الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

جذور التشظي: الجيش وبقاء النظام في سورية

أحمد عيشة *

المحتوى:

– مقدمة

– الجيش في المجتمع

– من المحافظات

– العلويون والسنّة

– أداة توازن

– منع الانقلاب

– حصص (كوتا) الجماعات المحلية

– تزايد الاختلال/ عدم التوازن

– أداة توزيع الامتيازات

– توسعات الجيش والريوع

– الرعاية غير المنظمة/ المستقلة

– إجازة دائمة

– ابتزاز صغير

– القبول الضمني/ الصامت

– الانشقاقات

– تحطيم السُنّة

– الحرمان النسبي

– أجهزة الأمن

– التناقض الداخلي / المدمج

– الاستنتاج

مقدمة:

لم ينقلب الجيش السوري على النظام في مواجهة الاحتجاجات الشعبية، على عكس نظيره المصري والتونسي. ومع ذلك، فقدَ الجيش السوري قدرته على الحفاظ على البلاد موحدة. تركز هذه الرؤية في هذه الدراسة على الوظيفة السياسية المشتركة للجيش السوري، بالاعتماد على المقابلات مع الضباط العسكريين المنشقين[1]، وهي تقدّم نافذة لمراقبة كيفية استخدام نظام الأسد الجيش للحفاظ على الاستقرار في سورية. وتساعدنا المقابلات أيضًا في فهم الأسباب الجذرية لتشظي البلاد.

إن التحكم في الجهاز القمعي هو الشرط الأساسي لبقاء النظام على قيد الحياة[2]. ومع ذلك، فإن قدرة الجيش على الحفاظ على الاستقرار تتجاوز منع حدوث الانقلابات. وتزعم هذه الرؤية أن الجيش السوري كان مهمًا للاستقرار بطرق تجاوزت تطبيق القمع، حيث كان بمنزلة أداة موازنة وأداة توزيع للامتيازات.

الجيش في المجتمع:

الجيش السوري هو جيش تجنيد إجباري، حيث من المتوقع أن يخدم جميع أفراد المجتمع الذكور فوق سن 18 عامًا. وهو يتيح فرصًا وظيفية للمتطوعين الذين يلتحقون بأكاديميات الجيش أو سلاح الجو. وقد أسس الفرنسيون الأكاديمية العسكرية في حمص في عام 1933، حيث كونت أجيالًا من ضباط المشاة، وأصبحت نقطة انطلاق مهمة للارتقاء الاجتماعي.

من الأرياف:

الضباط في الجيش السوري هم في الغالب من الريف. بعد أن استبدلت الثورة البعثية النخبة العسكرية القديمة، صار من النادر العثور على أبناء الدوائر الحضرية التقليدية، من حلب أو حمص أو دمشق، في صفوف الضباط. حتى اندلاع الحرب الأهلية، كان الأفراد العسكريون ينتشرون في المقام الأول على طول الحدود مع إسرائيل. وكان الضباط من المحافظات (الأرياف) يجلبون أسرهم معهم، وغالبًا ما يستقرون في ضواحي دمشق[3]. سمح حافظ الأسد ببناء مساكن غير رسمية لمساعدة أسر الطبقة الدنيا، وكان الوصول إلى الرعاية الصحية والمشافي أفضل نسبيًا بالنسبة إلى الضباط وأسرهم، ويمكنهم أيضًا الحصول على السلع والإسكان المدعوم من خلال جمعيات ومؤسسات، مثل المؤسسة الاجتماعية العسكرية[4] ومؤسسة الإسكان العسكرية[5].

العلويّون والسّنّة:

قدّم الجيش دخلًا ثابتًا وآفاقَ حياةٍ أفضل للشباب في الأرياف، وكان مركز جذب لأفراد الطائفة العلوية التي كانت تاريخيًا أفقرَ أبناء البلد. وبينما استغلّ الأثرياء الحق في الدفع، مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية الذي ظلَّ ساري المفعول حتى عام 1964، رأى العلويون في الريف، ومعظمهم من الفلاحين، في الجيش فرصة للترقية الاجتماعية[6]. وتمركزوا في الأصل في الرتب الدنيا من الجيش، لكنهم صعدوا إلى الصدارة في ظل الثورة البعثية (1963-1970)[7].

كانت المهنة العسكرية أيضًا جذّابة لأعضاء الطوائف الأخرى. لقد وصف عقيد سنّي منشق، من قرية خان شيخون، شمال حماة، انضم إلى الأكاديمية العسكرية في حمص في عام 1983، سبب التحاقه بالخدمة على النحو التالي: “كنتُ معجبًا بالضباط. كانوا النخبة. رأيت أنهم يعيشون حياة مريحة، وأن الناس يحترمونهم. وعندما كان أحد الضباط يمشي في الشارع، كان الجميع يرمقونه بأعينهم”[8]. إن حقيقة أن حافظ الأسد وشقيقه رفعت قد سحقا تمرد الإخوان المسلمين السُنّي في حماة المجاورة لقريته، قبل عام واحد من انضمامه للكلية الحربية، لم تؤثر في اختيار الضابط لمهنته. وأوضح أنه اعتاد النظر إلى الجيش كمؤسسة وطنية، وأنه كان يصدّق رواية النظام عن معركة حماة، بأنها حرب ضد الإرهاب[9].  كان هناك احتكار فعال لوسائل الإعلام الحكومية في سورية عام 1982.

أداة توازن:

تمكن حافظ الأسد من السيطرة على سورية وحزب البعث عبر انقلاب عام 1970، الذي أطلقَ عليه “الحركة التصحيحية”. كان حافظ الأسد قد ارتقى سلّم الرتب العسكرية إلى منصب قائد القوات الجوية، وأسس قاعدة للسلطة في شعبة استخبارات القوات الجوية. وكان توليه منصبه الأخير عبر سلسلة من الانقلابات في الخمسينيات والستينيات التي مكّنت الضباط ذوي الخلفية الريفية. ونجح حافظ في ترويض الجيش بينما فشل الذين أتوا قبله في ذلك.

منع الانقلاب:

في مقالٍ يُشار إليه، مرارًا وتكرارًا، حول هذا الموضوع، وصف جيمس كوينليفان جوهر فكرة “منع الانقلاب” لحافظ الأسد على أنها: استغلال الولاءات الخاصة؛ وإنشاء جيوش موازية؛ وإقامة أجهزة أمنية متعددة[10]. الأول يعني أن الرئيس اعتمد على أفراد عائلته وعشيرته وطائفته الدينية للسيطرة على جهاز الأمن. عهد حافظ بأكثر القوات المسلحة مركزية وأهمية إلى أشخاص كانوا مرتبطين به بقرابة الدم، مثل إخوته رفعت وجميل الأسد وابن عمه عدنان الأسد. وأنشأ وحدات عسكرية موازية لموازنة القوات المسلحة النظامية. كما أنشأ أربع أجهزة أمنية موازية -الأمن العام (أمن الدولة) والأمن السياسي والمخابرات العسكرية والمخابرات الجوية- “لمراقبة الجميع حتى الأجهزة الأمنية الأخرى”[11].

حصص (كوتا) المجتمعات المحلية:

وفقًا للعميد السابق مناف طلاس، الذي انشق عن الحرس الجمهوري في كانون الثاني/ يناير 2012، وكان مقرّبًا شخصيًا من الرئيس الحالي، كان هناك عنصر أساسي آخر في استراتيجية منع الانقلاب: حاصر حافظ الأسد كل قائد في الأجهزة الأمنية، بأعضاء من شرائح ذات هوية اجتماعية مختلفة. كانت المجموعات الرئيسة لتجنيد الضباط هي العشائر العلوية الأربع الكبرى: الكلبية، والخياطين، والحدادين، والمتاورة. ويقدّر مناف طلاس أنه من بين 40,000 ضابط في سورية، هناك 30,000 من العلويين، و 8,000 من السنّة، و2,000 من الأقليات الدينية الأخرى، مثل المسيحيين والدروز والإسماعيليين[12]. حرص الرئيس على التوازن في توزيع المناصب بين العشائر العلوية والمجموعات من الهويات/ الانتماءات الأخرى، وفق نظام “كوتا” غير رسمي. على سبيل المثال، عند تعيين الجنرالات في فرق الجيش السبعة، كان يفضل أن يكون لديه واحد من كلّ عشيرة أو جماعة (الكلبية والخياطين والحدادين والمتارة والسنّة والمسيحيين والدروز). وينطبق ذلك المبدأ على الضباط في الأجهزة الأمنية.

تم تطبيق نظام التوازن أيضًا داخل الوحدات العسكرية. إذا كان قائد الفرقة سنيًا، فسيكون نوابه عادةً من جماعة أخرى “علوي ومسيحي”، وإذا لم يكن سنيًا، سيكون نوابه من السنة أو الدروز أو الإسماعيلية أو العلويين من عشائر مختلفة[13]. وبعبارة أخرى: كان هيكل الجيش قائمًا على التناقضات الداخلية، لمنع تشكل حركة منسقة من الأسفل. من دون أوامر من الرجل في الأعلى، فإن أي محاولة لتعبئة الجيش من الداخل ستؤدي إلى انهيارها.

تزايد الاختلال/ عدم التوازن:

بحسب مناف طلاس، اختل التوازن الداخلي بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة؛ إذ قلّص بشار من وجود السنة في مواقع قيادة الجيش، وهو ما يُعدّ خطأ فادحًا، وفق رأي العميد المنشق:

 “طوال 30 عامًا، كان حافظ الأسد قائدًا عامًا للجيش، يحيط به نائبان سنيّان: مصطفى طلاس من الرستن، وحكمت الشهابي من مدينة الباب بريف حلب. كان الاثنان متنافسين/ خصمين، يتنافسان مع بعضهما البعض. كما حافظ على السنيّ نجيب [ناجي] جميل من ضواحي دير الزور في مكانة مرموقة. في عام 2009، كان بشار الأسد القائد الأعلى للجيش. ووزير دفاعه علي حبيب علوي، وكذلك كان نائبه علي أيوب. وكان رئيس أركان القوات المسلحة داود راجحة مسيحيًا، ونائباه آصف شوكت ومنير أدنوف من العلويين. وكان أول سني ظهر في هذا التسلسل الهرمي هو فهد جاسم الفريج، باعتباره الشخص السابع أو الثامن من بين الشخصيات الأكثر تأثيرًا”[14].

أداة توزيع الامتيازات:

قام نظام الحصص (الكوتا) غير الرسمي بأكثر من منع حدوث الانقلابات، وقدّم نظامًا لتوزيع “المكافآت”. استخدم حافظ الأسد الجيش في إستراتيجية سياسية زبائنية، تضمنت توليد وتوزيع الريع الاقتصادي. وساعد بناء الجيش في توليد الريع؛ إذ إنه زاد من أهمية سورية الإستراتيجية للقوى العظمى، مثل الاتحاد السوفيتي السابق والقوى الإقليمية مثل إيران. اكتسبت سورية دور “دولة المواجهة” مع إسرائيل والغرب، وطلب مساعدة عسكرية ومالية من حلفائه لإبقاء الأعداء في مأزق.

توسعات الجيش والريوع:

في أعقاب حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، توسعت القوات المسلحة السورية بشكل ملحوظ، وبلغ تعدادها 430 ألف جندي في أوائل التسعينيات. كانوا الأفراد العسكريون يشكلون (1,3) في المئة من السكان في عام 1970، وارتفعت النسبة إلى (3,5) في المئة في أواخر الثمانينيات، واستقرت النسبة لاحقًا عند حوالي (2) في المئة[15]. أصبحت سورية لاعبًا في الحرب الباردة، ثم دولة لا غنى عنها بالنسبة لمقاومة إيران وحزب الله. نتيجة لذلك، تمكنت من بناء جهازها القمعي، من دون استنفاد الموارد المحلية. يرى فولكر بيرتيس [باحث وسياسي ألماني] أن حافظ الأسد استخدم تهديدات الحرب وعسكرة الدولة والمجتمع لتحقيق الاستقرار في النظام السياسي[16].

لم يكن دور الجيش كمؤسسة لتوزيع الريع أقلّ أهمية، بالنسبة إلى أجزاء كبيرة من السكان، لأنه ربطه بتوزيع امتيازات النظام. كانت الفوائد الرسمية للعمل العسكري، مثل الحصول على الرعاية الصحية والسكن، جزءًا فقط من توزيع الامتيازات هذا. بالنسبة إلى كثير من الضباط، كانت المحسوبية غير المنظمة في الواقع مصدر دخل أكثر أهمية بكثير؛ حيث قدّم الجيش الفرص والغطاء لمجموعة من الأنشطة غير القانونية. يتفق جميع المنشقين الذين قابلناهم من أجل هذه الرؤية على أن الفساد في الجيش كان منتشرًا بالفعل.

الرعاية غير المنظمة:

يمكن للضبّاط كسب المال من التجارة. اجتمعت الأجواء الأمنية مع الطبيعة الحمائية للاقتصاد السوري، لتمييز عناصر الأجهزة الأمنية في المعاملات التميزية. مُنع الضباط من استيراد السلع بأسمائهم، لكنهم دخلوا في شراكات غير رسمية مع التجار الذين تمكنوا من الوصول والدعم (الواسطة) في أروقة السلطة. وتمكنا معًا من التهرّب من اللوائح التجارية الثقيلة في سورية، كما أوضح أحد الضباط (برتبة رائد) المنشقين:

 “استوردتُ مستحضرات التجميل النسائية من دبي، بالتعاون مع تاجر من حماة. لم أسهم بالواسطة فحسب، بل أسهمت أيضًا بنسبة 50 في المئة من رأس المال. استوردنا البضائع عبر شركة يسيطر عليها رامي مخلوف وماهر الأسد، حتى لا نضطر إلى دفع ضريبة الاستيراد. تم استيراد البضائع إلى المنطقة الحرة السورية، حيث تتولى الشركة مسؤولية إدخالها. دفعنا 6,000 دولار مباشرة إلى رامي مخلوف، بدلًا من 20,000 دولار، وهي رسوم الاستيراد العادية. وبهذه الطريقة، اكتسبنا القدرة التنافسية في السوق، وصارت جودة منتجاتنا مطلوبة”[17].

أوضح الرائد أنه كان يتعين عليه رشوة الأجهزة الأمنية، لجعلها تنظر في الاتجاه الآخر (تغض النظر عنه). ومع ذلك، ظلت تجارته نشاطًا مربحًا: “كنت تاجرًا أكثر من كوني ضابطًا. كان راتبي العسكري نحو 450 دولارًا في الشهر. لكن كان لدي منزلان وسيارتان. كنت أربح من (3,000) إلى (5,000) دولار/ شهريًا من التجارة”[18].

بالنسبة إلى الضباط الذين ليس لديهم مثل هذا العمل التجاري، فإن العمل العادي داخل المؤسسة العسكرية أعطى فرصًا للرعاية غير المنظمة أيضًا. يمكن كسب الغنائم من إدارة الموارد، ومن سلطة الضباط على مرؤوسيهم. كان التعامل مع السلع القيّمة مثل الطعام والوقود والمال والمواد عرضة للريع. كان الضباط المكلفون بإدارة توزيع الموارد قادرين في بعض الأحيان على الاحتفاظ بجزء لأنفسهم. وامتد التهرّب من “السرقة الصغيرة” التي يبررها أفراد الجيش، بالإشارة إلى رواتبهم المنخفضة وتكاليف المعيشة المرتفعة، إلى فساد واسع النطاق يرتكبه كبار الضباط. وقد أصبحت هذه الممارسات راسخة لدرجة أنه عندما اندلعت الانتفاضة المسلحة، كانت هناك حالات قام فيها الضباط وهم في دورية ببيع أجزاء من ذخيرتهم للجيش السوري الحر لتحقيق مكاسب شخصية[19].

إجازة دائمة:

تدفقت الأموال من ضباط السلطة الذين اضطروا إلى إعفاء مرؤوسيهم من الخدمة أو على العكس لإزعاجهم ومعاقبتهم. ومن الأمثلة على الحالة الأولى، عملية منح المجندين إجازة دائمة (التفييش بالعامية السورية) التي أصبحت مؤسسة غير رسمية. وفقًا لأحد الرقباء في الجيش الذي بدأ خدمته العسكرية في عام 2010، وظلّ بالزي العسكري حتى انشقاقه في أواخر عام 2012، كان من الشائع أن يقوم المجندون بـ “شراء مواد الإغاثة”، بعد الشهر الأول من التدريب. على وجه التحديد، من بين 50 جنديًا كانوا مسجلين في جماعته، أصبح 15 جنديًا مفيّشًا mufayyish، كما كان يطلق المصطلح عليهم، أي أنهم اشتروا الخلاص من الخدمة بأكملها وتمكنوا من البقاء في المنزل. وكان السعر الإجمالي في حدود (8-12) ألف ليرة سورية (1,60-2,40 دولار أميركي) وتسليم حصتهم الشهرية إلى قائد الوحدة. لقد أُضفي الطابع المؤسسي على هذه الممارسة، إلى درجة عالية، حتى عندما يُستبدل العميد، فإن الضابط الجديد سيستولي ببساطة على المدفوعات الشهرية[20].

ابتزاز صغير:

سيتعين على الضباط ذوي الرتب الدنيا أن يقبلوا بمصالح أصغر. أوضح الرقيب أن العقيد المسؤول عن “التوجيه السياسي” في وحدته يجمّع ما بين (4 إلى 5) هواتف محمولة (موبايل) من المجندين يوميًا، لابتزاز التعويضات (الإتاوات). لم يكن مسموحًا استخدام الهواتف المحمولة في الثكنات وفقًا للوائح الرسمية، لذا يتعين على الجنود تقديم هدايا صغيرة إلى الضابط ليتمكنوا من استعادتها[21]. وذكر جندي سابق آخر أن الضباط كانوا يتاجرون بحقوق المجندين في المغادرة (المأذونية). من حيث المبدأ، للمجندين الحق برؤية عائلاتهم بشكل دوري. أما في الواقع، فقد بات الحق في المغادرة مرهونًا بالقدرة والاستعداد لرشوة الضابط الذي سيتعامل مع طلبهم[22].

القبول الضمني:

قد يبدو من الغريب أن النظام لم يقم بمواجهة مثل هذه الممارسات غير القانونية. بعد كل شيء؛ كان النظام السوري معروفًا بالمراقبة الشاملة وبأجهزته الاستخباراتية القوية. من الواضح أن انتشار الفساد في الجيش لم يكن خفيًا على أحد. لكن النظام لا يستطيع تحمل عزل المصالح المؤسسية لركيزة سياسية محورية. وذلك لأن القوة الشرائية لرواتب الضباط السوريين قد تراجعت على مرّ السنين. كان الاستياء داخل سلك الضباط كامنًا، وكان السماح للبعض بالبحث عن الريع وسيلة للنظام لتعويضهم. أعرب كثير من الذين قابلناهم عن شعورهم بالتشجيع للانخراط في الفساد على نطاق صغير. رأى عقيد سابق في الحرس الجمهوري أن هذه إستراتيجية لضمان التزامه الصمت في مواجهة الفساد واسع النطاق. وكان على الجميع أن يصبحوا متواطئين مع الرجال في قمة الهرم[23].

في السياق الأوسع، كان القبول الضمني للرعاية غير المنظمة جزءًا من استراتيجية النظام الزبائنية. لقد أعطى 40,000 ضابط وعائلاتهم حصة في إدامة شبكات الامتياز. وتماشيًا مع منطق الزبائنية، كانت المنافع تُوزَع بحسب الولاء السياسي. أما أولئك الذين تجاوزوا “الخطوط الحمراء” وأثاروا حفيظة أجهزة المخابرات فكانوا يُبعدون من شبكتي الرعاية المحسوبية، ويمكن محاسبتهم على سوء السلوك السابق. أحد الضباط برتبة رائد أوضح أنه قدّم منذ مدة طويلة طلبات للترقية، ولكن بلا جدوى، وأعطى توضيحًا حيًا لكيفية عمل آلية التأديب هذه: “في عام 2000، اُتهِمتُ بالمعارضة الداخلية في الجيش. السبب؟ خلال مراسم تشييع جثمان حافظ الأسد في الثكنات العسكرية صرختُ: هل هو الوحيد الذي مات؟ أطفئوا التلفاز! سيكون هناك شخص أفضل منه بعده”. احتجزوني مدة شهر ونصف في السجن. ساعدني والدي في الخروج. كانت علاقاته جيدة جدًا مع شيوخ العلويين، بسبب عضويته في حزب البعث ومكانته العالية في الإدارة العامة. وبعد هذا الحدث، فرضوا عليّ مراقبة لمدة سبعة أعوام. لم أستطع المضي قدمًا في أي خطة أو طلب، لأنني كنت تحت المراقبة. في النهاية دَبكتُ/ رقصت الدبكة dabke (رقصة تقليدية) في حملة (نعم) الرئاسية لبشار عام 2007. جرحتُ أصابعي كلها وبَصمت بها، وصوّتت له بالدم. عندها فقط أزالوا المراقبة عن كاهلي”[24].

الانشقاقات:

حتى الانتفاضات العربية، أبقى نهج العصا والجزرة الضباط مثل حالة “الفلتان” [شخص يتصرف بطريقة غير منضبطة أو غير متوقعة، ومن المحتمل أن يسبب مشاكل لأشخاص آخرين] تحت السيطرة وبقي الجيش متحدًا. ولكن منذ نقطة التحول في نيسان/ أبريل 2011، عندما أرسِل الجيش لقمع الانتفاضة في درعا، بدأت الانشقاقات تحدث. في أواخر تموز/ يوليو، أعلن العقيد رياض الأسعد إنشاء الجيش السوري الحر، في مقطع مصوّر على الإنترنت، وهو الأمر الذي أثار موجة من أعمال التحدي المماثلة من قبل أفراد الجيش الآخرين. كان معظم الفارين من الجيش جنودًا وضباطًا صغارًا، على الرغم من حدوث بعض الانشقاقات في الرتب العالية[25]، وأولئك الذين رفعوا أسلحتهم ضد النظام سمة أخرى مشتركة: غالبيتهم العظمى من السنّة[26].

تحطيم السُنّة:

إن نزيف الجيش من السنّة هو نتيجة لقمع النظام الوحشي في الأحياء والقرى السُنّية. حيث استخدمت قوات الأمن الذخيرة الحية منذ المرحلة الأولى من الاحتجاجات، وسرعان ما تصاعدت إلى استخدام نيران المدفعية. وبعد أن استشعر النظام عدم تحرّك المجتمع الدولي، شرع في استخدام القوة الجوية، ثم صواريخ سكود فيما بعد. واستهدفت الهجمات مناطق سنية، وضربت مجتمعات وأصدقاء وأقارب لضباط الجيش. حتى أولئك الذين لم يتكبدوا خسائر شخصية تأثروا بما يحدث، فتحوّل المزاج العام بحدة ضد المؤسسة العسكرية. على حد تعبير العقيد الذي ترك منصبه في حلب في أواخر عام 2011، حيث قال: “كونك جزءًا من جيش يقتل عشوائيًا أصبح مصدرًا للخزي والعار”[27].

الحرمان النسبي:

بعيدًا عن ممارسة القمع الحاد والقاسي، غذّت الانشقاقات التوترات الداخلية الطويلة الأمد. تأسس نظام البعث السوري على خطاب غير طائفي، ولكن ممارسته كانت مختلفة تمامًا. عانى الضباط السنة مشاعر الحرمان النسبي. واستنكر جميع من قابلناهم التحيز المنهجي للعلويين داخل القوات المسلحة. قال طيار مقاتل سابق: “لدى العلويين الشبكات اللازمة للحصول على ترقية ومزايا من جميع الأنواع، لقد أزعجني الظلم لمدة 29 عامًا”[28]، وطرح أحد العناصر السابقين في القوات الخاصة سؤالًا بليغًا: “كيف تفسّر أن هناك 20 في المئة فقط من الضباط في الجيش ينحدرون من السّنّة، على الرغم من أن نسبة السّنة في البلد هي 80 في المئة من السكان؟”[29].

أوضح معظم الضباط أنهم حملوا توقعات وأفكار مختلفة، عندما التحقوا بالجيش. لقد تأثروا بالخطاب الوطني الذي أكّد وجوب حبّ الوطن ومقاومة إسرائيل. اندهش كثيرون منهم من مدى التمايز الطائفي داخل المؤسسة العسكرية. أحد الضباط الرواد (رائد) أراد أن يصبح ضابطًا منذ أن كان طفلًا، وصف خيبة أمله عندما عرف كيف يتم اتخاذ قرارات الترقية العسكرية: “عندما دخلت الجيش، شعرت بخيبة أمل. اكتشفتُ أننا، السنّة، كنا نعدّ من المرتبة الثالثة. كانت المرتبة الأولى تتكون من العلويين القريبين من الأسد. أما المرتبة الثانية فكانت من الضباط العلويين الآخرين وبعض الأقليات. أما الثالثة فكانت منا ومن بقية الأقليات. ثم كانت هناك رتبة رابعة من الضباط السنة ذوي الميول الإسلامية”[30].

أجهزة الأمن:

أكد آخرون أن الضباط الذين يعلنون إيمانهم الديني سيثيرون اشتباه الأجهزة الأمنية. بما أن الصلاة كانت ممنوعة منعًا باتًا في الثكنات، أوضح أحد الضباط برتبة عقيد أنه كان يختبئ تحت البطانية في فراشه ليصلي[31]. بحسب رأي المنشقين، كان جهاز المخابرات يخضع “للهيمنة العلوية في أنقى صورها. وزادت سلطته على الجيش ظلمًا آخر، إضافة إلى شعور الضباط بالحرمان النسبي. الرائد الذي تحدث أعلاه عايش وخبِرَ بطش الأجهزة الأمنية: “كنتُ أتخيلُ أن يكون لضابط الجيش سلطة ومكانة في المجتمع، لكن لحافظ الأسد إستراتيجية للحطّ من أخلاقنا. كان ضباط الأمن دائمًا متميزين عن ضباط الجيش. يمكنهم استدعاؤهم في أي وقت. في عام 2010، كان ضباط الجيش هم أضعف سلسلة في جهاز الدولة. أي شكوى من أي مواطن قد تؤدي إلى فصلهم. كان الضباط يعيشون في شعور دائم بعدم الأمان […] يمكن للأجهزة الأمنية أن تضرب وتهين أي ضابط وسط وحدته العسكرية. وأصبح هذا شائعًا بعد 2011. ضباط مثل النقيب حكم العيد والمثنى المحمد وفراس الصيرفي، قُيّدوا وتعرضوا للضرب في الأماكن العامة.

التناقض الداخلي:

في الواقع، كان هناك تناقض داخلي في استخدام حافظ الأسد السياسي للجيش. فمن ناحية، سعى إلى منع حدوث انقلابات ووضع أفراد من عائلته وقبيلته وطائفته الدينية في مواقع محورية. ومن ناحية أخرى، أراد ربط السنة بالنظام، من خلال علاقات المحسوبية. كان الجيش في وضع جيد نظريًا لشغل وظيفة تحقيق الاستقرار بين السنّة، نظرًا لمكانته الوطنية ومدى انتشاره. لقد لخص المهمة الرمزية للنظام -المقاومة- وجمع كل مجموعة فرعية من الأمة معًا. لكن واجب منع الانقلاب عمل ضد الاندماج الوطني واسترضاء السنة. وأضعِف موقف الجيش أمام الأجهزة الأمنية، ومورس التمييز ضد السنّة داخل المؤسسة العسكرية. ربما راهن النظام على إرضاء “كتلة حرجة” من الضباط السنة. لكن الحرمان النسبي ظل مصدر استياء. وفي النهاية، ارتطمت الاستراتيجية وجنحت في الانتفاضات العربية.

الاستنتاج:

نظرًا لعدم تحول أي وحدة عسكرية في حد ذاتها ضد النظام، وبقاء قوات الضباط العليا موالية في الغالب، لم تسفر انشقاقات الجيش السوري الحر وتشكيله عن سقوط بشار الأسد. ومع ذلك، كانت النتيجة تشظي الأراضي مع انحسار سيطرة الدولة على الأحياء الفقيرة  والهامشية للمسلمين السُنّة. لقد جادلتُ بأن الجيش السوري مهمٌّ للاستقرار بطرق غير فرض القمع. كما أنه خدم كأداة للتوازن وتوزيع الامتيازات. بعد عام 2011، انهار التوازن بين الطوائف وفقد الجيش القدرة على التعاون مع السنّة. وقد استند النظام في بقائه إلى القمع وسياسة “فرّق تسُد”.

اسم المادة الأصلي:   Roots of fragmentation: The army and regime survival in Syria

الكاتب: كجيتيل سيلفيك،Kjetil Selvik

مكان النشر وتاريخه: CHR. MICHELSEN INSTITUTE، نيسان/ أبريل 2014

رابط أصل المادة: http://bit.ly/3bLo1pD

هوامش:
[1] – كانت أحياء الضباط النموذجية هي سعسع وقطنا والقدم ومزة 86 وحرستا.

 [2] – المؤسسة الاجتماعية العسكرية.

 [3] – مؤسسة الإسكان العسكرية.

 [4] – حنا بطاطو، ” بعض الملاحظات حول الجذور الاجتماعية للجماعة العسكرية الحاكمة في سورية وأسباب هيمنتها”، مجلة الشرق الأوسط، 35: 3 (1981)، 331 -344.

 [5] – نيكولاس فان دام، الصراع على سورية: السياسة والمجتمع في عهد حزب البعث (لندن ونيو يورك: توريس، 1996).

 [6] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [7] – المصدر السابق.

 [8] – جيمس كوينليفان، منع الانقلاب: الممارسة والنتائج في الشرق الأوسط”. الأمن الدولي، 24: 2 (1999)، 131 -165.

 [9] – المصدر السابق.

 [10] – مقابلة المؤلف مع العميد مناف طلاس، 10 كانون الثاني/ يناير 2014.

 [11] – أشار مناف طلاس إلى حالته، بصفته عميدًا سنيًا في الحرس الجمهوري، حيث كان أحد نائبيه علويًا والآخر درزيًا، وكان هناك ستة قادة كتائب: سني، ومسيحي، وأربعة علويون من عشائر مختلفة، على مستوى الوحدة، وكان لديه 18 ضابطًا من مجموعات مختلفة.

 [12] – مقابلة مع العميد مناف طلاس.

 [13] – شمل ذلك الدرك والوحدة السورية لجيش التحرير الفلسطيني. انظر فولكر بيرتيس، “Si Vis Stabilitatem إذا كنت تريد الاستقرار، وبارا بيلوم: بناء الدولة والأمن القومي والتحضيرات للحرب في سورية”، وستيف هايدمان، في الحرب، المؤسسات والتغير الاجتماعي في الشرق الأوسط، (منشورات جامعة كاليفورنيا، 2000)، 98

 [14] – فولكر بيرتس، مرجع سابق.

 [15] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [16] – المصدر السابق.

 [17] – مقابلة مع رياض النقشبندي، 10 كانون الثاني/ يناير 2014.

 [18] – مقابلة مع المؤلف، كانون الثاني/ يناير 2014.

 [19] – المصدر السابق.

 [20] – مقابلة مع المؤلف، كانون الثاني/ يناير 2014.

 [21] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [22] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [23] – من كبار المنشقين اللواء محمد الحاج علي واللواء مصطفى الشيخ واللواء فايز عمرو وعبد العزيز جاسم الشلال واللواء محمد نور عز الدين خلوف واللواء علي حبيب.

 [24] – بحسب ضابط تنسيق في الجيش السوري الحر، فقد انشق عن النظام حتى آذار/ مارس 2014 ضابط مسيحي واحد فقط، وثلاثة علويين، وأربعة إسماعيليين وعشرة ضباط دروز. علاوة على ذلك، عاد الضابط المسيحي مروان القيد لاحقًا إلى النظام. مقابلة مع المؤلف على سكايب، آذار/ مارس 2014.

 [25] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [26] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [27] – مقابلة مع المؤلف، آذار/ مارس 2014.

 [28] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [29] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [30] – مقابلة مع المؤلف، شباط/ فبراير 2014.

 [31] – تيد غور، لماذا يتمرد الناس (برينستون: منشورات جامعة برينستون، 1970).

* مهندس وكاتب ناشط ومترجم لغة إنكليزية في مركز حرمون

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.