الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

فلسطين التاريخية التي لا يعرفها البعض.. بين اليمن والعراق..!

محمد عبد الشفيع عيسى *

ليس بمستطاعٍ التسليم، ببساطة، بفرضية صحة التاريخ الرائج وفق الرواية السائدة في المرويات التوراتية وفي بعض المتوارث في الإسلاميات المنقولة في جانب منها من «الإسرائيليات القديمة» التي اقتحمت تراثنا اقتحاما، عن منطقة الشرق العربي القديم بما فيها مصر.

لقد بات هذا (التاريخ) محل شك كبير بعد التحدي الذى أظهره كمال الصليبي وبعض تلامذته (مثل زياد منى) وصولا إلى فاضل الربيعي. فارق جوهري بين أن تعتبر التاريخ المتعلق بوجود بنى إسرائيل واليهود تاريخا موصولا بالعراق الحالي والشام كذلك، بمعناها الواسع، بما فيها فلسطين، ومصر أيضا، وبين أن تعتبر أن ذلك التاريخ إنما هو موصول بجنوب شبه الجزيرة العربية، وخاصة اليمن.

وإنني لأشعر بقوة جاذبية «النظرية اليمنية» في التاريخ الإسرائيلي واليهودي، وكدتُ أميل إليها ميْلا، ولكنى لا أستطيع الجزم بذلك على كل حال. فما يزال علم التاريخ والأركيولوجيا لم يبح بكل أسراره بعد، وما زال ثمة طريق طويل، قبل إمكان إعلان «موت» النظرية التوراتية موتا كليا، وليس «إكلينيكيا»- أو سريريا- فحسب، برغم وجود دلائل قوية على ذلك. وحتى بفرض إعلان موت النظرية التوراتية، ذات الجذر والمضمون الميثولوجي المحض إلى حد بعيد، فإن «البديل اليمنى»، إن صح التعبير، لم يزل مفتقدا للاحتشاد بكامل عدته العلمية ليقوم بتحدٍ ناجح لإثبات فرضيته الرئيسية، بعد نجاحه المحتمل في «نفي» نقيضه التوراتي المترنح.

مع ذلك، أجدني، وحتى إشعار آخر، مستعداً للعمل ولو مؤقتاً وفق فرضيات التاريخ الرائج، خاصة إن تم استعمال أدوات التحليل الإبستمولوجي- المعرفي- للنصوص الإسلامية، لا سيما القرآنية منها ذات الصلة. ولنسْتَمِحْ بعض الباحثين المتخصصين عذرا في ذلك، حتى تثبت صحة العكس.

                        ***              ***                  ***

في ظل ذلك إذن، أمكن لنا القول بوقوع التفارق بين مصطلحيْ (بنى إسرائيل) و(اليهود) ومحتواهما المعرفي، وكذا بين تجلياتهما التاريخية، بعيدا عن المعطيات الأركيولوجية ذات الشأن خلال العقود الأخيرة، حتى من بعض علماء الآثار في (إسرائيل) كما هو معروف. يتبين هذا من حدثين رمزيين كبيرين، ظاهرين في المرويات التاريخية. إذ وفق تلك المرويات فإن بنى إسرائيل، يرجع جدهم الأكبر إلى النبي إبراهيم في العراق، ومنها جاء إلى الشام الحالية (خاصة فلسطين) قادما فيما يبدو من خلال هضبة الأناضول. وهنالك نشئوا، ثم وَفَد منهم مَنْ وَفَد إلى مصر بدء من (يوسف). أما اليهود فجاءوا من مصر بادئ ذى بدء، على يد (موسى)، باتجاه سيناء ومنها مرة أخرى إلى هوامش (فلسطين – الأردن) الحالية. إذن: بنو إسرائيل نشئوا، أو جاءوا، مع إبراهيم ونسله حتى يوسف. أما اليهود فنشئوا مع موسى؛ وقصارى ما ذهبوا إليه زمن موسى هو الاقتراب من حدود فلسطين الحالية، ولم يدخلها «يهود موسى لأن في فلسطين (قوما جبارين) كما أشار القرآن. ويبدو أن بعضهم بعد موسى، بدأ بنوع من التوافد إلى فلسطين، ثم أخيرا خلقوا لأنفسهم تاريخاً خاصاً، أو قاموا باختلاق تاريخ، يعود بهم، كما أشرنا، إلى نسل إبراهيم، إسحق ويعقوب. وكان هذا الاختلاق هو الدعامة «الإيديولوجية» للمشروع السياسي (اليهودي) المعاصر فى فلسطين، والذى يستند في جزء منه إلى الادعاء بوجود سياسي سابق، وخاصة زمن المملكة الموحدة لداوود وسليمان. وهو وجود عرفنا من التاريخ الرائج أنه على وجه العموم متقطع ومؤقت، ومبعثر جغرافيا، وغير مستمر.

ولكن الحقيقة التاريخية تبقى ماثلة بأنه لا رابط مباشرا وثيقا، من ناحية التكوين البشرى أو الإثنولوجي، بين موسى (المصري وطنا فعليا) ومن معه، من جهة أولى، وبين بنى إسرائيل وأسلافهم، من جهة ثانية. أو أنه، على أقل تقدير، لم يتم إقامة الدليل التاريخي أو الأركيولوجي للعلاقة بين الطرفين حتى الآن، وخاصة لجهة احتكار «أصل إسرائيلي» قاصر على اليهود الذين هم أتباع الديانة اليهودية، أي الموسوية في الجذر العميق.

وتجيء المفارقة التاريخية المذهلة من أن مملكة اليهود الفلسطينية المؤقتة، تلك، ذات الجذور الموسوية- المصرية على أي حال، جاءت نهايتها القاصمة على يد البابلي (العراقي) «نبوخذ نصر».

من أرض آباء إسرائيل الأصلية (العراق) حيث جدهم الأكبر الخاص بهم فقط، فيما يروون توراتيا ويتواترون، جاءت نهاية مملكة اليهود ذات الجذور (السيناوية- المصرية)..!.

وقد اختلق اليهود القدامى تاريخاً لهم يربطهم وحدهم قسراً بإسرائيل (يعقوب) وأبيه إبراهيم وابنه (يوسف)، لمجرد إشباع الحاجة إلى مشروع سياسي، مما ينم عن كون الاختلاق المذكور مجرد (إيديولوجيا) حسب تعريف «كارل مانهايم» للإيديولوجيا. وكذلك جاء المشروع السياسي المعاصر لليهودية السياسية، المشروع الصهيوني، ليقوم على اختلاق تاريخ وهمي يربط يهود الحاضر (المشتتين) بيهود قضوا منذ آلاف السنين، ثم ربْط هؤلاء وأولئك، ببني إسرائيل القدامى (الذين هم في الحقيقة من قبيل «أقوام سادت ثم بادت» مثل غيرها كثير في التاريخ القديم) والذين لا صلة ثابتة تجمعهم بهم تاريخياً. ومن هنا جاءت التسمية (الماكرة) للمشروع السياسي الصهيوني، مشروع بناء كيان سياسي، باسم (إسرائيل) أو حتى («دولة» إسرائيل»)..!.

فكأن التاريخ يعيد نفسه. وربما يعيد التاريخ نفسه مرة أخرى، من خلال نهاية محتملة، يوما ما، للمشروع السياسي الصهيوني.

                        ***              ***                  ***

وقد ينقلنا الحديث عن ذلك إلى نقطة مهمة مرتبطة بموقع المشروع السياسي الصهيوني في المخطط الغربي للسيطرة على المنطقة العربية- الإسلامية المركزية المسماة الشرق الأوسط.

ليس المشروع الصهيوني متطابقا تماما مع المشروع الغربي- الأمريكي للسيطرة على المنطقة العربية، والمنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية؛ ولكن هناك نقاط تطابق (مثل الموقف المتطابق من القضاء على التحدي العراقي السابق)، ونقاط تلامس (مثل الموقف من مواجهة التحدي الإيراني الراهن).

بيْد أن المشروعين متمايزان نسبياً. ذلك أن السيطرة الإسرائيلية على المنطقة القائمة بين الفرات وفرع النيل عند «دمياط» هي (مسألة حياة أو موت) لشريحة من شرائح المشروع الصهيوني المتخَيل كمنطقة نفوذ بالمعنى الواسع أي influence zone على غرار شريحة من شرائح التصور الألماني المتخيَل في زمن مضى للعلاقة مع منطقة «أوراسيا» قبيل وأثناء الحرب العالمية الثانية. أما بالنسبة للغرب فهناك سلة خيارات يمكن التعامل بواسطتها مع المنطقة المذكورة؛ وأحد هذه الخيارات استخدام إسرائيل نفسها «كمخلب قط» و«فزاعة». وبمقتضى هذا الدور المزدوج (مخلب القط والفزاعة) تلعب إسرائيل دورها الكبير المنتظر دائما في الاستراتيجية الغربية، وهو الحيلولة دون السير على طريق المشروع القومي التقدمي للوحدة العربية، عن طريق أداء دور الحاجز أو الفاصل البشرى المانع للالتحام الضروري بين المشرق العربي، من طرف أول، وبين الشمال العربي لإفريقيا (مصر والسودان والمغرب الكبير)، من طرف ثانٍ. وهذا لب (المسألة اليهودية السياسية) أو (المسألة- أو المشكلة الصهيونية) المعاصرة. وإن غدا لناظره قريب.

*  أستاذ جامعي مصري وباحث أكاديمي في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

المصدر: الشروق

التعليقات مغلقة.