجهاد والإسلام. يشكل المحتالون والمدلسون كتيبة تبلور إسلام البلاط والشارع في آن. وبالنسبة لموليير: «فإن النفاق يشكل في ما يخص الدولة السبة الأشد خطورة». كان الشاعر الكوميدي الفرنسي يفكر في الحقيقة في ما مؤداه أنه ليس ثمة أفظع في السياسة، كما في غيرها من أن لا تقرن الأفعال بالأفكار، وأن تدعو إلى الحرب من أجل إحلال السلام. وعاظ منافقون يحتلون الفضاء العام، ويفضلون ملذات الدنيا على نعيم الآخرة وشهوة الطموح على التواضع، والنفوذ على الصدق والنزاهة. وحين يكونون كذلك فإنهم يصبحون شأن الآخرين رجال سياسة وشعبويين وديماغوجيين. وهم يحولون كتابا مقدسا إلى مفتاح للرؤى إن لم يكن للحقول.
* فيلسوفة وكاتبة فرنسية من أصل جزائري
** كاتب وناقد ومترجم مغربي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.