الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» للكاتب: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة التاسعة

( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة التاسعة: (الانقلاب على عبد الناصر والوحدة، و بعث ما بعد الوحدة.. الانقلاب على الذات)   

من الأمة إلى الطائفة 

سورية في حكم البعث

    قراءة نقدية

ميشيل كيلو

باريس ٢٠١٧/٢٠١٩

الانقلاب على عبد الناصر والوحدة:

           ـ ١ ـ

   ـ كما سبق القول، قرر البعث حل تنظيمه السوري تنفيذاً لشرطين وضعهما عبد الناصر، ربط بهما قبوله الوحدة الاندماجية بين مصر وسورية، هما: “وحدة القيادة التي تقتضي تنظيماً واحداً، وبالتالي حل الأحزاب، وعودة الجيش السوري إلى ثكناته وامتناعه عن العمل السياسي”(74). ومع أن عديداً من تنظيمات “البعث” خارج سورية وداخلها، رفضت قرار الحل، الذي “اتخذه عفلق والبيطار عام ١٩٥٩، فان مؤتمره الوطني الثالث، الذي عقد بين ٢٧ آب والأول من أيلول وحضره مندوبون من العراق ولبنان والأردن وجنوب الجزيرة العربية والخليج العربي والمغرب العربي وفلسطين إلى جانب بعض المنظمات الطلابية، وافق على حل الحزب وطرد أمين فرعه الأردني عبد الله الريماوي، بسبب معارضته القرار، وواجه فؤاد الركابي، أمين فرعه في العراق، الذي اتهم قيادته بخيانة المبادئ القومية العربية بالتآمر ضد الجمهورية العربية المتحدة، ورد عليه بتعيين قيادة قطرية عراقية مؤقتة يوم ٢/٢/١٩٦٠، تولى طالب شبيب أمانتها، قبل أن تطرد الرفاعي والركابي من الحزب يوم ١٥ حزيران ١٩٦١”(75). عارض قرار الحل أيضاً بعض صغار ضباط الحزب، الذين أعادوا تنظيم انفسهم في الاقليم الجنوبي (مصر) تحت اسم “اللجنة العسكرية”. بيّد أن قرار حل الحزب، “الذي حمل توقيع الاستاذين عفلق والبيطار، نُفذ في سورية، بينما شغل عدد كبير من قادته وممثليه مناصب في مؤسسات الدولة الاتحادية كوزراء ومستشارين وبيروقراطيين ونواب(76)، حيث واصلوا تشاورهم الحزبي المنظم، واتخذوا مواقف وقرارات مشتركة عبرت عن تمسكهم بدور إرشادي أو إشرافي “للبعث”، في إطار الدولة الوليدة، لاعتقادهم أنهم أنضج قومياً من القادة المصريين، بمن فيها عبد الناصر، ومتقدمون فكرياً وايديولوجياً عليهم، وأن انتهاء دور الحزب في سورية لا يعني انتهاء مسؤوليته السياسية ورسالته القومية، وإلا خسر موقعه في مركز اتخاذ القرار كمعادل سوري في المكانة السياسية والمهام للقيادة المصرية، يتوقف على دوره استمرار النهج الوحدوي في الدولة الجديدة، فلا غرابة في أن مؤتمر الحزب الرابع الذي عقد عام ١٩٦٠ في بيروت، نقض قرار حل الحزب، الذي كان مؤتمره الثالث قد وافق عليه قبل عام، واعتبر “أنه كان قبولاً بالأمر الواقع، ودعا إلى إعادة تنظيم الحزب في سورية”(77).

   ـ ولعله مما يؤكد أن البعث لم يحل نفسه على المستوى القيادي ما تقدم به ممثلوه من استقالات متزامنة بحجج متشابهة أو متطابقة، وتبنوّه فيما بعد من مواقف موحدة حيال عبد الناصر، ووجهوه إليه من تهم نقلته من موقعه كـ”زعيم حقيقي للبعث القومي”(78) إلى عدو وحدة قتلتها ديكتاتوريته، وحولتها من “وحدة حقيقية بين طرفين قوميين إلى ضم سورية إلى مصر”(79).

بعث ما بعد الوحدة.. الانقلاب على الذات:

                                                                                                              ـ٢ـ

   عندما وقع الانفصال يوم ٢8 ايلول عام ١٩٦١، كانت قيادة البعث السوري قد اتمت انفكاكها السياسي عن “الجمهورية العربية المتحدة”، بذرائع وأسباب لا تتصل بما كانت قد وضعته لها من معايير وحدوية، كإسنادها مناصب رفيعة في مؤسسات دولتها إلى مسؤولين من أحزاب وتيارات كان البعث في صراع معها، وَعِمل قبل الوحدة للإطاحة بها، ولم يكن مقبولاً في نظره ضمها على قدم المساواة معه إلى حكومتها وبرلمانها، لأن ذلك إشارة إلى موقف غير ودي يؤكد رغبة القيادة المصرية في تحجيمه وتهميشه. و”كان خلاف الحزب مع عبد الناصر قد انفجر بعد انقلاب العراق يوم ١٤ تموز عام ١٩٥٩، وقيام نائب رئيس الجمهورية أكرم الحوراني ووزير الثقافة المركزي صلاح البيطار بتقديم استقالتيهما بعد يوم واحد من مرافقة الرئيس بالقطار إلى مدينة بورسعيد لإحياء ذكرى خروج القوات البريطانية منها، وفشل عدوان عام ١٩٥٦على مصر. ومع أن المسؤولَين تناولا طعام الغداء معه، وعادا برفقته في القطار إلى القاهرة، فإنهما تقدما في اليوم التالي باستقالتيهما، وتلاهما الوزيران مصطفي حمدون (١٩١٧ـ ١٩٩٨) وعبد الغني قنوت (١٩٢٢ـ ٢٠٠١)”(80)، اللذان استقالا بإيحاء من ميشيل عفلق، قائد البعث الذي قال في حديث أذاعه “موقع الكاتب”: “أنه كان قد اتفق مع عبد الناصر على أن تكون القيادة ثورية، وأن يكون للبعث الحصة الأكبر فيها، لكن عبد الناصر لم يلتزم بالاتفاق … لذلك يمكن اعتبار التجربة الوحدوية الأولى مرتجلة”(81). وكان مؤسس البعث، الذي اعتقد أن الوحدة ستمثل انقلاباً جذرياً في حياة الحزب، وستخرجه بخطوة واحدة من محليته الضيقة إلى رحاب دولة قومية تتمتع بدعم شعبي عربي كاسح، حيث سيمسك بمفاصل رئيسة فيها، وعندما تبين أن عبد الناصر لن يتخلى عن سلطاته للحزب، شرع مؤسسه يشن حملات شخصية قاسية عليه، يناقض مضمونها ما كان يعلنه في مواقفه الرسمية، وأيد إعادة تنظيمات “البعث” إلى نشاطها الاعتيادي في سورية، مثلما حدث، على سبيل المثال، في حلب، حيث شُكلت “لجنة حزبية قيادية” كلفت بدراسة الاوضاع، واتخاذ القرارات المناسبة بشأنها. بدوره، قال أكرم الحوراني، نائب الرئيس عبد الناصر، في مذكراته : “إن أحد أهم أسباب انهيار الوحدة المصرية/ السورية عام ١٩٦١، ثم انهيار جميع المحاولات التي جرت لتحقيق أي نوع من الوحدة أو الاتحاد بين الأقطار العربية إنما يعود بالدرجة الأولى إلى أنظمة الحكم … التي كانت وما تزال أنظمة فردية أو ديكتاتورية أو عسكرية أو طائفية أو عشائرية، يمارس الاستعمار نفوذه عليها”(82).

   ـ كان الانفصال لحظة فارقة بالنسبة للبعث، تغيرت بعدها خياراته القومية والوطنية، واختلفت طرقه، وتفرقت صفوفه، إذ بينما أيد اثنان من قادته الثلاثة الانفصال، و”أصدرا يوم ٢/١٠/١٩٦١ بياناً تضمن هجوماً لاذعاً على جمال عبد الناصر، شكرا فيه الجيش السوري لأنه قام بفصل سورية عن مصر”(83)، وتحولا كـ عفلق إلى خصوم لعبد الناصر والوحدة مع مصر ما بقيت ناصرية . في الوقت نفسه، كانت أمور الحزب تفلت من أيدي القادة الثلاثة: عفلق والبيطار والحوراني، الذين اختلفوا، وغادرهم الحوراني، في حين ظهرت بين القواعد والقيادات الوسيطة تيارات متناحرة: قومية وقطرية، عسكرية ومدنية، انهكت صراعاتها العدد القليل من الحزبيين، الذي كان باقياً في “البعث”، وجعلت من الضروري إنقاذه، بما أن النمو، الذي شهده في أرياف الساحل وأواسط سورية عقب توحيده مع حزب الحوراني “لم يكن منضبطاً، بل أدى إلى أزمة داخلية حادة عام ١٩٥٧، قبل الوحدة بوقت قصير، قال أحد تقاريره أن الحزب “الموحد ظاهرياً سادته فوضى تيارات عقائدية، أخضعت صفوفه لحال من “عدم الانضباط”، حوله إلى مؤسسة اجتماعية معزولة، شهدت فجوة عميقة بين القادة والأعضاء، لأن القادة راحوا يتصرفون بمعزل عن الحزب، وينظرون إليه كعبء ثقيل وعائق أمام حريتهم، بينما نما الشك والانهزامية بين صفوفهم نمواً كبيراً حتى وصل إلى وجود الحزب ذاته: وهل يستحق البقاء أم أنه تجربة محكومة بفشل محتوم”(84). وقد خاطب عبد الناصر ميشيل عفلق أثناء مفاوضات عام ١٩٦٣ مع ممثلي البعثين السوري والعراق حول إقامة اتحاد عربي فيدرالي، قائلاً: “معلوماتي عن الحزب أنه كان فيه مشاكل… تقريباً عسيرة على الحل … في وقت مباحثات الوحدة (خلال كانون الثاني ١٩٥٨) … اللي تصورناه كلنا أنكم عايزين تحلوا الحزب(85). الغريب أن ميشيل عفلق أكد عام ١٩٦٨ أن اقتراح حل الحزب قد جاء “صدمة” له، ونسي أنه هو الذي أصدر ووقع بيان حله، وعاقب مسؤولي الحزب في الأردن والعراق، لأنهما اعترضا عليه.

   ـ لم يستعد البعث وضعه القديم، بل واجه أزمة جعلت من الضروري إعادة انتاجه في الظروف الجديدة، بعد أن تلاشى بصورة تكاد تكون تامة خلال أعوام الوحدة، ودبت الخلافات في صفوف قادته وقواعده، وطالت أساساً مواقفه من تجربة الوحدة، والدور الذي يمكنه القيام به بعدها .

   ـ هذا الخلاف دفع الحوراني إلى استعادة حزبه الاشتراكي من “البعث” يوم ٢٠/٦/١٩٦٢، وإحياء تنظيمه القديم. وكانت فترة الوحدة بين الحزبين قد عرفت خلافات بين قادتهما، الذين طفت تباينات مواقفهم وخياراتهم على السطح، بعد أشهر قليلة من اتحادهما، كما أكد أكرم الحوراني في مذكراته بقوله: “إنه بعد دمج الحزبين، شعرت منذ الاجتماعات الأولى أن الأستاذين أصبحا بعيدين عني أكثر من السابق وأنهما يشكلان قيادة مستقلة”(86)، وأضاف أن “صبري العسلي قال له بعد سنوات: إن صلاح وميشيل كانا يصرحان للمعتقلين في السجن أن تعاونهما مع الأستاذ أكرم عابر، وأن البعث حزب مستقل عن العربي الاشتراكي”(87)، وأضاف مروان حبش، عضو القيادة القطرية الأسبق في حزب البعث، الذي أمضى ربع قرن في سجن المزة بعد انقلاب حافظ الأسد عام ١٩٧٠، في مقالة نشرها موقع الجولان يوم ٥/٧/٢٠٠٩ بعنوان “دمج حزب البعث مع العربي الاشتراكي … زواج لم يعمر”، أن افتتاح مقر الحزب الجديد في دمشق عام ١٩٥٤ شهد إعلان الخلاف بين الحوراني وعفلق، إذ بينما أكد الأول في كلمة ألقاها بهذه المناسبة أن “الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يصبح الشعب سيد نفسه، ولذلك يتوجه الحزب إلى العمال والفلاحين، اذ لا يجوز لفئة أو طبقة لا تعرف إلا مصالحها أن تعبث بمصلحة أغلبية البلاد”، قال الثاني: “إن حزبنا حزب انقلابي جدي لا يقوم على هواية، ولا يقبل في صفوفه الهواة، فالعمل في حزب انقلابي ليس هواية ولا ميلاً، وإنما هو وظيفة هي أخطر من كل وظيفة، وهي كما عرفها الحزب منذ نشوئه رسالة… وليس التنظيم جمعاً فحسب، وإنما هو خلق وإبداع، وليكن في بادئ الأمر مختصراً عددياً، ليس في هذا ضير، ولكن ليكن جديا”(88). ثم، وخلال اجتماع جرى في منزله، اتهم عفلق الحوراني بتدبير انقلاب على الشيشكلي من خلف ظهر القيادة، واقترح فك الدمج بين الحزبين”(89). بسبب هذه الأجواء، كان من الطبيعي أن يتحدث تقرير الحزب عام ١٩٥٧عن “الفوضى”، وأن يعتقد عبد الناصر أن البعث العربي الاشتراكي يتعرض لمشكلات تتحدى قياداته، لذلك قررت حله، “في ظل محاولات قام بها بعض الناشطين لاستبعاد الأساتذة الثلاثة عن التنظيم، حرصاً على وحدته، وتجميد خلافات قادته قبل الوحدة، الذين عقدوا في أواخر عهدها لقاءات سرية استجابة لرسائل بعث بها من لبنان أمينه العام الأستاذ عفلق، لحث البيطار والحوراني على البحث في إعادة تنظيم البعث من جديد في سورية، على أن يُفتح بعدها باب حوار داخلي حولها، وحين بدأ الحوار شابته أجواء من الخلاف والبلبلة استمرت حتى انعقاد مؤتمر الحزب القومي الخامس في أيار من عام ١٩٦٢”(90).

   ـ وكان الطرفان قد دخلا الوحدة بفهمين سياسيين تباينا حسب ارتباطاتهما الداخلية وبرنامجيهما، فالبعث حزب قومي يضم بصورة تكاد تكون حصرية متعلمين وموظفين وبرجوازيين صغارا، ويندر الفلاحون والعمال بين محازبيه، لذلك “لم يحضر مؤتمره الأول عام ١٩٤٧ غير عامل واحد وفلاح واحد من اصل ٢١٧ عضوا شاركوا فيه، أغلبيتهم الساحقة من المعلمين وطلاب الجامعة والمدارس الثانوية، وموظفي الحكومة والمحامين والاطباء”(91)، بينما كان حزب الحوراني العربي الاشتراكي حزب فلاحين يخوضون يوميا معارك طبقية وسياسية ضد إقطاع لا يترك لهم ما يسدون به رمقهم.

   ـ بانهيار الوحدة، افترق الطرفان، وتذكرا اختلاف هويتيهما السياسية والاجتماعية، وتضارُب رؤيتيهما الوحدويتين، وما أراد كل منهما تحقيقه بواسطتها. وأسهم في خلافاتهما التلاشي شبه التام لبعث عفلق، وولاء أغلبية القاعدة الشعبية غير الحزبية للحوراني. يفسر هذا لماذا انصب تمرد “البعث” بعد الانفصال على عفلق والبيطار، اللذان ضحيا به من أجل وحدة مرتجلة، كما وصفها عفلق، ثم، وبعد عامين ونيف: التضحية بالوحدة من أجل الحزب، الذي كان قد تحول إلى تنظيم افتراضي، غادره أعضاؤه بقرار رسمي أخذته قيادته ووقّعه عفلق، ولم يبق منهم غير عشرات احتلوا مناصب قيادية فيه قبل الوحدة، فقد معظمهم ثقته بعفلق كقائد سياسي، وتهافت ما كان بينهم وبينه من التزام تنظيمي.

   ـ بما أن الظرف كان يحتم استعادة الحزب انطلاقا من قيادته، أدرك عفلق أن إعادة بنائه لن تكون ناجحة، أن استخدم فيها العتاد الفكري الذي بلوره في الأعوام العشرين السابقة للوحدة، وأيقن أن التمسك به لن ينال تأييد من كانوا أعضاء في الحزب، واستئناف دوره، ناهيك عن كسب غير الحزبيين بأغلبيتهم الوازنة، التي كانت ترى في عبد الناصر قائداً لها!.

   ـ واجه قادة “البعث” الآن مهمة مغايرة لما كانوا يتبنونه إلى ما قبل اسابيع قليلة، تمحورت حول تحولين مهمين: أولهما من الوحدة كبيئة سياسية يضع قيامها الأمة في زمن جديد، ما بعد قطري وانفصالي واستبدادي ورجعي، ومن عبد الناصر كقائد للأمة الصاعدة نحو وحدتها القومية. وثانيهما من موقع “البعث” العربي، الذي يجب أن يبنى من الانفصال فصاعدا على الندية تجاه قيادة مصر، وأن لا يسمح بإملاء شروطها في محادثات عام ١٩٦٣، التي أفضى فشلها إلى انقسام نهائي بين الطرفين، ونشوء أوضاع تبرر تبني دور حزبي مغاير في الداخل “القطري” والمجال القومي، حيث سيحول صراعه مع عبد الناصر الانقسام العربي من ثنائي إلى ثلاثي القطبية، وسيشق ما كان يسمى “الصف القومي”، ويعيد النظر في علاقات الطرفين القوميين مع المعسكر التقليدي، ويؤدي إلى تحول جدي في مواقف الحكومات والأحزاب العربية.

   ـ أدت ردود الأفعال على عفلق و”اللجنة العسكرية”، إلى انشقاق عدد من البعثيين، وتأسيس تنظيم ناصري حمل اسم” الوحدويين الاشتراكيين”. إذا اضفنا إلى هذا خروج تيار الحوراني بوزنه الشعبي من الشراكة مع “البعث”، أدركنا لماذا وجد عفلق نفسه أقرب إلى أن يكون وحيداً في مواجهة “لجنة عسكرية” شكلها ضباط بعثيون في مصر، كانت أول تنظيم عسكري حزبي انفصل عن قواعد البعث المدنية، وعمل داخل الجيش في ظل منابت ضباطها الاجتماعية الخاصة، وما أملته عليها من مواقف سياسية استمدتها من تجربة سلبية مع الوحدة، والغضب على عفلق. بهذه العوامل، عاش “البعث” تطورات داخلية حالت بينه وبين استعادة وضعه قبل الوحدة، رغم سيطرته بعد أقل من عامين على دولتي العراق وسوريا المشرقيتين المتجاورتين، اللتان تعتبران عماد المشرق العربي.

   ـ لمواجهة هذه الصعوبات، أصدر “الأستاذ” في شهر شباط من عام ١٩٦٢ بياناً حول تجربة الوحدة قال فيه “إنها لم تكن بنت ساعتها … فقد خطط لها حزب البعث قبل قيامها بسنتين … وشجع التوجه الذي ظهر بمصر في عهدها الجديد نحو الوحدة العربية، وسعى إلى اقامة دولة واحدة اتحادية لا إلى اتحاد بين دولتين … لتوفير صيغة تقدم ضمانات ضد التسلط … وتردم الفروق بين الاقطار العربية، وتسمح بتطويرها سلميا نحو الانسجام … وتجسر الهوة في وجهات النظر بين الحزب وعبد الناصر حول الحرية والديمقراطية، التي امل الحزب ـ بتفاؤل سطحي ـ أن تزيلها الوحدة”(92)، وأضاف في حديث مع إحدى منظمات الحزب : “إن أهم دروس الانفصال هي أن وحدة النضال العربي هي في هذه المرحلة التعبير العملي عن وحدة الأمة العربية… وان كل خطوة في طريق الوحدة تكون معرضة للتعثر والفشل بمقدار ما في وحدة النضال من فتور وثغرات، علما بأن ضعف الوعي اثناء الوحدة تجلى عبر تخلف الوعي العربي في مصر… إن تحقيق الوحدة الاتحادية ذات المحتوى الاشتراكي الديمقراطي يقع على عاتق الطبقات الشعبية والحركات الثورية التحررية”(93).

   ـ هذه المراجعة، التي أملاها على مؤسس الحزب الاقتناع بفشل خطه الذي قاد إلى الوحدة، وبضرورة مراجعة نهجه السابق، تضمنت تراجعات عن أفكار ما قبل التجربة، أهمها :

   ـ أولاً: تخلي الحزب عن الوحدة الاندماجية، لأنها بين حزب ودولة، وتتطلب بالضرورة تخلي الحزب عن السلطة أو مشاركته كطرف ثانوي فيها، لاستحالة أن يمتلك حزب مهما كان شعبيا وقوميا قوة مكافئة لقوة الدولة، أو متفوقة عليها.

   ـ ثانياً: اشتراطه أن تبنى أي دولة اتحادية على مبدأي الحرية والديمقراطية، لضمان دور حزبي قيادي فيها، وإن لم يشارك في السلطة، والمحافظة على حقه في الانفكاك عنها، في حال افتقرت إلى الحرية والديمقراطية: اكتشاف عفلق الجديد.

   ـ ثالثاً: اعتبار الوحدة الاتحادية حال انتقالية يتم خلالها تطور موحد للبلدان المنضمة إليها، وترقية وعي شعبها القومي إلى مستوى يجعله أحد شروط المحافظة عليها.

   – رابعاً: ستكون وحدة النضال العربي، من فشل الوحدة فصاعدا، ضامن نجاح مشروع قومي ستحققه الجماهير الشعبية كمشروع اشتراكي/ ديمقراطي أساساً. قال عفلق هذا، رغم اعتراضه ذات يوم، باسم النخبة والقلة الجدية، على حديث اكرم الحوراني عن العمال والفلاحين (الملاحظة رقم ٧٤). من الانفصال فصاعداً، سيكون لوعي هذه الجماهير القومي ولدورها، وليس للحزب وللأنظمة السياسية القائمة، الدور المفصلي في تحقيق الوحدة واستمرارها.

   ـ نسف عفلق في هذه المراجعة معظم الأسس التي قام “بعث” ما قبل الوحدة عليها، وقلص أهمية وراهنية كل ما يتعلق بها وبالحرية، وركز، بالمقابل، على الاشتراكية وهوية البعث الانقلابية، لارتباط الأولى بالتقارب مع السوفييت، والثانية باستراتيجية استبطنتها مراجعة تدعو إلى انقلاب يستولي على السلطة في قطر واحد، لاستحالة أخذها انتخابيا، بالعدد القليل المتبقي من البعثيين.

   ـ بهذا التحول، تلاشت “الفطرة الوحدوية للشخصية العربية”، واختفى التطور الخطي الواحدي الاتجاه، الصاعد حتما من الانفصال إلى وحدة ليس بمقدور فرد أو حزب، بل والأمة نفسها، ثلم حتميتها، أو تغيير مسارها.

   ـ استولى ضباط بعثيون على السلطة في دولتي المشرق الرئيستين: العراق وسوريا، وتلازم هذا الحدث مع تبدل سياسات عفلق وقراره التخلي عن عبدالناصر، وتحميله المسؤولية السياسية والاخلاقية عن فشل الوحدة، ودعوته لاستيلاء البعث على السلطة حيثما يستطيع، ولبناء كتلة جديدة من دول بعثية، تتحدى دور ووزن مصر العربي، وتنتزع زعامة العرب من عبد الناصر، وتمارس دوراً قومياً بعيداً عن الأهواء والمصالح القطرية، بعد أن اثبتت تجربة الوحدة عجز أي طرف غير بعثي عن أداء دور وحدوي حقيقي في ساحة النضال القومي.

   ـ هذا الانقلاب على المبادئ المؤسسة للبعث، استند على ركيزتين:

  ١ ـ طي صفحة محور سوري/ مصري قديم، وبناء محور “قومي” جديد يحل عربيا ودوليا محله، أو إقامة وحدة سورية/عراقية بموافقة اميركية وقبول بريطاني. بعد الانفصال، ستنتهي المراهنة على التوجه الأول، وستحل محلها سياسات أملاها الانحسار القومي العام، وتصميم “اللجنة العسكرية” على تحويل سورية إلى مركز عربي يعمل لنيل قبول أميركي، وينفذ مهامه بعيداً عن مصر وضدها، ويفصل سورية وبيئتها المشرقية عنها، ليجعل منها نواة محور قومي بعثي التوجهات والمقاصد محوره دمشق، من أولوياته إخراج الناصرية من المشرق ثم الخليج، والإفادة من المظلة التي تنشرها واشنطن على الشرق الأوسط، إلى جانب بناء علاقات قوية مع السوفييت وبلدان عدم الانحياز، تقنع موسكو بالتعاون مع “البعث” كطرف منظم واكثر ثورية من القاهرة، تستطيع الافادة منه إذا ما قررت تقليص اعتمادها على عبد الناصر، بينما يفيد هو من موقف الخليج المعادي للدخول المصري إلى اليمن، ورد الفعل الدولي العام، الاميركي/ الروسي، على محاولات زعيم مصر لقلب المعادلات العربية والاقليمية والدولية، التي قام بها بعد الوحدة المصرية/ السورية، وما مثلته من تحدٍ لإسرائيل وخطوط واشنطن الحمراء، المفروضة على العلاقات العربية/ العربية، واختراق عسكري لشبه الجزيرة العربية، بذريعة حماية ثورة اليمن من أسرة حميد الدين، والتدخل السعودي.

   ـ ليس في أدبيات عفلق و”البعث” خطة مسبقة تؤكد هذه المفردات والمقاصد، غير أن سياسات الحزب، التي اعتمدتها كتله وتياراته المختلفة، ذهبت جميعها في هذا الاتجاه، ونالت قبول واشنطن للبعثين السوري والعراقي ضد عبد الناصر، وشجعت تحولهما إلى قوة عربية ثالثة منافسة أساسا لمصر في الساحة القومية حصرا، بدّل قيامها الصراع في بعديه القطري والقومي، وعلاقات المعسكرين العربيين: “التقدمي/ القومي والتقليدي/ المحافظ”. هذه الكتلة، التي قررت مناوئة مصر كقوة رئيسة وقائدة للمعسكر القومي، ضمنت حياد أو بالأحرى دعم الخليج .

   ـ بهذا التوجه، فتح الباب أمام واقع جيوسياسي صراعي لا يستند على التناقض بين من كانوا يسمون “التقدميين والرجعيين”، بل على قطبين قوميين لن يلبث أن يفصلهما العراك والتآمر على زعامة العالم العربي، لذلك راهن الخليج عليه لإضعاف الصف القومي وتشتيته، وإرغام عبد الناصر على اتخاذ مواقف انكفائية، تكشف ظهره وتقوض نفوذه في المشرق العربي، حيث بؤرة الحراك الشعبي الناصري الرئيسة، وتبني بديلا له يستقطب لبنان والاردن وفلسطين، فإن تحقق هذا، وأمكن استخدامه ضد مصر، أعيد النظر في توزع قوى المنطقة العربية الرئيسة، وربما نجحت محاولة اختراق الناصرية، وتمتع “البعث” بتعاطف ودعم من يتعرضون لضغوط مصر من جهة، وسيفاقمون تناقضات المعسكر القومي، المنقسم من الآن فصاعدا انقساما متزايدا على ذاته، والمنخرط طرفاه في صراع يقيد قدرتهما على مواجهة التقليدية العربية ومعسكرها، من جهة أخرى.

  ٢ ـ تقويض ما سمي الثورة القومية الوحدوية العربية عامة، وعلاقتها بمصر خاصة، وابتداع “عمل قومي” لا يرتكز على المحور السوري/ المصري. هذا الخيار، الذي غدا الثابت الأول في سياسات “البعث”، لعب دورا حاسما في إفشال مفاوضات عام ١٩٦٣ حول إعادة الوحدة، التي شارك فيها البعثان العراقي والسوري، وأجريا محادثات ماراتونية مع القاهرة وقال عبد الناصر بعد فشلها إنها كانت “مجرد غطاء لتطهير الجيش السوري من الضباط الناصريين، ودليلا يؤكد تصميم البعث على الانفراد بالسلطة وشق السوريين إلى بعثي له كل الامتيازات، وسوري يحرم من كل شيء”، كما قال في خطبة القاها بمناسبة العيد الحادي عشر للثورة المصرية(94). أما الثابت الثاني، فكان رفض التعامل مع شخص جمال عبد الناصر بتهمة إفشال الوحدة المصرية/ السورية باستبداده، وإشهار سيف الحرية والديمقراطية في وجهه، ووضعه على رأس قائمة من يجب التخلص منهم في المشروع البعثي، الذي سيعتمد من الآن فصاعدا شعارات اشتراكية وديمقراطية، كبديل للمشروع القومي/ الوحدوي، أو لتحقيقه بمفردات ووسائل أخرى، ما أن تمتلك الجماهير الشعبية العربية الوعي الضروري لإنجازه، الغائب عن جماهير مصر، والمسؤولية لهذا السبب عن فشل الوحدة .

   ـ بسياسته الجديدة، قرر عفلق استبدال الوحدة بالاستيلاء على السلطة في قطر واحد، هو سورية، فإن لم تخرج سيطرته عليه عن نطاقه القطري الضيق، اعتبر نظامه تعاقداً وحدوياً مؤجل التنفيذ طرفه الأول الحزب والثاني الأمة المتخيلة، وإن لم يتحول بالضرورة إلى تعاقد مع طرف آخر في الحقل القومي، وخاصة منه مصر الناصرية. بذلك، حصر عفلق الحق في اتخاذ قرار الوحدة المصيري بالطرف الوحدوي الجديد، كما يتمثل في حزبه، وبسلطته بعد استيلائه عليها.

   ـ ربط عفلق، في تنظيره الجديد، الوحدة بالبعث وسيطرة خطه على الجماهير الشعبية بما هو الوعي الثوري الذي يحركها، وقطع صلته بما كان يقوله عن الفطرة العربية وبعدها الاسلامي، ورهن جميع المسائل بما ينجزه “البعث” في المجال القطري للدولة التي يسيطر عليها، والدول الأخرى التي سيقرر أهليتها للوحدة، ويحدد شروطها، ومنها الاعتراف به كممثل للشعب في سلطتها، تكريساً لقيادته للنضال القومي والوحدوي .

   ـ بما أنه تمسك بموقفه من الاحزاب السورية، رغم تقاربه مع موقف الحزب الشيوعي في نقاط جعلته يتحفظ على الوحدة ويعارضها، لم يوافق عفلق على ما قول الحزب الشيوعي السوري عن وحدة عام ١٩٥٨ بأنها “محاولة استعمارية أرادت مصر بها ابتلاع سورية، ووضع يدها على ثرواتها، وأن الظروف لم تكن ناضجة لوحدة اندماجية تجاهلت التباين والاختلاف بين دولتيها، وطبقت معايير مصرية على الوضع السوري، المختلف جذرياً عن وضع مصر، وأطاحت، لذلك، بمنجزات تقدمية ميزت حياة سورية السياسية، أهمها وجود حزب شيوعي رفض حل نفسه(95). بربطه العمل الوحدوي بالحركات الشعبية الثورية، التي يجسدها “البعث”، أسقط عفلق دور الاحزاب السورية الأخرى فيهما، وأكد أن وحدة عام ١٩٥٨، التي قال في بيان أصدره عام ١٩٦٢ إن الحزب صنعها وعبد الناصر أفشلها، لم تكن قابلة للحياة، لأنها خالفت رؤية “البعث” حولها “كدولة اتحادية، تتفاعل الحركة الشعبية والثورية العربية معها بإيجابية، وتشارك في تحديد وتصويب خياراتها ومساراتها، وتحميها من مخاطر الطغيان الاقليمي ومزالق النزعات المحلية الضيقة، وتوحد نضالها في الوطن العربي توحيدا جديا يرفع مستوى الوعي العربي والتنظيم الشعبي ويكتل الحركات الثورية ضد الرجعية والاوضاع التي تعمل على ابقاء التجزئة وتذكي الفروق الاقليمية والمصالح المحلية”(96).

   ـ بنقل رافعة العمل الوحدوي من العلاقة بين “البعث” والدولة المصرية، إلى “البعث” كقائد للحركات الشعبية والثورية، التي وضع نفسه على رأسها كجهة تمتلك كل ما كان ضروريا لإنجاح العمل الوحدوي والقومي، وفشلت الوحدة لأن عبد الناصر أبعدها عن قيادة الدولة، وأخضعها لحكمه الفردي، وتجاهل دور الحركات الشعبية في وحدة مصر وسوريا. لذلك، لن يوافق “البعث” على وحدة لا يكون هو قائدها، ليضمن لنجاحها. أين من هذا ما كان عفلق قد كتبه في أحد بياناته، ليؤكد “أن هدفه تحقق بقيام الوحدة مع مصر: نواة وحدة الأمة، التي تطابق قيامها مع تقديرات الحزب وبرنامجه، وانفتحت بقيامها الطريق التي أكدت صوابية ما قاله حول حتميتها كمآل لا خيار للتطور العربي سواه”(97).

   ـ هذه التحولات اقتضت اعتذار عفلق عن حل الحزب واعترافه بخطئه، وتفرغ “البعث” للشأن السوري، وللانقلاب الذي كان ضباط “اللجنة” يعدونه. وكان الحزب “قد حافظ على تنظيمه خارج الجمهورية العربية المتحدة، وعقد مؤتمراً قومياً في آب من عام ١٩٥٩، أخرج ناصريي الهوى من تنظيماته القومية، بعد فشله في انتخابات الاتحاد القومي في حزيران من العام ذاته”(98). بذلك دبت الحياة في “البعث” الذي كان يبلور خطاً ” قومياً” غير وحدوي، يخرجه من عباءة الناصرية، ويخصه بحاضنة قومية يتوجه إليها نضاله، تكون بعيدة عن مصر، وتفاعل بإيجابية مع خطه الجديد، ضيق مفهوم الثورة العربية والفكر القومي والعمل الوحدوي، وقصر هذه المفردات عليه وحده، وفصل تحقيق الحرية والاشتراكية كمهمتين تتحققان بمجرد قيام الوحدة، كما كان عفلق قد قال في بيان “نكسة الانفصال”(99).، الذي أصدره في شهر شباط من عام ١٩٦٢. الآن، رد عفلق ما بعد الوحدة على عفلق ما قبلها، بالتخلي عن خطه السابق، الذي اعتبره تعميميا ومشبعا ب”ايمان سطحي” بالعلاقة السببية بين الوحدة والحرية والاشتراكية. كما تخلى عن الوحدة، بما أخذ يطرحه عليه وضع الحزب من أولويات، وبالظروف العربية التي أدت إلى انهيار الجمهورية العربية المتحدة ونجمت عنه، ونقل استراتيجيته من انضاج شروطها بين الاقطار العربية إلى تهيئة الظروف الملائمة لاستيلاء حزبه على السلطة في اي قطر يستطيع الاطاحة بحكومته، في توجه لم يعد يرى كل امر بدلالة الوحدة، وإنما ألحقها منذ الانفصال بالحرية والاشتراكية، أي بما كان يلحقه بها قبل أمد قريب، انسجاما مع رغبته في وضعها تحت سلطة “البعث”، وقراره حول رفض عودتها، لأن عودتها ستتناقض مع ما أجمعت فصائله العسكرية والمدنية عليه من استعادة هويته السياسية الخاصة، المناقضة لهوية مصر الناصرية: البعيدة عن الحرية والاشتراكية، وغير المؤهلة بعد للوحدة بشروط البعث! .

   ـ لم تعد الوحدة هدفا لا يعلو عليه أي هدف آخر، بل صار ارتباطها بالبعث معيار جديتها وشرط نجاحها. الآن، سيتوطد إيمان عفلق بأن حزبه هو الأمة العربية، التي تتجسد فيه، طبقاً لنظريته القديمة، ولم تعد بالتالي بحاجة إلى الوحدة مع سواه، بعد أن اكتسب صفات جديدة دون أن يفقد القديمة، من كونه حزب الرسالة التي لا يأتيها الباطل، إلى كونه النقيض الوحيد للأمر العربي القائم، الذي سيستولي على الدولة ليستخدمها ضده، لذلك، لا يحق له قبوله أو الانخراط في مساومات معه، أو تقديم تنازلات له، وعليه أن يسقطه لترتفع الأمة معه إلى السلطة، وتتولى عبره إدارة شؤونها الوحدوية والاشتراكية، بعد أن تبينت له استحالة الوحدة مع شريك غير بعثي .

   ـ آمن عفلق أنه أوقف، أخيراً، “البعث” أمام بداية نوعية ستضفي عليه أبعاداً لم يسبق لأي حزب عربي أن بلغها، ولأي دولة أن امتلكتها، سيقلب بواسطتها المجال القومي إلى مجال بعثي، أو يحمل بصمات بعثية سيتعين بها زمن عربي جديد، يختلف جذريا عن كل ما سبقه.

   ـ تلك كانت الرؤية التي سوغت العمل لإفقاد مصر دورها في رهانات عفلق، الذي كان قد رأى في وحدة عام ١٩٥٨ سانحة ستتيح “للبعث” الافادة من مكانة مصر الناصرية لدى الشعوب العربية، ومن موقعها المطل على السودان والخليج والمغرب العربي، ونفوذ دولة الوحدة وحضورها في العراق والاردن وفلسطين ولبنان، وعلاقاتها الدولية الواسعة لردع الأحزاب الشيوعية والاسلامية، وصولاً إلى المشاركة الندية في قيادة دولة/ الأمة: التي كانت لها خلائط ناصرية في وحدة عام ١٩٥٨، ولا بد أن تغدو بعدها بعثية قلباً وقالباً .

   ـ استند موقف قيادة البعث من الوحدة المصرية/ السورية على الايمان بأنها رأت النور بجهوده، فلا بأس عليه إن انتفض عليها، بعد أن تنكر عبد الناصر لـ”عقد” كان شرط إقامتها، توافق عفلق عليه معه حول قيام “البعث” بإدارة سورية، مقابل إدارة عبد الناصر لمصر، فلا غفران لمن قوض مشروع “الحزب” الاستراتيجي، ولا صلح مع عبد الناصر والقاهرة، التي تتعارض وحدة الأمة مع مصالح بيروقراطيتها العسكرية والمدنية، ولا عودة عن إعفاء البعث من التزامه السابق بعبد الناصر.

   ـ أكد قادة البعث، كلٌ بطريقته، شرعية وثورية رفضهم للوحدة المصرية/ السورية: وليدهم العاق، الذي دان بولادته لهم، ومن غير المقبول اعتبار مناهضتهم لعبد الناصر انفكاكاً عنه، أو رفضاً له. إنه، بالأحرى، رفض لترجيح رؤيته وخياراته المصرية على رؤية وخيارات أمة نقلت بعد الانفصال تمثيلها منه إلى الحزب، الذي: “خلقته، ويستمد قوته منها، ويترجم فقط حاجاتها وامانيها ويعلن إرادتها، فلو كانت الأمة غير مؤهلة للبعث وللرسالة العظيمة التي تنتظرها، لما ظهرت حركته في أكثر من مكان عربي”(100) . بهذا التسويغ، يكون استبداد عبد الناصر هو الذي حال بينه وبين إدراك أن “ظهور حركة البعث هو ثورة في تاريخ أمتنا العربية، بمعنى أن حركته لم تكن استمراراً لما قبلها، بل كانت عبارة عن انقطاع أو بتر إرادي واعٍ له، وارتفاعاً إلى مستوى جديد من التفكير والاخلاق والجو الروحي”(101). أيمكن بعد هذا ان يكون تخلي عبد الناصر عن البعث غير تخلٍ عن ما هو أكثر من الفكرة الوحدوية: عن الأمة نفسها؟. وهل يصح اعتبار إدانة نهج عبد الناصر الوحدوي شكلاً، الانفصالي والرجعي مضموناً، تأييداً للانفصال، أو تخلٍ عن الوحدة وفكرتها، التي أراد الحزب انقاذها من “سياسة اتبعتها البيروقراطية الاقليمية العقائدية التي تحكم القاهرة، وكانت نسخة من سياستها قبل عام ١٩٥٢، الاقليمية التوسعية، قصيرة النظر، التي تعمل لإضعاف الأقطار العربية لتبقى هي المتفوقة والمسيطرة، فلا تقوم ثورة إلا إذا عملت لها الأجهزة”(102) .

   ـ بمقارنة موقف ميشيل عفلق الجديد من مصر ورئيسها، مع نص البرقية، التي أرسلها البعث يوم ٢٩/٦/١٩٥٦ إلى عبد الناصر بمناسبة انتخابه رئيساً لمصر، وقال فيها: “سيادة الرئيس عبد الناصر ـ مصر، لم يقتصر انتخابكم على أصوات الشعب العربي في مصر، بل شارك فيه كل الشعب العربي المتحفز للحياة والحرية والوحدة . حررتم مصر من الطغيان والفساد والاستعمار، واستجبتم للاتحاد العربي الثوري وجسدتموه، فحققتم تحولاً تاريخياً في حياة مصر والوطن العربي كله. الشعب العربي يترقب متابعتكم للخطوات التي بدأتموها، وهي السير بمصر نحو تحقيق العدالة الاجتماعية والديمقراطية السليمة، والتأييد الفعال للنضال العربي في كل مكان، والبدء بتحقيق الوحدة بين مصر وسوريا كنواة للوحدة العربية التحررية الشاملة”(103)، يبدو جلياً عمق الانقلاب في موقفه، ونمط التحولات التي شهدتها ساحة عربية كبح إسقاط الوحدة تطورها السياسي، وأعاد فرز ما فيها من قوي وقدرات، في ضود معايير جديدة، معاكسة لما اعتمد فيها منها إلى وقوع التحول الذي قصم ظهر المشروع العربي، وقلب اتجاه السياسات والخيارات رأسا على عقب، خاصة بعد انقلاب عام ١٩٦٣، وسيطرة ضباطه على السلطة، وتنفيذ سياسات عفلق تجاه الناصرية ومصر، ورؤيته حول مركزية دور “البعث” في كل كبيرة وصغيرة على المستويين المحلي والعربي، وتعطيل أو رفض كل ما لا يخدمها.

   ـ بهذا الانقلاب، فقدت المسألة القومية هويتها الجامعة، ومرجعيتها، وانقلبت إلى ساحة لإنتاج صراعات من نمط جديد، يتم بأساليب تمزيقية وعنيفة، لا تعرف الحلول الوسط والتنازلات المتبادلة والمصالحات، لذلك استهدفت الوعي الأموي ونسيج العرب القومي، وأواصرهم الموروثة، وتلك التي راكموها بعد استقلالهم، فكان من المحتم أن يتراجعوا حتى عن ما كان بينهم من وحدة موقف حيال بعض القضايا، ومن تنسيق وتعاون … الخ، وسادت لغة التخوين والاتهامات، وصارت المؤامرات ضرورة قومية، لم توفر أحداً، وخاصة ما تبناه بعث سورية منها ضد بعث العراق، وبعث العراق ضد بعث سورية .

   ـ لم تحظ مواقف عفلق من الوحدة والانفصال بموافقة أغلبية البعث، الذي لم يكن بعد “قوة واحدة تفعل فعلها في اتجاه واحد أو تحت تأثيرات متماثلة، بل كان غطاء لتشكيلة من العناصر التي ينبغي التمييز بينها أولا وقبل كل شيء. وفي الحقيقة، لم يكن هناك حزب بعث واحد، بل ثلاثة أحزاب مختلفة في ما يتعلق بقاعدتها الاجتماعية، وإطارها الذهبي، واستجاباتها الطبيعية وخصال أعضائها وقيادتها، والمصالح التي خدموها”(104).

   ـ وكانت انتقادات عفلق لدكتاتورية عبد الناصر قد واجهت تحفظات ساخرة غالباً، منها: أولاً: أنه سبق له أن حل البعث وتعهد باعتزال العمل السياسي انصياعاً لرغبة حسني الزعيم (١٨٩٧ـ ١٩٤٩)، أول ديكتاتور سوري استولى على السلطة بانقلاب عسكري عام ١٩٤٩، في أعقاب كارثة فلسطين، وقال في رسالة وجهها إليه من السجن: “إنني قانع كل القناعة أن هذا العهد، الذي ترعونه وتنشؤونه يمثل أعظم الآمال وإمكانيات التقدم والمجد لبلادنا، فإذا شئتم فسنكون في عداد الجنود البنائين، وإذا رغبتم في أن نلزم الحياد والصمت فنحن مستعدون لذلك … أما أنا، يا سيدي الزعيم، فقد اخترت أن أنسحب نهائياً من كل عمل سياسي … وأعتقد أن مهمتي قد انتهت وأسلوبي لم يعد يصلح لعهد جديد، وأن بلادي لن تجن من عملي أي نفع بعد اليوم . سيدي دولة الزعيم: أنتم اليوم بمكان الأب لأبناء البلاد، ولا يمكن ان تحملوا حقداً لأحد من أبنائكم، ولقد كان لنا في التجربة تنبيه كافٍ . اتركوا لنا المجال لكي نصحح خطأنا، ونقدم لكم البراهين على وفائنا وولاءنا”(105) .

وثانياً: قبوله تولي حقيبة المعارف في حكومة ألفها دكتاتور آخر هو الجنرال سامي الحناوي (١٨٩٨ـ ١٩٥٠)، الذي قام  بانقلاب ضد حسني الزعيم، يقول حازم صاغية إنه اعتُبِر “انقلاباً عراقي الهوى على النفوذ المصري وأتباعه”(106) .

وثالثاً: إعلانه في فترة لاحقه أن اخطاء الوحدة لم تكن تبرر ما أسماه “جريمة الانفصال”(107)، ومبادرته رغم ذلك إلى تأسيس “وحدوية” حزبه في إطار قطري لطالما اعتبره انفصالياً ورجعياً، وتحويله عبد الناصر من “زعيم البعث القومي الحقيقي إلى ممثل العقائدية البيروقراطية الإقليمية التي أعادت مصر إلى ما قبل عام ١٩٥٢”(108)، مسّقطاً بهذا حق ليس عبد الناصر، وإنما مصر أيضاً، في أن يكون لهما دورٌ وحدوي أو قومي!.

   ـ بعد فصل الوحدة، واجه عفلق نقداً حزبياً وعسكرياً طال شخصه ودوره، لاعتقاد من مارسوه أن مواقفه، بما في ذلك الجديدة منها، ترجع إلى خلافات شخصية، وأنه مسؤول عن ما واجهه “البعث” من مصاعب قبل الوحدة ويواجهه بعدها، لأنه هو الذي قرر شكلها الذي أسهم في فشلها، ويُكفر عن ذنبه بإعادة نظر انتهازية في أولوياته، التي كانت الوحدة، وصارت الاشتراكية، لاعتقاده أنها خيار جيل البعثيين الجديد، الذي يتهمه بالمبالغة في دوره الوحدوي، ويدعي أنه أقنع شعب سورية بالوحدة، مع أن معظم الحركات والتنظيمات والمنتديات السياسية العربية، التي ظهرت قبل انهيار الامبراطورية العثمانية، كانت تؤمن أن ذهاب العرب إلى دولة موحدة هو تحصيل الحاصل، وأن الثورة العربية الكبرى بقيادة “ملك العرب” الشريف حسين جعلتها هدفاً لها، لا سيما وأن ضباطاً عراقيين ومصريين وسوريين وحجازيين انضموا إليها، يراودهم حلم توحيد عرب المشرق والجزيرة العربية… بدورها، اعتبرت الطبقة السياسية السورية دولة سايكس بيكو كياناً انتقالياً مرفوضاً … وتعهدت أن تقيم دولة عربية موحدة بمجرد أن تستقل سوريا(109)، ورفض ممثلوها تقسيم سورية بعد الانتداب، وفككوا نظام الملل العثماني، وبنوا ديمقراطية برلمانية السيادة فيها للشعب، وانتموا كآباء للاستقلال السوري إلى تيار قومي آمن بالوحدة ودعا لها: من شكري القوتلي (١٨٩١ـ ١٩٦٧) إلى فارس الخوري (١٨٧٧ـ ١٩٦٢) وصبري العسلي (١٩٠٣ـ ١٩٧٦)، إلى عديدين من قادة النضال الوطني، الذين أيقنوا بعد كارثة فلسطين، والتآمر الأميركي على سورية عامي ١٩٥٦/١٩٥٧، أنه لا عاصم لوطنهم غير الوحدة مع مصر، بشهادة سلوك القوتلي والعسلي وليس فقط برقية عفلق إلى عبد الناصر، السابق ذكرها.

   ـ وكانت ملامح الوحدة الأولى تتكامل رسمياً وشعبياً في سياسات وعلاقات البلدين المحيطين بإسرائيل، اللذان لعبا دوراً كبيراً في التمهيد لقيامها منذ عام ١٩٥٥، الذي وقعت خلاله حكومة صبري العسلي غير البعثية اتفاقية دفاع مشترك مع مصر، أعلن عبد الناصر بعد تبادل وثائقها الرسمية في ٨ تشرين الثاني من العام ذاته، أنها “فاتحة مستقبل جديد، فالتاريخ يرينا أنه إذا ما اتحدت سورية ومصر فانهما تحميان العالم العربي من جميع الأخطار التي يمكن أن تهدده”(110). بدورها، عبرت مقالة نشرتها قيادة الجيش السوري عن دوره في الوحدة، رداً على قول خالد العظم (١٩٠٣ـ ١٩٦٥) في مذكراته أنه لولا خمسة ضباط هم “أمين النفوري (١٩٢١ـ ١٩٨٨) وعبد الحميد السراج (١٩٢٥ـ ٢٠١٣) وأحمد عبد الكريم ( ١٩٢٧ـ  … ) ومصطفى حمدون (١٩٢٥ ـ ٢٠١٧) وعفيف البزرة (١٩١٤ ـ ١٩٩٤) لما تحققت الوحدة. قالت القيادة: “ان تعلق الشعب السوري بالوحدة هو الذي فرض على جميع مؤسسات الحكم في سورية، بما في ذلك الجيش، ضرورة التحرك لتحقيقها بالسرعة الممكنة”(111)، فاذا أضفنا إلى ذلك ضغوط الحركة الشعبية على الساسة والأحزاب، ونضجها القومي، الذي ترجم وعيها السياسي إلى مواقف جعلت المجال القومي جزءاً تكوينياً من المجال الوطني في سورية ومصر، الذي تفاعل بحماسة مع ما انتهجته قيادة مصر من سياسات تخطت بلادها إلى الوطن العربي، ووحدت شعوبه بتصديها للأحلاف العسكرية الغربية، وإيمان جماهير سورية واسعة بأهليتها لأن تغدو مرجعيتها القيادية أيضاً، وبضرورة منحها تأييدها الطوعي، بعد أن تجاوز دورها القومي ما كان يعجز أي حزب سوري عن القيام بجزء يسير منه بالنسبة لقضايا الأمة عامة وسوريا خاصة، في حين دان السوريون بالولاء لمشروع عبد الناصر النهضوي، الذي افتقر البعث والاحزاب السورية الأخرى إلى ما يجاريه في الشمول والقبول.

   ـ لو كان البعث هو الذي أسس الوحدة، لما كانت اندماجية، ولما تدخل الجيش وفرض على الأحزاب حل نفسها تلبية لطلب عبد الناصر، ولما قبل التحول إلى جيش محترف ومهني تقتصر مهمته على حفظ استقلال وسلامة وطن أرهقته خلافات أحزابه وانقلاباته، بما أفضت إليه من احتمالات يمكن أن تأخذ سورية بعيداً عن الرهان القومي، سواء بمبادرة شيوعية/ سوفييتية لطالما أثارت مخاوف البعث، ولعبت دوراً في حماسته للوحدة، أم بتحول اسلامي ما.

   في هذا الجو الذي أعقب الانفصال، صب عفلق اهتمامه على محاور ثلاثة هي:

  ١ـ إعادة تنظيم الحزب، وتجميع ما بقي له من أعضاء، في ظل ابتعاد “اللجنة العسكرية” عنه، واتهامه بانعدام الكفاءة السياسية والشخصية، وعدم الولاء لحزبه. وكانت “اللجنة” قد جاهرت بحجب تأييدها عن عفلق، ورفضت الاعتراف بقيادته، وإقامة علاقات تنظيمية معه، تعبر عن قبولها الانضواء في “بعثـه”.

٢ـ إعداد الحزب لمرحلة انتقالية يستعيد خلالها قواعده ويعاد بناؤه انطلاقاً من قياداته، على أن تأخذه إلى وضع يحقق بمعونته هدفا قديماً/ جديداً يجب اعتماده كاستراتيجية لنضاله المقبل، هو بناؤه كحزب يساوي الثورة بالانقلاب، ويجعل الاستيلاء على السلطة نقطة بدايتها، تطبيقاً للمادة السادسة من دستوره التأسيسي، التي تقول: “حزب (البعث العربي الاشتراكي) انقلابي، يؤمن بأن أهدافه الرئيسية في بعث القومية العربية وبناء الاشتراكية لا يمكن أن تتم إلا عن طريق الانقلاب والنضال، وأن الاعتماد على التطور البطيء والاكتفاء بالإصلاح الجزئي السطحي يهدد هذه الاهداف بالفشل والضياع، لذلك يقرر … الانقلاب على الواقع العربي الفاسد “انقلاباً” يشمل جميع مناحي الحياة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية”(112). بعد التخلي عن الوحدة القومية كهدف ورافعة لتقدم العرب وحريتهم، صار الانقلاب أولوية الطرفين المتخاصمين: عفلق و”اللجنة العسكرية”، والصراع على السلطة في الأقطار سبيلهما لانضاج ظروف الانقلاب، وبالتالي استيلاء الحزب على السلطة في البلدان، التي سينجز فيها ثورته الشاملة، وسيحكمها طبقا لقواعد ومعايير يكون توفرها العامل الحاسم في عمل قومي مفعم بمفارقات تسوغ سياساته الصراعية في مجاله، أملتها على عفلق “نظرة تؤمن أن أمتنا أمة واحدة، وأن هذا الايمان نفسه يدعونا إلى إعلان الانقسام فيها، لأنها لن تسترد وحدتها، ولن تبلغ هذه الوحدة المثالية التي هي الآن نظرية مبدئية إلا إذا انقسمت على نفسها، وتوضحت الفوارق بين النوع الجدي من المواطنين، الذي حرر نفسه من المصلحة والشهوات، وبين النوع الذي استعبدته المصالح وضعفت نفسه عن الإيمان بكفاءة أمته وبقدرتها على إنقاذ نفسها بنفسها. إن مجرد هذا الانقسام بين النوعين ينقذ الأمة”(113). كانت الوحدة سبيلاً لدرء الانقسام، فصار الانقسام طريق الأمة إلى الوحدة!. يُضمر هذا الانتقال القول: إن الانقسام سيطال المعسكر القومي، وسيكون إرادياً وقصدياً، فهل كان عفلق من السذاجة بحيث يعتقد أن تهاوي المعسكر القومي وتآكله المتبادل سيكبحه الانقسام المنشود، وأنه سيوحده حقاً، فلا بد من اعتباره هدفاً قائماً بذاته؟. وهل تبني هذا الخيار رداً على هزيمة أحدثت انقسامات هائلة في العالمين العربيين الرسمي والشعبي، كان الانفصال خطوة أولى فيها، أم لاعتقاده أن فصل البعث بأعمق انقسام ممكن عن الناصرية هو شرط الانقلاب، الذي سيخرج البعث كأمة من مسار الانحدار البادي، ومن الضروري أن يشطب الناصرية من المعسكر القومي الانقلابي الجديد، انطلاقاً من اتفاقه مع “اللجنة” على هذا الهدف المشترك؟ .

  ٣ـ القيام بانقلاب عسكري يتخطى النضال من أجل الإطاحة بالسلطة القائمة، ما دام “معنى البعث العربي يتلخص في كلمة الانقلاب … الذي تعبيره العملي هو النضال، ليس كأسلوب وحسب، وإنما كغاية في حد ذاته … نصعد بواسطتها إلى ما في ماضينا من أصالة صعوداً شاقاً ودامياً …”(114).

   ـ بهذه المراجعة، التي طالت كل ما له علاقة بالسياسة والتنظيم والأهداف، تخلى “البعث” تماماً عن رؤية أوضاعه الذاتية بدلالة رسالته القومية، وشرع يرى رسالته وأمته بدلالة انقلابه على السلطة في الأقطار التي يريد السيطرة عليها، وفي المقدمة منها سورية. بذلك، وقع التحول الجذري، الذي جعل قطرية “البعث” حاكمة على قوميته، وغير نظرته إلى المجال العربي ونُظمه، التي لم يعد يُخضع علاقاته بها لأي معيار ينتمي إلى خياراته خلال الفترة السابقة للوحدة مع مصر، أو يتصل بأمن العرب القومي، وبالممهدات الضرورية لوحدتهم، التي كان يعمل لتنميتها في إطار الحاضنة الأمّوية، وبالتعاون مع النظم والأحزاب القائمة في شتى بلدانها، وغدت تابعة الآن لارتداداتها على فرص انقلابه، وصلاتها معه كحزب يمر في طور إعادة بناء، ألزمته خطته الجديدة بمواقف انسحابية تجاه واشنطن دولياً، ومتفهمة حيال نظم الخليج عربياً، التي لم يعد الصراع معها أولويته، وإلا أضعف نهجه “القومي”، وقوض فرص نجاحه في مجابهته مع الناصرية، التي ستعني إضعاف أكثر زعماء حركة عدم الانحياز والحياد الايجابي مناوأة للإمبريالية، وقرباً من السوفييت، ودعماً لثورات الجزائر واليمن وخطراً على اسرائيل، وتصميماً على بناء نظام اجتماعي جديد، بالتعاون مع موسكو.

   ـ هذا الخط الحزبي الانقلابي، بنقله المعركة إلى داخل الصف القومي، فتح الباب على مصراعيه أمام تدخل واشنطن وتل أبيب في المشرق خاصة والساحة العربية عامة، التي تفرقت أيدي سبأ، وانقلبت خلافاتها إلى تناقضات عدائية الحمولات، أنهكت كافة اطراف المعسكر القومي، وأمدت أعداءه بالفرص الضرورية لاختراقه، ويقوض ما فيه من سياسات ومصالح جامعة، وصولاً إلى استهدافه انطلاقاً من حسابات ينطوي “البعث” وغيره فيها، مثلما حدث قبل وخلال عدوان حزيران، الذي أقام خططه على ما في علاقات الدول المجاورة لفلسطين من عداء سهّل توجيه ضربة قاصمة إلى جهتين: قيادة مصر، التي شارفت على السقوط بعد الضربة، ومجتمع سورية، الذي أداره نظام ما بعد الهزيمة كمجتمع محتل، قبل أن يحكمه حافظ الاسد كمجتمع مُسّتعمَر .

   ـ نقل البعث المعركة إلى داخل الصف القومي، بعد عام واحد من قيام وحدة مصرية/ سورية استمرت نيفاً وثلاثة أعوام، ونشرت أدلة كثيرة تؤكد عداء واشنطن لها، منها رسالة بعث بها وزير الخارجية الاميركي يومذاك جون فوستر دالاس (١٨٨٨ـ ١٩٥٩) إلى الرئيس الأميركي أيزنهاور (١٨٩٠ـ ١٩٦٩)، قال فيها: “هذه الخطوة خطرة… وهناك تصور كبير أنها مدعومة من الروس … فإذا تحقق هذا فإن الأردن ولبنان سيُبتلعان، وستضع الوحدة السعودية والعراق في خطر”(115)، بينما قال يفجيني بريماكوف، خبير المنطقة الأمني لدى القيادة السوفييتية: “إن فشل سياسة أميركا تجاه سوريا عام ١٩٥٧، أدى إلى تعديل بعض نقاط الارتكاز عند تنفيذ مبدأ أيزنهاور حيال الشرق الاوسط، وقد اتضح هذا من رد فعلها على قيام الجمهورية العربية المتحدة في شباط من عام ١٩٥٨، حيث وضعت واشنطن أمامها هدف تطويق الدولة الجديدة، التي عززت بشدة الميول نحو المركزية في العالم العربي، بشريط وقائي فريد من نوعه، وعملت لتغيير طابع الحكم في إقليمي الدولة الجديدة، ولتصفية الاتجاه المعادي للإمبريالية في سياستها الخارجية، وعززت تلك الانظمة، التي كانت، أو كان يمكن ان تصبح، حليفة للغرب”(116). هل يُعقل أن قيادة “البعث” لم تعرف موقف أميركا المُعلن من الوحدة، ولم تسمع أو تقرأ خطابات كبار مسؤوليها ضد عبد الناصر، أو تصدق النبأ الذي شاع في المنطقة طولاً وعرضاً، حول اجتماع كرسه مجلس وزراء اسرائيل برئاسة بن غوريون لدراسة ارتدادات الثورة المصرية المحتملة على العالم العربي وفلسطين، وأبلغ بن غوريون (١٨٨٦ـ ١٩٧٣) وزراءه خلاله أن تركيز جهود “الدولة” يجب أن ينصب على البكباشي جمال عبد الناصر والقضاء عليه؟. لأنه قائد ثورة الضباط الأحرار، الذي صار البطل الطبيعي للعالم العربي، وعرف كيف يزعزع الغرب ويستقطب العرب كونهم عانوا من الاستعمار الاوروبي”(117). ألم تسمع قيادة البعث أيضاً بالعدوان الثلاثي على مصر عام ١٩٥٦، الذي استهدف نظامها ومنعها من الاندماج في المجال القومي أو توليها قيادته؟. وهل غاب عنها موقف اسرائيل من قيام الجمهورية العربية المتحدة، الذي بدل وضعها الاستراتيجي، ووضعها أمام مواجهة حرب على جبهتين يخوضها جيش موحد، ويخضع لقيادة سياسية وعسكرية واحدة؟، أخيراً، هل فات عفلق، الذي أنجز المراجعة الشاملة لسياسات “البعث”، ونقل معركته ضد مصر إلى المجال القومي، أن حزبه ليس ولا يمكن أن يكون بديلاً للدولة المصرية، أو يمكنه القيام بمهامها في حال تم إسقاط نظامها، وأن نجاحه في إضعافها أو إخراجها من المجال القومي سيحدث تحولاً جذرياً في موازين القوى بين اسرائيل والعرب، ستكون سوريا من ضحاياه؟.

   ـ من غير المعقول أن لا يكون قائد “البعث” قد عرف هذه الوقائع، فلماذا صمم على خوض صراع يرجح أن تكون هذه انعكاساته على العرب، وليس على مصر وحدها، أقل ما يقال فيه أنه لا يعني فقط تخلي حزبه عن الوحدة كفكرة وهدف، وإنما الانتقال من توحيد العرب إلى تدميرهم، بعد أن أحدث فصل الوحدة زلزالاً هز أركان العالم العربي، وأعاده إلى أوضاع حملت مخاطر أكبر من تلك التي سبقت الوحدة، ضمنت تفوقها على جوار لم تعد تربط دوله أية أواصر طبيعية، وأية أهداف مشتركة حيالها، بينما انهارت تماماً موازين القوى المحلية والمناطقية لصالح تل ابيب وبلدان الخليج، ورجحت كفة واشنطن رجحاناً جلياً على كفة موسكو، وتخلق تطور أفاد الطرفان الاسرائيلي والأميركي من الفرص التي اتاحها لهما، لتسوية حساباتهما مع مصر، التي انتقلت من وضع هجومي حظي بمساندة شعبية عربية واسعة، إلى وضع دفاعي تراجعي، انكفأت بسببه داخل حدودها، حيث شرعت قيادتها تداوي جراح هزيمتها القومية بتدابير اقتصادية واجتماعية، أملت أن تمكنها من احتواء ما أصابها من ضعف في الخارج عبر تعزيز مواقعها الداخلية.

   ـ تلك كانت السياسات، التي أرادت قيادة عفلق إلزام “البعث” بأولوياتها، في إطار نقلة قالت بأولوية الاستيلاء على السلطة بانقلاب يتم في قطر واحد، ستكون أداته عسكرية بالضرورة، وسيعيد بناء الحزب بأدوات السلطة، وما لها من قدرة عسكرية، وسيطرة سياسية على مجال تنفرد انفراداً مطلقاً بالسيطرة عليه، يُجسد “البعث” فيه الحقيقة القومية والشأن العام، بما هو، لأول مرة، شأن بعثي صرف .

___________

هوامش:

(74). د. عبد الله عبد الدايم:  تجربة الوحدة العربية المصرية السورية . مجلة شؤون عربية، اصدار جامعة الدول العربية، القاهرة ١٩٨٥، العدد ٤٣.

(75). جورج صدقني: حزب البعث العربي الاشتراكي، الموسوعة العربية، المجلد الثامن، الصفحة ٢٤٨.

(76). وثائق سورية : بيان حل حزب البعث في عهد الوحدة السورية المصرية ، صحيفة الايام ، ٢٤/٢/١٩٥٨.

(77). جورج صدقني، مرجع سابق .

(78). د. عبد العال الباقوري: عبد الناصر والبعث.. الوحدة والانفصال، الفكر القومي العربي، نقلا عن سامي الجندي، كتاب البعث.

(79). المرجع السابق .

(80). د. الباقوري  : المرجع السابق ، ومصطفي حمدون في مقابلة مع تلفاز الجزيرة يوم ٢٩/٨/٢٠٠٣.

(81). رياض بدر : ماذا قال ميشيل عفلق عن عبد الناصر بعد فشل الوحدة العربية ، موقع الكاتب ، نشر يوم ١٣/٢/٢٠١٨.

(82). نقلا عن محمد علي الاتاسي: دموع المدينة ، موقع معابر ، بلا تاريخ .

(83). يوسف محمد ، فهد عباس : العلاقات السورية ـ المصرية بين عامي ١٩٦١و١٩٦٧، مجلة الدراسات التاريخية والحضارية، جامعة تكريت ٢٠١٣، العدد الخامس،  الصفحة ٣٢٠.

(84). حنا بطاطو: فلاحو سورية، ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت ٢٠١٤، الصفحة ٢٧٩.

(85). المرجع السابق، الصفحة ٢٧٩.

(86). اكرم الحوراني: مذكرات اكرم الحوراني، الجزء الثاني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ٢٠٠٠،  الصفحة ١٤٩٦.

(87). المرجع ذاته ، الجزء الثاني، الصفحة ١٥٥٨.

(88). مروان حبش: دمج حزب البعث مع العربي الاشتراكي … زواج لم يعمر. موقع الجولان الإلكتروني، قضايا فكرية، ٥/٧/٢٠٠٩.

(89). مروان حبش، المرجع السابق .

(90). المرجع السابق .

(91). حنا بطاطو: فلاحو سورية، ترجمة عبد الله فاضل ورائد النقشبندي، اصدار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت ٢٠١٤، الصفحة ٢٦٧ .

(92). ميشيل عفلق: نكسة الانفصال. في سبيل البعث، الجزء الثاني، الصفحة ٢٢٦.

(93). المرجع السابق، الصفحة ٢٢٨ .

(94). جريدة الأهرام ، القاهرة، ٢٢/٧/١٩٦٣. وكذلك : سيف الدين الدوري، سيرة على صالح السعدي، الدار العربية للموسوعات، بيروت ٢٠١٠، الصفة ٢٢٣.

(95). الحزب الشيوعي السوري وقضية الوحدة، موقع سيركومبارتي .

(96). ميشيل عفلق، نكسة الانفصال ، في سبيل البعث، الجزء الثاني، الصفحة  ٢٢٣.

(97). اكرم الحوراني: مذكرات اكرم الحوراني، الجزء الثاني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ٢٠٠٠،  الصفحة ١٤٩٦.

(95). الحزب الشيوعي السوري وقضية الوحدة، موقع سيركومبارتي .

(96). ميشيل عفلق، نكسة الانفصال ، في سبيل البعث، الجزء الثاني، الصفحة  ٢٢٣.

(97). ميشيل عفلق : في سبيل البعث ، الآفاق البعيدة للعمل الثوري، الجزء الثاني، الصفحة ٢٧٤.

(98). كمال خلف الطويل: اللجنة العسكرية للبعث السوري، موقع المعرفة، ومقررات المؤتمر لثالث للحزب ام ١٩٥٩ في بيروت، السابق ذكرها.

(99). ميشيل عفلق: في سبيل البعث، الجزء الثاني، الصفحة ٢٢٦.

(100). وحدة مصر وسوريا .  في سبيل البعث، الجزء الأول ، الصفحة ٢٥٩.

(101). ميشيل عفلق: الوحدة ثورة تاريخية، في سبيل البعث، الجزء الاول والصفحة ٢٦٣.

(102). حزب البعث: في سبيل البعث، الجزء الرابع، الصفحة ٤٠٧.

(103). عبد العال الباقوري، عبد الناصر والبعث، الوحدة والانفصال. في: عبد القادر ياسين (محرر) جمال عبد الناصرـ رؤية متعددة الزوايا. دار الكتاب، دمشق/ القاهرة، ٢٠١٣. وكذلك جورج صدقني: مادة: حزب البعث العربي الاشتراكي، في الموسوعة العربية، المجلد الثاني، دمشق، بلا تاريخ.

(104). حنا بطاطو: فلاحو سورية ، مرجع سابق، صفحة ٢٦١.

(105). رسالة ميشيل عفلق إلى حسني الزعيم، قيادة حزب البعث، موقع التاريخ السوري المعاصر،  نسخة محفوظة في مكتبة جامعة القاهرة . وسامي الجندي : البعث ، دار النهار للنشر، بيروت ١٩٦٧ .

(106). حازم صاغية: البعث السوري، تاريخ موجز، دار الساقي ، بيروت ٢٠١٢، نشر قبل طباعته على حلقات في جريدة” الجريدة” اللبنانية، وهذه الحلقة نشرت بتاريخ ١٢/٩/٢٠١١.

(107). معن بشور: في ذكرى رحيل ميشيل عفلق. جريدة رأي اليوم، ٢٤/١٢/٢٠١٧.

 (108). الباقوري: في مرجع سابق.

(109). د. احمد زكريا الشلق: العرب والدولة العثمانية : من الخضوع إلى المواجهة . دار مصر العربية للنشر ، القاهرة . ٢٠٠٢، صفحات متفرقة.

(110). وزارة الدفاع السورية : المسيرة النضالية في فترة الوحدة ١٩٥٨/١٩٦١ودور الجيش العربي السوري فيها، بلا تاريخ.

(111). المرجع السابق .

(112). دستور حزب البعث العربي الاشتراكي . مرجع سابق.

(113). ميشيل عفلق: في سبيل البعث، الجزء الاول ، الصفحة ٧٤.

(114). ميشيل عفلق : المرجع السابق ، الصفحة ٧٢.

(115). وزارة الدفاع في الجمهورية العربية السورية : المسيرة النضالية  … الخ، موقع الحكومة السورية .

(116). يفغيني بريماكوف: المرجع السابق.

(117). د. الياس عفيف سليمان: جمال عبد الناصر والعدوان الثلاثي حسب يوميات بن غوريون وموشي دايان، نقلاً عن مقالة بقلم نبيل عوده، موقع بانيت، ١٤/١/٢٠١٨.

………………..

يتبع.. الحلقة العاشرة: العسكر و”البعث” وهي الأخيرة من الجزء الأول 

«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

التعليقات مغلقة.