عبد الله السناوي *
في خريف (2017) لمح الرئيس الصيني «شي جين بينج» علامات إعجاب وانبهار على محيا ضيفه الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب»، وهما يتجولان معا في «المدينة المحرمة» درة الحضارة الصينية بقلب العاصمة بكين: «نحن أقدم حضارة في العالم».
التفت «ترامب» للمغزى السياسي في العبارة التي استمع إليها تواً: «لكن الحضارة المصرية أقدم منكم».
لم يكن لديه ما يرد به على رسالة الرئيس الصيني المبطنة سوى أسبقية الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها الذى يفوق إرث أية حضارة أخرى.
ــ «هذا صحيح، لكن حضارتنا اتصلت»، قاصداً أن الصين حافظت على لغتها وهويتها رغم ما ألم بها من تراجع فادح وتخلف طالت معاناته بفعل الغزو الأجنبي وهيمنته على مقاديرها.
التجربة المصرية اختلفت بعد غروب الأسر الفرعونية، غيرت لغتها لمرات عديدة من المصرية القديمة إلى القبطية واليونانية حتى استقرت على العربية وغيرت ديانتها لمرات عديدة أخرى حتى سادها الإسلام.
بمضي العقود والقرون انمحى الاتصال اللغوي حتى بدت الآثار المصرية القديمة لغزاً هائلاً غير قابل للفهم، أطلق عليها المصريون البسطاء «المساخيط»، حتى جرى اكتشاف حجر رشيد عام (1799)، وفكت أسرار ما هو مكتوب على جدران المعابد وفى البرديات.
هكذا تجلت عظمة الحضارة المصرية القديمة، مهد الضمير الإنساني في العالم بأسره، وبدأ سؤال الهوية يطرق الأبواب المغلقة: من نحن؟!، وتزداد وطأته بأوقات الأزمات.
لم يكن مفاجئاً أن فناناً كبيراً مثل السيناريست التلفزيوني الراحل «أسامة أنور عكاشة» طرح السؤال نفسه في رائعته «ارابيسك» عام (1994)، وكان قد شرع في كتابة المسلسل أثر الغزو العراقي للكويت.
في ذلك الوقت أعرب عن عدم اقتناعه بـ«العروبة السياسية»، دون أن يتخلى عن «العروبة الثقافية».
حتى لحظاته الأخيرة ظل يعلن انتسابه إلى «جمال عبدالناصر»، الرجل الذى تُنسب إليه القومية العربية المعاصرة، وكانت تلك معضلته الفكرية والإنسانية.
في نهاية المسلسل تساءل: من نحن.. فراعنة، عرب، أفارقة، شرق أوسطيون.. ننتسب إلى ثقافة البحر المتوسط أم أننا «بزرميط» نجمع بينها جميعاً؟!
لم تكن الإجابة مستعصية، لكنه قلق الفنــان.
بالثقافة والمصير والتاريخ فمصر عربية مشدودة إلى محيطها العربي، الانعزال عنه حكم بالإعدام التاريخي وإهدار لأمنها القومي في صميم اعتباراته.
باليقين هناك مصادر إضافية تثري هوية الشخصية الوطنية.
فمصر عربية، تعتز بإرثها الفرعوني، متأثرة بثقافة البحر المتوسط، وجزء من الحركة الفوارة في الإقليم، منتسبة إلى قارتها الإفريقية، ومتداخلة مع عالمها الإسلامي، متنوعة دينياً، والتنوع عامل قوة لا ضعف.
تراكمت تجاربها وخبراتها في أنحاء حياتها، أثر الحضارة المصرية القديمة ظل سارياً في اللغة والعادات والتقاليد وطبائع الشخصية، رغم اختلاف الأزمان.
إنكار التاريخ تجهيل بما جرى فعلاً على شواطئ النيل عبر القرون.
وإنكار التراكم تجهيل آخر بحقائق الأمور، المنطقة التي نحيا فيها اختلفت، جوارنا عربي ومحيطنا الحيوي عربي وأمننا القومي عربي، مصادر التهديد القديمة كـ«الهكسوس» اختفت من على خرائط الجغرافيا السياسية وحلت مكانها مصادر أخرى تنذر بتهميش الدور المصري.
عروبة مصر ليست قضية معلقة في فضاء المساجلات.
من حق كل مصري أن يفخر بإرثه الحضاري دون أن ينكر ما جرى للبلد بعد انقضاء الحضارة المصرية القديمة من غزوات واحتلالات وهجرات واختلاط دماء.
الكلام عن النقاء العرقي وهم مطلق فضلاً عن كونه عنصرية صريحة، أو كامنة.
الحضارات القديمة كلها صبت في مجرى تاريخي واحد لتصنع الإنسانية المعاصرة.
الاعتزاز لازم وإنكار الحقائق انتحار.
في لحظة الفخر الجماعي، الذى انتاب المصريون في احتفالية موكب المومياوات الملكية الفرعونية، جرت مداخلات على شبكة التواصل الاجتماعي حاولت إنكار عروبة مصر، قيل كلام كثير عن «الاختراق الوهابي» للمجتمع المصري في السبعينيات وما بعدها، كأن العروبة تتحمل مسؤوليته والإسلام يمكن تلخيصه في ذلك المذهب بالغ الرجعية.
في أوقات سابقة جرت حملات أعلنت الطلاق مع العروبة بهدف تصفية الحسابات مع ثورة يوليو بعد حرب تشرين أول/ أكتوبر (1973).
لم تكن تلك الحملات عشوائية وانطباعية وغير مؤسسة فكرياً، كالتي بُثت أخيراً على شبكة التواصل الاجتماعي، فقد تبناها مفكرون وأدباء كبار كـ«توفيق الحكيم» و«لويس عوض» و«حسين فوزى»، ورد عليها في وقته وحينه جمهرة المثقفين المصريين على رأسهم الناقد الأدبي الكبير «رجاء النقاش».
في مساجلات السبعينيات دعا «الحكيم»، إلى «تحييد مصر»، أو بصياغة أخرى انعزالها عن عالمها العربي، لا شأن لها بأزماته وقضاياه.
كان ذلك صداماً مباشراً مع صلب نظرية الأمن القومي في مصر، حقائق الجغرافيا والتاريخ معا.
حسب المفكر الجغرافي الدكتور «جمال حمدان» فإن مصر إذا ما انعزلت داخل حدودها تتعرض للتهميش السياسي، تُستباح تماماً، وإذا ما خرجت إلى محيطها الطبيعي تنهض وتتقدم وتكتسب صفة الدولة الإقليمية الكبرى.
إذا كان هناك من يتصور أن إنكار العروبة ممكن فهو واهم.
لم تخترع ثورة تموز/ يوليو المشروع العروبي، لكنها جسدته أمـلاً حيــاً على الأرض بسياسات تبنتها ومعارك خاضتها.
قيمة «عبدالناصر» في التاريخ ليست أنه حكم مصر، أكبر دولة عربية، ولا أنه أنجز بقدر ما يستطيع، أصاب وأخطأ، وهذا كله يستحق مراجعته بالوثائق الثابتة لا الأهواء المتغيرة.
قيمته أنه عبّرَ عن فكرة أن مصر تستطيع أن تكون قوية وتجعل العالم العربي قوياً معها فتتضاعف قوتها.
كان صراع الأفكار والسياسات قبل تموز/ يوليو، هو من أعطى زخما ميدانياً للفكرة العروبية بمعانيها الحديثة.
أرجو ألا ننسى أن الفكرة العروبية الحديثة نشأت في المشرق العربي، الذى يتعرض الآن لتخريب لمقدراته وتلوح فوق الخرائب خرائط التقسيم، لمناهضة سياسات «التتريك»، كما أنها دمجت المسلمين والمسيحيين في نسيج فكري وثقافي وسياسي واحد على نحو غير معتاد من قبل، وأحد الأسباب الجوهرية الماثلة حالياً لزعزعة الوحدة الداخلية لبلدان عربية كثيرة، غياب أي مشروع للدمج على أساس قواعد المواطنة والمساواة أمام القانون بين مكوناته وتنويعاته.
كان دخول مصر إلى حلبة التاريخ بعد تأميم قناة السويس عام (1956) وتصدرها لقيادة حركات التحرير الوطني في ذلك الوقت إيذاناً بضخ دماء جديدة في المشروع العروبي.
أياً ما كانت متغيرات السياسة فـلا عروبة بـلا مصر ولا مستقبل لمصر خارج عالمها العربيِ.
* كاتب صحفي مصري
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.