د. جمال الأتاسي
في ليلة النصف من شهر رمضان لعام 1414 للهجرة وعند صلاة الفجر, نفَّذ الصهاينة تلك المجزرة الإرهابية الرهيبة في الحرم الإبراهيمي الشريف لمدينة الخليل, حين أقدم الضابط احتياط غولدشتاين المنتسب لحركة “كاخ” ومعه عدد من المستوطنين الصهاينة, وفي تواطؤ مكشوف مع حراس المسجد من أفراد الجيش الإسرائيلي, على إمطار المصلِّين وهم سجود بوابل من الرصاص فقتل العشرات على الفور وجرح المئات . وما بدأه غولشتاين وصحبه تابعه الجنود الإسرائيليون حين صبُّوا نيرانهم على كل من حاولوا النجاة من المسجد . وحين استيقظت مدينة الخليل على الحدث وقامت الضفّة وقامت مخيَّمات غزّة نزل الغضب الفلسطيني إلى الشارع وانتشر أطفال الحجارة, تابع جنود جيش الدفاع والمستوطنون المسلَّحون مهماتهم, فأضافوا أعداداً جديدة من القتلى والجرحى فضلاً عن حملات الملاحقة والتمشيط والاعتقال وتدمير البيوت والتعذيب …
ما أتيت على تسجيل هذه الحادثة الرهيبة في المقدمة, وهي المعروفة من الجميع وما زالت على كلِّ لسان والتفاعلات معها متلاحقة, إلا لتبقى شاهداً ودليلاً, فإسرائيل ما قامت أو أقيمت ككيان صهيوني وكامتداد للغرب والاستعمار الغربي, إلا لتقتلع الوجود العربي من فلسطين ولتقطع الخط أمام نهوض كيان عربي قائم بذاته في هذه المنطقة من العالم . ولقد جاءت كاشفاً عنيفاً لكل ما يحاول المروِّجون لمشروع “السلام الأمريكي” أن يغطوا عليه, وفي وقت لا تنفك الإدارة الأمريكية تضغط بمختلف الوسائل لإنهاء المقاطعة العربية لإسرائيل بكل أشكالها ولفتح حدود “الدول” العربية للتطبيع مع الكيان الصهيوني .
ومجزرة الحرم الإبراهيمي, كما سُمِّيت, لم تكن الأولى وإن جاءت لتذكِّر بسابقاتها الكثيرة في تاريخ قيام وامتداد الدولة الصهيونية, وهي لن تكون الأخيرة في مسلسل إرهاب العرب وإبادتهم واقتلاعهم من أرضهم وديارهم, وتهديدهم باستمرار وكأن لا مناص لهم إلا التسليم بإسرائيل وكل ما تريد إسرائيل . ولكن المستهجن في الأمر ليس هذا الذي يجري من غير أن يلقى دفعاً له أو ردّاً, وليس هذا الذي تمارسه “إسرائيل” معزَّزة بحليفها الكبير فحسب, وإنَّما المستهجن أكثر واللامعقول هو هذا السقوط العربي الذي لا يتوقَّف وما آلت إليه حال الأمة العربية في ظل أنظمتها العربية المدجَّنة, وما بلغته مجتمعاتها من استلاب بحيث لا تقوى على لملمة أشمل لها في مواجهة التحديات؛ هذا في الوقت الذي أصبح من المعّول على الشعوب والمجتمعات, في مقاومة حركة التطويع والتطبيع الصهيونية ومواجهة حملة “السلام الأمريكي” وما تسعى لفرضه على المنطقة من نظام وعلاقات وأوضاع .
ولكن حملة “السلام الأمريكي” ما زالت تتقدَّم, لا تثنيها عن تكريس نظام أوسطي تهيمن عليه وتسود فيه اسرائيل بصهيونيتها, ولا توقف تسوياتها المنفردة واحدة إثر واحدة, لا معارضة عربية أو عالمية ولا أي عمل من أعمال العدوان والقتل الجماعي التي تمارسها إسرائيل . إنها حملة من تلك التي كانت تتصدَّى لها شعوبنا وحركات التحرر الوطني للشعوب من حيث أنها حملات إمبريالية وحملات استعمار جديد, أمَّا اليوم وبعد أن اخترقت مواقع المقاومة العربية كلها واخترقت مصر باتفاقات كمب دافيد وسطَّرت الولايات المتحدة صفحات انتصاراتها العالمية في حرب “عاصفة الصحراء” فأخذت الخليج العربي ونفط الخليج تحت الحماية وقطعت السبل أمام أي تواصل أو تكامل أو تضامن عربي؛ فها هي تتقدم بنا على طريق سلامها “العادل والشامل والقائم على مبادلة الأرض بالسلام”, في موكب مهيب يدفع به وتندفع معه أنظمة حاكمة عربية وقيادات تابعة وفئات اجتماعية ورجال مال وأعمال تابعون, وأكاديميون وإعلاميون و”مثقفون” مبرِزون ولكنهم مرتبطون, فلا تثنيها لا مجزرة الحرم الإبراهيمي ولا إبادة الفلسطينيين ولا ضرب الجنوب اللبناني وكل جنوب. والمطلوب من العرب, كل العرب, ليصلوا إلى ذلك السلام, أن ينزعوا أسلحتهم ولا تنزع إسرائيل, وأن يسّقطوا مقاطعتهم الاقتصادية لإسرائيل بأشكالها الثلاثة كلها وأن ينفتحوا كل الانفتاح للتطبيع والتبادل معها, وقبل ذلك الاعتراف بها وتقبّلها في صهيونيتها ومطامعها وكل ما تريد . فإسرائيل وجدت وأوجدت لتسود في المنطقة, ولقد عملت الولايات المتحدة ومارست ضغوطاً كثيرة لترفع عن إسرائيل والصهيونية وصمة العنصرية والتمييز العنصري, حين فرضت على الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلغاء ذلك القرار الذي كانت قد اتخذته قبل سنوات تصم فيه الصهيونية بالعنصرية .
إن تبرئة الصهيونية من العنصرية, تأخذ دورها في العالم وفي اعتراف دول العالم, كانت مدخلاً من مداخل “السلام الأمريكي” في المنطقة, لتتركَّز الضغوط الأمريكية بعدها على إسقاط المقاطعة العربية لإسرائيل, والاعتراف والانفتاح للتطبيع, وكل ذلك على حساب الوجود العربي والروابط العربية .
ونقف هنا عند مسألة المقاطعة العربية لإسرائيل وما كان لها وما بقي من دور وتأثير في إدارة الصراع العربي الإسرائيلي والالتزام العربي بالقضية الفلسطينية وفي توجيه العلاقات العربية مع العالم, فتلك المقاطعة وإن لم يبق منها إلا قرارات ومشاريع قوانين للتصميم العربي تقبع في أرشيف الجامعة العربية, فهي ما زال لها مكتبها الدائم في دمشق والبيانات التي يصدرها, وإن كانت المقاطعة قد اختُرِقت في أكثر المواقع والأقطار, بدءاً من الكويت فالسعودية وكانا من أكثر الأقطار العربية تشدُّداً في “المقاطعة”, واليوم يتغيَّران إلى النقيض, ومن قبلهما كان المغرب مفتوحاً وبعده تونس, وكمب دافيد أسقط المقاطعة وفتح مصر للتطبيع كل التطبيع لولا ما يعترض ذلك من رفض شعبي, واتفاقية “غزة/ أريحا أولاً” ألغت ما ألغت وفتحت أبواباً كثيرة ومن قبلها وبعدها كانت سياسة الجسور المفتوحة مع الأردن… ولكن مع ذلك كله فإن قرار المقاطعة ما زالت له قيمته المعنوية وقدر من التأثيرات المادية, فضلاً عن أنه كان بالأساس ومنذ البداية موقفاً شعبياً عربياً وتعبيراً عن تضامن شعبي عربي والتزام بالقضية الفلسطينية, ثم صار قرارات رسمية وإجراءات سارية, وأخذت الجامعة العربية بهذا التوجّه منذ بداياتها ومن قبل ثمّ بعد أن قامت “إسرائيل” . وتبقى المقاطعة ذلك الموقف الشعبي المتجدّد والذي يمكن أن ينهض من جديد في وجه حركة التطبيع والتطويع, وأن يصنع تضامناً عربياً جديداً؛ ولهذا تحرص الإدارة الأمريكية على إسقاط المقاطعة العربية وإسقاط أي تضامن عربي أو موقف عربي موحَّد, بما في ذلك إسقاط الجامعة العربية على أي مستوى كانت, كمدخل إلى السلام الذي تريـد .
لقد نقل أحد الدبلوماسيين العرب في الأشهر الأخيرة, كلاماً جرى على لسان الوزير الأمريكي وارن كريستوفر, بمعرض الحديث عن احتمالات الدعوة لعقد اجتماع للجامعة العربية على مستوى عالٍ, إذ قال وهو منفعل: ليس لهذه الجامعة العربية إلّا أن تعقد اجتماعاً تتخذ فيه قراراً بإلغاء المقاطعة ثمّ تمضي بعد ذلك في سبيلها .
فالولايات المتحدة تريدنا, كعرب, أي كأنظمة قطرية حاكمة ومجتمعات, أن ننهي كل مقاطعة لإسرائيل, وبالأشكال الثلاثة التي كانت مقرَّرة عربياً لتلك المقاطعة, وهي تريدنا في الوقت ذاته أن ننهي معها أية صيغة من صيغ الترابط العربي والتضامن, وأي قرار عربي يتخذ على أي مستوى من المستويات, بما في ذلك “الجامعة العربية”, وهذا ما تدفع إليه أيضاً الحركة الصهيونية ويصرّ عليه حكام إسرائيل .
وإذا كانت سياسة الولايات المتحدة الأمريكية نشطة اليوم بضغوط مختلفة لكسر كل أطواق المقاطعة العربية الاقتصادية والثقافية لإسرائيل, باسم مسيرة التسوية والسلام التي ترعاها, فلقد كان هذا شأنها من قبل, فهي قد عملت دائماً على مكافحة المقاطعة العربية, وسنَّت في هذا السبيل القوانين واتخذت الإجراءات في معاقبة كل من يتعامل مع هذه المقاطعة من شركات ودول, ولقد سحبت معها في هذا الاتجاه عدداً من الدول الأوروبية الغربية, ولم يكن هذا مجرَّد انحياز لإٍسرائيل وللحركة الصهيونية, بل وتعبيراً عن موقفها الثابت في محاربة التحُّرر العربي وتضامن العرب وكل علاقات عربية مشتركة أو قرارات عربية موحَّدة فيما يتعلَّق بالقضية الفلسطينية.
ولقد حرص الكونغرس الأمريكي منذ عام 76/77 على إنشاء قسم خاص بمكافحة المقاطعة العربية من حيث هي مقاطعة للتعامل مع إسرائيل والمتعاملين معها مباشرة أو بالواسطة, ولقد حرص “الراعي الأمريكي” الذي أدار محادثات بيغن – السادات في كمب دافيد, على أن تنص المادة الأولى في الوثيقة التي وقّع عليها السادات في 17/9/78 على الاعتراف الكامل بإسرائيل, والمادة الثانية على إلغاء المقاطعة الاقتصادية كمدخل للتطبيع والتعاون, ولقد كان واضحاً في الوثائق أن اتفاق كمب دافيد ذاك لم يكن لمصر وحدها, وإنما وُضِع كإطار عام “للسلام في الشرق الأوسط” أي ليطبّق أيضاً فيما يتعلَّق بمعاهدات السلام المأمولة بين إسرائيل وكل من جيرانها العرب الواحد تلو الآخر, أي فرادى لا يجمع بينهم موقف أو قرار موحَّد .
والحق أن جهاز المقاطعة العرية كان من أهمّ آليات العمل العربي المشترك على الصعيد الرسمي في مواجهة استراتيجية إسرائيل في الاختراق الثقافي وفي مدّ مصالحها الاقتصادية دولياً وفي وجه هيمنتها, كان هذا قبل كمب دافيد وقبل حرب الخليج الثانية وما أورثت, وصولاً إلى ملتقى مدريد وإلى اتفاق “غزة/أريحا أوّلاً” .
ولكن تاريخ “المقاطعة” العربية هو تاريخ كفاح وطني وقومي طويل, كان محوره وما زال, قضية فلسطين والتصدي من خلالها لحملات الاستعمار القديم والإمبريالية الجديدة. والمقاطعة قامت بالأساس كموقف عربي شعبي, وكتدبير من تدابير مقاومة المشروع الاستعماري في السيطرة على المنطقة العربية . ولقد جاء المشروع الكولونيالي – الفرنسي البريطاني – لتقاسم النفوذ والسيطرة في المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى, والذي كان عنوانه سايكس – بيكو, وهو يحمل كمطية له ومرتكز, وعد بلفور بإنشاء “وطن قومي لليهود” في قلب المنطقة العربية, في فسطين . وذلك المشروع الغربي, الاستعماري – الصهيوني, جاء ليعترض طريق مشروع وطني عربي, كانت تتطلَّع من خلاله الطلائع العربية للمستقبل وللاستقلال الوطني, بإقامة كيان عربي موحَّد يضم أقطار المشرق العربي والجزيرة العربية . ومنذ بداية العشرينات من هذا القرن, وما أن فرضت بريطانيا العظمى “انتدابها” على فلسطين, إلَّا وفتحت أبوابها لحليفها الصهيوني والهجرة اليهودية, بل وأعطت لذلك الاستعمار الاستيطاني, فضلاً عن وجود الاستعمار البريطاني, مشروعية دولية. إنَّ صك الانتداب الذي أملته بريطانيا على جمعية عصبة الأمم في 24 تموز عام 1924 قد أعطى في مادته الرابعة مشروعية للمنظمة الصهيونية ممثَّلة في الوكالة اليهودية “بالتعاون مع إدارة الانتداب وفي تقديم المشورة لإدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية وغير ذلك مما يؤثِّر في إنشاء الوطن القومي…” وبذلك فإنَّ الوكالة اليهودية, أي المؤسسة الصهيونية بذاتها, أقامت دولة لها داخل دولة الانتداب وتوطَّنت وامتدَّت في ظلِّها إلى أن كان لها ما أرادت… أمّا الشعوب العربية, والمغلوبة على أمرها تحت وطأة الاحتلال والاستعمار والحكومات الموالية والتابعة, كان عليها في فلسطين, أن تكافح ضد استعمارين متحالفين, وفي مواجهة تشكّل الكيان الصهيوني واستطالاته, فأشهرت سلاح الرفض والمقاطعة .
فالمقاطعة العربية, وهي مقاطعة اقتصادية ملازمة لمقاطعة ثقافية ولرفض مبدئي وإيديولوجي, بدأت وتحرَّكت على الصعيد الشعبي منذ الحرب العالمية الأولى, وفي وقت لم يكن هناك بعد من قرار عربي رسمي, ولم يكن هناك من جامعة عربية ولا مكاتب مقاطعة عربية .
المقاطعة بدأت بمبادرة شعبية من الفلسطينيين وبمساندة من عرب الجوار, في مواجهة تطبيق وعد بلفور والمشروع الصهيوني وردّاً على الهجرة والاستيطان في فلسطين, ومكافحة بيع الأراضي والممتلكات للصهاينة, ولمواجهة امتداد نشاطها الاقتصادي الذي يطمع في السيطرة على الإنتاج والأسواق . وفي العشرينات نشطت الانتفاضات والثورات الشعبية باستمرار منذ الاحتلال كما نشطت المقاطعة وضد حركة الهجرة والاستيطان, وتشكَّلت لجان شعبية في مختلف المواقع الفلسطينية عملت بالاتفاق أولاً مع “اللجنة التنفيذية للمؤتمر العربي الفلسطيني” (من عام 1919 إلى عام 1935), ثم مع “الهيئة العربية العليا”, وكانت تحضّ الأهالي والتجار العرب على مقاطعة السلع اليهودية وعدم التعامل مع التجار الصهاينة والامتناع عن التبادل معهم كما كانت تدعو العرب في بقية الأقطار لمساندة هذه المقاطعة وإلى دعم المقاومة والانتفاضات أو الثورات الشعبية . ولكن المقاطعة لم تصبح عربية فعلياً تلتزم بها أنظمة وحكومات, إلَّا بعد قيام الجامعة العربية, التي تدخَّلت مباشرة في مسألة المقاطعة, ومن قبل أن تقوم “إسرائيل” ككيان ودولة, فمنذ بداية كانون الأول عام 1945 اتخذت “الجامعة العربية” قرارها بالمقاطعة ودعت لدعم الفلسطينيين في كفاحهم العادل وإغلاق الأسواق العربية في وجه المنتوجات الصهيونية, وفي مطلع عام 1946 شكَّلت “الجامعة” لجنة دائمة للمقاطعة ثمّ أنشأت لجاناً فرعية, وفي أيار لعام النكبة 1948, أصدر مجلس الجامعة قراراً بإنشاء مكتب رئيسي للمقاطعة في دمشق وبإنشاء مكاتب إقليمية في الدول العربية . ثمّ توالت بعد ذلك قرارات المقاطعة, سواء المباشرة “ومن الدرجة الأولى” في مواجهة إسرائيل, أو من الدرجة الثانية في مقاطعة كل الشركات التي تتعامل مع إسرائيل في العالم, ثم المقاطعة من الدرجة الثالثة والتي امتدَّت إلى الشركات الوسيطة والتي لها ارتباطات بأخرى متعاملة مع اسرائيل, لكي لا يكون هناك التفاف على تدابير المقاطعة, والمقاطعة لم تقتصر على الاقتصاد والإنتاج الاقتصادي, بل وشملت الثقافة والإنتاج الثقافي, وأحاطت بالمؤسسات الثقافية والشركات السينمائية وتناولت الممثلين والكتّاب والإنتاج السينمائي والتلفزيوني والمطبوعات…
ومع كل ما اعتور النظام العربي ممثلاً في الجامعة العربية ومؤسساتها وقراراتها من تراجع وتساقط, فإنَّ نظام “المقاطعة” كقرارات للجامعة وكمكاتب, مازال ساري المفعول, وإن نظرياً, هذا برغم التجاوزات الكثيرة والاختراقات التي لا تتوقَّف, وبرغم انتقاصها في اتفاقات كمب ديفيد, إذ جاءت قرارات المقاطعة في حينها معبراً عن إجماع عربي وعن التزام قومي, ولم يأتِ ما يلغيها, فإنَّها, وشأنها في ذلك شأن مسألة “الاعتراف” يبقى حاجزاً نفسياً لدى الشعوب وحركة الشعوب, ومن الممكن أن تعود وتفرض نفسها على الأنظمة وعلى الجامعة التي يمكن أن تجمع بينها, ولهذا تحرص الإدارة الأمريكية على نسف “الجامعة العربية” كلها, أو ما بقي منها, لتنسف قرارات المقاطعة كمواقف عربية مشتركة ولتقتلعها من ذاكرة الشعوب ومن تاريخ كفاحها, ولتقطع طريق العودة إلى مواقف عربية مشتركة في مواجهة المخططات القادمة, التي يتقدَّم فيها مبدأ الانفتاح والتطبيع بديلاً للمقاطعة والمقاومة…
مطلوب إذن الاعتراف الرسمي بإسرائيل وإسقاط المقاطعة والانفتاح والتبادل والتطبيع, وهذا ما يحمله البيان الأول للسلام الأمريكي في المنطقة, لتمهيد الطريق أمام تطبيق المخطط الإمبريالي الجديد الذي يمسك بزمامه الحلف الأمريكي – الصهيوني, وتدفع له المؤسسات الرأسمالية الدولية وكذلك مؤسسات ثقافية وإعلامية متعاملة معه وعميلة . والمخطط يهدف بعد اختراق الأنظمة وتطويعها وإقامة الفرقة بينها, إلى اختراق المجتمعات وتغيير بناها الاجتماعية والاقتصادية وتوجهاتها السياسية والثقافية وانتماءاتها, لتكون مطواعة أمام مخططات الهيمنة المتحرِّكة, وهذا ما يفسر لنا مماطلات إسرائيل الكثيرة في المفاوضات الجارية من أجل اتفاقات التسوية وتقديمها مطلب الانفتاح والتبادل و”التطبيع” على أية خطوات أخرى على طريق الانسحاب من الأراضي والإجراءات الأمنية المرافقة .
ففي المفاوضات الثنائية الجارية على المسار السوري من أجل “التسوية” تحت الرعاية الأمريكية, ثمة معزوفة لاتزال تتكرَّر وبهد مرور سنتين على تلك المفاوضات, ففي كل مرة يطرح فيها الجانب السوري (سواء على مستوى لجان المفاوضة أو في التصريحات الرسمية لرجال الدولة الكبار), مطالبه الملخَّصة بالانسحاب الكامل والحل الشامل والسلام العادل والأرض مقابل السلام وتطبيق القرارين 242 و 338, فإنَّ إسرائيل تعلِّق كل هذه المطالب وتجمِّدها وتردّ عليها بسؤال لا يفتأ يتكرَّر ولتقول إسرائيل نريد أن نعرف أوّلاً ما هو مفهوم سورية للسلام وما هي حيثياته وإجراءاته وكيف نتأكَّد منه, وهكذا فإنَّ إسرائيل ترى بعد الاعتراف الرسمي المتبادل وإنهاء حالة الحرب والمقاطعة, تقديم مطلب التطبيع للعلاقات وفتح الحدود والاختراق الاقتصادي والثقافي للأسواق والمجتمعات, على مسألة الانسحاب من الأراضي المحتلة ومراحله وتدابيره الأمنية, وعلى مسألة المستوطنات والاستيطان . والذي يعرف عن مشاريع التي تطرح في كواليس المفاوضات والدوائر السياسية العليا, أو بوساطة الراعي الأمريكي أنَّها تضع مراحل وإجراءات للانسحاب من الجولان تطول لتسع أو عشر سنوات, تسير خلالها وتختبر عملية تطبيع العلاقات, كل العلاقات, بين البلدين وعلى صعيد المنطقة.
لقد حرصت الإدارة الأمريكية على أن تضع عملية التسوية التي ترعاها في مسار اتفاقات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل, وضمن شروطه . أما النظم العربية التي اعترضت كلها على اتفاقات كامب ديفيد في حينها وأدانتها وأخرجت مصر من الجامعة العربية أو بالأحرى أخرجت الجامعة العربية من مصر, عادت الواحدة تلو الأخرى لتدخل تحت عباءة “السلام الأمريكي” ولتقبل باتفاقات كمب ديفيد سقفاً لمطالبها ولتسوياتها . ولكن إسرائيل هي التي تريد اليوم الالتفاف على كامب ديفيد بعد أن أدَّى دوره في إخراج مصر وإسقاط الموقف العربي المتضامن من القضية . وإسرائيل لا تريد أن تعطي في أية اتفاقية “للسلام” تعقدها مع سورية, ما أعطته لمصر السادات وفقاً لاتفاقات كامب ديفيد, كما أنها لم تعطِ لعرفات في اتفاق “غزة/أريحا أوّلاً” ما كانت قد وعدت أن تعطيه للفلسطينيين وفقاً لمسار كامب ديفيد . وإسرائيل التي راهنت على الاعتراف وإسقاط المقاطعة في الاتفاقات الرسمية ليكون مدخلها إلى اختراق الأسواق والمجتمعات والهيمنة عليها, وجدت أمامها مقاومة الشعوب, وجدت أمامها انتفاضات الشعب الفلسطيني, وواجهت في مصر الخاضعة لاتفاقات كامب ديفيد مقاومة الشعب المصري للتطبيع واستمرار مقاطعته ومعارضته وثورته في وجهها أحياناً . ولهذا تحرص إسرائيل على أن تعلِّق هدف تقرير المصير للشعب الفلسطيني على مسار من الإخضاع والتطبيع يستمر خمس سنوات تختبر فيها خطوات “الإدارة الذاتية” للضفة والقطاع, ولذلك تريد أن تعلق مسار الانسحاب من الجولان على مسار لتطبيع العلاقات يستمر تسع أو عشر سنوات, وبهذا فإسرائيل تتطلَّع الى احتواء كل فلسطين وأن لا تبقى هناك قضية فلسطينية بالنسبة للمنطقة والعرب, كما وأنها تريد أن تصل في التطبيع مع سورية الى أوضاع لا تعود فيها من قيمة استراتيجية ولا أمنية للجولان ولا للحدود كلها أو المستوطنات …
فبالنسبة لإسرائيل لم يعد “السلام” والاعتراف المتبادل هو المدخل إلى التطبيع وإلى صياغة العلاقات مع الجوار, بل إنَّ التطبيع هو الشرط المسبق كمدخل إلى أي سلام كان . والذي يراد اليوم وقبل كل شيء هو إنهاء المقاطعة العربية عامة وعلانية, لكسر حاجز نفسي وشعبي يقف في وجه الصهيونية والإمبريالية الجديدة, كما كان الأمر بالنسبة لإلغاء قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة الذي يقرن الصهيونية بالعنصرية, لكسر مثل تلك الحواجز… والتطبيع الذي يقوم بدل المقاطعة لإحلال “السلام الأمريكي” في المنطقة على أشكال, وأولها التطبيع السياسي من اعتراف وتبادل دبلوماسي وفتح سفارات وقنصليات ومكاتب ووضع أعلام . وهناك التطبيع الاقتصادي وفتح الأبواب للتبادل, للارتباط بمصالح مشتركة مع إسرائيل, وعلى حساب المصالح العربية بالضرورة . وهناك تطبيع نفسي يمهد له من حيث التسليم لا بوجود الآخر (أي إسرائيل) والتعايش والتعامل, وإنَّما تقبل هوية الصهيوني وتمايزه والدخول في علاقات معه من خلال المنظمات الشعبية والمؤسسات الاجتماعية. ويتقدَّم التطبيع الثقافي, بما يطالب به من إلغاء المنظومة كاملة من الأفكار والثوابت المبدئية, ومن تغيير برنامج التعليم والإعلام, امتداداً إلى الثقافة والآداب والفنون.
فالذي يتطلَّع إليه التطبيع, هو قبول إسرائيل لا كيان لأقلية يهودية تسعى إلى الاندماج في المنطقة والتعايش مع وطن عربي لأمة عربية, وإنما مشروع صهيوني خليفة للإمبريالية العالمية وامتداداً لها…
ذلك هو مشروع “السلام الأمريكي” في تنظيم الشرق الأوسط والمشروع الصهيوني في الاستيطان والاعتداد والهيمنة, فما الذي آل إليه المشروع العربي الذي سيقف في مقابله وفي معارضته ؟.
مضى وقت كانت فيه إرادة الأمة مفتَّتة ومغلولة, نهضت حركة المقاطعة من المواقع الشعبية إلى أن فرضت نفسها كسياسة, واليوم وبعد التراجعات التي وقعت فيها الأنظمة القطرية والانخراط في لعبة “السلام الأمريكي” وتراجع سياسة المقاطعة وما أصابها من اختراقات تجاوزت الأنظمة ليتقدَّم الاختراق باتِّجاه المجتمعات عبر سياسة التطبيع, فإنَّ مقاومة هذه السياسة والوقوف في وجهها أصبحت مرهونة بحركة المجتمعات العربية والشعوب؛ ولكن معارضة التطبيع واعتراض سبيله, لا بدّ لها لتكون مجدية, ولتصب على طريق موقف عربي ونهضوي, لا بدّ لها أن تأخذ بالضرورة أبعاداً أسمى بكثير من تلك التي قامت عليها المقاطعة الشعبية في الماضي, إنها مطالبة بمواجهة الضعف العربي كله, مواجهة تسلُّطية النظم وتابعيتها وسلبها للإرادات الوطنية الشعبية , وهي في مواجهة التأخُّر والفساد, وإن تكن نقطة البداية, أو الشعار الذي يتقدَّم في المواجهة, هو شعار العارضة الشعبية لسياسة التطبيع, باعتبارها المقدمة لتطبيق المشروع الإمبريالي المتحقق في المنطقة والمسمَّى بالنظام الشرق الأوسطي الجديد .
ومعارضة سياسة التطبيع مع الكيان الصهيوني, ومقاومة الاختراق الثقافي والاقتصادي بل والاختراق لوطنية هذه المجتمعات العربية ولهويتها العربية والإسلامية, لإلحاقها بالنظام الإمبريالي والرأسمالي المتجدِّد في الهيمنة على المنطقة, إنَّ هذه المعارضة إذا كانت تعيدنا من جديد إلى مواقع الوطنية والدفاع الوطني وتحصين مجتمعاتنا القطرية وطنياً في وجه هذا الزحف الإمبريالي نحوها – وهو تحصين لا يقوم إلَّا على الديمقراطية وإطلاق حرية الشعوب ومبادراتها – فإنها لا تكتمل وتعطي جدواها ما لم تتعمَّم وتضعنا على طريق عمل قومي عربي مشترك, ليمسك بمشروع عربي في المواجهة, يتعامل مع القوى الخارجية ومشاريعها, من موقع الأمة الواحدة وترابط مصالحها ومصائرها.
وإذا كنَّا نتطلَّع إلى أن يكون للشعوب وحركة الشعوب, في مواقعها, مؤسساتها وتنظيماتها القطرية والقومية, حريتها وخياراتها الوطنية في معارضة التطبيع ومقاومة امتداد النفوذ الإمبريالي والصهيوني إلى مجتمعاتنا, فإنَّ هذا لا يعني إعفاء الأنظمة والحكومات من مسؤولياتها القومية بعد أن خضع أكثرها لمسارات السياسية الأمريكية في المنطقة وما ترتبه لها من أدوار …
لقد بدأت هذه الحركة بالحديث عن مذبحة الخليل, وليس على سبيل التذكير والاستنكار فحسب, وإنَّما لأنَّها ربما أعقبها في المواقف الإسرائيلية والأمريكية, جاءت كاشفاً كبيراً, وإذا جاءت صادقة, فلعلّها تدفع لصحوة القيادات العربية المسؤولة عن نفسها, أو هي تعود لتضع الصراع العربي – الإسرائيلي على الطبيعة ولتضع الجميع, وبغير أوهام, أمام حقيقة المواقف وما يدبَّر لهذه الأمة والمنطقة .
إن الإدارة الأمريكية والرئيس الأمريكي نفسه ما زالا يصرّان على إنهاء المقاطعة العربية لإسرائيل, بكل أشكالها, وعلى المضي في المفاوضات وفي مسيرة “السلام” والانفتاح للتطبيع مع إسرائيل وللانخراط في السوق الشرق أوسطية التابعة . والمقاطعة كما كانت محاولة لمحاصرة إسرائيل والتوسُّع الصهيوني على صعيد عالمي، فلقد كانت مقاومة للنفوذ الصهيوني والإمبريالي في المنطقة وتحصيناً لمجتمعاتنا أيضاً . وهذه المقاطعة وإن كانت قد اختُرِقت من كل الجوانب وتقلَّصت, فإنها من حيث هي قرار عربي رسمي جماعي وموقف شعبي, تبقى حاجزاً نفسياً ومبدئياً يراد إسقاطه لصالح الانفتاح والتطبيع . وإذا كانت المجتمعات الوطنية والحركات الشعبية مطالبة بأن تتقوَّى وتتحصَّن في مواجهة النفوذ الأجنبي والتطبيع وتهديد الهوية الثقافية والقومية, فإنَّها مطالبة أيضاً بأن تطالب وتدفع, فهناك تحرُّك مطلوب على الصعيد الرسمي العربي عامة للأنظمة والحكومات .
لقد أوردنا في البداية كدليل على الموقف الأمريكي العدائي حديث كريستوفر الذي قال فيه بأن تنعقد الجامعة العربية للمرّة الأخيرة لكي تلغي قرارات المقاطعة العربية لإسرائيل وتنتهي, ونحن نقول بأنَّ من المطلوب العمل والدفع الحثيث, من أجل أن تعود وتنعقد “الجامعة العربية” وعلى أعلى المستويات الممكنة, ومن خلال الإحساس بالمصلحة القومية المشتركة, وبالمنزلقات والمخاطر التي تهدِّد الجميع, وليس للمرّة الأخيرة كما تريد الإدارة الأمريكية, وليس لكي تهتم بإنهاء قرارات المقاطعة كما يطالب الوزير الأمريكي وإسرائيل, وإنما لإنهاء المقاطعة العربية – العربية, وفتح الحدود والمجتمعات للتطبيع والتبادل بين الأقطار العربية أوّلاً, واتخاذ المواقف العربية الموحَّدة من القضايا المصيرية والمشتركة, وليس إلَّا بالوقوف بالأمة مشروعاً واحداً في مواجهة المشاريع الغازية, ما يمكن بأن يكون منطلقاً لوضع المنطقة العربية والشرق الأوسط على طريق سلام عادل .
انتهى آذار 1994
التعليقات مغلقة.