الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

واقـع الصحافــة السوريــة

منتدى جمال الأتاسي

للحـوار الــديمقـــراطـي

المحــــاضرة السادســــــــــة

                                  3/6/2001

                                                                                                           د. حسان عباس

فعاليات الندوة السادسة:

3/6/2001

  1. كلمة الافتتاح لرئيس الجلسة الأستاذ أحمد مظهر سعدو

 2.واقع الصحافة السورية  د. حسان عباس

  1. مداخلات السادة الحضور
  2. رد الدكتور حسان عباس

———————–

  1. كلمة الافتتـاح لرئيس الجلسة الأستـاذ أحمد مظهر سعدو

     مساء الخير، أدعوكم للوقوف دقيقة صمت على أرواح شهداء انتفاضة الأقصى العظيمة والشهيد فيصل الحسیني، فلتتفضلوا، و شكراً.

     السلام عليكم ورحمة الله، و أسعدتم مساء، وكل عام وأنتم بخير بمناسبة عيد المولد النبوي الشريف الذي يصادف هذا اليوم، وأهلا بكم مع الجلسة السادسة لمنتدى الدكتور جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي . في حضرة صاحبة الجلالة السلطة الرابعة : الصحافة، وعلى وقع الانتفاضة العظيمة في فلسطين، وضمن منعرجات القلم والعلم والإعلام ، نلتقي اليوم لنستمع إلى محاضرة هامة حول واقع الصحافة في سوريا للدكتور حسان عباس، من أجل فتح حوار علمي ديمقراطي هادئ ومفید، ومن أجل وضع إشارات للاستفهام ونقاط على الحروف ما زالت ملحاحة أيما إلحاح، ففي زمن القرية الإعلامية الواحدة، زمن الانترنت والإيميل والفضائيات وسواها من أدوات تقنية حديثة جعلت من الصحافة قوة هائلة تدخل كل بيت، بل كل عقل سواءٌ رضي بذلك أم لم يرضَ، في هذا الزمن ونحن نلج في أتون ألفية جديدة لها متطلباتها ما زال قطرنا العربي السوري يعيش حالة الصحافة الرسمية الواحدة مع بعض التحسينات الخجولة جداً بعد السماح لأحزاب الجبهة بإصدار صحافتها، وبتأخير دام ثلاثين عاماً أو يزيد، وصحيفة يتيمة أخرى شبه مستقلة، وارتكاسات هنا وهناك في الصحافة الرسمية بعد أن أعطيت سقفاً أعلى قليلاً، ثم عاد السقف ليهبط من جديد.

     مع الصحافة اليوم وواقعها الفاقع نستمع الى الدكتور حسان عباس وهو من مواليد مصياف عام 1955، وحاصل على دكتوراه في النقد الأدبي من جامعة السوربون في باريس عام 1992، وهو أستاذ في المعهد الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، ومحاضر في جامعة برشلونة المتوسطية الصيفية منذ ثلاث سنوات، وقد أسس عام 1992 منتدى الجمعة الثقافي وما زال يديره حتى اليوم في المعهد السابق ذكره, وعضو في اللجنة المشرفة على منتدى الحوار الثقافي منذ تأسيسه عام 1999، وهو مترجم أيضاً، و آخر نتاجاته ترجمة كتاب «ماكينة الإبصار»، الذي صدر عن دار المدى، وله نشاطات في الصحافة العربية و العالمية، وسوف تصدر له دراسة بعد شهرين في مجلة «أوروبا» الفرنسية، وهي أشهر مجلة أدبية في أوروبا، عن تاريخ الأدب السوري بعد الاستقلال.. ندعكم الآن بمعية الدكتور ’حسان‘ لنستمع إليه على مدى خمس وأربعين دقيقة، فليتفضل .

—————-                    ——————                  —————

واقع الصحافة السورية

د. حسان عباس

‏‏     شكراً لحضوركم، شكراً لمنتدى جمال الأتاسي على دعوته الكريمة وخاصة في هذا البيت الكريم ‏الذي ما زلت احتفظ لصاحبه فقيدنا الغالي كثير من الذكريات من لقاءات كانت بينه وبين صديقي المشترك عبد الهادي عباس الذي هو أبي .

     لا أسعى في هذه المحاضرة إلى ‏توصيف واقع الصحافة السورية بالمعنى الشكلاني الظاهراتي المتعارف عليه عند الكلام عن واقع ما . فأنا لا أظن أن أحداً من السيدات والسادة المجتمعين هنا يجهل حال الصحافة السوري وما يعتورها من أمراض وسلبيات . ولا أظن أن ما يمكنني تقديمه في هذا المجال قد يمثل إضافة تستحق عناء الاستماع إليه . لذلك وتحت العنوان نفسه (واقع الصحافة السورية) سأحاول أن أجتهد في تحليل الآلية أو الميكانيزم التي أوجدت هذا الواقع . وبالطبع أنتظر في نهاية العرض مداخلاتكم  لتقويم ما يبدو لكم شططا في اجتهادي هذا .

     يمكننا تصنيف الصحافة بشكل عام تبعاً لمنشئها، أي تبعاً للجهة التي قامت على تأسيسها ومن ثم إدارتها . ويفضي التصنيف على هذا الأساس إلى صنفين اثنين قد يتجاوران وقد يتناحران . وفي تجاورهما أو تناحرهما تنعكس لا الحياة الإعلامية في بلد ما فحسب, بل أيضا الحياة السياسية وما تستجره من تأثير على مجالات الحياة كافة, وبخاصة المجالين الثقافي والفكري .

     صنفان اثنان إذن :

     الأول هو ابن الحرية، سندها وصائنها وضامن بقائها . ‏عنيت الصحافة المدنية أي الصحافة التي أسسها ويعمل على استمرارية صدورها الأفراد أو الشخصيات المعنوية في البلد وفقا لما يشرعه القانون.

‏     الثاني هو ابن السلطة, بوقها ولسانها وضامن استمرار سيطرتها, عنيت الصحافة الرسمية بشكل عام ‏أي الصحافة التي تنشئها المؤسسات الرسمية.

      والعرف أن تتجاور الصحافتان مادام التجاور بين المجتمع المدني (كنف الصحافة المدنية الحرة) والسلطة (كنف الصحافة الرسمية ) هو الطبيعي في حياة الدول من حيث هي کيان اجتماعي سیاسي تنتظم العلاقات بين مكوناته (الفرد والمجتمع والدولة) انتظاماً حقوقياً يعبَّر عنه بالقانون . غير أن هذا العرف يبقى في الحقيقة في إطار النظرية لأن السلطة التي تمثل في كل مكان وزمان، وفي ما  يخص الصحافة تحديداً الطرف الآخر في  المعارضة بين الصحافتين الحرة والرسمية، تمثل في الوقت نفسه مصدر القوانين الناظمة للصحافة . وهذا ما يضعها في موقع من كان فيه الخصام وهو الخصم والحكم . لذلك يترك التجاور بين الصحافتين مكانه عادة للتناحر . ولكن، نظراً لانعدام تكافؤ القوى بينهما يتحول الأمر غالباً إلى عملية نحر تمارسها السلطة ضد الصحافة المدنية . عملية تتباين أساليبها وتختلف مناهجها باختلاف السلطات وطبيعتها، واختلاف مشروعها للمجتمع الذي تحكمه . وليس من الخطأ هنا أن تقوم بالتذكير بشكل موجز بالأساليب المختلفة التي لجأت إليها السلطات المتعاقبة على بلادنا، منذ ظهور الصحافة حتى يومنا هذا، لتقييد حرية الصحافة المدنية الحرة والتضييق عليها لأن ذلك سيسمح لنا أن نعاين وأن نعاير بشكل أدق واقع الصحافة في الوقت الراهن وهو موضوع المحاضرة .

     يعود ظهور الصحافة السورية إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر . ويتفق مؤرخوها حول الشكل الأسبق في وجودها، فيروّن أنها كانت رسمية، أصدرتها السلطة العثمانية . كان ذلك يوم 19 تشرين الثاني 1865 حيث أصدر الوالي (راشد باشا) صحيفة سورية . وبعد ذلك بخمس سنوات أسس (حالت بك) أمين سر ولاية حلب جريدة رسمية أخري في حلك هي فرات . أما أول صحيفة مدنية فكانت الشهباء التي أصدرها في حلب أيضا عبد الرحمن الكواكبي سنة 1880 .

     وقد حددت هذه الصحف منذ بدايتها سياساتها وغاياتها فذكرت صحيفة سورية أنها وُجدت لنشر الفرمانات السلطانية وأوامر السلطة وإعلاناتها والتنقلات المقررة فيها، في حين ذكر الكواكبي في العدد الأول من جريدته أن غايتها: الاتساع في دائرة المعارف العمومية، واكتساب الآداب المدنية، وكشف أسرار الأمور وتنبيه أفكار الجمهور، ومساعدة الدولة على انتظام حركات السياسية المحلية وصيانة الحقوق من الشطط بين أركان الهيئة الاجتماعية . وإذ يحدد هذان القولان أهداف كل من الصحافة الحرة والرسمية فإنهما يبينان أيضاً إمكانية التجاور بينهما وتكاملهما . لكن ما إن صدر العدد الثاني من الشهباء حتى أصدرت الحكومة العثمانية قراراً بتعطيلها بسبب خبر قصير نشرته وجاء فيه أن الموظف التركي المسؤول عن قبول المتطوعين في الجيش رفض قبول المتطوعين الأرمن ما لم يستبدلوا اسمائهم المسيحية بأسماء محمديه . وقد كان هذا التعطيل أول خطوة على طريق مصادره الصحافة المدنية الحرة في سورية .

     وبعد أقل من سنتين أصدر الصدر الأعظم (علي باشا) وثيقة خاصة بالصحافة جاء فيها أن الباب العالي يحتفظ لنفسه بحق التصرف، بطريق إداري ومستقل عن سلطة القانون، تصرفاً يجريه على الصحافة المتداولة وضد الصحافة التي ترفض المبادئ التي يجب عليها أن تستوحيها والتي هي شرط أساسي لصحافة وطنية . وفي الواقع لم تنجُ من أي دورية من الإحدى والتسعين التي صدرت في سورية في ظل الحكم العثماني من المصادرة أو التعطيل أو التوقيف . وهذا ما كان من بين نتائجه ظهور الصحافة السرية التي افتتحتها صحيفة المنار الحمصية لـ عبد الحميد الزهراوي . ولم تكتفِ السلطة العثمانية بنحر الصحافة وإنما قامت كما هو معلوم لدى الجميع بإعدام عدد من الصحفيين بين مجموعة شهداء يوم 6 أيار 1916 .

     وإبان الحكم العربي بين عامي 1918 و 1920 عرفت سورية أربعاً وخمسين دورية مدنية وصحيفة رسمية واحدة هي العاصمة . وقد كانت هذه الفترة فتره حريه فألغيت الرقابة عن الصحف، لكن التعطيل طبّق في ست عشرة حالة لمدد تتراوح بين ثلاثة أيام وعدة أشهر . بيد أن هاتين السنتين لا تمثلان معياراً لحرية الصحافة إذ لا يسجل المؤرخون وجود صحافة معارضة وهذا مفهوم في مجتمع منفتح على الاستقلال بعد أربعة قرون من الاستعمار .

     أما في عهد الانتداب فقد عمّت الرقابة وقُيّدت الحريات الصحفية بشكل عام . لكن الصحفيين كانوا يتمتعون بشيء من الضمانات القانونية مما سمح لهم بالدفاع علناً عن حقوقهم وعن حرية صحافتهم، نقرأ مثلاً في عدد جريدة المقتبس الصادر يوم  17- 5 – 1925 مقاله كتبها عبد الله الاسطواني يرُد فيها على تصديق المفوض السامي للإجراءات القمعية التي تقدمت بها الحكومة فيقول: “مهما وصعت الحكومات من القيود والأغلال وحُكِّم سيف التعطيل الإداري في رقاب الصحفيين فإن قوة الحكومة المطلقة لا بد وأن تتراجع أمام قوة الصحافة التي ترفع علم الحرية…” . ونجد نجيب الريس يكتب في المقتبس أيضاً يوم 20- 6 – 1927: “ونحن الصحفيين لا نريد أن تكون صحفنا تحت رحمة الأشخاص مهما كانوا عادلين أحراراً يفهمون حرية النقد وإباحة الكلام بل نريد أن يكون القضاء وحده هو الذي يعاقب ويجازي” . ونجد ’الريس‘ نفسه يدعو عام 1928إلى إلغاء الرقابة . وفي عام 1938 استطاعت الصحافة أن تجبر مجلس النواب على تعديل مراسيم التعطيل السارية بحيث صارت تُذكَر فيها مدة التعطيل بعد أن كانت تُعطل إلى أجل غير مسمى . وإن كانت هذه الشهادات تُذكّر بالمقاومة المستمرة التي أبدتها الصحافة المدنية الحرة ضد قمع السلطات لها فإنها تؤكد من جهة أخرى أن حرية الصحافة ليست بدعة ثقافوية مستحدثة وإنما هي حقيقة وطنية عاشتها صحافتنا في كل زمان تسنى لها فيه أن تقول كلمتها وتعبر عن وطنيتها . ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية قيدت الحريات الصحفية من جديد واستُصدرت مراسيم وقوانین جديدة واشتدت الرقابة وصدر في السنوات الثلاث الأخيرة للحرب ما يزيد عن مائة مرسوم تعطيل لصحف سورية . أما مجمل الدوريات المدنية الصادرة خلال 26 سنة من الانتداب فقد بلغ 183 دورية منها 114 فقط في مدينة دمشق.

     إن المتتبع لتاريخ الصحافة السورية خلال خمس وخمسين سنة مرت منذ يوم الاستقلال يلحظ كم كانت حياة الصحافة المدنية الحرة شاقة ومحفوفة بالمخاطر . فلم تعرف البلاد  خلال هذه السنوات الطوال سوى أربع سنوات من الديمقراطية النسبية (1954- 1958) اما ما عداها فكانت بكاملها سنوات هيمن فيها تقييد الحريات ومارست خلالها السلطات المتعاقبة شتى أنواع الضغط على المجتمع المدني وعلى الصحافة . حتى أن بعض ما صدر من قوانين وإجراءات ضد المجتمع المدني وضد صحافته في هذه السنوات يشكل سوابق في تاريخ التضييق على الصحافة الحرة . وإن كان المجال لا يسمح هنا بسرد تاريخ القمع السلطوي للحريات المدنية فليس من النافل أن نقف وقفة سريعة أمام أهم وأغرب القوانين المقيدة للصحافة :

  1. المرسوم التشريعي رقم 50 الصادر بتاريخ 17 – 10 – 1946 الذي حدد صلاحيات وزير الداخلية ومنها: الترخيص بإصدار الصحف والمجلات والنشرات والمطبوعات الدورية كافة على أن لا يتجاوز عدد الصحف السياسية المرخصة في المدينة الواحدة أكثر من صحيفة واحدة لكل 50 ألف مواطن . والعجيب في هذا المرسوم هو القاعدة التي حدد على أساسها عدد الصحف المسموح بها وحصرها بالمدن دون سائر مناطق التواجد السكاني من أرياف وبادية . وقد برر وزير الداخلية آنذاك “صبري العسلي” هذا المرسوم بتزايد عدد الصحف في سورية حيث صدرت في تلك السنة، في مدينة دمشق وحدها والتي ما كان عدد سكانها يتجاوز ثلاثمائة ألف سنة, ثمان وعشرون صحيفة . وللمقارنة نذكر (والكلام للعسلي) أنه لم يكن يوجد في مدينة لندن في ذلك الوقت سوى اثنتي عشر صحيفة بينما يتجاوز عدد اللندنيين سبع ملايين نسمة .
  2. قرار دمج الصحف الذي أصدره فوزي السلو في النصف الثاني من شهر آب 1952 يقضي بدمج الصحف بهدف تقليصها وعرقلة ادارتها. وقد دمجت كل صحيفتين بصحيفة واحدة، مثلاً: جريدتا الحضارة والجيل الجديد دمجتا بجريدة حضارة الجيل الجديد, جريدتنا ألف باء والنضال دمجتا بجريدة الف باء النضال … الخ.
  3. القانون رقم 195 تاريخ 23 تشرين الثاني 1958 والقرار 21 تاريخ 11- 1 -1959 الصادران في بداية عهد الوحدة . يتضمن القانون الاول دعوة مباشرة للصحافة لأن تنتحر، حيث يقول: إن لصاحب أي صحيفة يومية أو دورية تصدر في الاقليم السوري أن يتنازل عن امتيازه بطلب يقدمه إلى مديرية الدعاية والأنباء خلال 15 يوماً من تاريخ العمل بهذا القانون … الخ، وقد أدى هذا القانون الى توقف 36 صحيفة عن الصدور . أما القرار 21 والذي صدر بعد القانون السابق بأقل من خمسين يوماً فقد ألغى اثنتين وعشرين صحيفه بحجة أنها توقفت أو أنها لم تصدر . إن أقل ما يمكن قوله في هذين الإجراءين أنهما غريبان جداً وخاصة من نظام كان يرفع قادته شعار حرية الكلمة ويعتبرها “المقدمة الأولى للديمقراطية” .
  4. البلاغ رقم 4 الصادر عن المجلس الوطني لقيادة الثورة يوم 8 آذار 1963 والذي نص حرفياً على ما يلي: “اعتبارا من 8 – 3 – 1963 وحتى إشعارٍ آخر يوقف إصدار الصحف في جميع أنحاء البلاد ما عدا الصحف التالية: الوحدة العربية, بردى, البعث . تصدر بقية الصحف بإذن من المرجع المختص في وزارة الإعلام, تتوقف المطابع عن طبع أي نشرة إلا بإذن من المرجع نفسه . والواقع ان هذا البلاغ يمثل حالة عـز نظيرها في تاريخ القوانين المقيدة لحرية الصحافة . فبخمسة أسطر فقط ألغى تاريخ طويل من الصحافة السورية, ووضع الأساس للقضاء نهائياً على الحياة الصحفية المدنية الحرة .

     شكل البلاغ رقم 4 (إضافة الى البلاغ رقم 2 الذي نص على إعلان حالة الطوارئ في البلاد) شكل أحد المداميك الأساسية في المنظومة الأدواتية التي وضعها وفعلها حزب البعث خلال سيرورته نحو بناء مجتمع كُلاني/ شمولي قائم على قاعدة أن الحزب هو القائد للجماهير يمارس، بالاشتراك مع المنظمات الجماهيرية وجميع أفراد المخلصين المتعاونين معه، السلطة السياسية، كما جاء في أعمال المؤتمر القطري الاستثنائي لحزب البعث المعقود في حزيران 1965. وكما تكرس بعد ذلك في المادة الثامنة من الدستور التي تنص على أن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد في المجتمع والدولة” .

     إن الحزب، في سعي نحو السيطرة على السلطة سياسياً, ونحو احتكار الهيمنة اجتماعياً وثقافياً، قام بعملية إلحاق مطردة . مورست بشكل متوازٍ في جميع الميادين  وبخاصة في ميداني السياسة والاجتماع . مورست أولاً في الميدان السياسي وهدفت إلى إلغاء التعددية السياسية وإضعاف الأطر التنظيمية لها، وذلك، أولاً: بإلغائه العملي للمعارضة السياسية المنظمة . ثانياً: بإبعاده بقية الأحزاب عن المشاركة في السلطة حتى عام 1970 (رغم مشاركة أعضاء أحزاب أخرى كالشيوعيين والوحدويين الاشتراكيين كعناصر تقدمية فقط وليس كممثلي أحزاب) . وثالثا: بتطبيق سياسة تجفيف عروق الأحزاب التي قبلت الانضواء إلى الجبهة من خلال ربطها بميثاق الجبهة الذي يمنع عملها في أوساط الطلاب والجيش . أي قطع الرافد الأساسي الذي يؤمّن تجدد الحياة في هذه الأحزاب ويضمن استمراريتها عبر الأجيال فلا تبقى سوى أحزابا متيبسة هرمة .

     ومورست عملية الإلحاق المذكورة ثانياً في الميدان الاجتماعي وهدفت إلى سحب السياسة من حيث هي تعبيرٌ وفعل تعددي وتنافسي وحرّ من المجتمع ومن ثمَّ ضخّ سياسة الحزب من حيث هي تعبير وفعل أحاديين وموجهين في القنوات الاجتماعية المفرغة ذاتها . وتجلت هذه العملية بشكلٍ واضح في مؤسسات وهيئات المجتمع المدني القائمة . فقد فُرّغت هذه المؤسسات (الصحف والنوادي والجمعيات والنقابات) من تعبيراتها التعددية وحوّلت إلى مؤسسات دعائية يرتبط فكرها وتعبيرها وأداؤها بسياسة الحزب القائد وبها فقط . كانت مؤسسات المجتمع المدني تعبر عن الحراك الثقافي والاجتماعي والسياسي في المجتمع وتُظهر قوة المجتمع أمام قوة الدولة، فصارت تعبر عن فكر مكوِّن واحد من مكوِّنات المجتمع وتُظهر قوة الدولة أمام المجتمع . هذا المجتمع المحوَّل إلى منفعل بعد أن كان فاعلاً .

     لقد كان من الطبيعي أن يولي البعث خلال تلك العملية اهتماما كبيراً بوسائل الإعلام بشكل عام إذ رأى فيها عاملاً مهماً في حشد الجماهير من أجل الوصول إلى غاياته . وهذا ما نقرأه بوضوح في المنهاج المرحلي للثورة الذي يحدد مهمة الإعلام على الشكل التالي: “للإعلام دور مهم في دفع عجلة الثورة إلى الأمام، فهو يسعى الى تصفية أفكار المجتمع القديم وتعبئة الشعب وراء الأهداف القومية وحفزه إلى مزيد من العمل من أجل انجاح برامج الإنماء . وتود حكومة الثورة أن تنوه إلى أنها لا تتوخى في سياستها الإعلامية الدعاية السياسية والحصول على التأييد … الخ “ . كما استخدم البعث مفهوم “الالتزام” لتحديد طبيعة الدور المنوط بالإعلام .

     وقد شُرح هذا المفهوم في القرار رقم ( 29 ) الصادر عن المؤتمر القطري السادس للحزب حيث نقرأ ما يلي: “إن المقصود بكلمة (الالتزام) هو أن يجري ضبط لحركة وسائل الإعلام الجماهيري ضمن إطار أهداف ومبادئ الحزب الملتزمة بقضايا الجماهير والشعب, وبعبارة أخرى (والكلام دائماً للقرار) أن تلتزم هذه الأجهزة بتوجيهات قيادة الحزب في توجيه الرأي العام نحو ما يخطط وما يرسم وما يعمل له الحزب“. ولا يخفى على أحد أن التصور المقدم في هذا القرار يتناقض تناقضاً كلياً مع ما ورد آنفاً حول ترفع الحزب عن البحث عن الدعاية السياسية والحصول على التأييد . إذ أن ما يطالب به تماماً الشرطان اللازمان لكل تعبئة دعاية وأيديولوجية أي، أولاً: محاصرة وخنق الآراء المخالفة وهذا ما نقرأه في “ضبط وسائل الإعلام ضمن إطار الحزب” . ثانياً: نشر الراي المتفرد على أوسع مساحة إعـلامية متوفـرة، وهذا ما نقـرأه في أن “تلتـزم الأجهزة بتوجيهات القيـادة” .

     وفي هذا السياق أيضاً، كان إلغاء الصحافة المدنية الحرة وربط الصحافة نهائياً بالسلطة ضروريين لخلق الانطباع بان عملية الإلحاق الجارية ليست عملية فوقية وليدة تصوّر وتخطيط مسبقين لغاية نصف معلنة هي احتكار الساحة السياسية وبناء المجتمع الكُلاني المفرغ من الرأي الآخر، وإنما هي نتيجة لرغبة جماهيرية تعبّر عن ذاتها في وسائل إعلامها الخاصة . وتشبه هذه العملية ما يجري في الكتابة الروائية عندما يقوم الروائي بإيهام القراء بواقعية ما يكتب، مختلقاً في ذلك استيهامین اثنين: الأول أن الراوي هو من يتكلم والثاني أن ما يقوله الراوي هو الحقيقة .

     ‏لقد قامت السلطة لتحقيق الشرط الأول ‏من الشرطين ‏المذكورين بمنع الهيئات المدنية ومنها الأحزاب السياسية من إصدار مطبوعاتها . بما في ذلك أحزاب الجبهة التي بقيت تطالب بحرية إصدار صحافتها زمناً طويلاً أو على الأقل إصدار صحيفة موحدة لكل أحزاب الجبهة مجتمعة‏ دون أن تحصل على أي ردّ في هذا المجال سواء الوعود الطيبة . رغم أنها ما كانت لتمثل أية معارضة لسياسة البعث ما دامت قد وافقت على ميثاق الجبهة الذي يقرّ التزام الأحزاب بأن يكون منهاج البعث ومقررات مؤتمراته موجّهاً ‏أساسياً في رسم سياسة الجبهة وتنفيذ خططها . ومن هنا تنبع أهمية القرار الذي اتخذه الرئيس بشار الأسد بالسماح لأحزاب الجبهة بإصدار صحافتها .

     أما لتحقيق الشرط الثاني فقد قامت السلطة بإصدار الصحف الموجّهة الى شتى شرائح المجتمع و الموجِّهة لها . بحيث لا تبقى ثغرة في المجتمع لا يغطيها خطاب البعث، نظرياً على الأقل، وهذا ما يمكن متابعته في المخطط التالي:

     يولد الطفل السوري ويبقى في كنف العائلة حتى عامه السادس فيذهب إلى المدرسة وينضوي بشكل إلزامي في منظمة طلائع البعث حيث تكون مجلة الطليعي بانتظاره عبر حصص درس الطلائع . وإذ ينتقل إلى المرحلة الإعدادية فالثانوية فهناك منظمة اتحاد شبيبة الثورة ومجلتها الشبيبة، تم الاتحاد الوطني لطلبة سورية ومجلة جيل الثورة في الجامعة فإن لم يتابع الدراسة الجامعية والتحق بالجيش فهناك الجندي العربي وجيش الشعب وفي مرحلة أعلى الفكر العسكري . إن توجّه إلى العمل اليدوي أو المهني فللاتحاد العام لنقابات العمال جريدته الأسبوعية كفاح العمال الاشتراكي، أضف إلى ذلك أن عدداً من النقابات الحرفية لها نشراتها الخاصة أيضاً . إن توجّه إلى العمل في الأرض فجريدة نضال الفلاحين موجودة. أما إذا تابع دراسته الجامعية وتخرج للعمل في الإجازة فله أنّى اتجّه مجلته أكانت المجلة الطبية العربية أم مجلة المحامون أم مجلة المهندس العربي أم مجلة المعلم العربي أم مجلة طب الأسنان أم مجلة العمران أم مجلة الطيران المدني… إلخ . أما الفتاة فإنها إذا ما انتهت بها الأمور لتكون ربة بيت فأمامها مجلة المرأة العربية . هذا دون أن ننسى الجرائد، اليومية المركزية الثلاث وتفرعاتها في المحافظات، التي تغطي الهوامش الباقية بين تراصف الفئات الاجتماعية وكذلك الموقف الرياضي التي رغم تخصصها بالرياضة لا تنسى أبداً التذكير بالتزام الرياضيين سياسياً بالتوجهات الفوقية دون مناقشة حقيقية لهذه التوجهات أو لفاعليتها الرياضية .

     لا شك أن في رسمي لهذا المخطط شيئاً من الكاريكاتيرية لكن الغاية منه هي القولُ إن عملية ضبط الإعلام الجماهيري أدّت إلى عدم ترك أي مجال لأي قطاع من قطاعات الحياة المدنية للتعبير عن نفسه من خارج تصوّر البعث له . ولا يغير في صحة هذه الملاحظة ما نراه من بعض الدوريات “المستقلة” التي تعنى بقضايا لا تثير القلق كصحف المؤسسات العلمية، أو الكنائس أو الرياضة .

     وبعد أن أقامت السلطة بنيان صحافتها الموجهة والتابعة، سيّجت ذاك البنيان وحصّنته بمجموعة من الإجراءات والقوانين، مثل سياسة الإشراف على الصحف وسياسة اختيار المديرين وغير ذلك . لكن يبقى أهم هذه الإجراءات وأخطرها، دون شك: الرقابــة .

     الرقابة ملازمة للإعلام من بداية ظهوره، ولا يمكن لأحد الادعاء بإمكانية وجود إعلام بلا رقابة مهما بلغت درجه تطوره وديمقراطيته . لكن من البديهي أن مدى تطبيق الرقابة يتفاوت بين سلطة وأخرى حسب مدى احترامها  حريه التعبير فإذا رجعنا قليلاً إلى  أيام السلطة العثمانية في عصرها الحميدي نجد أن تعليمات الرقابة كانت واضحة ومثبتة وتقضي, بين جملة أشياء أخرى, بوجوب إعلام الشعب عن صحة السلطان الغالية وعن نشاطاته, ووجوب أخذ الموافقة من وزارة المعارف قبل نشر أي مقال أو خبر . كذلك بالامتناع عن انتقاد الشخصيات الكبيرة الرسمية حتى لو سرقت أو ارتشت أو ارتكبت جريمة يعاقب عليها القانون, والامتناع عن نشر أي خبر عن هزائم السلطان وعن أعدائه . أما في الدول التي تُحترم فيها حرية الصحافة فتطبق فيها رقابة نسبية منسجمة مع ما جاء في الشرائع الدولية وخاصة في الملحق الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي أقرته الأمم المتحدة بتاريخ 16 كانون أول 1966 والذي تقول المادة (19) منه: “إن ممارسة الحقوق الواردة في الملحق، والمتعلقة بالتعبير والإعلام، قد تخضع لقيود معينة لكن هذه القيود ستظل محصورة في إطار ما حدده القانون وما هو ضروري 1. لاحترام حقوق وسمعة الآخرين 2. لحماية الأمن القومي والنظام العام، أو الصحة والأخلاقيات العامة” . لقد حددت هذه المادة قيوداً نسبية للرقابة لكنها قيود فضفاضة تختلف السلطات في شرح مضمونها . وهذا ما يؤدي إلى ممارسة كل أنواع الرقابة والتضييق على حرية التعبير باسم حماية الأمن القومي أو باسم الأخلاقيات العامة . وهذا ما يجعل مناقشة الرقابة في بلد ما أمراً في غاية الدقة والصعوبة . إذ لا أحد يعرف ما هي حدود الرقابة وشروطها (بل لا أحد يعرف ما هو مسموح وما هو ممنوع)، كما أن أحداً لا يعرف من هو صاحب الصلاحية في ممارسة الرقابة . هذا الوضع يخلق الفضاء التجريبي الأمثل لخلق المنعكسات الشرطية على مبدأ (بافلوف)، فالصحفي، أو الكاتب بشكل عام، يُشغّل مجسّاته و قرون استشعاره في تحسس الممنوع، فان لامسه واستطاع النجاة من عواقبه امتنع عن تكرار إثمه. وبذلك، وبعد سنوات من التلمس والانصياع تنخلق الرقابة الذاتية لدى الكاتب ويتبلور في داخل شخصيته رقيب صغير يقوم بالمهمة بدل الرقيب الخارجي الكبير المنصرف لأمور أجلّ وأعظم . هذا الوضع هو ما تتباهى به احد الشخصيات الإعلامية اللافتة في سورية حيث تقول: “نسجل أنه لا وجود في الوقت الحاضر لحالات خرق الصحفيين لأخلاق المهنة،…، وفي الوقت نفسه نشأ في وسائل الإعلام الجماهيري وضع من الحرية الإبداعية للصحفيين يمكِنُهم من عرض نظراتهم دون مراقبة مسبقة، بل بالاسترشاد بقناعاتهم … الخ ” .

     قد تؤَمّن الرقابة، مشفوعة بالرقابة الذاتية، حماية كافية للخطاب السلطوي وانغلاقاً يفصل هذا الخطاب عن أسئلة الواقع، لكنها تؤسس لعاهات مقيمة في واقع الصحافة يتجاوز تأثيرها حدود الإعلام ليصيب العلاقة بين السلطة والمواطن وبين المواطن والوطن . ومن هذه الصفات التي قد يجد بعضها مكاناً له في توصيف واقع الصحافة السورية يمكننا أن نذكر:

  1. غياب الثقة بالمواطن: إن الذريعة التي تلجأ اليها السلطات عادة لفرض الرقابة والمبالغة بها، هي أن هذه السلطات هي المسؤولة عن رجاحة عقول الرعايا . وأنها الوحيدة القادرة على التمييز بين الخير والشر، بين الخطأ والصواب، بين الضار والنافع في ما قد يجد طريقه إلى الصحف من أفكار ومعلومات . وتتفق السلطات المشرِّعة للرقابة الصارمة، سواء أكانت سلطات دينية أم دنيوية، تنفق على رؤية الشر منبثقاً من مصدرين رئيسين: 1- الفكر الحر الذي يدفع الناس لئلا يكونوا صاغرين طيعين . 2- الآخر الذي قد يكون جماعة معارضة للسلطة المتفردة أو جهة أجنبية, وهذا ما يفسر تزايد الرقابة طرداً مع عقدة المؤامراتية التي تصاب بها بعض السلطات أحياناً فترى مؤامرة في كل صوتٍ يتوجه إليها بالنقد أو الملاحظة حتى لو كان ليساعدها في تطوير أداء عملها . هذا الوضع يشير بالدرجة الأولى إلى أن السلطة لا تولي ثقتها بمواطنيها, وخاصة أولئك المتعاملين بالفكر وبالشأن العام . وتعتبر أن لهم نفوساً أمارة بالسوء تضطر إزائها لحمايتهم من أنفسهم ولمنعهم من الخروج عن الصراط السلطوي المستقيم الذي لا أحد غير أجهزتها يعرف تخومـهُ .
  2. التضـــليــل: كل حجب للحقيقة أو لجزء منها هو عملية تضليل، وما دامت الرقابة تعني بشكل مباشر تفريغ الحقيقة من ذاك الجانب الذي لا تريد السلطة لرعاياها أن يطلعوا عليه فهي تقوم بعملية تضليل للناس، وتدفعهم ليس فقط إلى الجهل بالحقيقة بل أيضاً إلى اللجوء إلى مصادر أخرى للمعلومات والأخبار قد تكون هي مضللة وضالة أيضاً . أي أن الرقابة تضلل الشعب مرتین: تضلله أولاً بحجب كامل الحقيقة عنه، وتضلله ثانياً بدفعه إلى مصادر جاهلة بالحقيقة أو وظيفتها الإساءة اليها .
  3. الـــنفاق: عندما تبالغ الرقابة في تضييق حدود المسموح والمباح، وتهدد الإعلاميين بالعقاب لأي خروج عن الحدود، يزداد النشاط الصحفي في الكلام عما هو مرغوب، ويتنافس الكتبة في تدبيج المقالات المتطلعة إلى كسب عين الرضى، مع ما يستوجبه هذا السياق من مبالغات ومزايدات ونفاق . وفي هذا الصدد يذكر مؤرخو الصحافة السورية في العهد العثماني وبكثير من التندر بعض مظاهر النفاق زمن ’عبد الحميد‘ كالإسراف في اختراع الالقاب والصفات فهو “اصطرلاب فلك الحكمة” حيناً، و”إمام المسلمين الأكبر” أو “أبو الأمة” أحياناً .
  4. الــتخلف عن العصر: لم يعد ما تقوم به سلطة ما من ممارسات وتجاوزات کتیماً کما کان عليه الأمر حتى سنوات قليلة خلت . فالعالم الذي بات شائعاً، حتى لدى الأطفال اليوم، أنه (صار قرية كونية) لم يعد يعبأ بالحدود والفواصل الوهمية التي تقيمها السلطات على الفكر وعلى الحراك الإعلامي . فالمعلومات والأفكار تعّبر القارات والدول والأقاليم مما يجعل فكرة الرقابة أضحوكة حقيقية في هذا الزمان . بل إن هذا الانفلاش المعلوماتي الجديد قد أدى الى عكس مفهوم الرقابة تماماً . إذ بدل أن تمنع القراء عن الاطلاع على قضية ما، صارت تدفعهم الى البحث عن هذا الممنوع عبر الوسائل الأخرى المتاحة . أي أنها انقلبت من وسيلة اخفاء وتعمية للمعلومة أو الفكرة إلى وسيلة دعاية ونشر لها . مما يجعل الرقابة اليوم صفة من صفات الـفوات الحضاري، بما تتضمنه حالة الـفوات من جهل و تخلف حقيقيين .

     إن واقع الصحافة السورية كما يمكننا أن نلخصه بعد هذا العرض هو نتاج مباشر للسياسات التي اتبعها حزب البعث ليصل إلى حالة التفرد في قيادة الدولة والمجتمع . وقد أدت هذه السياسة في مجـال الصحافة والإعلام إلى إيجاد عشرات الدوريات التعبوية الموجهة إلى فئات الشعب كافة . وهي دوريات يجمع بينها قاسم مشترك أعظم هو الهيمنة المطلقة للخطاب السياسي الواحد المــتجانس . ولقطع الطريق أمام أي خرق ممكن لهذه الهيمنة أعملت السلطة مبضع الرقابة على الصحافة ممــا أدى، من جهة، إلى تغييب الخطابات والرؤى والإبداعات الأخرى، وأدت، من جهة أخرى، الى خلق حالة من الرقابة الذاتية المحبطة لدى غالبية الصحفيين، وإلى إصابة الصحافة بعاهات أبعدتها عن الناس وأبعدت الناس عنها . مما حرم الشعب من حقه المشروع في التعبير عن رأيه بحرية ومن حقه بالإعلام والصحافة . لقد أقر الميثاق الدولي لحقوق الإنسان في مادته التاسعة عشرة أن “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة کانت دون تقيد بالحدود الجغرافية“، واعترف العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية المقر يوم 19 كانون أول 1966 بأن “لكل شخص الحق في حرية التعبير، وهذا الحق يشمل حرية استقاء الافكار والمعلومات ونشرها والحصول عليها دون تقيد بالحدود الجغرافية وتحت أي شكل شفاهي أو مكتوب أو مطبوع أو مرسوم أو أي شكل آخر يريده“. ويرد في الدستور السوري في المادة (38) أن “لكل مواطن الحق في أن يُعبر عن رأيه بحرية وعلانية بالقول والكتابة وكافة وسائل التعبير الأخرى وأن يسهم في الرقابة والنقد البناء بما يضمن سلامة البناء الوطني والقومي ويدعم النظام الاشتراكي وتكفل الدولة حرية الصحافة و الطباعة والنشر وفقا للقانون“. وحتى دستور حزب البعث الذي أقره مؤتمر الحزب التأسيسي الأول عام 1947 يذكر في مبدأه الثاني وتحت عنوان “شخصية الأمة العربية” أن “حرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة لا يمكن لأية سلطة أن تنقصها“.

     غير أن هذه المواثيق كلها، و غيرها أيضاً، تبقى حبراً على ورق وهي كذلك ما دامت الوسيلة الأولى والأخيرة لممارسة الحريات التي تنص عليها، أي الصحافة المدنية الحرة، قد ألغيت من قاموس الحياة السياسية في البلد منذ أكثر من أربعين عاماً . لقد قيل سابقاً إن الصحافة هي “حــبرُ وورق وحــرية” لكنها ليست في بلادنا سوى حبر وورق ولذلك فإن أقل ما يمكن أن نصفها به أنها صحافة عرجــاء.

     وفــي الختــام ثمــة ملاحظتــان لا بد من ذكرهمــا:

  1. ظهرت في السنة الأخيرة مجموعة من القوانين والمراسيم والإجراءات التي تعرفونها جيداً، من السماح لأحزاب الجبهة بإصدار صحافتها الخاصة إلى السماح بصدور صحيفة خاصة وربما صحيفة أخرى ستصدر قريباً. و أظن أن هذه الإجراءات إيجابية بالمطلق لكنها تبقى غير كافية ما دامت تشرع لحالات محددة ولا تسن قوانين يتساوى الناس في القدرة على الاستفادة منها. لكنني أعتقد أنه مازال ثمة مجال للأمل بصدور هذه القوانين .
  2. لدى الحديث عن واقع الصحافة تجاهلتُ العنصر الأكثر أهمية في هذا الموضوع، وأعني العنصر الإنساني أي الصحفيين . والحقيقة أن أي کلام عنهم في إطار هذا الحديث السريع لا يفيهم حقهم في التقدير والاحترام . فهم يمارسون عملهم كمن يتقدم فوق حقل من الألغام لا يعرف متى تنفجر الأرضية تحت قدميه . طبعاً أقصد من كلامي هذا الصحفيين المؤمنين بحرية الكلمة وبقدسية حق الصحافة . أما أولئك المُدجنون فإنهم جزء من الصورة القاتمة لواقـع الصحافــة في سوريـــة .

المراجع:

1- الدستور الدائم للجمهورية العربية السورية، 1973، دمشق، مطبعة دار البعث.

2- الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

3- دستور حزب البعث العربي الاشتراكي، مطبعة القيادة القومية – (1980).

4- د. ترکي صقر، القانون ووسائل الإعلام، دار يعرب، دمشق، 1988.

5- جوزيف الياس، تطور الصحافة السورية في مائة عام (1865- 1965). دار النضال . بیروت، 1982.

6- شمس الدين الرفاعي، تاريخ الصحافة السورية، دار المعارف، 1969.

7- هاشم عثمان، الصحافة السورية، ماضيها وحاضرها، 1877 – 1970، وزارة الثقافة 1997.

…………………………

ملاحظة: للاطــلاع على كامل وقائــع الندوة اضغط هنا 

التعليقات مغلقة.