بوعلام رمضاني *
ليس من السهل في ظل حجر صحي يفرض التباعد الاجتماعي، جمع مثقفين عربيين بارزين لمناقشة خلفيات وحيثيات وردود أفعال ومقاربات، ما زالت ترمي بتداعياتها داخل وخارج فرنسا، وعربيا وإسلاميا وعالميا. رعب كورونا الجديد لا يعد رعبا حقيقيا، إذا ما قورن برعب سابق وقديم، أضحى مستعصي الحل لبعده المبدئي والجوهري عن كل أنواع المقاربات العلمية الدقيقة التي تنتهج عندما يتعلق الأمر بوباء يستهدف الأجساد وليس العقول والقلوب في الوقت نفسه، كما هو الشأن عند مقاربة “الإرهاب الإسلامي” وفق منظور فرنسي استثنائي ومثير للتحفظ وللاختلاف بشكل لافت. إنه الإرهاب الذي أصبح مرتبطا اجتماعيا وسيكولوجيا وإيديولوجيا وإعلاميا بما أصبح يعرف بالإسلاميين المتطرفين أو الإرهابيين دون غيرهم من المتدينين المتطرفين دينيا أو إيديولوجيا ليس في فرنسا التي تعنينا في هذا المقام فحسب، بل في العالم بأسره. رغم طغيان رعب كورونا في المشهد الإعلامي الفرنسي وتغطيته على قضايا يراها فرنسيون كثر أولى بالاهتمام، لم يهدأ بال عدد كبير من “مثقفي” القنوات التلفزيونية الخاصة، واستمروا في خلط المفاهيم والمعاني وفي إطلاق الأحكام القاطعة بسهوله وبساطة غير محدودتين برغم تشعب وعمق وجدلية وشمولية ما أصبح يسمى بالتطرف الإسلامي تارة، وبتعصب معتنقي الإسلام كدين أضحى يهدد نمط حياة وعيش أبناء العلمانية الفرنسية تارة أخرى.
لتوضيح خطورة ما بلغه الخطاب الفكري والسياسي والإعلامي الفرنسي في المدة الأخيرة من انحرافات إيديولوجية، لامست الحقد والكراهية عقب اغتيال الأستاذ الفرنسي، والاعتداء على إحدى الكنائس في نيس، ولوضع الأمور في نصابها وفي سياقاتها الجدلية العقلية وغير المشحونة بشعبوية ديماغوجية جياشة، التقت “ضفة ثالثة” الكاتبين والأستاذين سلام الكواكبي، مدير المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بباريس، وغالب بن الشيخ، المتخصص في الفكر والتاريخ الإسلاميين والعضو في مجلس حكماء العلمانية ورئيس مؤسسة “إسلام فرنسا”. الأستاذ الكواكبي يقع في تقديرنا مثل الأستاذ بن الشيخ بين ناري الرافضين لتحليلهما والمشككين في مصداقيتهما، كونهما ينبذان التشويه المتبادل بين الطرفين المتصارعين على خلفية التطرف الإسلامي والإيديولوجي العلماني تحت وطأة توظيفات مغرضة خرجت من رحم حسابات ومخططات وخلفيات وأهداف داخلية وخارجية تعدت المستوى الفكري المطلوب، لتصب في صراع سياسوي يتجاوز حدود بلد موليير وبلدان كثيرة أخرى.
هنا الحلقة الأولى من المناظرة التي جمعتنا بالأستاذين سلام الكواكبي وغالب بن الشيخ عن بعد في عز الموجة الثانية لجائحة كورونا الرافضة للاستسلام حتى اللحظة.
الصوت العاقل يكاد لا يُسمع:
– كمثقفين يعرفان جيدا فرنسا تاريخا وثقافة سياسية وإعلاما بوجه عام وخصوصية إيديولوجية باسم العلمانية بوجه خاص، هل تعتقدان أن ما جاء عقب اغتيال الأستاذ الفرنسي من مقاربات ومواقف سياسية وردود أفعال يرقى إلى مستوى النقاش المطلوب في مجتمع أصبح فيه تحليل ما حدث تبريرا للإرهاب ونوعا من التزكية والتواطؤ على حد قول ضيوف قنوات تلفزيونية خاصة معينة باسم التحليل الفكري؟
= سلام الكواكبي: بعد هذا الفعل البشع، خاض الجميع في وحول ردود الفعل والتوتر اللفظي والمواقف الشعبوية. وكان من المؤسف أن تكون مواقف بعض الرسميين التي عبروا عنها من خلال تصريحاتهم تكاد تشابه وتتطابق مع مواقف وتصريحات بعض نجوم الإعلام في محطات الأخبار المستمرة من يمينيين متطرفين إلى جدليين صانعي الفضائح. لقد نجح بعض الرسميين، كوزير الداخلية ووزير التربية، في إعادة تدوير عبارات كان من العيب استخدامها من قبل اليمين المتطرف الفرنسي. باستعمالهم لها، قاموا بتطبع العلاقة مع هذه العبارات غير المدروسة واستلفوا، إن لم نقل استولوا على، خطاب الأطراف المعادية للمسلمين كمجموعة دينية بعيدًا عن التركيز في الإرهاب وبعيدا في الوقت نفسه عن الفهم السوسيولوجي لمجتمع غارق في الأزمات. وقد بدا أن الكثير من المسؤولين غير متمكنين من ملفاتهم الى درجة دفعت وزير التربية لنعت الباحثين الجامعيين في العلوم الإنسانية بـ”الإسلامويين اليساريين”، وهي عبارة تعيدنا الى الاستخدام القديم إبان النازية وأعوانها لتعبير “اليهود البلاشفة”. بعض الأصوات العاقلة، فضّلت الغياب عن المشهد انتظارا لعودة الهدوء إليه ومرور موجة الغث والملوّث من الفكر وأنا اتفهم هذا تماما.. لأن المشهد ملوّث والصراخ عال ويكاد الصوت العاقل لا يُسمع وإن دُعي للنقاش فسيحاول محاوروه استفزازه للحصول على ما يسعون اليه من متابعة عددية. فالأستاذ غالب بن الشيخ دُعي إلى بلاتوهات وكان الله في عونه لمدى ما عاناه من خفة المحاورين الذين من خلال سعيهم لاستفزازه حاولوا أن يخفوا جهلهم بكل الموضوع الذي حاوروه فيه.
وهنا أتوقف عند ما كتبه سيرج حليمي في “اللوموند ديبلوماتيك” أخيرًا قائلًا: “يطالبون بضرورة منع خطاب الكراهية في وسائل التواصل الاجتماعي دون أن يلاحظوا بأنهم يمارسون نفس الخطاب وبنفس السمية، ولكن في محطات الأخبار المستمرة”.
= غالب بن الشيخ: أولا أشكر “ضفة ثالثة” التي جمعتني بالأستاذ والكاتب سلام الكواكبي المحق في إدانته الجو السياسي العام الملوث والغارق في الظرفية العاطفية على حساب المقاربة العقلانية والمتزنة والعميقة والشاملة التي تضع وضعا متأزما على أكثر من صعيد بكل المقاييس في دائرة التفكيك والتمحيص الفكريين، ولتجاوز الصراخ والاستفزاز والاتهامات الخطيرة المجانية الموجهة للذين يخالفون آخرين فكريا وسياسيا باندفاع عاطفي وغير عقلاني الأمر الذي يحيلنا على محطات تاريخية بغيضة كما جاء على لسانه. أضيف فقط إذا سمحت إلى ما تفضل به الأستاذ سلام بقولي: إن الخلط المقصود أو غير المقصود والتشويه والتحريف، حقيقة تشمل الأطراف المتناقضة التي تتبادل تهم المغالاة والشطط والتزمت، كأن يقول البعض بصفة مطلقة ومتسرعة إن مقاربة فرنسا (وكأن هناك فرنسا فكرية واحدة في كل الحالات) لظاهرة التطرف الإسلاموي يندرج في سياق الاضطهاد المسلط على مسلمي فرنسا. هذا التوضيح، يقودني منهجيا من باب الحكمة إلى حتمية التفرقة الجوهرية والحتمية بين ظرفية الإدانة العاطفية المحملة بكلام ينم عن تأثر طبيعي أول، وبين ظرفية التحليل الفكري الحكيم والرصين الذي يتجاوز الظرفية الأولى بحكم اعتماده على مقاربات تتناول الدين وغير الدين من منظور علمي تتداخل من خلاله أكثر من مرجعيات تاريخية وثقافية وسوسيولوجية وسيكولوجية وفلسفية الأمر الذي يثبت أن الأزمة ليست دينية الجوهر كما يريد تمرير ذلك تجار الإثارة الإعلامية الذين يشوهون المفاهيم، ويغطون عن قصد على من يرفض ذلك كما أشار إلى ذلك الأستاذ سلام مشكورا.
– أرى أستاذ غالب منذ الوهلة الأولى، أنه رغم اتفاقك المبدئي مع الأستاذ سلام من منظور الإدانة للجريمة البشعة وللخطاب الإعلامي القائم على الإثارة المجانية، لم تقف عند تصريح وزير التربية بلانكيه الذي ظهر متهورا وهو المعروف بهدوئه ورزانته. ويفسر ذلك ـ كما يقول البعض ـ بوقوعك بين نار تحفظ نسبي تفرضه مهامك الفرنسية غير الأكاديمية خلافا للأستاذ سلام، وبين نار دفاعك عن العقلانية الإسلامية التي لا يؤمن بها الكثير من مفكري وأدباء وسياسيي فرنسا العلمانية، كما لا يؤمن بها مسلمون يتهمونك بأنك تختفي وراء غابة الأكاديمية النخبوبة المفرطة الأمر الذي يغطي على التناقضات والمفارقات والمنزلقات الفرنسية، والمؤججة للوضع داخليا وخارجيا. ما تعليقك؟
= غالب بن الشيخ: أنت تعرف أن لكل واحد أسلوبه في الكلام والرد حيال هكذا قضايا خطيرة، والتشخيص لا يقدم ولا يؤخر مبدئيا عند تناولها فكريا كما أفعل دائما. إن حديثي عن الغلو والشطط والخلط السيء والمخادع، بين الظرفية العاطفية والأخرى العقلانية، يشمل كل من يمثل هذه الحقيقة المؤسفة كان من كان، والحكمة وحدها هي التي تدفع بصاحبها إلى تجنب الخلط بين الظرفيتين عند كل الأطراف تجسيدا للصفر الجامع أو صفر الحكمة في العهد القديم، فهناك وقت للحياة ووقت للممات، ووقت للحرب ووقت للسلم، ووقت للاستنكار والشجب المبدئيين والسريعين وآخر للتحليل العقلاني لكل ما يلف ويحيط بالظاهرة علميا، ولا تحليل دون فحص متشابك وجدلي المشارب والمرجعيات والتخصصات في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية بوجه عام. بالنسبة لما أسميته بوقوعي بين نارين، أضيف أنه إلى جانب رئاستي مؤسسة “إسلام فرنسا” دون مقابل، أنا عضو في مجلس حكماء العلمانية، وفيه قلت إن تصريح وزير التربية لم يكن محقا ومنصفا وعليه تدارك الأمر، وجاءتني معلومات في شكل وعد أنه لن يكرر استعمالها مستقبلا، وأن وزير التربية لم يكن يدرك تمام الإدراك خطورة هكذا كلام في سياق لا تنقصه المشاحنات المجانية. الأكاديمية المفرطة التي أختفي تحتها، كما جاء في سؤالك استنادا لتفسير البعض، ليست هروبا نحو الأمام ولا انبطاحا وقبولا لكل ما يقال رسميا كما يعتقد البعض، ولكنها بوابة المقاربة المنهجية لظاهرة التطرف الديني والإيديولوجي، وأنا عدو التردد في إدانة القتل باسم لعب دور الضحية دفاعا عن الإسلام والمسلمين بشكل عاطفي وتعميمي مطلق (أندد ولكن)، وخاصة حينما يسكت على الجرائم البشعة المتكررة بدعوى اضطهاد المسلمين في فرنسا أو خارجها، وكلمة الاضطهاد هي الأخرى كلمة لا تعبر عن الحقيقة. بعد الإدانة القاطعة والمبدئية للجريمة المرتكبة باسم الإسلام، يمكننا طرح مسؤوليات كل الأطراف الفرنسية دون استثناء سياسة رسمية كانت أم فكرية متعلقة بالخلفيات السياسوية المتطرفة باسم العلمانية.
– لكن حينما يأتي التصريح الخطير من وزير تربية قصد اليساريين المهيمنين على قطاع يكوّن الأجيال يتضاعف الخطر بتصور فرضية مشاركتهم غير المباشرة في تكريس الإرهاب الإسلاموي. بهذا التصريح الذي يصب في صلب ثقافة اليمين المتطرف، والمدعوم بضيوف قنوات إذاعية وتلفزيونية على مدار الليل والنهار دون آخرين، يتبين أن وزير التربية لم ينزلق كأسير للظرفية العاطفية اللصيقة في أكثر الحالات بالمسلمين داخليا وخارجيا، وكان عليه أن يعتذر لتجاوز آثار هذا النوع من التصريح المتجذر في تاريخ فكري غير جديد؟ ما رأيكما؟
= سلام الكواكبي: هل رأيت سياسيا يعتذر؟ من النادر القيام بذلك علنيًا وخصوصًا في فترة الإثارة. وأود ان أنوّه بأن وزير التربية توجه لوزيرة التعليم العالي والبحث العلمي التي التزمت الصمت على الرغم من غضبها الشديد من موقفه كما صرّحت بذلك للأساتذة والباحثين أنفسهم، الأمر الذي يؤكد بروز تناقضات واضحة بين بعض المسؤولين التنفيذيين. في الوقت نفسه، نحن نشهد صمتًا مدويًا لوزير العدل والذي يعبر من خلاله عن تنافره الشديد مع وزير الداخلية، ومن المؤكد بأنه لهذا السبب، ولأسباب أخرى ليس مجالنا هنا التطرق إليها، لن يدوم كثيرا في موقعه.
– هذا الأمر يقودنا إلى التأكيد على أن الأطراف الفرنسية تتساوى تقريبا في الجوهر بتطرفها واتهاماتها وخلطها مع الأطراف الإسلاموية المتهمة بالتطرف تحت مسميات غير دقيقة، الأمر الذي يؤدي إلى صعوبة التفرقة بين التصريحات الظرفية العاطفية والعقلانية “الواعية والممررة بسبق إصرار غير جديد” وهذا ما لا يساعد على تذليل الخلاف الذي يغذي المكابرة والعناد من الطرفين؟ ما تعليقك أستاذ سلام؟
= الـكواكبي: حاليا، يندر صوت العقل، ولكنه بدأ بالتعبير أكثر فأكثر. ويمكن لنا أن نقرأ في الصحف الأساسية كـ”اللوموند والليبراسيون”، نصوصا رفيعة المستوى لمؤرخين وأنثروبولوجيين وعلماء سياسة وفلاسفة يحللون الأمر وينتقدون بشدة الطريقة التي تم التعامل من خلالها مع الأزمة. إضافة إلى ذلك، فقد توسع البعض منهم في قراءة المشهد الإسلامي في فرنسا بعقلانية وبإعطاء كل العوامل المؤثرة والفاعلة مكانها الصحيح في التحليل العلمي الذي يمكن أن يُفضي إلى اجتراع الحلول الناجحة. واعذرني إن لم أضع التطرفين على نفس المستوى، فشتان بين التطرف العنفي والتطرف اللفظي، على الرغم من عدم إنكاري إمكانية تحول اللفظي والإجرائي إلى عنف مبطن بداية وسرعان ما تترجمه أعمال غير محسوبة. لكننا نتحدث في الوقت الحالي. وأنوّه أنني قاربت بين خطابي الكراهية الناتجين عن التطرف ولكن لن أقارب بين خطوات تطرف لفظي وإجرائي بمسار تطرف عنفي وارهابي.
– ماذا عن قراءتك أستاذ غالب لقول الأستاذ سلام الذي وضع في نفس الكفة ـ طرفي الصراع الدائر من منظور خلفية التطرف الديني والإيديولوجي وتبادل الكراهية والسمية مذكرا بما قاله سيرج حليمي ـ الأمر الذي يقودنا إلى القول منطقيا إن التطرف هو معادل وسمة الجهتين، ويقضي على الحكمة التي تميز موقفك، ولم تميز وزير الرئيس ماكرون والرئيس نفسه الذي وقع هو الآخر تحت وطأة الظرفية العاطفية قبالة نعش الأستاذ صمويل باتي؟
= بن الشيخ: لا لا أعتقد هذا، والتاريخ الذي تستند عليه منهجيا في طرح أسئلتك، هو التاريخ الذي يثبت الثمن الغالي الذي دفعه الإسلام من أتباعه المتزمتين الذين يخلطون عمدا منذ ثلاثة عقود بين السياسة والدين، ولم نسمع يومها مشايخ وأئمة ومفكرين وعلماء إلا في حالات نادرة يدينون تعصب جماعات عرفت في الجزائر ومصر والصومال وفي بلدان أخرى، ولا أتحدث عن “داعش” الحديثة النشأة والبروز. هذه الحقيقة، أدت إلى انتشار شعور الفرنسيين بخطر يهدد هويتهم الثقافية اللصيقة بعلمانية تميزهم تاريخيا، وأمام استمرار الظاهرة، أضحى العنف أو الإرهاب مرادفا في أذهانهم لمكونات اللاهوت الإسلامي ظلما وبهتانا، وتنامى هذا الشعور في الحقبة الأخيرة وخاصة بعد اعتداءات المجرم محمد مراح.
مشكلة فهم الآخر:
– لكن ما تسبب في شعور الفرنسيين بخطر يهدد هويتهم اللصيقة بالعلمانية قد سبقه تاريخيا شعور المهاجرين ـ الذين ترسخوا كمسلمين بالضرورة ـ في الخطاب السياسي والإعلامي كسجل إيديولوجي تجاري ومكيافيلي بين كل التيارات المتصارعة على ظهر أغلبية مهاجرة مسالمة وغير متدينة كما أكدت الإحصاءات والدراسات العلمية الجادة والرصينة (مثلا دراسات “لنسيه “l insee)، وهل قول ذلك يعني في تقديرك إنكار ظاهرة التطرف الإسلامي الذي يهدد كل فرنسا كما يقال عن كل من ينبه إلى خطورة الخلط بين معالجة سطحية لا تتعدى مجال الدين وأخرى عميقة الجذور والتفسير تاريخيا وسوسيولوجيا وفكريا وثقافيا الشيء الذي يحيلنا على توظيف سياسوي للعلمانية بشكل لاهوتي تسلطي أيضا، وسبق للفيلسوفين الكبيرين إدغار موران وريجيس دوبريه أن نددا بذلك؟
= غالب بن الشيخ: ملاحظتك في محلها وأنت محق في الإشارة إلى ذلك. العلمانية تفرض قانونيا كما جاءت عام 1905 في سياقها التاريخي الحياد السياسي للدولة حيال كل الأديان وتقف نظريا على مسافة واحدة حيال كل حقوق وحريات الجميع بغض النظر عن أي انتماء ديني. آسف كل الأسف شخصيا، لأن الأمر لم يتم عمليا بتحول العلمانية إلى معتقد ديني جديد يتنافس مع الأديان القديمة إن صح التعبير لكن في شكل تجارة إيديولوجية مارسها اليمين واليسار على السواء لعدة عقود. معك حق أيضا في ذكر الفيلسوفين الكبيرين إدغار موران وريجيس دوبريه كمصدرين لنقد العلمانية المنعوتة (المغلقة أو الأصولية أو التسلطية أو الإقصائية) وللأسف الشديد مرة ثانية، لم يعد يسمع لهذين الهرمين الفكرين في سياق الإثارة الإعلامية المقصودة ولا حياة لمن تنادي.
= سلام الكواكبي: هناك مشكلة فهم للآخر حقيقية لدى أطراف المعادلة جميعًا. العلمانية الفرنسية قوننت أساسًا لمواجهة سلطة الكنيسة ولم يكن للمسألة الإسلامية وجودها في المشهد الداخلي وانحصر وجودها حينذاك، أي في بداية القرن العشرين، في المستعمرات والتي أدارت باريس مركزيًا مسألتها الدينية الإسلامية. وإن كان من الصحيح بأن الإعلام الفرنسي الشعبي يشوه كثيرا من المفاهيم ويقوم بتنميط مجموعة بشرية بأكملها، إلا أنه صحيح أيضًا بأن الإعلام العربي يمارس نفس اللعبة. وبالتالي، نحن أمام تشويه لفهم كل الأطراف لحقيقة الطرف الآخر. وهنا، وبعد سوء الفهم المتبادل، يقع سوء الإدارة وسوء الممارسة وصولا إلى تسعير خطاب كراهية يعتقد كل من استخدمه بأنه بريء منه. فعلا، غالبية المسلمين في فرنسا غير متطرفين، هذا إن لم نقع في التعميمات الإعلامية السطحية التي تعتبر المتدين متطرفًا. والتدين فعل خاص لا علاقة للدولة به ما دام يمارس في الحقل المنزلي أو الأسري دون أن يمس بقوانين الجمهورية التي من المفترض على مواطني البلد مهما كانت أديانهم أن يحترموها. وكذلك يجب التنبه الى مسألة خطيرة كان يستخدمها اليمين المتطرف وصارت اليوم تتردد على ألسنة الجميع والتي تتحدث عن “جالية” مسلمة أو عن عودة المسلمين إلى بلادهم إن هم لم يقبلوا بالظروف العامة للحياة الاجتماعية الفرنسية علما أن أغلب الفرنسيين الذين ينحدرون من أصول عربية ومسلمة من أولاد هذ البلد. انطلاقا من هذه الحقيقة لا يمكن الحديث عنهم وكأنهم أجانب. وكذلك، فأغلبهم ليس فقط بحامل للجنسية بل ولد هو وربما أهله في فرنسا. وبالتالي، من السخافة بمكان الحديث عنهم كأجانب في خطاب عنصري مهيمن. من جهة أخرى، التطرف واقع موجود وتتحمل مسؤوليته عوامل متنوعة منها الذاتي ومنها الموضوعي يطول التوقف عندها. هناك استقالة للعقل في مواجهة الظلامية منذ عقود على مستوى العالم الإسلامي عمومًا. وبالمقابل، هناك ممارسات تمييزية وإقصائية تساهم في خلق تقوقع وانغلاق ربما يكون التطرف الديني إحدى نتائجه.
* صحفي وشاعر ومفكر جزائري
المصدر: ضفة ثالثة
التعليقات مغلقة.