الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عن استمرار الثورة السورية وحواجز الخوف

راتب شعبو *

                                  -1-

لا يمكن اعتبار التظاهر ضد نظام الأسد، في مناطق خارج سيطرته وواقعة تحت سيطرة قوى تعاديه وتشبهه، جزءًا من الثورة السورية التي يجري إحياء ذكراها، ولا يمكن، من باب أولى، اعتبار هذا الإحياء للثورة استمرارًا لها. الثورة تخرج ضد سلطات حاضرة، لا ضدّ سلطات غائبة. استمرار روح الثورة السورية يقتضي الخروج ضد السلطات المسيطرة في مناطق الخروج أينما كانت، وإلا فإنها لا تعدو كونها طقوسًا مستعادة، كما تستعاد طقوس صلب المسيح. أو يمكن النظر إليها، بسوءِ ظنّ له ما يبرره، على أنها أفعال تحكي على رضا السلطات المسيطرة في مناطقها.

الشيء نفسه ينطبق على إحياء ذكرى الثورة في “بلدان الشتات”. هذا لا يعني، مرة أخرى، التقليل من القيمة المعنوية وربما السياسية، لإحياء الذكرى، بل يعني التقليل من قيمة اعتبار هذه الأنشطة، مهما بلغ الحشد الذي تحققه، مؤشرًا على استمرار الثورة. التغيير الذي خرجت من أجله الثورة يحتاج إلى نقطة انطلاق جديدة تكون، بحكم الضرورة، مستقلة عن الفولكلور الثوري الخارجي (خارج سورية أو خارج مناطق سيطرة النظام). باتت الثورة بحاجة إلى انقطاع لكي تستمر. يجوز القول إن الاحتفاء بذكرى الثورة هو بالأحرى مؤشرٌ على أنها باتت “ذكرى”.

عبّر من خرج في التظاهرات الأولى، مع اندلاع الثورة السورية، عن شعورهم بولادة جديدة، وكأنهم يتعرفون إلى أنفسهم من جديد، وكأنهم ليسوا هم، وكأنهم يخرجون من شرنقة ويكتشفون عالمًا جديدًا وقدرات جديدة. كثيرون أشاروا إلى أن خروجهم في التظاهرات كان أجمل لحظات حياتهم. لم يبعث المتظاهرون السوريون حينها الدهشة في المراقبين فقط، بل أدهشوا أنفسهم أيضًا. هذا ما جعل البعض يسمي ما جرى في سورية بالانفجار، للدلالة على المفاجأة وعلى ضخامة الحدث، أو بحدوث المستحيل، للدلالة على الصعوبة القصوى وعلى مدى اليأس.

كانت هذه اللحظة السورية من تلك اللحظات التي تخترق جدار الزمن لتبقى، ومن النوع الذي يؤسس لنفسه في الوجدان حضورًا دائمًا. نقطة بدء مركزية ترتاح النفس في استعادتها، وتدفع أهلها، بعد أن ابتعدت اللحظة عنهم، وفقدوا عناصرها المادية، إلى توسل ممارسات طقوسية تستعيدها لتؤبدها.

هكذا ينشأ، إلى جانب البعد السياسي للحدث، بعدٌ آخر ينتمي إلى المجال النفسي، مجال الإيمان، ويميل هذا البعد، مع استقرار الحال، إلى السيطرة على البعد الأول وتهميشه. هكذا يتحول اندلاع الثورة إلى ما يشبه الحدث الأصلي المستقل، حدث خارق عصيّ على الزمن ولا يتقادم، يستمد استمراره من استمرار حاجة الإنسان إلى انتماء وهوية وإيمان.

من الناحية السياسية، فإن قيمة مناسبات إحياء ذكرى الثورة السورية لا تتعدى التأكيد على اغتصاب مزمن ومستمر لحقوق شعب، وعلى جرائم مهملة ومستمرة، أي إنها قيمة في التذكر والتذكير. وهي، على كل حال، ليست قيمة فارغة المعنى أو الجدوى. لكن على خلاف الحدث المحتفى به، فإن الاحتفاء هذا هو احتفال خال من المخاطرة. إنه فعل روتيني يحتفي بفعل خارق. أو إنه فعل آمن يحتفي بفعل خطير. فعل روتيني آمن يسعى إلى امتلاك فعل خارق خطير، إلى امتلاكه معنويًا واحتكار قيمته. أما الحق فهو أن امتلاك الفعل الخارق الخطير لا يكون إلا بفعل خارق وخطير مثله.

                                        -2-

في مواجهة العنف المنفلت من جهة النظام، بدأ المتظاهرون الذين كسروا بالفعل حاجز الخوف، يلجؤون إلى وسائل حماية، مثل التظاهرات الطيارة، ثم الهتاف من داخل البيوت، ثم التظاهرات الرقمية، وصولًا إلى التظاهرات المحمية بالسلاح. هذا المسار عكس مسار عودة الخوف والتفكير فيه. لم يكن للخوف حضور في اندفاعات الثورة الأولى. فلا يمكن أن يجتمع الإقدام والخوف معًا. لم يحتط المندفعون الأوائل في الثورة من قمع الأمن، ولم يفكروا في سبل الحماية، لأن الاندفاع طرد الخوف من قلوبهم. هؤلاء دفعوا الثمن الأكبر، رصاصًا موجهًا إلى الرأس، قبل أن تبرز فكرة الدفاع عن النفس، وتحوز التظاهرات على شيء من الحماية والأمان. يمكن القول إن التحول العسكري، الذي شكل النتيجة التي كان يصعب تفاديها في تلك الشروط، كان، من بين أسباب أخرى، نتيجة لعودة الخوف، لكنه هذه المرة الخوف من التراجع وليس من الإقدام. الخوف من انتقام النظام.

من المؤكد والمفهوم أن الخروج على نظام الأسد هو مسار باتجاه واحد لا يسمح بالعودة، فإما أن يسقط النظام وإما أن يدفع الخارجون عليه ومحيطهم الاجتماعي ثمنًا غاليًا يعرفه السوريون جيدًا. مثاله ما حدث في أعقاب المحاولة المسلحة للطليعة المقاتلة في بداية الثمانينيات من القرن الماضي. على هذا، لم يكن أمام المتظاهرين الذين كسروا حاجز الخوف، بعد أن صمد النظام للمرحلة السلمية، سوى الفرار خارج البلد، وهذا خيار غير متاح بسهولة وغير مضمون، أو الاستمرار، وهذا كان يقتضي التحول العسكري. في الواقع، تحقق الأمران مع الوقت. الخروج من البلد والمسار العسكري الذي أنشأ مناطق له خارجة عن سيطرة النظام، وبنى جدران خوف جديدة وفق معاييره الخاصة.

ازدياد الانخراط الدولي المواكب للتحول العسكري، إضافة إلى الزخم الشعبي الواسع للثورة، قياسًا على ما كانت عليه الحال في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، هو ما أتاح وجود مناطق آمنة نسبيًا للخارجين على النظام، الأمر الذي لم تتمتع به التجربة العسكرية السابقة للطليعة المقاتلة التي لم يُتح لها أن تحتفظ بمناطق كاملة تحت سيطرتها، كما صارت إليه الحال في وقت لاحق من تداعيات الثورة السورية.

النتيجة أن نظام “حرق البلد” رمم حاجز الخوف في مناطقه، وأحاله إلى حاجز رعب. وأن القوى الأخرى التي استطاعت أن تبني سلطة لها، في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، راحت تزرع الخوف في قلوب الناس الواقعين تحت سيطرتها، وبنت حواجز خوفها الخاصة. على هذا، فإن استئناف الثورة السورية بات أكثر صعوبة، بسبب تعدد السلطات، وما يفرضه ذلك من تباين الشروط السياسية بين المناطق.

* طبيب وكاتب سوري ومعتقل سابق

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.