الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

في ذكرى عبدالناصر .. تأملات في مقولات رائجة

محمد محمود الإمام

يروي السيد محمد فايق أنه عندما اتصل بعبدالناصر مستأذناً لوفد من ثوريي أمريكا اللاتينية في مقابلته باعتبارهم يعتنقون الناصرية، انزعج أيما انزعاج واستنكر أن يضم اسمه إلى قائمة تقوم على شخصنة الفكر، كالماركسية. ولكن توالي الأحداث بعده، جعل للناصرية مغزى هاما، لأنها أصبحت الحائط المنيع الذي يقي ثورة 23 يوليو 1952 من أن يفسرها كل حاكم يتولى الحكم تحت رايتها وفق ’’مزاجه‘‘ كما قال وفعل أنور السادات حينما نصّب نفسه كبيراً للعائلة بدوره المقرر في قاموس أخلاق القرية. لكن التسمية تحولت إلى معضلة عندما ارتدى البعض قميص عبدالناصر (على حد قول السادات أيضاً) ليلصقوا بها دعاوى أبعد ما تكون عن أفكار الزعيم الراحل وعن الثورة ذاتها. والأخطر من ذلك أن هذا أدى إلى صراعات بين فئات يريد كل منها أن يصبح زعيما بالوراثة. والأنكى من ذلك أن جهات تصدى لها عبدالناصر في كفاحه ضد الاستعمار والذود عن وطنه وعن دول وقعت فريسة له وسعيه إلى ضم صفوفها لتكتسب صلابة في مواجهته، رددت أخيرا أنها لن تسمح بأن يظهر في مصر عبدالناصر آخر. هذه المقولات بحاجة إلى التمعن في جوهر ما يمكن أن يطلق عليه مشروع نهضوي يواكب حركة الحضارة العالمية المتسارعة الوتيرة بالاعتماد (الجماعي) على النفس.

***

ولعل أهم ما يلفت النظر دعاوى تردد في الأدبيات المصرية خاصة والعربية العامة، أن مصر شهدت خلال القرنين الأخيرين مشروعين نهضويين، ينسب أحدهما لألباني هو محمد علي باشا والآخر لمصري هو جمال عبدالناصر . وربما كان الداعي إلى اقتران الاسمين هو أن كلا منهما حاول ونجح في كسر التخلف الذي فرضته قوى مهيمنة على مصائر الشعوب والأمم. غير أن قليلا من التأمل يظهر الفارق الهائل بين الغاية النهائية لكل منهما: فالأول حاول أن يحارب الاستعمار بالاقتداء بمنهجه وحاول أن يكون منافسا له، والثاني سعى إلى القضاء عليه وتحقيق الكرامة الإنسانية لشعبه وأمته وشعوب أخرى تشاركه محنته. كلاهما وصل إلى سدة الحكم عقب ثورة شعبية مع الفارق المتمثل في أن الثوار المصريين الذين أرادوا طرد الفرنجة في ختام القرن الثامن عشر وهبوا مقاليد الحكم إلى من توهموا فيه القدرة على التخلص من الاستعمار الفرنسي والعودة إلى الخلافة العثمانية التي كانت صيغة مشوهة للاستعمار، بينما أراد ثوار 1952 التخلص من الاستعمار البريطاني وأعوانه ممن استغلوا القضية لينهبوا ثروات الشعب ويسخرونه لخدمة مصالحهم. وفي الحالة الأولى تصدت قوى الاستعمار للمنافس الجديد، بهدف استبقاء الإمبراطورية العثمانية التي نأت بولاياتها عن مسايرة الحضارة، وأغدقت على رعاياهم بامتيازات لم تتخلص منها مصر إلا في 1937 عقب ’’معاهدة الشرف والاستقلال‘‘.

وحينما انهار مشروع محمد علي الاستعماري، تراجعت بشدة القفزات التي أحدثها في الدولة المصرية لأنها لم تكن أصلا موجهة لشعبها، بل لإعداده لخدمة مشروعه الشخصي. وكان مكسبه الوحيد هو تمكين الأسرة العلوية من وراثة حكم شعب لا حول له ولا طول؛ من بين أعضائها من بادر إلى إغلاق المدارس، ومنهم من أراد جعل مصر قطعة من أوروبا ليعلو شأنه هو، ومنهم من رضي من الغنيمة بسلامة العرش، وهي العبارة التي رددها فؤاد الأول رافضا لمقترحات سعد زغلول لتحقيق استقلال بدا بعيد المنال، ليرد عليه ’’إن الأهم أن يظل العرش بخير‘‘، فلم يملك سعد إلا أن بقول: ’’بئست أمة أنت ملك عليها‘‘.

***

طبيعي ألا يستطيع شخص بمفرده أن يقود شؤون دولة، إذ لابد من أعوان يؤازروه ونظام يثبته على رأس الدولة . وهنا يتبادر إلى ذهننا عبارة تتردد حتى الآن حول المقارنة بين “أهل الثقة وأهل الخبرة”. فعندما تولى محمد علي حكم مصر، كانت مهمة الوالي الذي يعينه الخليفة تحصيل الخراج  والجزية لحسابه خلال فترة ولايته التي كان الخليفة يحرص على ألا تطول حتى لا يطمع في الانفراد بالحكم، بينما يشاركه المماليك في نهب أموال الشعب الذي كان يردد ’’إيش تاخد من تفليسي يا برديسي‘‘. وبدأ محمد علي بمذبحة القلعة ليستولي على أراضيهم، في الوقت الذي أقام فيه مشاريع توسع زراعي لزيادة الموارد المحلية، في مقدمتها القناطر الخيرية، ليدبر من خلال إيراداتها تكاليف حملاته العسكرية. ومع أن الأزهر الشريف كان منارة للعلوم الإسلامية، فإن البلاد خلت من مراكز للعلوم المدنية اللازمة لإدارة دولة حديثة والدخول في أنشطة صناعية متطورة لابد منها لتزويد جيوشه بالأسلحة التي تمكنه من مواصلة حملاته، وتبني وترمم الأسطول الذي تتنقل به قواته المحاربة.

ومن أجل هذا أنشأ الترسانة الشهيرة، وتحرك في مسارين: الأول إيفاد البعثات إلى أوروبا لتلقي العلوم الحديثة، وتحصيل خبرة تمكّنهم من أن يعينوه على تحقيق طموحاته؛ والثاني شراء أهل الثقة بإقطاعيات تجعلهم بمثابة الحزب الحاكم الذي يتحكم في مصائر عامة الشعب وتطويعهم لأمره. وأقيمت مدارس لتخريج كتبة يعملون في دواوين حكومية حديثة النشأة، فكان لقب الباشكاتب يعبر عن مكانة رفيعة، وكانوا نواة لنشأة طبقة متوسطة نافست المشايخ في الجاه. وعزز البريطانيون هذا النوع من التعليم في فترة الاحتلال، لتصبح تلك الدواوين مقصدا للرزق المضمون وإن كان ذا سقف لا يتعداه. ومع سقوط مشروعه فقدت الإصلاحات الداخلية أهميتها، لأنها لم تكن لخدمة الشعب، ولا بمساندته. واكتفى بحصر وراثة الحكم في الأسرة العلوية، يحكم كل وارث وفق هواه.

وعندما قامت ثورة يوليو حرص عبد الناصر على الجمع بين ثورتين: سياسية تواصل مسعى ثورة 1919 لإنجاز الاستقلال، والثانية اجتماعية تواصل ثورة عرابي الذي ثار على وريثٍ لمحمد علي اعتبر الشعب والجيش ’’عبيد إحساناتنا‘‘. وأعلن منذ البداية أن الثورة تسعى إلى تحقيق “نهضة بشرية”. مستبقا دعوة الأمم في التسعينات إلى التنمية البشرية تكون التنمية الاقتصادية بضمنها. وكان الإصلاح الزراعي من أهم أدوات إنهاء استعباد الغالبية الساحقة من المصريين وإشعارهم بآدميتهم، وإنهاء النظام البرلماني المزيف القائم على استيلاء الأعيان على الثروة الاقتصادية والأصوات الانتخابية معا، استباقا لما أطلق عليه مؤخرا ’’زواج السلطة بالمال‘‘ ضمن منظومة حزبية كاريكاتورية.

***

وبحكم أن التطور الاجتماعي يحتاج إلى زمن أطول كثيرا من التطورين السياسي والاقتصادي، كان من الضروري الانطلاق مباشرة إلى تعامل جاد مع الثلاثية التي كانت تردد في كل خطبة عرش: ’’وستعمل حكومتي على القضاء على الفقر والجهل والمرض‘‘ . فأقامت الثورة مجلسا للخدمات وعممت المجانية في التعليم مصداقا لمقولة طه حسين “التعليم كالماء والهواء”، وأقامت “المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي” في أكتوبر 1952 ليحل محل المجلس الاستشاري الاقتصادي الأعلى الذي سبقه بعامين وظل بدون فاعلية. ونادى عبدالناصر بتذويب الفوارق بين الطبقات، وليس القضاء على طبقة لحساب أخرى، تمكينا لقوى الشعب العاملة من المشاركة الفعالة في تسيير دفة الحكم . ودعم الحركة التعاونية لتعزيز أواصر العلاقات بين الأفراد في الإنتاج والاستهلاك. وكانت صيحته: “ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستعباد“.

طالب المصريين بأن يرفعوا أبصارهم إلى أعلى .. لا استجداء لصدقة من ولي النعم، بل افتخارا بدولة أعادوها إلى موضعها الصحيح في مقدمة سفينة الحضارة”.

 

المصدر: موقع CNN بالعربية بالتعاون مع صحيفة الشروق المصرية

التعليقات مغلقة.