
( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثالثة عشر: اسرائيل كأداة في الصراع “القومي” ضد مصر الناصرية
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
إسرائيل كأداة في الصراع “القومي” ضد مصر الناصرية:
لم يكن عسكر دمشق قادراً على مواجهة عبد الناصر بقواه الذاتية المحدودة. ولم يكن نظامهم قوياً بما يكفي لمواجهته وتحقيق هدفه المباشر: ازاحته عن قيادة التيار القومي وزعامة العالم العربي منه، واحتلال موقعه فيهما. لبلوغ هدفه، كان من الضروري إيجاد قوة معادية لعبد الناصر ولديها من القدرات ما يساعدهم على بلوغ هدفهم. بما أن الخليج لم يكن هذه القوة، وكان منهمكاً في حرب تستنزف قواه في اليمن، فقد كان من الضروري جر إسرائيل إلى معركة تبقي باب الاحتمالات مفتوحاً على انضمام مصر إليها، وتسمح بعزل العراق وبالمزايدة الثورية والتحريرية عليه. هكذا، كان عسكر “الثورة” أول من فكر باستخدامه، واسّتخدم بالفعل إسرائيل في صراع عربي/عربي، وأول من استعان بجيشها ضد “شقيق” عربي .
ـ يلفت النظر أن ما أقدم عسكر البعث عليه، بذريعةْ فوريةْ تحرير فلسطين، تطابق زمنياً وإجرائياً مع ما توافقت عليه الولايات المتحدة
والمملكة العربية السعودية عام ١٩٦٥ حول الاستعانة بإسرائيل في صراعات المجال العربي، تحقيقاً لهدفين: توجيه ضربة مُدمرة إلى الجيش المصري تقوض نظام عبد الناصر وزعامته من جهة، وتُخرجه من جهة أخرى، مُحطماً ومهزوماً من اليمن والجزيرة العربية. هل كان التلاقي بين دمشق والرياض وواشنطن محض مصادفة، أم أن قادة دمشق كانوا يعلمون ما يدور في الأجواء الأميركية/السعودية ضد مصر، فانخرطوا فيه؟. ما يهم في هذا السياق هو أن “المكتب العسكري”، الذي حل منذ عام ١٩٦٤ شكلياً واسمياً محل “اللجنة”، التي وافقت على الاعتراف بحق من تنتدبه قيادته القومية في الاتصال بقواعد ومكاتب وتنظيمات الحزب في الجيش، وإلغاء استقلاله عن البعث”(19) قام بأعمال قتالية أكدت وقائعها أن جيشه ليس مؤهلاً لخوضها أو لكسبها، لكنه رفض وقفها، وحشد لها رأياً عاماً عربياً واسعاً، ضغط بواسطته على مصر، لتنضم إلى دمشق وتطور المعركة إلى حرب تحرير فلسطين، تبدأ بالدفاع عن سورية، تطبيقاً لاتفاقية الدفاع المشترك من عام ١٩٥٥، والاتفاقية التي عُقدت عام ١٩٦٦بطلب من السوفيات، ليس من أجل خوض حرب معها، بل لكبح احتمال الحرب، وتبريد رؤوس قادتها الحامية، في الموضوع الفلسطيني/الإسرائيلي بالذات.
ـ لكن “البعث” رأى في الاتفاقية فرصته لجر مصر إلى الصراع، وفي قصده أن يكون الجهة التي تقرر مساره، فإن وقف عبد الناصر جانباً، صُعد القتال ليُمعن في تقويض زعامته العربية، وفي حال عمل لكبح المعركة، اتهمه بالتخلي عن تحرير فلسطين، رغم أنه كان في متناول يده، وفي هذا ما فيه أيضاً من تهديد لسمعته ومكانته كزعيم ينافح عن العرب وحقوقهم، وعن فلسطين .
ـ بعد خمسين عاماً من حرب حزيران، نشرت إسرائيل معلومات اعترفت فيها أن هدفها كان اقتناص العدو المصري، وأنها “لم تكن مفروضة عليها، بل عملت لها ووضعت خطة طوارئ للانخراط فيها، بانتظار شرارة ما”(20). هذه الشرارة وفرتها الاشتباكات الحدودية بمشاركة الطائرات والمدفعية، وبدا وكأنها تلتزم بمعادلة عسكرية فرضتها تل أبيب، وبممارسة ما كان قد تقرر من ضغوط على مصر، الواثقة من تعرض دمشق لهزيمة ساحقة، إن تركتها تخوض الحرب بمفردها، ومن أن تدخلها ممكن، بل هو واجب، لتفادي الحرب أو لإضفاء التوازن على مجرياتها، بعد انتزاعها زمام المبادرة من القيادة السورية، واقناع العالم برغبتها في التهدئة والسلام. صحيح أن انخراطها في الصراع سيكون حتمياً، ومثله تطبيق اتفاقية الدفاع المشترك، ولكن من أجل تحاشي الحرب ومنع انهيار سورية وما سينجم عنه من اختلال خطير في التوازن العسكري بين مصر وتل ابيب. لا بد من تدخل مصري يحول دون نشوب حرب، يرجح جداً أن لا تنتصر فيها إسرائيل، في ظروف محكومة عربياً بفشل الوحدة وما ترتب عليه من نتائج خطيرة، لا تسمح بسياسات هجومية أو تعرُضية كتلك التي تمارسها دمشق، بتهور يصعب فهم أسبابه.
ـ ومع ان عبد الناصر كان يعتقد أن تحرير فلسطين لا يجوز أن يكون ذريعة لخوض حرب خاسرة، فإنه أجرى حسابات خاطئة سمحت بإفلات زمام الأمور من يديه، وانتقاله من يد دمشق إلى يد تل أبيب، وباستدراجه إلى المواقف التي خططت لها ونفذت إسرائيل أهدافها، دون أن يتمكن من ممارسة أي تأثير أو نفوذ عليها، وإلزام رؤوس دمشق الحامية حربياً، الباردة سياسياً، بالمواقف التي اعتقد أن بوسعها كبح التصعيد، الذي صَدَّق كما يبدو أن إسرائيل كانت تقف وراءه، فكان فشله منزلقاً قاده إلى هزيمة لم تكن تنقشع إطلاقاً وهو ينزلق إلى الهاوية.
ـ كان خوف عبد الناصر على زعامته المصرية والعربية هو الذي دفعه إلى تبني سياسات خاطئة وحسابات رغبوية، أعطت إسرائيل فرصة الدخول إلى الحرب من أعرض أبوابها، في التوقيت الذي حددته، وبالذريعة التي أرادتها وأتاحتها ضغوط دمشق والرياض على الموقف المصري في ما يتعلق بإغلاق خليج العقبة، والطريقة التي كان جنرالات جيشها قد رسموها لمجرياتها.
ـ هذا الخوف تفاقم مع تزايد انخراط دمشق في القتال المتصاعد نحو حرب بمفردها، وفي التوقيت الذي اختاره الطرف الآخر فيه، ودون تنسيق بطبيعة الحال مع عبد الناصر، الذي تلاعبت الرؤوس الحامية بالصراع لتضعه أمام خيارين صعبين هما: تهدئة الاشتباكات، التي تتطور إلى عمليات عسكرية ذات طابع حربي، ويرتبط قرار تهدئتها بدمشق، من جهة، أو خوض حرب يُحذره السوفيات من الانجرار إليها، من جهة مقابلة.
ـ هل اقتنع عبد الناصر أن تحذير موسكو يفصح عن رغبتها في مساعدته على احتواء سياسات دمشق وإسرائيل، ونزع فتيل الحرب، فإن وقعت رغم ذلك، حَمتّه؟ . رحبت دمشق بتقدم القاهرة إلى واجهة الأحداث، وبالتالي إلى خط الجبهة الأول، دون أن تلتزم بوقف التصعيد، الذي ستحتسبه واشنطن وتل ابيب من الآن فصاعداً على الزعيم المصري، مع أنه بقي مقتصراً على الجبهة السورية/ الإسرائيلية.
ـ بموقف دمشق، الذي عزا معاركه الحدودية مع إسرائيل إلى “استراتيجية ثورية” توفر شروط تحويلها إلى حرب، بعيداً عن أوهام عفلق حول دور عبد الناصر القومي، وثقته المفرطة به، التي جعلته يُبلغ جمعاً من الحزبيين في الخمسينات: “إن الرئيس يعتبر نفسه حزبياً، والحزب يرى أن يتولى قيادته”(21). وبتصميم قادة دمشق على تحويل نظامهم إلى مركز قومي موازٍ أو مضاد للمركز المصري، تتطلب إقامته توريط القاهرة في قتال قراره بأيديهم، ما أن تصبح مصر طرفاً يواجه إسرائيل، حتى يكون عليها تطوير الاشتباكات الحدودية إلى أزمة يُخضعونها لحساباتهم، رافعتها التصعيد، الذي لن يوقفوه لأن وقفه سيؤكد ضعفهم والتناقض بين أقوالهم وأفعالهم، وسيجبرهم على الانضواء تحت مظلة مصر، وسيُحمّلهم المسؤولية عن تسخين أجواء حرب تراجعوا عن خوضها، بما سيفضي إليه ذلك من تحول “ثورتهم” إلى عقدة باردة من عُقد العجز العربي. بينما يبدو من المؤكد أن التصعيد سيدفع إسرائيل إلى تصعيد مقابل لا يستطيعون مجاراته، لأن عجزهم عن مواجهته هي التي ستشغل آلية الوصول إلى الحرب، وستضيّع حتماً زعامتها العربية، إن أحجمت عن الانخراط فيها، وقد تُسقِط نظامها إن خاضتها. عندئذٍ، سيكون من تحصيل الحاصل مبادرة دمشق إلى سد الفراغ القومي، الذي سيستدعي دوراً جديداً وزعامة جديدة.
ـ بدخول اسرائيل على خط التصعيد، برز حجم التفكك العربي، وما بلغته علاقات المعسكر القومي من تراجع وتهافت. وبدت ارتدادات حقبة ما بعد الانفصال على الواقعين العربيين، العسكري والسياسي، وكم تناقض مع ما كان الفريق أمين الحافظ، رئيس النظام السوري، قد أشاعه في مؤتمرات القمة حول ملائمة الظروف لخوض حرب “التحرير”، وكم تعامى عن دور نظامه في تبدل موازين القوى لصالح إسرائيل، وتفكك الجوار الفلسطيني عبر تناقضات عدائية مزقت صفاً عربياً لطالما حمى بتضامنه المشرق بقوة مصر، ومصر بتضامن المشرق، وأسهم في ممارسة شيء من الردع المعنوي لخصومهما وأعدائهما.
ـ بتجاهل التحذيرات السوفياتية والعربية، وإصرار دمشق على التصعيد، والخروج على ما تتطلبه الحرب من جهود مشتركة وحثيثة لمنع إسرائيل من استغلال نقاط ضعف الجيشين المصري والسوري، وشن حرب تقلب ما أصاب جوارها من تراجع إلى انهيار شامل يصعب وقفه، صار من المحال بلورة استراتيجية عربية دفاعية أو مشتركة، وبناء قيادة سياسية وعسكرية موحدة، رغم حاجة العرب إلى تحرير أنفسهم من التشتت والضعف قبل كل شيء، والتكيف بواقعية مع سياسات دوَلية صديقة “تمدهم بالسلاح، ولم تكن موافقة على حل عسكري للمشكلة الفلسطينية أو مستعدة له، وعارضت أي تغيير في الوضع السائد”(22) بين العرب واسرائيل، وعولت على “توجهات مصر وسورية السياسية والاجتماعية، التي اكتسبت قوة في عقدي الخمسينات والستينات… ولم تكن تستسيغ شعارات دمشق المُغالية في تطرفها اليساري، وعبرت عنها شعارات من نوع “الحرب الشعبية على اسرائيل”(23) .
ـ لم تُصغِ دمشق إلى التحذير والنصح، ومضت في مواقف ازدادت تطرفاً من يوم لآخر، ووصلت إلى حد اتهام عبد الناصر بالجبن وخيانة الأمة، برفضه المشاركة في ما توشك “ثورة” البعث أن تنجزه: تحرير فلسطين، بقوة الطوق الذي يضربه حولها جيشها في الشمال، وجيش مصر في الجنوب، ودور السوفيات في تحييد أميركا، وقدرة المقاومة الفلسطينية على اختراق نقاط ضعف العدو في الضفة الغربية، بدعم من فلسطينيي عام ١٩٤٨.
ـ بنى البعث موقفه على ما أصاب عبد الناصر من ضعف، وثقته بأنه لن يتساهل في زعامته على مصر والعالم العربي، وسيدافع عنها، خاصة بعد فشل الوحدة وما أدى إليه من تراجع في دور مصر ومكانته كزعيم معترف به عربياً ودولياً .
___________
هوامش:
(19). منيف الرزاز : التجربة المرة، مرجع سابق، الصفحة ١٢٠.
(20). نتانيل لورخ، حرب الايام الستة ١٩٦٧، موقع وزارة الخارجية الاسرائيلية، ٢٠١٣.
(21). د. عبد العال الباقوري: عبد الناصر والبعث : الوحدة والانفصال ، موقع الفكر القومي العربي ، ١٨/٢/٢٠٠٨.
(22). د. الكسي فاسيلييف: الاتحاد السوفياتي بين نارين، كيف تعاملت موسكو مع حرب ال٦٧؟. موقع الشرق ٢١، ٢٧/٦/٢٠١٧.
………………..
يتبع.. الحلقة الرابعة عشر: فــخ حزيران
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.