الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سلسلة حرب تشرين والمستقبل العربي 6/6 .. انفلاش سلاح النفط وسياسة المحاور

                                                                 

د. جمال الأتاسي            

سادساً و أخيراً – انفلاش سلاح النفط وسياسة المحاور

     في حرب تشرين جرد العرب أسلحتهم وضربوا بها وأبرزوا قدراً من التضامن فيما بينهم، كان له أثره في المعركة وفي العالم.. لقد ضربوا بأسلحة النار وأبرزوا أنهم قد تقدموا في القتال على ما كانوا عليه.. وضربوا بسلاح النفط وأبرزوا ما يملكون من طاقات كبرى وهزوا توازنات العالم الرأسمالي وأظهروا تناقضاته وكادوا يستفيدون من هذه التناقضات لصالح تحررهم وتحرير أرضهم وضغطوا بسلاح التضامن العربي أيضاً في حركة السياسة وكادوا يعزلون الحلف الصهيوني الأمريكي وكادوا يحاصرونه بموقف عالمي مساند للحق العربي في ((إزالة آثار العــدوان)).

     وقوة الموقف العربي كانت في أنه أخذ صيغة موقف عربي، أي موقف أمة، وموقف مركّز حول هدف.. ولكن هذا الموقف، الذي سمّته بعض الـزعامات ((وحدة))، ما لبث أن تعثّرَ وانفلش، لتتجزأ مواقفنا وليتباعد الهدف.. فبعد الصمود بالتضامن الذي برز في أيام القتال واستمر لمرحلة بعد قرار وقف إطلاق النار (مع موقف الرفض الذي اتخذته بعض النظم من هذا القرار) بدأ التفكك والتراجع، وأخذت المواقف العربية تحاصر نفسها بدلاً من أن تحاصر أعداءها، وأخذت بتراجعاتها وانقساماتها تُضعف من ثقل الضغط العربي الدولي المناصر لقضيتها.. فبعد الفصل بين القوات على جبهة السويس والصيغة الأمريكية المصرية المنفردة التي تم بها هذا الفصل، جاء قرار إعادة ضخ النفط العربي للولايات المتحدة الأمريكية ليسجل خطوة أخرى في تراجع الموقف العربي والتضامن العربي الرسمي، وليثير من التناقضات ويحرك من المحاور ما لا يخدم القضية العربية في شيء.. فالتضامن العربي يزداد انفلاشاً، واللعبة الإمبريالية في المنطقة تأخذ أبعادها من جديد في تعاون مع الرجعية العربية وفي الردة، لتتحول بحركة الصراع في المنطقة، من صراع بين العرب وإسرائيل ومن وراء إسرائيل، إلى صراع بين النظم والقوى العربية، وهذا ما تسعى إليه الإمبريالية الأمريكية بكل مجهوداتها، تعزيزاً لمصالحها ونفوذها، ومساندة لإسرائيل لتعطيها فرصاً جديدة للخروج من تعثرها الذي وضعتها فيه ظروف حرب تشرين.

     قد يبدو من المفارقات العجيبة، هذا التحول في العديد من المواقع العربية باتجاه أمريكا بعد الدور الذي لعبته الدولة الأمريكية في حربي حزيران وتشرين، ودورها الإمبريالي العدواني الاستغلالي الكبير في العالم.. إلا أن هذا التحول لم يأت بفعل مهارة اللعبة الإمبريالية بقدر ما جاء تعبيراً عن صراع التناقضات بين النظم العربية وداخل المجتمعات العربية، هذه التناقضات التي غطت عليهـا حركة الحرب أيام القتال، وغطت عليها حركة التقدم في بعض النظم العربية، إلا أنها لم تستطع أن تزيلها أو أن تحسمها لصالحها، أي لصالح الـتقدم ولصالح التحرر، فعادت لتبّرز في الساحة من جديد، وجاء انفلاش سلاح النفط كاشفاً، لما هي عليه بالأساس علاقات النفط والقوى المالكة للنفط والمستخرجة والمنتجة والمستغلة والمسوّقة…، فالجزء الأوفى من البترول العربي، ما زال بروابطه وراء السوق الإمبرياليـة.

     إن موقف النظم العربية من قضية النفط كثروة قومية، ومن استثماره مواقفٌ متباينة بالأصل، ولكن هذا التضامن كان مقدراً له أن يتداعى وينفلش لا بحكم تناقضاته فحسب، بل وبحكم المسار الـذي سارت فيه سياسة استخدام هذا السلاح والتي ثار جدال عريض حولها.

     لقد كان تقديرنا دائماً أن أي تحرك في السياسة العربية، وفيما يتعلق بقضايا العصر، محتم عليه أن يتعثر أو يفشل، ما لم تسيطر على قيادة حركته القوى الأكثر تقدماً في الوطن العربي، والقوى الأكثر وفاءً لأهداف الجماهير العربية، وهذا ما لا ينطبق على كل وسائل الحركة السياسية بما فيهـا وسائل القتال والنفط والمال.. والقتال قد أعطى بُعدها الجماهيري والقومي الكبير، عندما أمسك بزمام المبادرة في القتال، القطران العربيان الأكثر استعداداً والأكثر تقدماً، ومع ذلك فقد تغيرت النتائج منذ أن تراجعت القيادة المصرية عن دورها الطليعي المتقدم والمعادي للإمبريالية.. أما سياسة معركة النفط فقد كانت ملغومة منذ البداية، ومنذ أن أعطت قيادة هذه المعركة للقطر الأكثر غنى بالنفط، إلا أنه الأكثر إغراقاً في الرجعية والأكثر ارتباطاً بالإمبريالية الأمريكية واحتكاراتها العالمية.. وقيادة معركة النفط انعكست على حركـة السياسة العربية كلها تجاه معطيات حرب تشرين، وأحيطت الزعامة السعودية الصاعدة على المسرح العربي من جديد بهالات التمجيد وركضَ الكثيرون على أعتابها، وأُبرز الملك فيصل من جديد في موقف الزعامة العربية الأكثر تشدداً، فهو الذي لا يريد من متاع الدنيا إلا أن يصلي في القدس (المحررة من الرجس الصهيوني) وهو الذي لغم آبار النفط ليفجرها إذا ما تهدّدها الضغط الأمريكي، وهو الذي فتح خزائنه وأرصدته بغير حساب… إلى آخر ما أحاطته به الدعايات، وهي ما قامت إلا لتعطي رصيداً أكبر في التأثير على حركة التحول العربي، ولإنعاش قوى الردة والرجعية على مدى الوطن العربي.. (إن تسليم قيادة الضغط السياسي والنفطي على أمريكا للملك فيصل، يمكن مقـارنتها مع فوارق المرحلة التاريخية بتسليم الملك عبد الله القيادة العليا للجيوش العربية في معـركة عام 1948).

     وهكذا بعد التشدد، جاء التراخي فالانفلاش، ثم الموقف المصري السعودي الموحد الذي فرض تجميد سلاح النفــط……..

     إن معارضة ليبيا وسورية وتشبثهما باستمرار الضغط بسلاح النفط على أمريكا ولو إلى حين، ولو إلى أن تستخلص سورية بعض أرضها المحتلة، لم تستطيعا أن تقفا في وجه تلك الموجة الصاعدة من مصر والسعودية ودويلات النفط الأخرى باتجاه مُراضاة الولايات المتحدة الأمريكية والنزول عند رغبتها إن لم يكن عند تهديدها.. أما الجزائر وهي التي كان موقف قيادتها من أكثر المواقف العربية عقلانية والتزاماً في حرب تشرين، فإن استجابتها للقرار الأخير في (رفع حظر النفط) ولو في تحفظ، بينما نفطها هو الأقرب وصولاً إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أي نفط آخر، لا تجد تبريراً معقولاً ولـو في الشروط التي اشترطها.

     إن الإخراج الذي أحيط به قرار ((رفع الحظر)) لمهلة محددة من الزمن، يختبر خلالها صدق النوايا والوعود الأمريكية، ليُعاد إلى الضغط من جديد بقطع النفط إذا لم تصدق الوعود ولم تمارِس أمريكا ضغطاً كافياً يجعل إسرائيل تنسحب….، هذا الإخراج إذا ما أبقى على مظهر من ((تضامن عربي جزئي)) فإنه يظل مظهراً، وسلاح النفط قد انسحب من المعركة بعد أن انفلش، وبعد أن انفلش من قبله، بفصل القوات على جبهة القتال، الضغط بتفجير الموقف.. ثم إن سلاح النفط لم يتحرك جدياً إلا بفعل تفجر الموقف القتالي، والعودة إليه مشكوك كثيراً بها، مثل العودة إلى تفجير الموقف على جبهة القتـــال.

     إن الضغط السعودي الذي أظهر نفسه بمظهر البالغ التشدد، ليتوارى وراء تراخي القيادة المصرية ما لبث أن تقدم على محور واحد، محور مصري سعودي يتحول بالضغط عن أمريكا، ويعطيها الوعود المسبقة (كما أعلن الرئيس نيكسون)، ويصبح لا ضغطاً على أمريكا، بل ضغطاً على الموقف العربي كله ليتحول باتجاه أمريكا، وهو يضغط على الوضع في سورية بالدرجة الأولى، ويضع قيادتها السياسية في موقف صعب، فالتضامن العربي مع جبهة الجولان أصبح رخواً بحيث لم يعد يُقلق الإمبريالية الأمريكية وبالتالي لا يعود يقلق إسرائيل وبينما يقاتل الجنود السوريون بالمدافع والدبابات وتتلقى القوى السورية القريبة من خطوط النار الصواريخ والقنابل التي تزود بها أمريكا إسرائيل، يسيل النفط مدراراً ليغذي آلة الانتاج الأمريكي والـرفاه الأمريكي وليزيد من أرباح الاحتكارات النفطية العالمية ومن أرصدة الملوك والأمراء وغيرهم من الذين يحلمون بأن يصبحوا ملوك ثروة وترف ورفـاه.

     فبظل هذه التطورات في السياسات العربية العليا، وانفلاش سلاح النفط لينفلش معه التضامن العربي إلى محاور، تتغير المواقف.. وموقف المحور السعودي لا يمضي إلى ملاقاة السياسة الأمريكية تجاه الشرق الأوسط في منتصف الطريق، بل يُسلم أمره إلى هذه السياسة، ولتغطية هذا الموقف، وللتغطية على التغير والتحول والتراجع يقولون أن الأمريكي هو الذي تغير، ولمساعدة هذا التغير الأمريكي، ولمساندة نيكسون وكيسنجر في تغيرهما ولدعم نيكسون داخل أمريكا، ولإعطائه رصيداً نفطياً يتقوى به ويضغط على الرأي العام الأمريكي المناصر لإسرائيل وعلى إسرائيل.. فعلوا ما يفعلون.. فمن الذي يفعل في النهاية، وفي أي ضياع، وعلى أي مستوى تُطرح قضية التحـرر؟.

     إن سياسة المحاور في العمل العربي، هي السياسة المعاكسة لوحدة الأمة، وهي السياسة التي تصنع الانقسام لا التضامن، وهي التي تُناهض ((قومية المعركة)) إذ هي تشتت وتباعد عن الهدف القومي.

     وسياسة عبد الناصر هي التي مشت على طريق وحدة الهدف، وضربت سياسة المحاور منذ أن شقت طريقاً في النضال تلتقي مـن حوله الجماهير العربية العريضة ويتجاوز مصالح الحكومات والطبقات الحاكمة ويتجاوز إقليمية النظم وسياساتها الخاصة.. وإذا لم نذهب بعيداً، ومضينا مع عبد الناصر منذ مرحلة ((حرب الاستنزاف)) لرأينا كيف أن الذي يقود الكفـاح يقود الأمة ويوحدها وراء هدف ويقضي على المحاور ويسحب التضامن إلى مستوى لا ينزل عنه، وسياسة التضامن ما كانت إلا لتعطي رصيداً أكبر للنضال ولم تكن يوماً ضد عبد الناصر على حساب الهدف أو حساب النضال.. كان التصدي والتصميم على المواجهـة والقتال هو الذي يحرك جماهير الأمة وهو الذي يقود، وكذلك تقدم القتال ليحرك ويقود نضال جماهير الأمة في حرب تشرين.. والذي يصعد بحركة القتال في سبيل التحرير، لا يشكل محوراً، بل ينهض باستراتيجية قومية يوحد جهود الأمة في مستوى من العمل يتطلع إلى هدف الأمة ولمسار تاريخها.. وهذا ما أملته الجماهير وتطلعت إليه في حرب تشرين، وهذا ما انحسرت عنه وخابت آمالها، عندما وجدت حركة القتال تتوقف دون هدف التحرير، وحركة السياسة تتحول إلى محاور.. وانفلاش سلاح النفط بعد التخلخل الذي أحدثه ((فصل القوات)) جاء كاشـفاً.. فالتضامن العربي كان ملغوماً بتناقضات النظم وسياساتها الخاصة ومصالحها الإقليمية والمصالح النفطية الإقليمية وارتباطاتها الخارجية تعطي تعبيراً مادياً عن هـذه التناقضـات.

     في حرب تشرين التزمت النظم العربية كلها بقدر من التضامن ووقفَ بعض الساسة وقالوا هذه ((قومية المعركة تتجلى)).. وكذلك قالوا عند استخدام سلاح النفط في المعركة.. ولكن ((القومية العربية)) لا يمكن تجريدها عن حركتها باتجاه أهدافها، ومعاركها هي معارك هادفة.. ولا يصنع ((قومية المعركة)) إلا من يتطلعون إلى وحدة الهدف القومي، ويتطلعون إلى الوصول إليه من خلال استراتيجية تحريرية اشتراكية وحدوية.. ومعركتنا ضد إسرائيل في بُعدها القومي تظل في أساسها معركة ضد الامبريالية ومعركة ضد التخلف والتجزئة، ومعركة ضد الاستغلال والرجعية، فقومية المعركة لا تنفصل عن مضمون القومية العربية ذاته ومن يتقدم بهذا المضمون، فالوحدة في المعركة لا تُصنع إلا في مستوى التقدم، ومعركة الأمة العربية ضد أعدائها في الخارج هي في الوقت ذاته معركة ضد معوقات تقدمها ووحدتها، أي ضد النزعات الاقليمية وضد الطبقات المستغلة والرجعية.. والسكوت عن بعض تلك التناقضات والمعوقات في مرحلة ما لا يعني تناسيها أو التسليم بها.. فإن مثل هذا الإغفال أو بالأحرى إن تجاهل ذلك المضمون لحركة القومية العربية كثورة، يُشوه ستار ((القومية العربية)) ويحرفه، ويؤدي بقوى النضال العربي إلى تنازل لصالح الرجعية والإقليمية بعد تنازل، ويفسح المجال إلى الارتداد لسياسة المحـاور.

     فالسياسة القومية اليوم هي السياسة التي تشد إلى مصلحة الأمة الواحدة وإلى وحدة الأمة من خلال هدف، أما سياسة المحاور، ما مضى منهـا وقضت عليه سياسة عبد الناصر الوحدوية التقدمية أو ما يتقدم اليوم ويظهر، فهي سياسة تشد إلى مصالح إقليمية وخاصة، وإلى مصالح حكومات وطبقـات حاكمة، أو فئات متسلطة ومستغلة، إنها سياسة لا تضع المصالح والطاقات في خدمة الأمة وخدمة هدف الأمة، بل هي تجعل من الهدف شعاراً أوفى في خدمة سياستها الاقليمية ومصالحها الطبقية والخاصة.. وإذ هي سياسة تقوم على المصلحة الخاصة، وإذ تقدّم مصالحها على الهدف، فإن تضامن الذين يلتقون على محور من هذه المحاور ليس بالأصل تضامناً قومياً، بل عمليات تغطية لإقليميتها وانتهازيتها وعملية تغطية للصراعات والتناقضات الفعلية القائمة وراء هذا المظهر من التضامن.

     لقد كان مبرِراً للسكوت عن بعض التناقضات العربية، وإيقاف الصراع بين النظم والقوى العربية في هذه المرحلة من مواجهة التحدي المصيري والتناقض الكبير مع العدو الصهيوني والامبريالية.. كان ذلك مبرراً لمواجهة ظروف المعركة، وكان التجاوز المرحلي عن التناقضات القائمة في الأوضاع العربيـة مقبولاً عندما كانت حركة التقدم العربي هي المتصدية للقيادة وهي المتقدمة على طريق المواجهة ولكسب أقصى ما يمكن أن يكسب من طاقات الأمة لصالح المعركة، ومن خلال التصور بأن المعركة ستعطي دفعاً أقوى لحركة التقدم، وتعطيها قدرة أكبر على حل التناقضات في النهاية لصالحها، أي لصالح تحرر الأمة ووحدتها.. ولكن تطورات الصراع مع الإمبريالية بعد إيقاف إطلاق النار قد أبرزت، وبخاصة من خلال طريقـة استعمال النفط العربي في المعركة، إن حركة التقدم في تراجع، وإن النظم المُسماة تقدمية غير قاطعة التقدم وغير قاطعة التصميم على مواصلة الكفاح ضد الإمبريالية وضد العدوان حتى النصر، وبالتالي فإنها لم تستطع أن تسيطر وتسود في سياسة التضامن العربي، لتنفلش المواجهة بسلاح النفط بعد أن انفلشت من قبلها المواجهة بقوى السلاح والاشتباك مع قوات العدو، ولتبرز التناقضات العربية مباشرة على السطح ولتُعدد السياسات والمحاور، ولتأخذ قوى الرجعية في الوطن العربي دوراً ما أتيح لها أن تأخذه يوماً منذ عشرين عاماً.. ومال النفط أو سلاح النفط أعطى رصيداً للرجعية بدلاً من أن يأخذ منها، أو يسطو عليه لصـالح التحرر والتـقـدم.

     وسلاح النفط العربي لم يكن بالأساس سلاحاً قومياً (أي سلاحاً متحرراً وفي خدمة مصلحة الأمة) إلا في قليلٍ منه.. وهو في الجانب الآخر والأكبر في يد النظم الرجعية والطبقات المستغلة والشركات الإمبريالية.. وإذا ما غطت في البداية على هذا الوجه الأسود للنفط، حمية التضامن من أيام القتال، فهو ما لبث أن كشف عن نفسه وعن سياسته، حسب روابطهِ، وحسب درجة تابعيته للسوق الإمبريالية وحسب النظم التي توجه سياسة استخراجه و استثماره وحسب القوى التي تشارك فيه وتستفيد من موارده.

     إن حركة الارتداد والرجعية والدخول في لعبة المصالحة مع الإمبريالية الأمريكية قد أعطت ما أعطته من انفلاش على صعيد السياسة العربية النفطية.. ومع ذلك فثمة ظواهر برزت على الصعيد العربي وفي العالم عند استعمال سلاح النفط فلا بد أن يكون لها انعكاساتها عربياً ودولياً.. لقد برز أن بمقدور العرب أن يفعلوا فعلاً كبيراً بثرواتهم النفطية وأن يُؤثروا في العلاقات الدولية وبصورة خاصة في السياسة الأوربية وفي العلاقات الأوربية الأمريكية، إذا ما أصبح النفط بالفعل ثروة قومية وسلاحاً قومياً، وفي خدمة تقدم الأمة وفي خدمة أهدافها وفي خدمة مصالحها وعلاقاتها الموجهة مع العالـم.

     ولكن  ليصبح النفط ثروة قومية وسلاحاً قومياً، لا بد أن يكون في البداية ثروة وطنية وسلاحاً وطنياً، أي لا بد من تحريره من طبيعته وارتباطاته بالاحتكارات العالمية.. والسيطرة الوطنية على النفط، هي ((استثماره وطنياً)) وهي تأميم ما لا يُستثمر وطنياً.

     هناك أصوات كثيرة تتعالى في الوطن العربي بهذا الاتجاه ولا بد أن تدفع إلى نهاية الطريق ولقد منحت أقطار عربية عديدة في هذا المنحى، كلياً أو جزئياً.. إن الشعار الذي رفعه القطر العراقي عند إشهار سلاح النفط في وجه أمريكا، بأن تأميم الحصص والشركات الأمريكية مقدَم على تقليص الإنتاج وزيادة الأسعار يحمل جانباً كبيراً من الصحة.. كما تجدر الإشارة بهذا الصدد إلى الدور القومي الذي لعبته السياسة الليبية عندما تقدمت قبل كل الأقطار العربية النفطية على طريق الضغط المتصاعد بسلاح النفط وعلى طريق التأميم، وكانت في تقدمها على هذا الطريق المُشجع الأول على استعمال هذا السلاح عملياً، بعد أن كانت قيادات النظم تنادي به وتهدد من غير أن تجرؤ على المجازفة باستعماله.

     إن السيطرة الوطنية على الثروة النفطية واستخراجها من بطن الأرض، ما هـي إلا حد من حدود تحرير النفط العربي، لتأتي بعدها السيطرة على العلاقات النفطية العربية مع الدول الأخرى والأسواق العالمية، وهذه السيطرة لن تأتي، ما لم يصبح النفط ثروة قومية وما لم تكن هناك وحدة عربية في السياسة النفطية، وهذه الوحدة لا تكون إلا بأن تسود قيادة التقدم وسياسة التقدم العربي.. ولكننا نمر اليوم في مرحلة انفلاش لا في مرحلة تقدم، إلا أن التاريخ لا يتوقف، وحركة الصراع تدفع، وما كان كالنفط كاشفاً للصراعات والتناقضات عربياً ودولياً.. لقد استطاع ((التضامن السعودي المصري)) أن يدفع بالسياسة النفطية العربية على طريق الانفلاش، وقيل أنه انفلاش مؤقت، إلا أن قوى الاستغلال والرجعية معززة بالإمبريالية العالمية ستظل تدفع في هذا الطريق.. إلا أن الدفع، إذا ما استطاع أن يحقق نجاحاً، فإنه لا يقوى على إيقاف حركة التاريخ، إلى أن يُـفجر التناقضات التي تحرك الثورة، ثورة الجماهير، ثورة الذين تجمعهم وحدة الهدف، ضد الذين تجمعهم سياسة المحاور وعلاقات التابعية والاستغلال والدوافع الإقليمية والانتهازيـة.

     هناك من يبشرون اليوم بأن حركة الصعود في المواجهة بين العرب وإسرائيل، وبين العرب والإمبريالية، قد انتهت أو هي على وشـك أن تصل إلى ((حل)) يعمم ذلك ((السلام العادل)).. ولكن مثل هذا للتمويه، ومثل هذه المُخادعة للجماهير، والدفع باتجاه أمريكا والحل الأمريكي، يباعد عن الوصول إلى أي هدف من أهداف أمتنا، ويباعد حل ((إزالة آثار العدوان)) ولا يُقر به، ويضع قوى التقدم في الوطن العربي أمام ضرورة الصعود من جديد على طريق مواجهة جديدة.

     وعلى طريق المواجهـة لا بد لسلاح النفط أن يعود إلى الساحة سلاحاً وطنياً مُحرِّراً وسلاحاً قـومياً، أو يشتعل ويحّرق الاستغلال والرجعيـة.

                                                             منتصف نيسان 1974

انتهت سلسلة تشرين والمستقبل العربي بهذا التاريخ من عام 1974

التعليقات مغلقة.