( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب «من الأمة إلى الطائفة، سورية في حكم البعث والعسكر» بأجزائه الثلاثة كاملاً للكاتب الأستاذ: ’’ميشيل كيلو‘‘.. الحلقة الثامنة: (“البعث” والسياسة، و“البعث” والوحدة)
من الأمة إلى الطائفة
سورية في حكم البعث
قراءة نقدية
ميشيل كيلو
باريس ٢٠١٧/٢٠١٩
“البعث” والسياسة:
هذه الاستطرادات المجردة، لم تحصن “البعث” ضد تقلبات السياسة اليومية، أو تمنعه من المشاركة في ألاعيبها، بالطرق عينها، التي اعتمدتها أحزاب فصَلت ما هو مبدئي ومتعال عن ما هو يومي وانتفاعي، ولم تُطبع، مثله، مواقفها بطابع مبدئي ممثلن . شارك “البعث” في حكومات لطالما اتهمها بمعاداة مبادئه، وبالتالي الأمة والوحدة، اعتبرتها أدبياته انفصالية ورجعية، وكان بعضها انقلابياً . ذلك أحدث هوة بين مبادئ الحزب القومية وترجماتها القطرية، تظاهرت في سلوكه اليومي الذي تطابق مع سلوك من تكيفوا، في نظره، مع واقع الدولة القطرية، وكانوا بالنسبة له رجعيين وانفصاليين، وألح بشدة على اختلاف البعث عنهم، برسالته الهادفة إلى “انقلاب يتناول الروح العربية، ويرفض ما يتمسك به الآخرون من أشكال ومظاهر، فالروح هي أصل كل خيار، والدافع الروحي عميق ولا يسيطر على المادة والوسائل فحسب، وانما يخلقها ايضا”(64). إذا كانت هذه مهمة الحزب، لماذا سمح لنفسه أن يتبني سياسات ومواقف تتناقض مع دعوته إلى “الاحياء الروحي”؟. الحقيقة أن “البعث” جمع في بنيته ومواقفه تناقضات مُجافية لخياره الوحدوي والاشتراكي، لرغبته في تعظيم دوره الداخلي، وإن أخذه إلى مواقف فرضت عليه رؤية الوحدة بدلالة حزبية قطرية الطابع، التي رأى بسببها في الوحدة مع مصر السانحة، التي ستتيح له الامساك بالسلطة في دولة وحدوية جديدة، بمواطنيها الذين يبلغ عددهم نيفاً وأربعين مليوناً، وبدورها المأمول في تعريب تنظيمه، للتخلص من محدودية انتشاره في مدن سورية، وخبرته الادارية والسياسية، واعتقاده بأنه سيشارك في قيادة الدولة الجديدة، لدوره في إقامتها، متناسياً ان نسبة من منحوه أصواتهم في آخر انتخابات برلمانية لا تقارن بنسبة من صوتوا للوحدة(65)، وان السوريين اعطوا اصواتهم لرجل مثل في نظرهم قيادة وطنية وقومية من نمط مختلف عن القيادات العربية، ثمنوا نضاله وجرأته في مواجهة أعداء العرب، وكسب اصدقاء دوليين، واعتقدوا أنهم ذاهبون معه إلى نظام عربي جديد، يحكمه الخيار الوحدوي كرافعة لدوره الريادي، الذي ما إن اصطدم “البعث” به، لإدراكه أن الوحدة لن تمنحه السلطة، أو الأولوية في مواقعها، حتى ارتد عنها إلى موقف اتفق في معظم نقاطه، مع ما كانت تقوله النظم الانفصالية/الرجعية، المعادية لعبد الناصر والوحدة العربية، وخاصة منها الحزب الشيوعي.
“البعث” والوحدة:
قال عفلق في حديث “البعث العربي هو الانقلاب”: “إن الآفات التي يشكو منها مجتمعنا ليست بالآفات السهلة، فالفكر مقيد مستعبد فقير هزيل مقلِد، والشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الأمور بصراحة، والروح فقيرة وناضبة، آفاقها محدودة وجوّها هابط منخفض”، وأضاف: “لن يسترد العرب معنى الحياة الأصيلة بمعجزة من المعجزات، أو بتغيير في شكل الحكم أو أشخاص الحكام، ولا بد من عودتهم إلى نبع الحياة لاستلهام القيم الخالدة ونشرها وإذاعتها على الآخرين”(66). كيف ستفعل الروح ذلك، بأية خطة وأي استراتيجية؟ . جواب أمين عام “البعث”: “بانتقال العرب من حالتهم الراهنة إلى نقيضها عبر تغيير روحي لن يصلوا إليه … دون مشقة ستأخذ شكل انقسام داخلي في نفس الأمة”(67) .هذا هو برنامج العمل. إنه يطرح أسئلة واقعية يقدم أجوبة عامة وتهويمية عليها، تربطها بعوامل غامضة تتصل بروح لا يُفصح عن الطريقة التي سيفعّلها بواسطتها، إن كان لحملتها “فكر مستعبد مقيد فقير هزيل ومقلد، وشخصية سطحية ضعيفة الثقة بنفسها لا تقوى على الاستقلال ومجابهة الأمور بصراحة …الخ، أما دواؤها فهو “القسوة على الآخرين، من أجل ارجاعهم إلى نفوسهم وحقيقتهم”(68)، فالقسوة هي أداة نضال من مستويين: أحدهما سياسي ومباشر، والآخر روحي، ويجب أن يكون هدف المستوى الأول، وأن يربط به نشاطه اليومي، الذي يمكن التساهل فيه بسبب طابعه التكتيكي الغالب، واستحالة تعاون أو تحالف “البعث” مع اطراف تفصله عنها خلافات تنتمي إلى المستوى الثاني: المبدئي، الذي لا يمكن التخلي عنه، كليا أو جزئيا، أو الاستهانة بدوره في تقرير سياسات الحزب القومية، قبل كل شيء.
ـ تخلى عفلق خلال الوحدة وبعد الانفصال عن هذا المستوى، وفصل موقفه القومي عنه أو استخدمه بطرق سياسوية، وفصله عن دوره في العمل الوحدوي، وهبط به من مستوى لطالما ادعي أن مبادئه الروحية هي التي تقرر مواقفه، إلى مستوى رأى المبادئ والروح والتزامه بهما في ضوء ما يتيحانه من منافع حزبية، وغطى مواقفه من الآن فصاعدا بالافتقار إلى طرف قومي آخر غير “البعث” في المجال العربي، كما تخلى عن المبادئ الناظمة لموقفه السياسي المباشر بعد استيلاء “البعث” على السلطة في العراق وسوريا.
ـ تبنى بعث عفلق لغة خاطبت عواطف وأهواء الانسان العادي، بربطها مع ما في وعيه المقموع والمفوّت من خزين تديني مؤدلج. بهذا النهج، كان من المحال أن ينجح في معالجة مشكلات الواقع العربي، وتحدياته الداخلية والخارجية، أو أن يطور اليه لعمل يتجاوز الحزبية الضيقة ببعديها السابقين. لذلك لم يبق له غير تقديم حلول كلامية في صيغة أحكام عامة من قماشة أخلاقية، تصدي بها عبثا لما يواجه الأمة العربية في راهنها من تحديات وتعانيه من مآزق. اقترح الأستاذ أهدافاً وحلولاً، ولم يقترح خططاً وبرامج تنفيذية لبلوغ الأولى وتحقيق الثانية، ربما لهذا السبب، تحاشى التطرق لقضايا رئيسة كالتخلف والتأخر، الديمقراطية والاستبداد، رغم ما لها من دور خطير في حياة عرب زمانه.
ـ تجاهل عفلق هذه المسائل وتشابكاتها، إلى أن اكتشف خلال الوحدة ما لإهمالها من نتائج وخيمة تذرع بها لفك ارتباطه بالدولة الجديدة، وما أدى إليه ذلك من انقلاب جذري طال مجمل أفكاره، ورؤيته التي كانت قد ألحقت التغيير الثوري المنشود بعامل وحيد هو العامل الوحدوي. وعندما انخرط “البعث” في الوحدة المصرية/السورية، اكتشف عفلق خطأه، وعندما عزا الانفصال إلى عامل لم يدرسه أو يعرّج عليه من قبل، هو استبداد عبد الناصر، الذي لطالما اعتبره مستحيلاً ونزّه الوحدة عنه، ورأى فيها الرد الوحيد عليه، بما أنها لا يمكن أن تكون غير ديمقراطية وثورية، ومقوِّضة للأسس التي تنهض عليها النظم الاستبدادية، المرتبطة بالتجزئة ودولها المعادية للأمة، والتي لا تتوفر على أي شرط من شروط تقدمها، بينما الاستبداد مستحيل في الوحدة التي تتماهى فيها إرادة الحاكمين والمحكومين .
ـ بارتباط الديمقراطية بالوحدة ارتباط نتيجة بسبب، لم ير عفلق مسوغاً لاعتبارها رافعة نضالية منفصلة عن الأقنوم الثلاثي. وحين ذكرها كانت مجرد مطلب بين مطالب، وشرط بين شروط عديدة، ولذلك لم ير الحاجة إلى تحديد نمطها المحتمل في مجتمعات العرب المجزأة المتأخرة، ولم يتلمس سبل تحقيقها ومعوقات الانتقال إليها ونمط الوعي الذي يتطلبه، ودور الخارج الاقليمي والدولي فيها…الخ. ولم ير فيها رافعة لتحديث السياسة بدلالة المجتمع وإرادته العامة، والمواطنة المتساوية، وحقوق الانسان، ولم يُعـر اهتماما لهذه المسائل، التي لعب غيابها عن برامج “البعث” أخطر الأدوار في عجزه عن كبح ما تخلق في نظمه من استبداد شمولي، وقيامه بثورة ثقافية لو أنجزها لما فشل في الدخول إلى ممارسات وقيم تجميع بين الحرية والعدالة والوحدة، ولما قصُر ما أسماه استبداد عبد الناصر على علاقته معه كحزب وتجاهل دوره حيال الشعب، ولبحث عن أسباب الظاهرة البالغة الخطورة، التي جعلت الحركة القومية العربية تقيم نظماً استبدادية شديدة المركزية، وتمارس أنماطاً من السلطة الشخصية ألغت حقوق الانسان والمواطنة، وللفت نظره أن هذا نقيض ما حدث في الحركة القومية التي عرفتها بلدان أوروبا المختلفة، التي كرست حقوق الإنسان والمواطن، وبنت نظمها عليها، وحمتها بدساتيرها وقوانينها، فلا غرابة في أن غيابها عن الفكر والممارسة الوحدويين عامة، والعفلقيين خاصة، أسهم في اخفاقهما كتجربتين حزبيتين وسياسيتين تعلقت بهما آمال قطاعات وازنة من العرب. هذا النقص في المفهوم القومي الجامع، كان السبب في تقويض ما في الفكرة الوحدوية من طاقة ثورية، وحَذف أقنوم الحرية، الذي أدرج تحت بند التحرر بذريعة التماهي بينهما، والاعتقاد بحتمية أن ينتج تحرر الشعب حرية الفرد كإنسان ومواطن يتعرف بها، وأن تنتفي معه الحاجة إلى فصلها عنه، أو اعتبارها مسألة قائمة بذاتها، لا تنبني سياسة تستحق اسمها دون إيجاد حلول ملائمة لها، بصفتها قوام الديمقراطية وأساس مدخلها الليبرالي، سيء السمعة عربياً وبعثياً باعتباره فكراً استعمارياً من الضروري تحاشيه ومقاومته، ما دام من تحصيل الحاصل أن الوحدة لن تكون غير ديمقراطية، وستأتي بالحرية للعربي، لأنها لا تستطيع إلا أن تجعله حـراً .
ـ ماذا يبقى من السياسة إن غيبت الديمقراطية والحرية وحقوق الانسان والمواطنة والمجتمع المدني والرهانات الطبقية المتنوعة وعلاقة السلطة بالدولة والعكس… الخ، وتجاهلت دورها في إنضاج شروط الوحدة العربية ودورها في تثبيتها، وعزفت عن وضع محدداتها، التي تضمن تحقيقها فاعلي الحقل السياسي بها، قبل وبعد الوحدة؟. والآن: هل كان سبب تغييب هذه المفردات نقص الوعي السائد لدى “البعث”، وبناها النزاعة إلى الاستبداد، التي جعلت قياداتها تتفادى التطرق إليها وبناء تنظيماتها وسياساتها انطلاقا منها؟. أم أنها تجاهلتها لكونها مسائل شائكة من شأنها إثارة خلافات فيها تضعفها، واعتراضات على الاساليب الفردية والشخصية، التي عرفت عن الأحزاب السورية، ومنها بطبيعة الحال “البعِث” حزب الأستاذ، ببنيته ومواقفه وما حملته من بصماته، التي عززت تكوينه النخبوي الفكر والممارسات، وكان من الخطورة بمكان أن تنظم الحرية حياته الداخلية وعلاقاته، فالحزبي يبقى فيه طالما امتثل لقياده، ويغادره إن أبدى تحفظات أو اعتراضات ما على هذا الموقف أو ذاك من مواقفها، وليس هناك من حل وسط بين الحالتين، فلا حرية رأي أو ديمقراطية تنظيم، ولا قيد أو ضابط لحق قائدها في إبعاد من يخالفونه الرأي عن صفوف حزب”هـ”، الذي يدين له بتشكيلته وسياساته ووجهات نظره التلقينية، المقتبسة من أسلوب أساتذة المدارس الابتدائية في التعليم، وتعتمد على مقولات تصدر عن مرسل يرفض أن يعترض عليها رفيق رقمي لا أهمية لرأيه أو دوره، تبلغه ما لا يحق له تكوين رأي خاص حوله، ما دام تكوين الرأي من صلاحيات قائد الحزب، الاستاذ عفلق، الذي ينزّلها من عليائه إلى اتباعه، لتلقينهم ما عليهم نشره من آراء، واتخاذه من مواقف، وأية آراء يمكن أن تفتن الحزبي أكثر من إعلامه أنه يجسد الشخصية العربية، ويحمل روحا قومية قدسية المنشأ، ورسالة خالدة لن يخذله القدر إن قرر إيصالها إلى العالم، بعد أن حجره “البعث” من الهامشية، وربطه بالمتعالي في تاريخه، والثوري في حاضره، وسيتمتع بمكانة دولية كصانع لوحدة أمته العربية ومؤسس لدولتها!.
ـ ربما فسر هذا إصرار عفلق على منح الاولوية في مواقفه السياسية والفكرية للمسائل ذات الشحنة الشعورية القوية، الكامنة في شعارات عامة تصونها وتعززها، وتقيم مجتمعا خاصا ومميزا من حملتها، ووحدويا وتقدميا وثوريا وسط فقد انتماءه إلى عالم التجزئة والرجعية والتقليد القائم، وانتمى إلى مستقبل من صنعه، يطلق السعي لإقامته خيالهم وميلهم إلى الحلم بما سيأتي به من خلاص يحرر شعبهم من واقع بغيض يضطهده، ومن الاستعمار والصهيونية، يعيد قيامه فلسطين إلى شعبها العربي، والأمة إلى أمجادها، وسطوتها خلال نيف والف عام.
ـ ثمة سبب آخر لتمسك عفلق بعموميات شعاراتية، يرجع إلى أنه أستعاض بها عن التمحيص والتحليل، في ما يتصل بوضع “البعث” كحزب يحمل إسماً قومياً، لكنه يفتقر إلى وجود فعلي في معظم البلدان العربية، وإلى معرفة بظروفها الملموسة ومشكلاتها اليومية، وإلى الخبرة الضرورية للتعامل معها، بسبب ضعفه التنظيمي في سورية، بلد منشئه، حيث بقي محدود الانتشار، رغم محاولات “الاستاذ” لتغطية واقعه بالخلط بينه كحزب وبين بعث الأمة كسيرورة تاريخية تنتظر الانجاز. أعتقد أنه كان لغياب “البعث” عن البلدان العربية، ولضعفه التنظيمي وارتباطه بشخص يفكر عنه وله، ويضع خططه، ويرسم مواقفه، الدور الأكبر في الابتعاد عن تلمس الواقع العياني في البلدان العرب وسورية، والميل إلى التعميمات المطلقة، التي ربطت بغائب محمل بصفات تجميلية تبعث على الحماسة، هو الوحدة العربية، علّق عفلق خلاص العرب على مشجبها، لاعتقاده ربما أن طرح الأمور على صعيد تحليلي يتخطى قدراته كفرد، وقد يثير اعتراضات في تنظيمات الحزب خارج سورية لن يكون بوسعه التدخل لحسمها، بينما يجنبه تناولها بصور عمومية، وصفية ومجردة وافتراضية، النقاش حولها، ويثلم ميل الحزبي إلى الشك في حكمة قادته، وثقته بالمقابل في مبادئ غالبا ما يغدو إيمانه بها معيار حزبيته، وعلاقته بقيادته.
ـ أخيراً، بغياب الواقع الملموس عن رؤية عفلق، غابت أيضا المرحلية كنهج يعتمد التدرج في تحقيق أهداف “البعث”، وغاب التوسطات، التي تنقل الفكرة المجردة إلى الواقع الملموس وقضاياه اليومية. بذلك، صارت الثورة قفزة واحدة تتم بصور مباشرة من الماضي إلى المستقبل، تكنس معوقات الحاضر من طريقها، التي تكبح تحقيق الوحدة.
ـ ختاماً، من الضروري القول: إن آراء ومواقف الاستاذين عفلق والبيطار كانت نتاج وعيهما كمؤسسي حزب أراداه قومياً وعابراً للأقطار، ونتاج المرحلة التاريخية التي تأسس فيها، وأحكامهما حول الدولة القطرية ككيان يفتقر بحكم بنيته ووظائفه إلى أبعاد وطنية، والدولة القومية ككيان يخلو من عيوب القطرية، وأولوية الهدف على سبل تحقيقه في واقع حافل بالمعضلات، ونتاج موقفهما من المعسكرين الدوليين، وتذويبهما العوامل الموضوعية في الذاتية، والواقع في الرغبات، وقفزهما عن اسئلة حركية واطارية غيباها وراء هوية ثابتة، فقدها العرب منذ زمن طويل، إن كانوا قد امتلكوها أصلا، بالصورة التي رسمها عفلق لها، تتناسى أن تجزأة الأمة الكيانية والسياسية انتجتها عوامل معظمها ذاتية، سبقت حقبة الاستعمار وسايكس/ بيكو، وأضعفت قبل أن تقوض انتماء العرب إلى مركز إمبراطوري عربي/ اسلامي، أخرج عفلق تشظيه ثم تلاشيه من منظوراته، لكنه رأى، مع ذلك، الظاهرة القومية الحديثة بدلالته السابقة لتفككه، وتمسك بمفرداتها السابقة لقيامة الامبراطورية، التي فقدت القسم الأكبر من دورها في الزمنين الأموي والعباسي، وتمسك برؤيته هذه حتى بعد فشل الوحدة السورية/المصرية، وما عناه من كشف طال نواقصها، ونقض مجمل “بنائه النظري” .
ـ استبدل عفلق أمة أيامه الغائبة والغارقة في البؤس بأمة ماضوية، زاهية قدر ما هي متخيلة . وأهمل بنية وتخوم ومشكلات الأولى على صعيدي النظر والممارسة، حتى بعد أن كشف انهيار الوحدة برانية ما غمرها به من صفات، وحيدانه عن مشكلاتها الكثيرة، التي يفترض أن حلها شرط قيام الوحدة، لكنه تجاهلها واكتفى بالتغني بأمته الوهمية، وبالإلحاح على مقولات خاله إن من شأن اعتناقها أن يبني موازين قوى تمكن العرب من مواجهة الإمبريالية وتوضعاتها البنيوية داخل المجتمعات العربية.
ـ لم يراجع عفلق رؤيته للأمة المتخيلة، بعد أن رأى خلال الوحدة رأي العين كم هي منعدمة الوجود في الواقع، وكم أدى تغييبها عن الوعي إلى ربط “البعث” بهدف وهمي، افتراضي، ومستحيل التحقيق. ولم يراجع أيضاً موقفه من التأخر والتخلف، الذي دأب على عزوه للفئة الحاكمة، كأن المجتمع بريء منه، أو كأنه لم يترك بصماته على “البعث” وفكره، وعلى مجمل الحياة السياسية والمسعى الوحدوي، والوحدة بعد قيامها، والفكر العقدي والسياسي، لديه ولدى غيره من قادة الاحزاب والنخب السياسية والحاكمة، أو كأنه كان ظاهرة سطحية تفتقر إلى أدلجة وحوامل معرفية وعقدية راسخة في مجتمعاتنا، وعلاقاتنا وبنى دولنا، أو كأن تحويله إلى مادة محض سياسية يكفي لتجاوزه، وفي النهاية، كأن التعرض للمشكلات بالكلام وحده يعادل حلها بالأفعال!.
ـ برغبته في تجاهل الجذور الحقيقية للتجزئة والتخلف والاستبداد، كان من الطبيعي ان يقيم “البعث” في سورية والعراق نظامين استبداديين تماثلا إلى درجة التطابق، واتخذا موقفا موحداً من مجتمعيهما، وشحنا المجال العام في “قطريهما” بالعنف كأداة أدارا شؤونهما بواسطتها، في حين أسسا نظام حزب واحد وقائد أوحد وإيديولوجيا إقصائية. ذلك كان رد الواقع القاسي على قطيعة عفلق مع مشكلاته، التي واجهته أيضا بعد رحيله إلى العراق، وفجيعته بتلامذته من “الجيل الجديد”، الذي لطالما أبدى ثقته بأنه سينجز ما كان قد قرره له من مهام إنقاذية، واكتشف منذ أواسط الستينيات كم كان واهما، أن خلع عليه صفات أخلاقية وسياسية افتقر إلى الحد الادنى منها، خيّره بين الموت على يده أو مغادرة وطنه، ثم أصدر حكماً بإعدامه بتهمة العداء لحزبه، الذي استولى عليه “جيل الأمل” ، كما أسماه عفلق، بالقوة، وبنى بديلاً له صادر اسمه وشعاراته.
ـ في بغداد، أضاف عفلق إلى تقديس أمته الافتراضية تأليه صدام حسين (١٩٣٧ ـ ٢٠٠٦) كمجسد لها، ونزه ما يقوم به من خطوات لم يستشره غالباً في أي منها، لكن “القائد المؤسس” أي عفلق، أغدق عليه من الصفات ما لا يستحقه بشر. وكان قد كتب في تشرين الأول من عام ١٩٣٤ مقالة جعل عنوانها “عهد البطولة” قال فيها: “إن هذا العهد يبدأ صفحة جديدة، صفحة الذين يجابهون المعضلات العامة ببرودة العقل ولهيب الايمان، ويجاهرون بأفكارهم ولو وقف ضدهم أهل الأرض جميعا… حياتهم خط مستقيم واضح لا فرق بين باطنها وظاهرها، ولا تناقض بين يومها وأمسها، لا يقبلون في عقيدتهم هوادة، إذا رأوا الحق في جهة عادوا من أجله كل الجهات الاخرى، وبدلاً من أن يسعوا إلى إرضاء كل الناس أغضبوا كل من يعتقدون بخطئه وفساده، فهم قساة على أنفسهم، قساة على غيرهم، إذا اكتشفوا في فكرهم خطأ رجعوا عنه غير هيابين ولا خجلين، لان غايتهم الحقيقة لا أنفسهم”(69) . في عام ١٩٨٩، تراجع عفلق عن “أخطائه”، وأصدر كتاباً في بغداد وسمه بعنوان مقالته القديمة : “عهد البطولة”، تيمناً بدور صدام حسين، الذي اعتقد أنه افتتح “عهد البطولة” في تاريخ العرب الحديث!.
ـ بعد الانفصال وهزيمة حزيران، واصل الواقع تراجعه إلى أن دخل في طور انهياري، وتراجعت “منجزات” الاستقلال، الذي نالته الدول العربية بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يترتب أي أثر إيجابي على حكم “البعث” لدولتي المشرق المتجاورتين: سورية والعراق، وشهدت علاقاتهما أدنى نقطة بلغتها في تاريخهما، بينما فشلا كلاهما في التصدي للمأزق العام، الذي أخذ يتخلق فيهما بأشكال جديدة وخطيرة، لذلك لم تختلف بناهما عن البنى القائمة في الاقطار غير البعثية، وتعزز فيهما التأخر الاجتماعي والتخلف الثقافي، وأنتقل تسلط حكمهما السياسي إلى مرحلة طغيان تفاقم من يوم لآخر، وطرح التماثل بين البعثين السوري المعادي لعفلق، والعراقي الموالي له، السؤال حول حقيقة وجدوى فكره، الذي اتفق عائده العملي كل الاتفاق مع أنماط الحكم السائدة في الدول التي أعلن الحرب عليها لأنها “قطرية، انفصالية ورجعية”، وبنى جزءاً من أمجاده على الدعوة إلى إسقاطها؟. وأي أثر ترتب على آرائه، أذا كانت سياسات حزبه قد عاكست وعوده، فلا هو بنى وحدة، أو منح حرية، أو أقام اشتراكية، ونقل، بالمقابل، دولتيه من طور بدأت تتخلق وتترسخ فيه بدايات حقبة ليبرالية إلى آخر استبدادي/اقصائي، ألغى خلاله المبدأ الدستوري من أساسه، والقليل الذي كان معمولا به من حق وقانون، وقوض الحريات العامة والخاصة، وأخرج ما ومن لا ينتمي إلى السلطة من المجال العام، وابعد الشعب عن شؤونه، وفرض تمييزا طبقيا ومجتمعيا قوض اللحمة الانسانية بين المواطنين، وأضعف روابطهم الوطنية، ودمج السلطات الثلاث في يد قائد أسموه في سورية “عظيم الأمة” و”القائد إلى الابد” وفي العراق “فارس الأمة العربية”، و”هبة العراق إلى العرب” و “صانع المجد العربي” .
باختصار: كان فكر عفلق خطوة على درب التراجع عن السانحة الليبرالية، وقفزة نحو زمن انفك العنف فيه من عقاله، فانخرط حزب الوحدة العربية، مجسد أمة الرسالة الخالدة والشخصية العربية وروحها الأبدية، بحماسة وحزم فيه، ولم يتهاون أو يتساهل في قمع شعبه، بمناسبة وبلا مناسبة. لا عجب في أن الوطن العربي لم يكن يوماً مقسماً ومتعادياً كما صار بعد حكم “البعث” لسورية والعراق. ولم يكن أكثر تخلفاً ومنتجاً للتخلف السياسي منه في ظله، ولم يعرف المواطن العربي في الزمن “الانفصالي/الرجعي” قهراً يقارب ولو من بعيد القهر الذي عرفه على يديه، ولم يكن تابعاً للخارج، سواء في إرادته أم في واقعه، كما اتبعه “البعث” به خلال العقود الاربعة الاخيرة، بعد “ثورته” واستيلائه على السلطة في دولتين حكمتا بوعود وادعاءات متناقضة ونتائج متماثلة، تصارعتا على عظيم القضايا وتوافهها، حتى وصل صراعهما إلى مشارف الحرب عام ١٩٧٥.
ـ هكذا… بينما كان عفلق يطلق عقيرته بالغناء لأمته المتخيلة، كانت أمة العرب الحقيقية تتعرض على أيادي حزبه لانقسام نوعي تمترس “الرفاق” في سورية والعراق وراء متاريسه، فلم يجرؤ السوريون أو العراقيون على مطالبة السلطتين بتطبيع علاقاتهما الدولية، بعيداً عن الأطر الحزبية، وبتخطي صراعاتهما وحدوياً، بما أن كل حزب منهما اعتبر نفسه مجسداً لوحدة العرب في قطره، أي “الإقليم القاعدة” بالمصطلح الذي بلوره فيما بعد المفكر القومي نديم البيطار (١٩٢٤ـ ١٩١٤) وقصد به مصر، ثم، وبعد وفاة عبد الناصر، ادعى البعث الأسدي في دمشق، والصدامي في بغداد أن نظامه هو هذا الإقليم، الذي تحققت وحدة العرب فيه، وستنطلق منه إلى العالم العربي، عندما تتاح الفرص.
– في غياب الأمة عن دورها، وحضورها المؤدلج عند عفلق، سقطت ممارسات “البعث” في التباس انتجه التناقض بين خلو برامجه من خطط تعالج بؤس الأمة الواقعية، وادعائه أن الأمة المتخيلة تتوحد بمجرد تماهيها مع حزبه، وأنه يكفي لترقيتها وردها إلى حقيقتها الملموسة انخراطها فيه بما هو الأمة الاستباقية، بالنسبة لموقف عفلق، الذي كان يرى فيها “الحزب”، وعندما سيطر على دولتين صار يرى فيهما أولا الأمة، قبل أن يقصر وجودها على العراق، رغم انغماس “البعث” في حياة العرب السياسية من موقع قطري، ضد أمّوي.
ـ قاد هذا الفشل إلى تقويض عفلقية ما قبل عام ١٩٥٨، ونقلها من تعيين فكرها بدلالة الوحدة وأولويتها، إلى رؤية المسألة القومية بما فيها المسألة الوحدوية، بدلالة “البعث” وأولويته. تناسى عفلق أقواله عن الوحدة كهدف يسمو على أدواته، وكل ما عداه، كائنا ما كان اسمه، وكانت هويته . لكنه ما أن سقطت الوحدة، بعد انفكاك عفلق عن عنها، حتى وضع حزبه، الذي كان قد وافق على حله من أجلها، فوق الأمة القائمة وتلك المتخيلة، وجعل “البعث” الأمة الواقعية، التي لا بديل لها، مع أن الدولتين انتقلتا من التناحر إلى التمزق، بجهود نظامين بعثيين استخدما لغة قومية وحدوية تقاذفاها يوميا على جانبي حدودهما، المتحولة إلى متاريس.
– من الانفصال فصاعدا، رفض عفلق رؤية حزبه بدلالة الوحدة ومتطلباتها، وشرع يراها هي بدلالته، في ظل الأولوية المطلقة، التي منحها له، والتصق أول الأمر بنظام قطري في دمشق، تولاه بعثيون رفضوا قيادته، ما عتم أن استبدله بنظام قطري آخر في بغداد، رقّاه إلى قطر وحدوي مكتفِ أموياً ووحدويا بذاته، رغم ان استبداد عبد الناصر، الذي تذرع به لينفك عن الوحدة، لم يكن يقارن من قريب أو بعيد باستبداد من طوبه “هبة العراق إلى العرب”، الرئيس الراحل صدام حسين، الذي كوّر حزبه ونظامه حول شخصه.
ـ بعد تحقيق الوحدة في قطر واحد، لم يُبدِ “البعث” أي ميل إلى الحوار حول القضايا العربية العامة . ولم يخض أي حوار فكري ملزم مع أي طرف داخلي أو عربي، ومع أن بعض قادته لم يكونوا على اتفاق مع شروح عفلق وتفاسيره، التي اكتفت من محاورة المدارس الفكرية والفلسفية الرائجة في الساحة السياسية بإطلاق أحكام تعسفية عليها، انصب معظمها على الحزب الشيوعي، بوصفه عميلاً لدولة أجنبية هي الاتحاد السوفياتي، ويتبنى الماركسية، التي سبق الاستشهاد برأي عفلق حولها وحول ما أسماه الأفكار الأجنبية عامة. إلى ذلك، أذكّر بالتماهي بين “البعث” كحزب والبعث كأمة موحدة، وباستحالة انفكاك أي منهما عن الآخر، فأي حوار يمكن أن يخوضه حزب حول تجسيم الأمة في ذاته، ويوطن ذاته في الأمة، يتمتع بفرادة تضعه فوق أي حزب، بل وفوق الحزبية كمبدأ، رسّخها عفلق- يا للغرابةـ في وعي بعث الدولتين، وسياسات قائديهما، اللذان كانا معاديين للأحزاب الأخرى، لاعتقادهما أنها ستتطلع حتما للمشاركة في الحقل السياسي، احتكارهما الذي لا يحق لأحد الاقتراب منه، ما لم يقبل التحول إلى تابع لهما.
ـ لم يحاور “البعِث” عبد الناصر أيضاً، لاعتقاده أنه كان وحدويا يتبنى أفكاره وخطه، لذلك لم يكن هناك حاجة إلى محاورته، وحين فقد وحدويته بعد إبعاد الحزب عن السلطة، انتفت الحاجة إلى محاورته، خاصة بعد أن حمله عفلق المسؤولية عن نواقصها الهيكلية، واختيار نمطها؟!.
ـ إذا كان مسار الحزب سينقلب من أولوية الوحدة عليه، إلى أولويته عليها، أي حوار يمكن أن يكون متاحاً أو مطلوباً مع من يرفضون انفراده بقيادة أية وحدة جديدة، أو بقيادة الوحدة في قطر واحد، وسط تهميش أطراف الحقل السياسي الأخرى، واستئثاره المطلق بالسلطة. إن موضوع الحوار الوحيد في ظروف كالتي أقامها الحزبان في دولتي المشرق الرئيستين كان من المحتم أن يتناول مسألة المشاركة، وبالتالي تقييد صلاحياته، وانفراده بالمجال العام. وكان من الطبيعي أن يرفض حواراً كهذا، ويفضل إلغاء من يمكن أن يحاورهم حول هذه المطالب.
ـ آمن عفلق أن البعث هو الذي ادخل مصر الناصرية إلى المجال الوحدوي، وأنه أنجز بذلك انقلاباً حقيقياً على الواقع العربي القائم، وأرسى علاقات النظامين السوري والمصري على إرادة ورغبات الأمة الحقيقية المتماهية مع مثاليتها، التي لولاها لما كانت الوحدة ممكنة، ولما تخطت علاقاتهما كنظامين محض قطريين . حدث هذا، كما اعتقد عفلق، بجهود الحزب، الذي عمل للوحدة قبل انضمام عبد الناصر إلى خطه بزمن غير قصير، لذلك استقت الناصرية وتغذت عند نشوئها من الفكر القومي الثوري، ولا سيما من فكر “البعث”، ومن شعار الوحدة والحرية والاشتراكية(70)، ونجح منذ عام ١٩٥٦ في ربط نضالات مصر اليومية بالوحدة كهدف لا يحتمل التأجيل، وبإيجاد حلول عاجلة للعقبات التي حالت دونها، أو كان يمكن أن تترتب عليها، ولانخراط قطاعات واسعة من العرب في معارك التحرر من الاستعمار. بهذه الطريقة في الإفادة من الفكرة القومية، صدّق “البعث” أنه ألحق مصر بالمد الوحدوي، وحملها إلى وحدة عام ١٩٥٨، التي بنيت على شراكة بين طرفين مثّل السوري منهما ميشيل عفلق، والمصري عبد الناصر، الذي تنكر لاحقا لها. هذه الأطروحة العفلقية، التي لم تنسجم مع الوقائع، وبالغت في دور “البعث”، الذي لا شك في أنه كان سباقاً بين الأحزاب السورية والمشرقية إلى تبني الوحدة كرافعة للنضال العربي، كما بالغت في دوره، وجعلت عفلق ينسى ما أدى إلى الوحدة كنتاج لتكامل عاملين أساسيين، هما، أولا: نضال الشعب السوري الوطني، الذي اكتسب بسرعة بعدا قومي المآل والمضمون، حوّل الدولة السورية من كيان قطري إلى وطني، تعاظم توجهه إلى الوحدة بما اعتمدته حكومة التجمع الوطني البرلمانية من سياسات داخلية وفي المجال العربي. وثانيا: خط الناصرية القومي والوطني، والذي نال قبولاً شعبياً كاسحاً في البلدان العربية عامة وسورية خاصة، وجعل من عبد الناصر زعيماً سوريا لا ينازعه على مكانته أحد من سياسييها، لو رفضه “البعث”، أو رفض العلاقة التفاعلية والتكاملية المتنامية بينه وبين حامله الشعبي السوري، الذي اعتبره قائداً شرعياً له، لحكم على نفسه بالعزلة ولسار على درب الهلاك، كما حدث بسبب دور قيادييّه البيطار والحوراني في تأييد الانقلاب العسكري الذي فصل الوحدة، فقد كتب الأول منهما وثيقة الانفصال بخط يده، ووقع عليها كما وقع الحوراني”، حسب ادعاء الكاتب والمفكر المصري القومي المستقل محمد عودة في بحث من حلقتين عن عبد الناصر والبعث(71) .
ـ في هذه المناسبة، يجب التذكير بأن الأحزاب السورية لم تقرر حل نفسها كضرب من كرم الأخلاق السياسي، بل لأسباب عديدة منها خلافاتها وعزلتها عن الشعب وهشاشة تنظيماتها، واقتناعها أن رفض الوحدة يعني حكم إعدام وطني عليها، في ظل الاندفاع الشعبي الجارف إليها، الذي كان أكبر بما لا يقارن إطلاقاً مع شعبية أي حزب منها، بما في ذلك “البعث”، الذي كان في أزمة جدية تحدث عبد الناصر عنها بصراحة مع الوفد السوري خلال مفاوضات الوحدة الثلاثية، وأقر الاستاذ منيف الرزاز بها في الجزء الثاني من كتاب “التجربة المرة” بقوله : “… لكنني أؤمن أيضاً بأن مستوى تركيب الحزب وتنظيمه وأجهزته قيادة وقواعد لم تكن أبداً في مستوى فكرته وحتميته التاريخية، وأنه كان هناك دائماً تناقض بين عظم المهمة التاريخية التي حملها على عاتقه وبين الأداة التي حمل بها هذه المهمة”(72). يفسر هذا لماذا وافقت جميعها، عدا الحزب الشيوعي، على حل نفسها، ولماذا وافق عفلق على حل “البعث”، تلبية لاتفاق عبد الناصر مع صلاح الدين البيطار حول “وحدة القيادة” علماً بأنه لم يكن أكبر الأحزاب البرلمانية، ولم يتحول إلى حزب يتمتع برصيد شعبي، إلا بعد اندماجه عام ١٩٥٢ مع الحزب العربي الاشتراكي، حزب الفلاحين، الذي تزعمه الأستاذ اكرم الحوراني، ومع ذلك “ظل حزباً هزيلاً في المدن، وخاصة في دمشق”(73). أما الحزب الشيوعي، الذي رفض حل نفسه، فلم تقم له قائمة بعد ذلك، وتعرض لانقسامات وهزات لم يبرأ منها إطلاقاً .
__________
هوامش:
(64). ميشيل عفلق: البعث العربي هو الانقلاب، في سبيل البعث، الجزء الاول ، الصفحة ٧٥.
(65). بلال سلامة: انتخابات سوريا البرلمانية الحرة عام ١٩٥٤، جريدة سوريتنا، ٥/٨/٢٠١٢.
(66). المرجع السابق ، الجزء الأول ، البعث العربي هو الانقلاب، الصفحة ٧٣.
(67). المرجع ذاته ، الجزء الأول ، الصفحة ٧٤.
(68). المرجع السابق، الصفحة ٧٥.
(69). ميشيل عفلق: عهد البطولة، من كتاب في سبيل البعث، الجزء الأول ، الصفحة ١٥.
(70). ميشيل عفلق: نكسة الانفصال، الجزء الثاني ، الصفحة ٢٢٦، وقد اعتبر عفلق الانفصال في البيان، الذي اصدره بمناسبة الذكرى السنوية الأولى لانفصام عرى الوحدة، ” نكسة موقتة”. و صلاح الدين البيطار: في كتاب: القومية العربية في الفكر والممارسة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الصفحة ٤٤٠.
(71). محمد عودة: عبد الناصر والبعث. الجزء الأول ، الجريدة الناصرية ، بلا تاريخ.
(72). منيف الرزاز: التجربة المرة، الجزء الثاني، مؤسسة منيف الرزاز للدراسات القومية، عمان ١٩٨٦، الصفحة ٩.
(73). سامي الجندي، مصدر سابق ، الصفحة ٣٨.
………………..
يتبع.. الحلقة التاسعة: (الانقلاب على عبد الناصر والوحدة، و بعث ما بعد الوحدة؛ الانقلاب على الذات)
«ميشيل كيلو»: كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري
التعليقات مغلقة.